الفصل الحادي عشر

يعود النهارُ، والنهار إذا ما عاد جُرَّ النهر إلى الصراع الذي بُدِئَ في الليل بين الأرض والماء، ويدخل النيل مِنطقة المناقع التي تُعَيِّن مصيره وتقرِّر مصير البلد بأسره، ويكاد النيل يكون من الدرجة الخامسة إلى الدرجة العاشرة شمالًا شريانًا أساسيًّا لغَدِيرٍ أكثرَ من أن يكون نهرًا.

وما كان لأحدٍ أن يَعجَبَ لو اضطُرَّ النيل إلى إتمام جَرْيه حول الدرجة العاشرة من العرض الشمالي، ولكن النيل لم يكن مجاوزًا سوى ثُلُث مجراه حين مغادرته الغُدُرَ،١ وما فتئ يكون كامل الفَتَاء، وتلك هي أعظم مغامرةٍ له في مكافحته العناصر، والناسُ مؤخرًا، والناسُ في قوة مشيب النيل، سيستفيدون منه، وإذا كان السدُّ وليدَ النبات هنا فإن الناس سيصنعونه من الحجارة.
وللريح ضِلْعٌ في هذا الصِّراع بين الماء والأرض، ولا تكون الريح حليفةً لهما أبدًا، والريح تحرِّضهما، وهي تُغْرِي العداوة بينهما، وتَصعُب معرفة البادئ حتى في هذه الحال. وهل تسهِّل الأضواج التحول إلى بطائح؟ وهل تُكرِه الأحوال النهر إلى التجمُّع أكثر من قبل؟ والذي لا رَيْبَ فيه هو أن النيل يترك ضِفتَه الشرقيةَ بضغطٍ من الرياح الموسمية ويَضِيق من فوره في سلسلةٍ منحنية من الأقماع،٢ ويزول كلُّ انحدار من الناحيتين، ولا تَجِد الروافدُ لها منفذًا فتتألف منها أحواضٌ وبحيراتٌ، ويتحوَّل النظام النهري الذي وُجِدَ حتى الآن إلى عالَمٍ مائيٍّ غير ملتحم، غيرِ جارٍ تقريبًا، متروكٍ إلى الريح متوارٍ في قَنَوَاتٍ لا يُحصِيها عَدٌّ.
وكما أنَّ الفوضى تنتشر وتشتدُّ بنفسها إذا وَجَدَتْ دِعامةً لها ترى اصطراع الماء والأرض يستقرُّ بالجزر الجديدة التي هي مِزَق تراب، وإذا غاب نهرٌ، كان يقضي حياةً منتظمة بين ضفتيه، في قُنِيٍّ لا تُحصَى كان أمره كأمر بحرٍ يُلْغَى كلُّ ما ينظِّم صلاتِه بالأرض من قوانينَ، والمناقع تُوجَد في حمًى من العشب والقَصَب وتكوِّن هذه النباتات سَرْدًا٣ يزيد زيادةً لا حَدَّ لها فيغدو مع الأيام والأعوام متعصِّيًا، وهذا هو أمر النيل الأعلى منذ قرون، والأيكة البِكرُ البارزة من الماء تبدو حاجزًا مانعًا لكلِّ قاربٍ مثلما تَقِفُ هذه الأيكة أيَّ فارس، ولم يَعُدَّ أحدٌ ما هَلَكَ من الرجال والحيوان في مكافحة البطائح.

ولا ريب في أن مصدر هذه البلبلة هو انبساط النهر الأصليِّ الذي لا ضِفافَ له وانبساطُ رافديه العظيمين: بحر الغزال وبحرِ الزَّرَاف، ويستر الماء جميعَ هذا البلد في مُعظَم أيام السنة على مِساحَةِ نحو ستينَ ألفَ كيلومترٍ مربَّع، وذلك في مثلَّثٍ متساوي الأضلاع تقع مُنْغُلَة في جَنُوبه وملاكال وملتقى الجُورِ وبحر الغزال في شماله، وما في الخرائط من عدم صحةٍ فيدلُّ دَلالةً كبيرة على فوضى العناصر في تلك البقعة التي تزيد مساحتها على مساحة سويسرة مرةً واحدةً ونصفَ مرَّةٍ، ولا ينفك الجغرافيون يعدِّلون من سنةٍ إلى أخرى خطوطهم بين الدرجتين الخامسة والسادسة من العرض الشمالي؛ أي بين لادو وبور.

ويتساءل هؤلاء الجغرافيون تجاه مجاري النهر المتحولة باستمرارٍ عن وجود مَصَبٍّ ثانٍ لبحر العرب، أو عن كونه بحرَ الحُمْر الذي يُشَكُّ فيه كثيرًا، أو عن كون بعض الجزائر ثابتةً أو متحركةً، وهنا الجدل حول أنهارٍ وجزرٍ على طول المئات من الكيلومترات، وبعض القنوات يُفتح أحيانًا وبعضها يُسَدُّ بالنبات أحيانًا، وبعضها يَغِيب تمامًا وينتهي إلى إحدى سواعد النيل، ومن المسافات العظيمة ما يتعذر قَطعُه، والآن لا يمكن بغير الطائرة التقاط صورةٍ لقناة كبيرة تتغير في عشر سنين.

وإذا هَجَمَ الفيضان على التراب الرَّخْو وفَصَلَ منه قِطَعًا حاولتْ هذه القطع أن تستقرَّ بمكانٍ آخر وكافحت الماء وردَّته عند انهيار الشفير٤ مثلًا، وإذا لاقت تلك القطع ترابًا صلدًا٥ لا يحفِره الماء تكوَّن غديرٌ من الأعلى ومن الأسفل كما في الغابة البِكر، ويتجمَّع الطُّحْلُب٦ في بعض الحُفَر، وتستلزم رطوبته تكوينَ طُحلُبٍ آخر فتمتزج به أعشابٌ نابتةٌ في وَسَط هذه البرك، ويغوص هذا النبات المتكاثف بالتدريج في الأرض ويُثَبِّتها فتطرد الماء وتتوارى البِركة.

وتسدُّ تلك الكُتَلُ النباتية العائمة، وتلك الحواجز أو الأسداد — كما يسميها العرب — المضغوطة بقوة الجريان والمجرورة حتى الممرات الضَّيِّقة، حتى المنعطفات، مجرى النهر وتَحمِله على الانحناء والانعطافِ غيرَ مرَّةٍ بقَنَواتٍ جانبيةٍ قليلةِ العمق وتَقِفُ المجرى الأصليَّ، ثم يحيط الطين بالجذور التي تأخذ في النموِّ والتكاثر نحو كل جهة، والآن أين النهر؟ والآن أين النيل؟

والنيل كالرجل المسحور، موجودٌ هنا وهنالك في آنٍ واحدٍ، ويتشعَّب ماء البحيرات الكبيرة في بلدِ جبال القمر ويتشتَّت في قنواتٍ ملتوية وفي خُلجان وبحيرات وبِرَكٍ وأحواض، ويبلغ من العرض خمسةً وعشرين كيلومترًا ويتكمَّش أُخدُوده فلا يزيد على ستة أمتار، ومن مجاري الماء المستورة بالعشب المشتبك تتألَّف مسارب بالغةٌ من اللِّين ما لا يتحرَّز منه الحيوان، والحيوان كلما كان ثقيلًا اغترز بسرعة، وتُسفِر دقة أفخاذ الأوعال وأبقار الماء عن هلاكها، وعلى ما يتَّصِف به الفيل من حَذَرٍ بالغٍ يَضِلُّ أحيانًا فيزلُّ، والنمل وحدَه هو الذي يجتنب الخَطَرَ لارتفاع قَرَاياه٧ ثلاثَ أقدامٍ فيحفظه ذلك من ارتفاع المياه، والزنجي يرد الطريدة إلى هذه البقاع كما يجتذبها الصائد الشمالي إلى المناقع.
وتذكِّرنا أخلاط النباتات هذه، وتذكِّرنا أنواع البُسُط المتلبِّدة هذه بحقول الخُثِّ٨ الخرافية التي حكى عنها كريستوف كولنبس، أو بِجَلِيد الشمالي الذي يَتَفَتَّت ويتكسر ويتجمع عند حواجز الأنهار حتى تُذِيبَه شمس الربيع، وفي بعض الأحيان تكفي هنا هبَّةُ ريحٍ لفكِّ كل شيء، وما أكثر ما هلكت قِطَاعٌ على مثل هذه القِطَع، حتى إن بقر الماء يَهلِك أحيانًا جوعًا فوق هذه الجزر النباتية الخادعة.

ذلك هو عمل الرِّيح الثورية التي لا تَكِلُّ، والتي تُوقِد بلا انقطاعٍ نار الحرب بين الأرض والماء، والريح هي من القوة ما تَقْذِف معه من مجرى النهر الأصليِّ، وذلك في ليلةٍ واحدة، كتلَ أحد الأحواض العُشبية، فإذا حلَّت الليلة التالية هبت الريحُ الأخرى، التي هي أختٌ عدوٌّ لتلك الريح، من الجهة المعاكسة ومزقت كلَّ شيء إرْبًا إرْبًا واستردَّ النيل حريته، وإذا ضغط النيل عائمَ الجُزُر وأراد استقرارها دفعتها الريح إلى الخلف، وتزيد سرعة النيل في الجبال عشرةَ أمثالها في بعض الأحيان، ومن ثمَّ تنشأ فيضانات النيل وروافده، وأمسِ كان بحرٌ هنا، واليومَ تُبْصِر مرجًا هنا، ومن المحتمل أن تَجِدَ في الغد بحرًا من جديد هنا.

ولا تموت كتل النبات تلك، وهذا الحاجز هو مصدر حياةٍ جديدة للنهر، وعندما يكثر البرديُّ في مكانٍ ما من الأعلى ومن الأسفل، وعندما تَقِفُ الحَمْأَةُ٩ والصُّوَالَةُ،١٠ المنحلَّتان المتجمِّعتان بين الجذور، كلَّ جريان فتقضي عاصفةٌ على هذا الحاجز فجأةً، تُجَرُّ الأنقاضُ بعنفٍ إلى الحاجز التالي وتُقوِّيه، ومما لا يُحصى عددُ الأسماك والتماسيح وأبقار الماء التي أُخِذَتْ وخُنِقَت في هذه الأشراك الواسعة، ولدى النبات كما لدى الإنسان تحدث بليَّةٌ بفعل الفوضى فتَفسُد الطبقاتُ العميقة على حين تَظهَر الطبقات العليا وتسير كما تريد، وقد تبلُغ هذه الكتل العشبية من الارتفاع خمسة أمتار في بعض المرات، ولهذا الصِّراع المضني ضدَّ هذه الألوف من صغار الأعداء نتائجُ خَصِيبةٌ مع ذلك، فالنهر يثير الأرض فتسقُط أجزاؤها اليابسة دَوْمًا وتُسْتَر مجدَّدًا، وما يتم لمجرى النهر من تبديلٍ هنا، في النيل النهري، وهو الذي لا يتفق للأنهار الأخرى إلا في قرونٍ، فيَقَعُ بسرعة ومن غير انقطاع.
figure
غابة استوائية.

وكسرت قوى الإنسان تجاه العناصر مدةَ ألفيْ سنة، ويبدو الأعداء — الريح والماء والتراب — متفِقين سِرًّا على إقصاء الإنسان، ووقفت تلك الحواجز النباتية جميعَ الغزوات التي جُرِّدَت منذ عهد نِيرُون، وحوَّل النيل الذي لا يُقهر مجراه في تالي القرون طليقًا كما نَظَّمَ حوضه على مراده.

ولكن الأبيضَ في زمن أمين باشا هيمن على النيل، فقد وفِّق النمسوي مارنو لاختراق ذلك السد في ستة أشهرٍ وبمائةِ عامِل، وهذا بعد الأمطار التي غَمَرَت الخرطوم وخرَّبت مصر في سنة ١٨٧٨، وهذا بعد أن قطعت الأسدادُ النباتية ذلك الاتصال مدة سنتين، ولم يأتِ الإنكليز على آخر السدِّ الأصليِّ إلا في سنة ١٩٠٠، وكان لا بد من تعاون المدفعيِّين وبواخرِ المبشرين، ومن اتحاد القوة والدين الذي هو طليعتها لجعل النيل صالحًا للملاحة وللانتصار على عالَم الطين والنبات هذا.

ويبحث المهندس الذي يسير نحو منبع النيل بعد الخرطوم عن مكان النهر وعن ضفافه قبل كل شيء؛ وذلك خشية خلط الجُزُر والشفير، ويُريد المهندس حَرْق كلأ الجزيرات، ويَعِنُّ له إمكان دوران الريح وإحاطةِ الخطر بسفينته، ويرى اتخاذَ خطة الهجوم بغَرْز الأوتاد في الأعشاب وربطها بالحبال ووصلها بالسفينة المتجهة نحو منبع النيل، وتَسِير الآلة رويدًا رويدًا، وتُسرِع الآلة مقدارًا فمقدارًا، ثم تتقدم بجميع قوتها، وتقوم بنصف دورةٍ مقتلِعةً قِطَعًا من السدِّ كما كانت تقتلع الأسنانَ فيما مضى، ويَظهَر النبات أقوى من الأوتاد أحيانًا ولو أمسكها ثمانيةُ رجال، وهنا تَتَجَلَّى المهارة في معرفة شدِّ الحِبال وإرخائها.

وإذا كان الجَرَيَان المعاكس غير كافٍ وكانت الجزر قديمةً مستعصيةً أو كانت المناقع عميقةً قسَّمَها المهندس إلى مربَّعات وجَزَّ العشبَ بسيوفٍ قصيرةٍ وقطع الجذور، ويدخل مائة زنجيٍّ في الماء حتى الصدور، ويرشَحُون عرقًا وطينًا، ويهاجمون النباتَ بالسكاكين من الأعلى وبالمعاول من الأسفل، ولكن السيلَ إذا ما اشتدَّ تعلَّقُوا بأقوى سوقٍ للبرديِّ وربطوا القُلُوس١١ بها، وهنالك تقتلع السفينة تلك المربَّعَات نصف المفصولة، وذلك على حين يحلُّ الرجال أوتادهم بسرعة ويصعدون المركب ويرتمون على ظهره منهوكين.
ويأتي الليل بالأخطار، وفيما يَغرَق كلٌّ في بحر من الراحة؛ إذ ينفصل مربعٌ مرتخٍ ضدَّ التيار فتسوقه الريح نحو الباخرة ويُحْصَر الحصن بذلك، ومما يحدث أحيانًا أن يشعر النيل بقوَّتِه بغتةً فيقلع قطعًا صغيرة من الجُزُر ويَصدِم بها الباخرة ويطرحها على الزوارق وراءه وتُكسَّر المراسي وتُقصَم السلاسل وتَعْوَجُّ العِجَال ويُحاط بسُكان١٢ السفينة في بلدٍ لا تُوجَدُ فيه قطعة غِيَار، وتلتقي في مراتٍ أُخَرَ بعضُ الحواجز فتتألف منها كتلةٌ كما في السياسة، والإنكليز قد طَهَّرُوا ثمانية كيلومتراتٍ في ثلاثة أشهر بخمس بواخرَ وثمانمائة أسير نوبيٍّ مع عدم فَحْمٍ وعدمِ اتِّصالٍ وبين قبائلَ هائجةٍ وعلى الرغم من الأخطار والبَعُوض والحُمَّى.
واليوم أيضًا لا يمكن البصرُ بأهواء النهر في أثناء ذلك السير الطويل من غير صلةٍ بضفافه، ومنذ بضع سنواتٍ مضت فَصَلَ فيضانٌ مفاجئٌ مقاديرَ كثيرةً من النباتات ذواتِ الجذور القصيرة من أهوارٍ١٣ فَدَفَعَهَا إلى أضواجٍ فحاصر النيلَ بالقرب من شامْبِه مُدَّةَ ثلاثةِ أسابيعَ وعلى طول ثمانية كيلومترات، وماذا وَجَبَ أن يُعْمَل؟ حفرت قناةٌ طولها مائة كيلومتر لوَصْل النيل ببحر الزَّرَاف وتقليلِ ضَيَاع الماء في المناقع، وبَلَغَ النبات من الَّتْفرِيخ ما لم يَبقَ معه غيرُ مجرًى عرضُه ثمانية أمتار صالحٌ للملاحة. وأما القنوات الأخرى فقد تَحَوَّلَتْ إلى بطائحَ في أقلَّ من عشرين سنة.

ولِمَ قامت غاباتٌ صغيرةٌ مقام بعض الشجَيْرَات المنعزلة بعدَ جفافِ عامٍ واحد؟ إن بُذُور الكلأ في الأراضي المُجَفَّفَة، ولكن مع بقاءِ هذه الأراضي مُغَطَّاةً بأهوارٍ أو ماءٍ جارٍ على العموم، نَمَتْ وبَلَغَ النباتُ من العظم بسرعةٍ ما جاوزت معه في أدوار الفيضان مستوى الماء فداومت على التنفُّس والحياة، وهكذا تُعَارِضُ الملاحة في كل سنةٍ أسرارُ نموِّ النبات، بَيْدَ أن قوةَ النهر الحيوية التي لا تَفْنَى تنتصر على الألوف من أعدائها الصِّغَار كما تتغلب على أخطار المناقع، وإذا كان النيل لا يُغْلَب، وإذا كان النيل يَجِدُ سلامته في الصحراء، فإنه يَتْرُك مع ذلك ماءً غزيرًا في هذه الإسفنجة فيُعيِّن هذا الضياعُ مستقبلَه ومستقبل مصرَ في الوقت نفسه.

١  الغدر: جمع الغدير، وقد مر معناه.
٢  أي على شكل الآلة التي توضع على فم الإناء فتصب فيه السوائل، وهي التي تُعرف بالقُمع، وتُجمع على أقماع.
٣  السرد: اسم جامع للدروع وسائر الحلق.
٤  الشفير: ناحية الوادي من أعلاه.
٥  الصلد: اليابس.
٦  الطحلب: الخضرة تعلو الماء المزمن.
٧  القرايا: جمع القرية، وهي مجتمع تراب النمل.
٨  الخث: نبات الماء.
٩  الحمأة: الطين.
١٠  الصوالة: ما أُخرِج من الحنطة ونحوها في التصويل، كناسة نواحي البيسر.
١١  القلوس: جمع القلس، وهو حبل للسفينة ضخم.
١٢  سكان السفينة: دفتها.
١٣  الأهوار: جمع الهور، وهو البحيرة تجري إليها مياه غياض وأجسام فتتسع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤