الفصل الثاني عشر

مِنطقة الضَّحَاضح النيلية منعزلةٌ، ولا يَدْنُو الإنسان من النهر إلا في أماكنَ نادرةٍ حيث تكون الضِّفة جافةً تمامًا، وهذه المياه الجارية الراكدة لا تُزعج بعضَ جماعات الحيوان وبعضَ أنواع الحيوان في عاداتهما، وتستمر هذه الجماعاتُ والأنواع على العَيْش في تلك المياه، فتَجِد الأسماكُ والطيورُ والزَّحَّافات مكانَها فيها.

وتَرَى في القسم الجنوبيِّ الممتدِّ إلى شَامْبِه مساحاتٍ واسعةً من الأرض الثابتة مسكونةً نسبيًّا، والنيل — مع جريه القويِّ بعضَ القوة — يظلُّ ضِمنَ مجراه الكثيرِ العرض حتى حين الفيض، والنيلُ تُبصره بعد ذلك مرصَّعًا بجزائر رحبةٍ ومنخفضة، ويتحول البلد المجاور إلى سُهْب، ويغدو النخلُ نادرًا على عَجَلٍ فيُشَار إليه في الخرائط المُفَصَّلة ثُلَاث،١ ويؤلِّف النيلُ بجوار بُورَ من ناحية الغرب أضواجًا في وادٍ يترجَّح عرضه بين خمسة كيلومترات وعشرة كيلومترات، ويستغدِر المجرى والوادي، وفي الغرب يبتعد بعض التلال عن بعض، وتصبح الجُزُر أوسعَ مما كانت عليه، ويكون ظلُّ السَّنْط والدَّوْم٢ ورأس الجُمَّيْز المِغْيَال٣ آيةَ الأمكنة الجافَّة، وتلمع البُقَع الصُّفْر على أكواخ الزنوج بالقرب من الضِّفاف طَوْرًا وفي داخل البلد طَوْرًا آخر، وتُساقُ القِطاع إلى الماء، ويَصْطاد الزنجي سمكًا ويخطف ويعلِّق تحت الشمس لحم بقر الماء المذبوح.
وفي المجرى التحتانيِّ من بُورَ تسيطر الغُدُرُ والعزلة التامة حتى بحيرة نُو، حتى الكيلومتر ٥٠٠ من الشمال، وليس الأثر واضحًا ولو نُظِرَ إليه من علٍ، ومن الطائرة يُرَى وجهٌ متموجٌ أحمر آجُرِّيٌّ٤ محاطٌ بطينٍ أبيض مُخطَّطٍ بأذرعٍ جانبية وببحيراتٍ وغُدُرٍ ضاربةٍ إلى خُضرَة، يُرَى بحرٌ يُثِيره القَصَب والبردي إثارةً خفيفة. وفي الغرب، وعلى بعد عشرةِ كيلومترات من النيل، حيث تَنخَفض الغُدرانُ أكثرَ مما في الشرق، يَفْصِل ضَرْبٌ من السَّنَام٥ هذه المناقعَ عن مناقع بحر الغزال الآتية من خط المياه القاسم بين حوض النيل وحوض الكونغو، ويَئُول هذا الخط الجوهري لنصف القارَّة إلى مُنْحَدَر مترين من العُلُوِّ.

وتلك الأرض النفطية المسمَّدة برَماد حرائق السُّهْب السنوية وبالنُّثَارات الفحمية هي بلدُ الكلأ.

والصَّدَارة للبردي، وقد أنعم لِيفُه على الفراعنة بالخلود، وتَمُرُّ ستة آلاف سنة ولا يزال البردي يقاوم كمقاومة صخور الغرانيت التي نَقَشُوا عليها مآثرهم ومساوئهم، وكان يُسمَع حفيفُ سوق تلك الشجيرات التي يمر من ظلها فراعنة مصر فيما يَجْدِفه العبيد من قواربهم الحربية، وكان عبيدٌ آخرون يَقْطَعون لُبَّ ذلك النبات في عصائب يشبِّكونها ويشُدُّونها ويَصقُلونها ليجعلوا منها أوراقًا لِيفِيَّة. ومن العبيد جماعةٌ عاليةٌ تُسَجل في تلك اللفائف مجدَ الفراعنة، ومن العبيد طبقة رابعة تنقل تلك اللفائفَ إلى بيوت الأموات التي أسفر فُضُول البيض عن نبشها، ثم حلِّها بعبقريتهم في نهاية الأمر، وهذا النبات مَنَح — إذن — أُولَى الأوراق الصابرة التي أراد أقوياء هذا العالم أن يَطمئنوا بها إلى جاهٍ أبديٍّ بعد تَعَبٍ من الملاذِّ اليومية.

ويبلُغ ارتفاع البردي ستةَ أمتار، ويؤلِّف البرديُّ غاباتٍ صغيرةً مُدْهَامَّةً يوجِب تَمَوُّجُها الدائم منظرًا لطيفًا منسجِمًا، وعندما تَخْرُج الأَشْطاء٦ الخُضْر اللامعة على طرف الماء وتحت قديم النبات متصلةً بهذا النبات في ظلِّ الغابة البكر وقت الشَّفَق غيرَ مُظهِرةٍ رءوسَها على شكل سنابلَ بعدُ يُشعَر ببُرُوز حياةٍ نباتية تخرج من تلك الكتل التي ترتجُّ وتُدوِّي وتصوِّت دومًا عند أصغر هَبَّة ريح.
وإذا قِيسَ بالبردي كلأُ الفيل ذو السُّوقِ الكبيرة كالخَيزُران وُجِدَ عاطلًا من الرَّوْعة رجُولِيًّا مُثِيرًا ناصبًا أوراقه المُذَرَّبة٧ وأزهارَه السُّمْرَ كالمُتَحَدِّي.

ويكسو الأرضَ بين مكانٍ ومكان فروٌ أخضرُ منيرٌ ذو شعور طويلة وظروفٍ معقوفة غيرِ قصيرة، وهو الذي وَرَدَ ذكره في التوراة باسم أمِّ الصُّوف، وهو الذي يسميه الزنوج أمَّ القطن، وينمو هذا النبات في الماء الذي يكون على شيءٍ من العمق حيث تكون الأرض مستوية.

ويسيطر على جميع ما ذُكِرَ نباتٌ مائيٌّ رابع، ويَظْهَر هذا النبات شجرًا صغيرًا أكثرَ من ظهوره كلأ، ويتألَّف من هذه الشُّجَيْرات غَيْضَاتٌ حقيقيةٌ سريعةُ النمو تَسبِق فيضانَ النيل سرعةً، تجاوِزُ مستواه ستةَ أمتار، تَبرُزُ في كلِّ وقت فوق أعلى المياه، ولهذا النبات ثِخَنُ عَضُد الإنسان، وهو يستدقُّ كلما زاد ارتفاعًا، وهو ذو خَشَبٍ إسفنجيٍّ ولبٍّ ليفيٍّ، وهو ذو أشواكٍ خفيفة الانحناء وأوراقٍ مبعثرة كما في المُسْتَحِيَة،٨ وتُحِيط به المُعَرِّشَات ذاتُ الأزهار الزُّرق من كلِّ جانب، وهذا هو العَنْبَج الذي يُنشِئ الزِّنجيُّ منه طَوفَه البالغَ من الخِفَّة ما يستطيع الرجلُ الواحد معه أن يَحمِله على كتفه والبالغ من القوة ما يَحْتَمل معه خمسةَ رجال.

وأضيفوا إلى ذلك عالَم نباتات الضَّحْضَحِ العائمةِ أو الثابتة، والمصقولةِ أو المفرضة، والمتصلِ بعضُها ببعضٍ بالنِّيلُوفَر الأزرق وبالبَجْلَة ولُقمَة القاضي الصفراء وحيِّ العالَم الشَّمْعي الشكلِ والأُشْنَة المائية فتتحول بها الأحواض إلى مروجٍ والأنهار إلى شُرُطٍ مُخَطَّطةٍ بنُجُوم.

وفي هذا المنظر المستوي استواءً نمطيًّا يستوقفكم صَوْتُ العصافير وغيرها من الحيوانات أقلَّ من حَفِيف الكلأ وقَضِيضِه، وفي مَدْخَل المناقع بالمجرى التحتانيِّ من مَنْغَلا تُبْصِر جزيرةً يسكنها زوجان من الأفيال منذ خمسَ عشرةَ سنةً ليسا من الشجاعة ما يَعْبُران معه النهر في هذا المكان على ضِيقِه، ولذَينَك الزوجين صَغيران، وقد التُّهَمَا وداسا كلَّ شيء، وهما يشاهدان البواخرَ التي تَمُرُّ من هنالك مرةً واحدة في كلِّ أسبوع، فكأنهما أسيران متطوعان في حديقة حيواناتٍ فريدة في الدنيا.

وكلما أوغلتَ في المجرى التحتانيِّ لم تَرَ في منطقة الضحاضح غيرَ أنواعٍ قليلة من المخلوقات، ولكن مع طبائعَ غريبةٍ.

فهنالك النملُ الأبيض الذي تُسوِّغُ أعماله تلقيبَه بالمُقَدَّر كما في اللاتينية، فهو يَقرِض كلَّ ما يَجِد، وهو يُكَدِّرُه قبل أن يَمَسَّه كما يَصنَع بعض مُحترِفي السياسة، وهو يَحفِر دهاليزَ تحت ما يودُّ هلاكَه نفعًا له أو يَستُره بالتراب، والرِّزَمُ فريستُه فضلًا عن الشجر والسِّلال والصناديق، وتُحفظ بقاياه في تلالٍ يَبلُغ ارتفاعُها أربعةَ أمتار أحيانًا فلا تُنسَف إلا بالمتفجرات، ولا يُقْضَى على هذا النظام إلا بقتل مَلِكته، فإذا ماتت تَفَرَّق شمل تلك الأرض٩ تَفَرُّقًا تامًّا.

ومع ذلك ترى لتلك الحيوانات عدوًّا أقلَّ منها ذكاءً وأعظمَ منها مكرًا، والعدوُّ هم الزنوج الذين يُقيمون الولائمَ أكلًا لها، والزنوجُ يَعرِفون أن الأرَض تَخرُج من قَرَاياها عند المطر، فيُطَبِّلُون بلطفٍ فوق التَّلِّ، فتظنُّ هذه الحشراتُ سماعَها نزولَ المطر وتَخرُج ويَلتَقِطون الألوفَ منها، وينتهي الأملُ في حالٍ إلى قِدْرٍ أسرةٍ زِنجية تتذوق الحَسَاء.

ويعيش دَبِيبُ الحوت في الثُّقُوب على ضِفاف النهر، وهو إذا ما حَفَر له ممرًّا في الطين انقضَّ على الإنسان والحيوان وفَحَّ١٠ كالثعبان، ولا يَعرِف العلماء ولا الزنوج هل هذا من الأسماك أو من الحشرات، وعلى أنوف الأرض الجافَّةِ تُبصِر الضُّبَّان الضخمة تَدْفِئ تحت الشمس وتبصر الأفاعيَ تُلقِي الرُّعب في الإنسان والقرد، وإن كانت ضحاياها أقلَّ عددًا من ضحايا التماسيح التي يبارِك البلدُ لها.
والتمساح — كعضوٍ في نادٍ محافظ — يَقضِي مُعظَم حياتِه ناعسًا في الحَرِّ على شفيرٍ ناتئ، ويكون التمساح جبانًا في البرِّ مرهوبًا في الماء مستعدًّا في كل حين للزُّلُوج١١ فيه، وتفتح التماسيح فَكَّيْها، ويظلُّ رأسُها الحادُّ دقائقَ طويلةً مستندًا إلى الأرض، وتبدُو عيونُها نصفَ مستورةٍ بأجفانها الثقيلة، ويستلقي بعضُها بجانب بعض كما لو كانت جلاميدَ.
وإذا ما ابتعد التمساح عن شاطئ النيل مصادفةً وطورد اتَّجَهَ إلى النيل على خطٍّ مستقيم بأسرعَ من تَطَارُق١٢ الإبل وتهيأ للدفاع، والتمساحُ أشدُّ حَذَرًا من الحشرات الأخرى؛ لأنه أدقُّ سمعًا منها، وفي هذا سِرُّ طول عمره ما يحتمل، ومن فَضْلِ الخالق عليه امتدادُ أجله ونُمُوُّه بما يتفق له من الزمن على مَهْلٍ لا يتصورُه خيال، فبينما يَبْلغ الإنسانُ ثلاثة أضعاف قامته فقط بعد وِلادته يكون طول التمساح عند ميلاده ثلاثين سنتيمترًا ثم يَبْلُغ ثلاثة أمتار طولًا، ويَحقِد الزِّنجيُّ، حتى الكلبُ، على التمساح أشدَّ الحقد، ولا عَجَبَ، فالتمساحُ عدوُّ جميع الحيوانات وجميع الناس، والتمساحُ يصطاد ويذبح الجمال والحمير، والبلاشينَ أيضًا، وغِيلانُ ما قبل الطوفان الثلاثةُ وحدَها هي التي لا تخاف التمساح، ولكنها لا تُؤذِيه لأنها تأكل الأعشاب، والتمساحُ لِمَا لا يشعر به من النَّخْز والنَّهْش،١٣ ومن الجَمْر، تجده لا يُجْرَح ولا يَفْنَى.
figure
وادي بحر الجبل.

وأبو مركوب طيرٌ نفورٌ أيضًا، وهو أكثرُ الطيور غرابةً، وهو يَسكُن تلك المستنقعاتِ ويَسكُن منابعَ النيل، وهو رَمَاديٌّ فِضِّيٌّ مع انعكاساتٍ خُضْر وبيضٍ، وهو يَنصُب رأسه ذا المِنْقار الزائد على الحدِّ فوق عُنقه المعطوف ويَقِف على رِجْل واحدة كجميع طيور الغُدْرَان، ولهذا الطائر الكئيب الشَّكِس — المعتزل دومًا — حركاتٌ مفاجئة، ويَلوي هذا الطائر رأسَه ٣٦٠ درجة ويَنشُر جناحيه الثقيلين ويفتح ذلك الجَيبَ الواسع كغُدَّة في العُنُق فيصلح له منقارًا، ويألَف في كلِّ وقتٍ حياةَ المناقع المُتَعَوِّقة التي تُنْعِشها نَفَحات الريح.

وفي أثناء هذا الصَّمَتِ تُبصر اهتزازًا، تبصر تَشَنُّجًا مستمرًّا، وتلك هي أصواتٌ مخنوقةٌ توحي برائحة البلد، ويُهَيمن على طنين الهَوَامِّ التي هي سَيِّدَة تلك البُقعة، وعلى حَفِيف العشب، صَحَل١٤ باشقٍ كبير فوق البَردِيِّ أو غَقْغَقَة صقر، ومن هذه الغابة ذات السوقِ الخُضر يتصاعد نافذًا مُرْهقًا ما ينبعث من الجذور والأسماك الفاسدة.
وتَهُبُّ ريح الجَنُوب مساءً وتنتشر حرائقُ السُّهْب حتى السَّدِّ وتُنير الأُفُقَ، وتَغِيب الشمسُ الحمراء الكَدِرَة تحت السماء الوَزِينة،١٥ وتتحرك الطيور المائية وترتادُ المستنقعاتِ، ويَهبِط القاوندُ والقاق، وتَثِب أسماكٌ كبيرة فِضية خارجَ سِماط البحيرة الأرجوانيِّ، وتطير جماعاتُ الإوِزِّ نحو الشمال، ويَتَّضِح خوار بقر الماء، ويستعد بقر الماء هذا للبحث عن مَرْعاه في الأرَضين، وترى عشراتِ الألوف من الدُّود اللامعة تُضِيء أيكَةَ البرديِّ.
وعلى نور الشَّفَق البنفسجيِّ، وفي الغدير، يتساوق الليل والضفادع رويدًا رويدًا، ويتحول حَفِيف أوراق البردي المتجعِّدة إلى جَرْس١٦ سِرِّيٍّ يضفو عليه إيقاع١٧ هَوَامِّ الليل ويُذكِّر بصوت الجِنِّ، ويبدو البعوض ضَبابًا كثيفًا على آخر ضياءٍ لأولِ الليل المُرسِل سُدُولَه١٨ ضاربٍ إلى صُفرة، وتمرُّ الوطاوط، وترى الخطاطيف المتأخرة وهي تزقزق بقلقٍ باحثةً عن مأوى لها في الليل، وتظلُّ البلاشينُ ساكنةً على ضفة النهر الوَعِرة، وأين تنام الجوارح؟١٩ أفَتَجْثِم على الأشجار اليابسة في المستنقع الواسع؟ أفيجب أن تعود إلى الجبال البعيدة؟

والآن تنعكس أشِعةُ الهلال على ماء النهر الهادئ، وتجري النجوم هنالك في الأعلى وفوق البرديِّ المتحرك وفوق لَهَبِ السُّهبِ الأفريقي الأمغر.

١  ثلاث: ثلاثة ثلاثة، وهو غير منصرف، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
٢  الدوم: شجر يشبه النخل.
٣  المغيال: الشجرة الملتفة الأفنان الوارفة الظلال.
٤  الآجري: نسبة إلى الآجُرِّ، وهو القرميد.
٥  السنام: حدبة في ظهر البعير.
٦  الأشطاء: جمع الشطأ، وهو ما خرج حول أصول الشجر.
٧  المذربة: الحادة.
٨  المستحية: نباتة إذا لمستها انطبق ورقها.
٩  الأرض: جمع الأرضة، وهي دويبة تأكل الخشب على الخصوص.
١٠  فحت الحية: صاتت مِنْ فِيهَا.
١١  الزلوج: الزلق.
١٢  تطارقت الإبل: تَبِعَ بعضها بعضًا.
١٣  نهشته الحية: تناولته بفمها لتؤثِّر فيه ولا تجرحه.
١٤  صحل صوته: بُحَّ وخشن.
١٥  الوزينة: الرزينة.
١٦  الجرس: الصوت أو خفيه.
١٧  أوقع المغني: بنى ألحان الغناء على موقعها وميزانها.
١٨  السدول: جمع السدل، وهو الستر.
١٩  الجوارح من الطير هي المفترسة كالباز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤