الفصل الرابع

في ذلك الدور تزَّيَّن أجمل ملكات إثيوبية وأشهرهن بالذهب والحجارة الكريمة لتزورَ أورشليم (القدس) وتتعرَّفَ بالأمير الذي يملك هنالك فيَعدِلها جمالًا وصيتًا. ومن الحق أن كانت ملكة البلد الذي حمل بعد زمنٍ اسم اليمن، ومن أورشليم جاء تجارٌ إلى اليمن ليشروا منها حجارةَ بناءٍ رائعةً بأيِّ ثمن كان وليأتوا بها إلى مولاهم الذي كان يقيم هيكلًا عظيمًا تمجيدًا لإلهه يَهْوَه.

وكان ذلك الملك يَنْطِق بما لا يُحصى من الأحاديث والأمثال وأناشيد الحُبِّ، ولم يَعرِف أحدٌ أي الأمرين كان يتغلب عليه: الحكمة أم حب النساء.

إذن، ذهبت ملكة سبأٍ إلى الملك سليمانَ، وشَعَرَ كلٌّ منهما بميل إلى الآخر، وكان عندها مثلُ ذكائه فامتنعت عن إِلَافِه١ في بدء الأمر ولم تُقِمْ بقصره، ولما تملَّقها سليمان خاطبته بالحِكمة، فاضطر طوعًا أو كرهًا إلى نقاشها في الفلسفة ليالي بأجمعها لِمَا كان عليه من النبل. وتَحِين ساعة الرحيل وتُعَدُّ القافلة مُثْقَلةً بالهدايا التي تَنِمُّ على بذخ الملك اليهودي ذلك، وتُبصر الملكة نَزَق الملك الذي كان غَبِيًّا مع حكمته فسكَّنت وساوسه بأن أجَّلت سفرها إلى الغد. وتُقدِم فتُبلِّغ سليمان أنها تقضي تلك الليلة الأخيرة في قصره إذا أقسم بألا يمسَّها، وتقابل ذلك بتعهدها ألا تأخذ شيئًا مما هو خاصٌّ بها، ويُدرك سليمان بحكمته معنى كلماتها المضاعف، ولكن سليمان يعوذ بطاهيه ويأمره بأن يعلل طعام الوداع بالتوابل والأفاويه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وهنالك رأت الملكة أن مُضيِّفها أدرك أمرها، فلما اختليا كانت الأفاويه والخمر من شدة التأثير فيها ما اكتفت معه بقولها: «أُحِلُّك من عهدك أيها الملك إذا ما أسقيتني.»

ويُرْوِي الملك الغَنِج غُلَّتَها بشتى الأوضاع، ويُؤَخَّر السَّفر، ولا يريد الملك أن يَدَعَها ترحل، وتَلُوح موافقتُها على ذلك، ولما حَمَلَتْ منه وشَعَرَ جميع البلاط بذلك مع الوقت عَزَمَتْ على الذهاب، ويَظْهَر أن قريحة سليمان انطفأت مع نشيد الأناشيد أيضًا، وتَضَع في الطريق ولدًا فتسميه مِنلِيك بن حَكِيم، وكان هذا باهرَ الجمال.

ويُصبِح الغلام ملكًا، فيزُور أباه في أورشليم ويُتقبَّل بقَبُولٍ حَسَن، ويعود مثقلًا بهدايا من أسباط بني إسرائيل الاثنيْ عشرَ، ويُصحَب مقاتِلةً وكَهنةً لتعليم الأحباش دينَ اليهود، ولم يَكَدْ مِنليكُ يتوارى حتى أبصر سليمانُ مذعورًا اختفاء تابوت العهد أو الألواحِ النحاسية التي نَقَشَ موسى عليها وصايا الربِّ فكانت أقدسَ ما لدى اليهود، ويؤكِّد منليك فيما بعد أن كُهَّانه سرقوها من غير أن يعلم ذلك متَّبِعًا في تصريحه سُنَّةَ ما يفعله الملوك في مثل هذه الأحوال. ومهما يكن الأمر فقد تذرَّع سليمان بالحكمة فأمر الحبر الأكبر بأن يلزم جانبَ الصمت، وتعقَّب القافلة بنفسه على غير جدوى، فقد حَفِظَت الملائكة اللصوص كدأبهم في ذلك الزمن، فجاوز اللصوصُ البحرَ الأحمر بأنفاقٍ وبلغوا القصر الملكيَّ، ويُوفَّق سليمان لصنع مثل تلك الألواح مستعينًا بعاملٍ ماهر فلا يَعرِف عبريٌّ أنه يعبُدُ تابوتَ عهدٍ كاذب.

figure
من الشلك.

وأحاط العرب والربَّانيون ملكةَ سبأٍ بأساطيرهم، وجعلوا منها بقليسَ أو عرَّافة تَحُلُّ الألغاز وتعرف حتى خشبَ الصليب الحقيقيَّ، ويتمسَّك الأحباش بأُحدوثتهم، ويصوِّرونها على جُدُر كنائسهم، وتُنْسَخ هذه الصور في باريس ولندن رسومًا شعبيةً وتُوزَّع بين أهل ذلك البلد، ويُرَى فيها كلٌّ من العاشقيْن على فراشه الخاص، ثم يظهران على سريرٍ عريضٍ ذي منظر عصريٍّ، ومع ذلك يبدو نشيد الأناشيد للأحباش من فَرْطِ المغامرة ما لا يطبِّقونه معه على ملكتهم. والأحباش يقولون موكدين: إن سليمانَ وَضَعَ نشيد الأناشيد هذا في حِضن ابنةِ أحد الفراعنة فيحاولون — عبثًا — حظر قراءته على الفَتَيَات وعلى الكَهَنَة الذين يقرءونه مجتمعين.

وهكذا ترى الغرام يُسفِر عن إيجاد أسرةٍ ملكت ستة عشرَ قرنًا؛ أي ما بين سنة ٨٠٠ قبل الميلاد وسنة ٨٠٠ بعد الميلاد؛ أي مدةً طويلةً لم يَتَّفِقْ مثلُها لأيةِ أسرةٍ مالكة ظهرت على شواطئ البحر المتوسط. ولا نَعْجَب — إذن — من ظهور أميرٍ ماكرٍ يريد في أيامنا إقامةَ عرشٍ له في ذلك البلد فيُعلِن انتسابه إلى تلك الأسرة المالكة من آل سليمان منتحلًا اسم مِنِليك.

ولا يُفَسَّر جميع ما وقع منذ ذلك الحين في ذلك القسم من أفريقية بغير اختلاط العروق والحضارات التي كانت تتَّصِل بالحَبَشَة بطريق البحر الأحمر والصحراء النوبية، ويَعرِف الأحباش ذلك فيُسمُّون بلدَهم بالحبشة؛ أي بالخليط، وهذا ما يمكن إطلاقه على جميع شعوب أوروبة.

وكانت الأمم الفاتحة والأمم التاجرة تَنْجذب بلا انقطاع إلى البلد الذي يشتمل على الذهب والعاج والرقيق، وأيُّ العرقين دَحَرَ الآخر؟ وما هو مدى دَحْرِ الشعوب الحاميَّة للشعوب الساميَّة نحو الجنوب؟ ذلك ما لا يُعرَف معرفةً تامة ولا يَعْدُو حَدَّ جَدَلِ الأساتذة. ويظهر أن الإثيوبيين لم يأتوا بغير غزوٍ واحد لحضارةٍ أجنبية، وذلك قد تَمَّ حوالي سنة ٧٣٠ قبل الميلاد حين فتحوا مصرَ وأتوا بمقدارٍ من الآلهة والعادات المصرية، وبالعناصر اليهودية والعربية اختلط الأغارقة الذين أطلقوا اسمَ إثيوبية الراهن على ذلك البلد وعلى المناطق المجاورة، وكانت أكسوم، التي أسفر الحفر الحديث في شمال الحبشة عن إبراز أطلالها للأعين، مسيطرةً على بلاد العرب، ونحن لكي نضع حدًّا لارتباك الحضارات هذا نقول: إن أحد أولئك الملوك اليهود العرب تكنى بابن الآرس،٢ وكان ابن آلهة اليونان هذا أول من تعمد تكفيرًا عن السيئات، وهكذا لبس ابن الآرس هذا خواتم الأسطورة الثلاثة قبل أن توجد، وكان الأحباش نصارى قبل معظم البيض بزمنٍ طويلٍ، وما كان من تمتع هذه القبائل بتربيةٍ نصرانيةٍ بالغةٍ من القدم خمسة عشر قرنًا فيمكننا أن نسأل معه: هل يفوق أدب هؤلاء النصارى أدب جيرانهم من الوثنيين أو المسلمين؟
وترتج هذه النصرانية الجديدة التي هوجمت من جهتين في عام مولد محمد، وبيان ذلك أن نصارى الحبشة كانوا قد توعدوا مكة فردوا على أعقابهم في ذلك العام، وهم لم يلبثوا أن أكرهوا على الجلاء عن جنوب بلاد العرب بفعل الجدري، وهذا الأمر من الأمثلة النادرة التي يكون بها لإحدى الجوائح٣ نتائج سياسيةٌ في تاريخ العالم، وفي تلك الأمكنة يبدأ الصراع بين الديانتين، ويختلط بهذا النغم اليوناني العربي النصراني صوت اليهود الذين تسربت معتقداتهم في الحبشة مرةً ثانية منذ القرن السادس، وذلك لما يروى من انتحال أغارقة الحبشة لليهودية بتأثير بدويين جلبوا عاداتهم إلى بدويين آخرين، لا بتأثير البعثات التبشيرية، وفيما يدعو هؤلاء أنفسهم بالفلاشا (أي المفهوم خطأً) يتقوى اليهود.

ويتخذ مجرى الحوادث سيرًا سخريًّا ثابتًا أمره في القرن التاسع، ففي ذلك الحين طردت أميرةٌ يهوديةٌ من الحبشة آل الملك الذين ينتسبون إلى سليمان، وانتحلت النصرانية، وتحكم هذه الأميرة في شمال البلاد حاملةً اسم الملكة يهوديت، وكان لا بد من مرور أربعة قرونٍ حتى يدعي أميرٌ من أمراء الجنوب بأنه من سلالة سليمان ومنليك فينتصر على ذرية يهوديت، ويستتر تحت شتائم هذا الملك اللاسامية تعطشه إلى السلطان وحسده كما لو كان قد ظهر بعد سبعة قرون.

ويتلقب هؤلاء الملوك النصارى بالقمامص،٤ ولا يبدون أصلحَ من الملوك اليهود، فيدل منظار تاريخهم في القرون القليلة القادمة على صُوَرٍ ومناظر مُذْهِلةٍ؛ وذلك لما يُرَى من تقطيع مَلِكاتٍ مغلوباتٍ إِرْبًا إِرْبًا ورَمْيِ هذه القطع للكلاب واحتفالِ الرهبان بقتلهنَّ في موكب عامٍّ، ولِمَا يُرَى من قساوسةٍ أطهارٍ يولَعون بالخمر وبرخاءِ العيش فيرحِّبون برؤساءَ وثنيين ويَقصُفُون٥ معهم، ثم يحملون عبيدهم على ذبحهم، وأولئك من النصارى المؤمنين الذين يباهون بانتسابهم إلى أقدم المذاهب.
١  الإلاف: المعاشرة.
٢  Ares، ولعل الاسم محرف من الحارث أو الرايش.
٣  الجوائح: جمع الجائحة، وهي البلية والتهلكة والداهية العظيمة.
٤  القمامص: جمع القمص، والكلمة ترجمة Archpriest, Archiprêtre.
٥  قصف: أقام في أكل وشرب ولهو وأكثر من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤