الفصل الحادي عشر

كان يجوب أوروبة كردينالٌ، حواليْ سنة ١٨٨٠، فينطق بمواعظَ ناريةٍ ضدَّ الرِّقِّ، ويتبارى سادةُ الدنيا في تنظيم الولائم وفي إلقاءِ الخُطَب، ولكنهم لم يغيِّروا شيئًا تقريبًا، ولم يُلْغَ الرق في روسية وفي الولايات المتحدة إلا منذ عشرين عامًا قبل ذلك التاريخ، ويستفحل الأمر، ويتريَّب العالَم النصراني من إمكان وجودِ عبيدٍ من النصارى في الحبشة، وكان القُمُّصُ النجاشي يوحنا قد حاول منع النخاسة، وقد كلم أحدُ السياح الفرنسيين مِنِلِيك عن السخط الذي أثاره الكردينال لافِيجِيرِي ضدَّ النِّخاسة، ويُفَكر النجاشي في الأمر ثلاثة أيام، ويُصْدِر مرسومًا ضد النَّخَّاسين المسلمين، ويأمر بتسريح كلِّ أسير حربٍ في سبع سنين، ثم يُذِيع خبر تحرير بضعة آلافٍ من الآدميين، ويشترك رسميًّا في عهد مكافحة الرقِّ ببروكسل الذي ينصُّ في مائة فقرة على أمورٍ حاول بعض الموقِّعين أن يتخلَّص منها.

ويمضي عامٌ على ذلك المرسوم الأول الذي أصدره منليك فيُبِيح هذا النجاشي لجنوده أن يقتنوا عبيدًا، ولما أيقن أمرَ تقديم أرقاء إلى بعض الضباط الأخلياء رَضِيَ بأن يُهدَى إليه عبيدٌ مثلهم أيضًا، وكان محتاجًا إلى تُجَّارٍ من المسلمين لبيع الذهب والعاج فأغمض عينيه، ويُبْصِر دوام «منافاة الأدب» في دولته فيَوَدُّ أن يستفيد منها، ويطالب بتاليريْن عن كل عبدٍ يباع، فيعيد الانسجامَ إلى عالمه بهذه العبقرية.

ومع ذلك يكون عمل جمعية الأمم شافيًا إذا ما ألَّفَتْ حلفًا وأوجدت فيه شرطةً أدبيةً فوق العروق والعقائد، وما الذي ظفرت به جمعية الأمم؟

حلَّ اليوم التاسع من شهر نوفمبر سنة ١٩١٨ فرُفِع العلم الأبيض فوق ميادين القتال في العالَم، وتخشى بنت منليك الإمبراطورة حدوث انقلابٍ عامٍّ فتُذيع مرسومًا تحظُر النخاسة فيه فلم يُعْمَل بهذا المرسوم كما أنه لم يعمل بالمراسيم السابقة، ويَسخَر الأشراف في أوديتهم العليا من تحريم يَقِلُّ به دخلهم، ويجد تُجَّار خشب الأبنوس طرقًا ملتويةً كما يجد المهرِّبون في جميع البلدان الجبلية.

وإذا كان الرق مباحًا فإن النخاسة محظورةٌ، وإذ كانت بلاد العرب هدفَ النخاسة وجب على السلعة أن تجاوِزَ البحر الأحمر، والبحرُ الأحمر مما تَمخَر فيه سُفُنُ البيض وقِطَعٌ مهمةٌ من الأساطيل الأوروبية. ومن الممكن — إذن — أن يؤخذ النخاسون متلبِّسِين بالجريمة، وأن تراقَب المرافئ الثلاثة التي يقومون فيها بمهنتهم، وكان النصر قد تَمَّ للنكُولْن في صراعٍ أصعبَ من ذلك، ولم يصنع البيض شيئًا.

وفي غضون ذلك تَعْلَم الإمبراطورة من رسلها أو من بعض السياح أنه يجب على من يود أن يكون من العالم المتمدن أن يصبحَ صاحب مَقْعَدٍ في جنيف، وتكترث للمصالح التِّجارية أكثرَ مما للحضارة والدين، وتطلب رسميًّا قبولها في جمعية الأمم، وتصرِّح في طلبها بأن النخاسة محرمةٌ في الحبشة، وأن الرقَّ يزول بالتدريج فيها «مع استثناء حال الحرب»، وهذا الاستثناء مما يحدث في كل حين.

ويبحث الدبلميون عن «الصِّيغة» التي تنتسب بها الحبشة إلى جمعية الأمم بدلًا من إقصائها عنها إلى أن يُلْغَى الرقُّ فيها، ولم ينفكَّ الخبراء في ثماني سنوات؛ أي فيما بين سنة ١٩٢٣ وسنة ١٩٣١، يبحثون عن تلك «الصيغة» في الاجتماعات واللجان والمشاورات والمناقشات والخطب والمحاضر والإفطارات والولائم، وهم يُعْجَبون بوجهة النظر الحبشية القائلة: «حيث يوجَد الرق لا يكون الأرقَّاء تعساء ولا يعامَلُون بسوءٍ.»

وترى لجنة التحقيق «أن ذوي البأسِ من الرؤساء يمكنهم أن يَحُولُوا دون إلغاء الرقِّ، وأن يُحرِجُوا الحكومة الحبشية بذلك»، وأن التحريرَ قد يؤدِّي إلى «نتائج جالبةٍ للنوائب»، وما كان غيرَ هذا قولُ وزراء القيصر، وقولُ ممثلي دول الجنوب للولايات المتحدة، وقولُ ذوي الأملاك الكبيرة، وقولُ أنصار سِبَاق التسلح في الوقت الحاضر.

وتحذِّر اللجنة بلهجةٍ ذات بَهْرَجٍ من المصاعب التي يؤدي إليها ذلك في الحبشة من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، «وفي غضون ذلك يُتَمنَّى من الدول …»

ولم يكن لدى خُبَراء جمعية الأمم من الشَّجَاعة ما يَنشُرون معه جميعَ التقرير الذي قدَّمَه وكيلهم اللورد لوغارد والذي جاء مصدِّقًا لما أبداه الرواد والسياح من ملاحظاتٍ قائلة إن مراسيم النجاشي التي يُبطِل بها الرقَّ لم تكن غيرَ حبرٍ على ورق، وقد ألقى تقريرُ سنة ١٩٢٥ مسئولية ما وقع من بيعٍ جديد لألوف العبيد على كاهل الكَهَنُوت، وصرَّح راسٌ قويٌّ لسائحٍ: «نفضِّل الموتَ على العدول عن عبيدنا.»

وورد في تقريرٍ قُدِّم إلى الحكومة الفرنسية أن تجارة الرقيق في أديس أبيبا تتمُّ على مرأى من السفراء الأوروبيين، ويضيف التقرير إلى ذلك من دون سخريةٍ أن نخَّاسيْن شُنِقَا، ويذكر كاتبان إنكليزيان مؤخرًا أن الوضع زاد سوءًا بالفتن الأهلية بعد موت منليك، ويقدِّران عددَ العبيد هنالك بخمسة ملايين. وتمضي عشر سنين فيَرَى أحد هذين الكاتبين أن مديرياتٍ تحوَّلت إلى خرابٍ يبابٍ١ بعد ازدهارٍ لبيع أهليها، وأنه أقام بأديس أبيبا فأخذ النجاشي في أثناء إقامته بها هديةً مؤلفةً «من ١٤٠ فتًى وفتاةً تترجَّح أعمارهم بيت ستِّ سنواتٍ وأربعَ عشرةَ سنةً، ومن نساءٍ كثيرٍ يُرْضِعنَ طفلًا.»

والسنون تمضي، ولا يُبْدِي بلدٌ حراكًا، ونيوزيلندة وحدها — وهي قطرٌ صغيرٌ — هي التي تحاول إنقاذ الشرف بما تصدره من احتجاجاتٍ شديدة. ويُحمَل نصف الشعب على اتخاذ وضعِ عبيد مصر الفرعونية، فيركع أو يسجد إذا ما أُعطي شيئًا ويشرب بباطن اليد (لحظر استعمال الطاسات عليه)، وهو يُشَد بالوثاق إذا حاول الفرار، وفي السَّفَر يقدم سليل سليمان؛ أي مسيح الرب، عبيدٌ حاملون مشاعل، أو يستمع إلى جوقةٍ من الخصيان، وتكتب لجنة جمعية الأمم تقارير، وترى أن على الإكليروس أن يُوجِدوا جوًّا ملائمًا، وأن على رجال الدين أن يكونوا أولَ من يحررون عبيدهم، وتَبحث تلك اللجنة عن حقِّ السفن الحربية في تفتيش السفن المشتبه فيها، وتُنكِر حقها في الجواب مع إعرابها عن رجائها الحارِّ في دَرْسِ هذه المسألة العويصة.

وتُثْبِت هذه الأساليب للحكومة الحبشية حاصلَ ما يُبدِيه البيضُ النصارى من نشاطٍ في الأمر، وتتلهَّى الحكومة الحَبَشية في إصدار مراسيمَ تنصُّ على مجازاة كلِّ من يبيع عبدًا أو يهبه بمثل ما يجازَى به تاجر الرقيق، ولا أحدَ يُعاقِب النخَّاس، ويقدِّم مفوضٌ حبشيٌّ إلى جمعية الأمم بجنيف وثيقةً تشتمل على تحرير ٢٩٨ من العبيد في أثناء السنة، وأما ملايين العبيد الخمسة فقد ظلوا أرقَّاء!

وتوارت أسواق العبيد مع ذلك، وعاد لا يُدفع نقد ثمنًا لهم، وإنما يُشرَوْنَ ببنادقَ وقذائفَ، وينتفع في الخارج بما يوجَّه من اعتراضٍ تقليديٍّ فيقال: إن هَمَّ التفكير في مستقبل هؤلاء الناس هو الذي يَحُول دون تحريرهم، وإن الحركة الزراعية تَقِفُ في جميع البلد كما وَقَعَ في كوبا وهايتي، وإن المجاعة تعمُّ كما وقع في أرِترية عندما حَرَّرَتْ إيطالية فيها مواليَ مصريين، ولا أحدَ يُبْصِر أنه لا بد من وجود نهايةٍ للمجاعة، مع أن الرق يُهلِك أجيالًا في قرون، ولا أحدَ يعترف بأن النجاشي لا يَدفَع رواتبَ إلى موظفيه ولا إلى جنوده، وأن ضرائبَه تُجْبَى عبيدًا لرخص هذه الوسيلة إذا ما حُمِلَ العبيد على التناسل الكافي، ولا أحدَ يَذكُر أن الشريفَ يصطاد ويحارب؛ لأنه لم يتعلم شيئًا آخر، أسمرَ كان هذا الشريف أو أبيضَ أو أصفرَ.

وفوقَ البحر الأحمر الذي تَشُق عبابَه سفنٌ جميلةٌ في كل يوم، ومن درجةِ عرضِ جُدَّةَ المحرِقة، وحين يُريح النسيمُ الليليُّ على سطح المراكب حِسانًا من متاعب النهار، تُبصِر قُلُوعًا٢ بيضًا تَجرِي على الموج، ويتعقَّبها ضباطٌ بمنظارهم، ويتبسَّمون على ما يحتمل، ثم يحوِّلون أبصارهم لِمَا لا يجدون في ذلك ما يَعنِيهم، ومما حدث ذاتَ مرةٍ أن تتبَّعت سفينةٌ حربيةٌ إنكليزية زورقًا من ذلك الطِّراز، ويقذف الربان جميع العبيد من فوق المركب، ويَحمِل الإنكليزَ على إنقاذهم بذلك، ويفرُّ بهذه الحيلة ويسأل بعد حين قائلًا: «لِمَ يبلُغ الأجانب من حبِّ العبيد ما يُنقِذُون معه نحو اثنيْ عشر منهم تاركين شراعًا كشراعي الجميل يهرب على هذا الوجه؟»
figure
غزلان في السهب.

وتُلقِي قواربُ أخرى مراسيها بالقرب من جُزَيراتٍ صخرية في البحر الأحمر، وتسلِّم حملَها إلى قاربٍ آخر ينقُلُه إلى الحجاز، ولا يُوجَد للنخاسة سوقٌ في جدَّة، ومثل هذه السوق موجودٌ في مكة حيث يؤتى بمئاتٍ من العبيد على أنهم من الحجاج، وتَعلَم جمعية الأمم ذلك وتنظَّم تقارير فرنسيةٌ رائعةٌ في سنة ١٩٣٠ موكِّدة خبر ذلك، وتَطَّلِع جميع السلطات على حقيقة ذلك، ويَعرِف جميع القناصل في الساحل أسماءَ النخَّاسين، وهؤلاء لا يأخذون من المشتري زيادةً على ثمن المَبِيع، ولكنك تَرَى في كلِّ مكانٍ سماسرةً كثيري السخاء يدفعون نحو ١٢٠ جنيهًا ثمنًا للغلام الجميل البالغ من العمر اثنتيْ عشرةَ سنةً أو البنت البالغة من العمر أربعَ عشرةَ سنةً، ويبدو ثمن المرأة الحبلى التي قد تعود جميلةً بعد الوضع أرخصَ من ذلك لاتِّباع الولد للمشترَى من غير زيادةٍ في الثمن.

وكانت أسواق النخاسة علنيَّة في أديس أبيبا حتى سنة ١٩١٣، والآن تقوم المستودَعات مقامها في هَرر على الخصوص، وهذه المستودعات تابعةٌ للنجاشي رأسًا، وهنالك قُرًى بأسرها تعيش بالنقود التي تُدفع ثمنًا لسكوتها، ولها أفانين من المعاملات مع رؤساء القوافل، ولا يبدو الخطر إلا بين الاختطاف ومجاوزة الصحراء، ويُتَّخَذُ جميع المنازل مخابئ مع جِبَابٍ٣ ينام فيها الأسرى وتظلُّ مستورةً حتى يُسَارَ إلى البحر، وفي الساعة الحاضرة — كما في الماضي — تَرَى الطرق الصحراوية مرصَّعةً بجثث أناسٍ هلكوا عن ضَنًى ونَصَب، ويُرْوَى أن نصف الأسرى يموتون مقدمًا بسبب الخصاء الذي يتمُّ بقذارةٍ ومن غير طبيبٍ.

وما وُجِّه من مغازٍ إلى الغرب والجنوب؛ أي نحو كينيةَ والسودان، فقد نَبَّهَت السلطات الإنكليزية إليه من غير أن تَقدِر على منعه في كلِّ وقت، ويَجِدُ الأحباش هذه الغزوات أمرًا طبيعيًّا، وعند الأحباش أن هذه الغزوات تنطوي على معنى التعويض عن فِرَارِ عبيدهم إلى ما وراء الحدود ما دام الإنكليز والطلاينة لا يُعِيدونهم إليهم، ويُحسِن موظفو الإنكليز في القَضَارِف — البعيدة من الحدود ١٣٠ كيلومترًا — قبولَ هؤلاء الفارِّين، ويجدون لهم عملًا ولنسائهم أزواجًا.

بيد أن أصحاب العبيد يَرَون الضُّرَّ قد مسَّهم، فيُرسِلون من يُطالِب بردِّ بضاعتهم إليهم، وإليك نصَّ أحدِ الكتب التي يخاطبون بها الموظفَ البريطانيَّ في الحدود:
نسأل الله أن يُلهِمك العدل! إن الحكومة هي حامية الفقراء وحارسةُ أموالِهم، وقد فرَّ جميع العبيد في منطقتنا إلى القصارف، فأدَّى ذلك إلى خراب بيوتنا نحن المساكين الذين لا يقدرون على العمل بلا عبيد، وإليك أبعثُ ابني لتساعده في الموضوع، وإني لك من الشاكرين ألفَ مرة.٤
١  اليباب: الخراب.
٢  القلوع: جمع القلع، وهو شراع السفينة.
٣  الجباب: جمع الجب، وهو الحفرة.
٤  تجد في تلك الصفحات التي كتبت قبل الحرب الإيطالية الحبشية إيضاحًا لسرِّ هزيمة الحبشة، ولدينا منظر نادر لحرب تنتهي لخير المغلوب بعد النظر إلى فوائد الغالب المشكوك فيها، ولا ينبغي أن تخلط أهداف الغالب بنتائج النصر. والواقع أن إيطالية لم توقِد نار تلك الحرب لتحرير العبيد، ولكن هؤلاء العبيد غَدَوْا أحرارًا، ونجت البلاد من عاهل أسفر جبنه وفراره في أحرج الساعات عن عطف أوروبة الذي لم يكن أهلًا له في أيِّ زمان كان. والمصريون كانوا قد استقبلوا الإسكندر كمنقذ مع أنه دخل بلادهم فاتحًا، وتمضي مائة سنة فيُزْدَرَى خلفاؤه في جميع البلد، ولم تبدُ الشعوب التي حررت شاكرة قط، وهذه ظاهرة ينتقم لها القدر من الذين يخفون تحت نقاب من الأخلاق طمعهم في السلطان والتوسع، ومن المحتمل أن تهدِّد أفريقية المستقلة أوروبة بعد مائة سنة، ومما نعتقده أنه لن يرفع في ذلك الحين علم أوروبي فوق تلك القارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤