الفصل الحادي عشر

كان النيل قبضةَ قبائل من الهَمَج ودَّت لو تَسُدُّه، وماذا يكون مصيرُ مصرَ لو وَقَعَ ذلك؟ حتى إن النيل لو داوم على جريانه، حتى إن غِرْيَن النيل الأزرق لو داوم على إخصاب الوادي، ما حال ذلك — ذات يومٍ — دون نزول تلك القبائل — كأجدادها منذ ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنةٍ — إلى مصرَ للاستيلاء عليها ومراقبةِ ساحل البحر الأحمر وقطع طريق الهند على السُّفُن البريطانية. وهل يتعذَّر ذلك بعد الذي حَدَث؟

وتُبصِر أوروبةُ مذعورةً كونَ خطَّتها في تقسيم أفريقية أمرًا يُمَارَى١ فيه، ويكون للمستعمرين من الإنكليز — بعد الآن — بطلٌ تدعوهم ذكراه إلى الجهاد والانتِقام، ويغدو غوردون رمز السلطان السياسيِّ الذي يحتمل أن يكون قد حَلَمَ به في ساعات انفراده على سطح قصره. وإذا حَدَثَ أن أمةً لم تَقُمْ بالواجب نحو رجلٍ هَلَكَ في سبيلها فإنها عَمِلَت الشيءَ الكثير من أجل ذكراه وفاءً لما عليها تجاهه، وقد حَفَزَت هذه العوامل كلُّها إنكلترة إلى كِفاحٍ لم تُرِدْه بعد هلاك الكولونيل هِيكْس.

ويُنتَظَر ثلاثَ عشرةَ سنةً مع ذلك، ويسيطر الخليفةُ على السودان فيما بين سنة ١٨٨٥ وسنة ١٨٩٨ أو يحاول فرضَ سلطانه عليه إرهابًا، ويبدأ الخليفة بقتل جميع من يضايقه من أقرباءِ المهدي، ثم يهدِّد مصرَ العليا في الشمال والزنوجَ في الجنوب ودارفورَ في الغرب والحبشةَ في الشرق، وينال نصرًا أو يعاني كَسْرًا في كل الجهات مناوبةً، وتَنْقُضُ دول البيض المجاورة — إنكلترة وفرنسة وبلجيكة — بلادَ السودان من أطرافها بلا قتال.

وتَمضي إحدى عشرةَ سنةً بعد موت غوردون فيكون لحادثٍ من الأثر ما يَدْفَع إنكلترة إلى اتخاذ قرار، فقد أسفر سحق الطلاينة من قِبَل النجاشي منليك في عَدوَى، في شهر مايو سنة ١٨٩٦، عن حَمْلِ الأحرار على إدراكهم ضرورةَ تدخُّل بريطانية العظمى أو جلائها عن مستعمراتها. والحق أن الدولتين الكبيرتين — إنكلترة وإيطالية — غلبتا من قبل أناس ملوَّنين تابعين لبلدين بشرق أفريقية متحاربين في ذلك الحين مع احتمال تحالفهما بين حينٍ وحين، ويحل وقت السير فتقرِّر لندن أن تتدخل في السودان بعد معركة عَدوَى بأحدَ عشرَ يومًا.

وكان ذلك حلًّا عامًّا، وكان تقسيمُ أفريقية قد تَمَّ تقريبًا، والأمة التي تحتل السودان تَدعَم إمبراطوريتها الاستعمارية اقتصاديًّا وعسكريًّا وتسيطر — بوجهٍ خاصٍّ — على الطريق الصالحة لفرنسة من الغرب ولإنكلترة من الجنوب، ولم تَعدَم بريطانية العظمى وسيلةً لاطلاع مصرَ على ما يساورها بعد احتلالها قاصدةً البقاء فيها لا ريب، وأمكن بريطانية العظمى أن تستند لبلوغ ذلك إلى ثلاثِ ظواهرَ متساويةٍ بطولةً؛ وهي: أن تُنْقِذ ذلك القطر من الفوضى وأن تَحْمِيَ مصر وأن تنتقم لغوردون مع منعها توسُّعَ فرنسة أو ألمانية من الغرب والجنوب. وكان من الرأي السائد منذ بضع سنين أن يُشَكَّ في فطنة الإنكليز، وأن يُمْتَدَح حظهم أو المصادفات التي ساعدتهم. وأما في الحال الراهنة فيجب أن يُعْتَرَف لهم باتِّساع المدارك في سياستهم.

والنيل مصدر الحياة لمصر، والنيل يَقْطَع السودان، حتى في الوقت الحاضر يقول إنكليزيٌّ من أصحاب المناصب العالية إنه لا يحقُّ لإنكلترة أن تَجُرَّ إلى مصر خطرَ استيلاء أمةٍ ثالثة على النيل الأعلى فيكشف النقاب بذلك عن رغبة دولةٍ في الضمِّ لا تزال تَرُوم النصرَ في الحروب الاستعمارية. وهكذا يذهب البريطاني إلى الحرب لينقذ مصر ويقترن بها ويتمتع بمالها وجمالها ككثير من أبطال الأساطير.

وتنتفع إنكلترة بتجاربها السابقة، وتقتضي هذه الحملة رجالًا ومالًا أقلَّ مما اقتضته الحملة الأولى، وتُكلَّف بالنصر، وتُقدِّم مصرُ المال والرجال لما زُعِم من خطرٍ على سلامتها، ولم يُنفق الإنكليز غيرَ ١٣٠٠٠٠٠؛ أي أقل مما بذَّروه في مقاتلة المهديِّ بعشر مرات.

أجل، يبدو الانتصار أرخصَ من الانكسار على العموم، غير أن الآلهة جعلت العَرَق وجهادَ اليوم أمام تاج النصر، والصحراء بلا ماءٍ تقريبًا هي التي تمتدُّ من حدود مصرَ إلى الخرطوم؛ أي بين الدرجة الثانية والعشرين والدرجة السادسةَ عشرةَ من العرض الشمالي. وإذا اعتُمِد على النيل ودوافعه وانعطافه كان الهلاك كما وقع لهِيكْس وغوردون، والنيل هدف الحملة، والنيل أداة الفتح أيضًا، والنيل لا يصلُح طريقًا للسير إلى الأمام، ولا بدَّ من خطٍّ حديديٍّ يَقطَع الصحراء، ولا جبالَ ولا نهرَ هنالك، ولا احتياجَ إلى صُنْع أنفاق أو إنشاءِ جسورٍ كثيرةٍ لذلك، وهذا إلى أن الخطَّ الحديديَّ دليلُ نشاطٍ أكثرَ من أن يكون آيةَ فنٍّ، فيديره ضباطٌ، والجو — لا الأرض — هو العدوُّ الذي يجب أن يُقهر، ويَدخُل هذا ضمن إرادة الجنود الذين قُرِنُوا بذلك العمل.

وكان عُمرُ القائد في الصحراء يناهز الأربعين، وكان رصينَ الوجه، وكان أهيفَ طويلًا كثيرَ الشَّعْر أسمرَ بفعل الشمس صحيحَ البنية مَرِنًا إلى الغاية عند ركوبه حصانًا على الخصوص، وما كان حوله مزعجًا إذا ما عُلِمَ أنه نتيجةُ فَلَجٍ في العضل الأعلى لعينه اليسرى، وما كان من وَضْعِه الفاتر ونفوره من الناس وصمته المتجبِّر فلا يجعله محلَّ عطفٍ، وما كان من طِرَاز مصافحته فيوحي بأنه رجلٌ لا يودُّ أن يَقَع من الناس موقع الرضا، وإنما يريد أن يؤثِّر فيهم.

وقَضَى شبابه منزويًا، ورُبِّي في منزله تربيةً خاصةً غير مستعينٍ بمدرسةٍ ولا نادٍ، وما كان من اجتماع هذا الضابط الفتى بزملائه — ولو قليلًا — فقد ألهب طموحَه، وكان نفورُه ينطوي على إخلاصٍ مُطلَق لمهنته وعلى شعورٍ بالواجب كما عند الموظف البروسيِّ، وسواءٌ عليه أَوَضَعَ خرائط في قبرس أم وَضَعَ رسومَ جسورٍ في فلسطين لم يَعِشْ غيرَ وحيدٍ عادًّا أقلَ لومٍ إهانةً شاكيًا رؤساءَه إلى لندن في الحال.

وكان لا يوحي بعطفٍ إلى الرجال ولا إلى النساء، وكان يفضِّل أن يُخَافَ على أن يُحَبَّ، وقليلٌ من الأصدقاء مَنْ كان يدافع عنه، فإذا فعلوا ذلك فبحماسةٍ وهوًى، وهو قد جُرِّب جنديًّا وفارسًا في أفريقية، وفي غير معركةٍ، فخَسِر ذَقَنَه على سواحل البحر الأحمر تقريبًا، ويَمضِي زمنٌ وينال هذا المستبدُّ مناصبَ عاليةً ويُعَاب على غِلظته فيصنع في أثناء خِدَمِه ما يؤيِّدها فيشتدُّ غطرسةً ويرتاح إلى زيادة خصومه، وكان لا يُصغِي إلى أحدٍ، وكان لا يُعانِي نفوذَ أحدٍ ولا يُنفِّذ غيرَ ما عزم عليه فينتهي إلى نتائجَ رائعةٍ.

ذلك هو الرجل الذي أنشأ الخطَّ الحديديَّ من خلال الصحراء وهَزَمَ الدراويش وفَتَح السودان في سبيل بلاده. وكان كتشنر قد شاهد ضَرْبَ الإسكندرية بالقنابل في أثناء إجازةٍ، وصار كتشنر رئيسًا لأركان حرب الجيش المصريِّ الجديد، وصَنَعَ كتشنر ما استطاع لينظِّم حملةً تُنْقِذ غوردون، ولو حُكِمَ في أمر كتشنر بعد النظر إلى ما حقَّقَ لوُجِدَ أنه الوحيد الذي كان قادرًا على ذلك. ومن المحتمل أن لازمه هذا الرأيُ حينما كان راكبًا ظهر الجمل منفردًا متتبعًا إنشاء الخطِّ الحديدي مفكِّرًا في صُرُوف القَدَر الذي اختَاره ليثأرَ بذلك الذي لم يوفَّقْ لإنقاذه.

وأفكارٌ من ذلك الطراز مما كان يسيِّره في الغالب؛ لأن كتشنر كان جَبَريًّا، ومما أدت إليه إقامته بالشرق وصلاته بالمسلمين أن تمكَّن منه هذا الاعتقادُ بالمقدار الذي يلائم طموحَه، ومن العرب — الذين كان يتكلم بلغتهم على قَدْر الإمكان — اقتبس ما يناسبه؛ اقتبس الإيمان بالقدر ورَفْضَ كلِّ نقاشٍ مع رجاله وتَذَوُّقَ الفنِّ الشرقي، وكان جامعًا للآثار فيأتي من الأسواق إلى قصره جالبًا لها محترزًا، ويُعَدُّ هذا التلذذ، وتعد الحديقة الروائية الحسنة التنسيق في جزيرةٍ نيليةٍ أمام أسوان، مظهريْ هواه الوحيدين اللذين يُبيحهما ما يحترق في قلبه من طموح، وكان يُؤتَى إليه بالبريد فيَطرَح كلَّ شيءٍ جانبًا ويقرأ تقريرَ بُسْتَانِيِّه في بدء الأمر، وكان يفضِّل أن يَتَنَزَّهَ تحت عُرُش الورد على أن يكون وحدَه على الدوام.

وفي سنة ١٩١٦ قُتل كتشنر بلغْمٍ ألمانيٍّ حينما كان ذاهبًا إلى روسية ليَصُون الائتلاف من التصدُّع.

وفيما كانت الخطوط الحديدية تُمَدُّ في الصحراء كان الخبراء في لندن يصرِّحون بأن مشروعها مخالفٌ للصواب، وفيما كان كتشنر يرسُم خطَّتَه مع ضابط في خيمته بالقرب من وادي حلفا كانت الكتائب المصرية — والكتائب السودانية على الخصوص — تدرَّب تدريبًا نظاميًّا، وكان يَعرِف سهولة انحلال عزيمة الشرقيِّ عند أقلِّ حبوطٍ، وكان يعلم درجةَ ضرورة الهدوء والعناد وقوة المقاومة للقيام بذلك العمل، وكانت كتيبةُ الخطوط الحديدية مؤلَّفةً من ثمانمائة رجل؛ أي من أخلاطِ جميع شعوب شمال أفريقية الشرقي؛ أي من الفلَّاحين وأسرى الدراويش والدِّنْكا والشِّلُّك، وكان لا بد من تعليمهم وضعَ العوارض وربطَ الخطوط وتسميرها، وفيما كانت الكيلومترات الأولى من الخطوط الحديدية تُوغِل مستقيمةً في الصحراء كان فِتيانٌ من الزنوج يَجلِسون تحت النخل ويتعلَّمون الأبجدية المُورسيَّة٢ ويتخصصون في أمور البرق.

ويبدو الخطُّ الحديديُّ غير مؤدٍّ إلى شيء في البُداءة، ثم يتجلى ككلِّ أمرٍ يحقَّق وَفْق خطةٍ أُحْسِن حسابها، وتُمدُّ الخطوط الأولى فيُنقل عليها قُوتُ ثلاثة آلاف رجل، ومقدارٌ متزايدٌ من القِضبان الحديدية والعوارض، ومن الماء على الخصوص، ويُفتَقَر إلى الوقت والنقد، ويجب أن يَتِمَّ العمل قبل الشتاء، ولم يُوجَد ما فيه الوقاية من هجومٍ يشنه أعراب الخليفة فيُبِيدون به هذه العِصَابة المعاديةَ التي ليس لديها من الماء ما يكفي لأكثر من شربِ ثلاثة أيام، ومما حدث ذاتَ مرةٍ أنهم قوَّضوا الخطَّ المنتهيَ عند الشلال الثالث والذي أنشأه إسماعيل باشا سنة ١٨٨٤.

ويوجِّه كتشنر مُفْرَزَةً من وادي حلفا إلى مجرى النيل الفوقاني حفظًا لذلك الجزء من النهر على حين يُغِذُّ في السير إلى أبي حَمَد بأقصى مُنْعَطَف النهر في الجنوب الشرقيِّ، ومسافة ذلك خمسمائة كيلومتر، وذلك الجزء هو أصعبُ ما في الخطِّ وأقفرُه. ويتقدَّم عمال الصحراء أولئك من بين الرمال والجنادل، خالين من خرائطَ ومن خطوطِ بَرْقٍ ومن لاسلكيٍّ، غير مهتدين بسوى البوصلة والفِرجار والنجوم. ويتساءل عمال الصحراء أولئك — دومًا — عن إمكان ملاقاتهم العدوَّ أمامهم، ويَتْبَع المهندسين في كلِّ عشرة كيلومتراتٍ إلى الأمام ألفٌ وخمسمائة شخص يمهِّدون الأرض وألفُ شخصٍ آخرون يضعون الخطوط الحديدية، وفي كلِّ أربعة أيام تَتَقَدَّم طليعةٌ فنيةٌ عسكرية عشرةَ كيلومتراتٍ مع ما يَجلُبه القِطَار الأول من فحم لِيفَرْبُول وماء وادي حَلْفَا، وذلك كأمٍّ عطوفٍ تأتي أولادَها بغَدَاءٍ في أثناء نُزهة، ويُمَدُّ في اليوم الواحد نحو خمسِ كيلومترات من الخطوط الحديدية.

figure
سفر من خلال السهب.
ويرقب جواسيس الدراويش ما يَقَع، ويُخبِرون الخرطوم بأن التِّنِّين الفولاذيَّ النافثَ للَّهَب يقترب مقدارًا فمقدارًا، والآن يدعوه الدراويش بالباخرة على الدواليب، وهل يخرِّبونه من جهة النيل؟ وتَثُور عاصفةٌ لمساعدتهم فتدمِّر عشرين كيلومترًا من الخطوط الحديدية في نصف ساعة، ويتقدَّم الرجال البيض مع ذلك، ويبدو الرجال البيض أناسًا لا يُغْلَبون مع ذلك، فمَنْ كان منهم على السفن فيجاوز الشلالات، ومن كان منهم فوق الأَيْنُق٣ فيجوب الصحراء ويسبق الخط الحديدي.

وماذا يحدث لو هَزَمَت كتائبُ الخليفة في أبي حمد تلك الكتائب المولِّيَةَ وجهها قِبَل النيل الأعلى؟ وماذا يُصْبِح التنين الفولاذيُّ إذ ذاك؟ بَيْدَ أن الإنكليز يستولون على أبي حمد، وتَلحَق بهم طلائع الصحراء وتُحَيِّيهم كالفَعَلة الذين يسيرون من طرفيْ نَفَقٍ فيلتقون في نقطةٍ معينة مقدمًا، الله أكبر! هذا هو ذا النيل، ها هو ذا الماء، ويمكن بعد الآن أن يُخَفَّ إلى مساعدة بناء الخطِّ الحديديِّ وإعداد الأرض في الجَنوب حتى مصبِّ العَطْبرة.

ويمضي الخريف والشتاء، ويكون كِتشنر في بَرْبَرَ في شهر مارس، ويُعَدُّ ساحرًا لما يُلقِيه خطُّه الحديدي من الرعب أكثر مما يُلْقِيه جنوده، وينطوي سلطان التنين الفولاذي الحافل بالأسرار وحركاتُه التي لا تُدرِكها الأفهام على قَدَرٍ لا يَعْرِف الرحمةَ، ويحمل سودانيو بربر مَرْضاهم إلى القاطرة ليَمَسُّوها، وبالأمس كان لَمْسُ ثوبِ الخليفة يكفي للشفاء، واليوم يتوجَّهون إلى التنِّين الذي سيُفنِي الخليفة.

ويُدحرِج نهر العطبرة غِرْيَن جبال الحبشة ومياهَها، بيد أنه يجب أن يُنْصَب الجسر عليه بسرعة، وتُتِمُّه الشركة الأمريكية، وقد فُوِّض إليها أمر إنشائه، في اثنين وأربعين يومًا، ويبلغ طوله ٣٤٠ مترًا، وتمرُّ عليه إنكلترة لتفتح ملتقى النيلين، وذلك بفضل مِيكانِيين٤ من الأمريكيين وعمالٍ من الأفريقيين.

وفي صباح اليوم الثاني من شهر ديسمبر سنة ١٨٩٨ ينقض الجيش المؤلف من ثمانية آلاف إنكليزي وثمانية عشر ألف مصريٍ بأسلحتهم الحديثة على جيش الدراويش الضخم في أم درمان الواقعة على الضفة اليسرى من النيل الأبيض، وكانت هذه آخر معركةٍ روائية في القصة لما تخللها من حملات فرسانٍ والتحامٍ بالسلاح الأبيض. واصطراعٍ كتب الفوز فيه للبسالة الشخصية والبطولة، ولمشاهد تذكرنا بألواح المعارك، وتشابه تلك الملحمة معارك فردريك الأكبر التي وقعت منذ مائةٍ وخمسين سنة أكثر من مشابهتها معارك الحرب العظمى التي اشتعلت بعد ست عشرة سنة فوصفها تشرشل بقلمه الرائع.

وبذلك يكون قد انتقم للجنرال غوردون، والأمر هو أن جميع الشعوب وجميع العروق تدعى في كل زمنٍ إلى التكفير، وهذا التكفير أقل نتيجةً لنصر البيض واستقرارهم بالسودان مما أصاب الخليفة به البلاد من خرابٍ وضيقٍ على الرغم من وعوده الطنانة، وقد نم ميزان المهدية في عشرين سنةً على مليونين من السودانيين بدلًا من ثمانية ملايين، وما هي العلة في هلاك تلك الملايين الستة؟ وهل حرك الأمل والزهو نفوسهم؟ وهل رفع الأمل والزهو قيمة حياتهم؟ وهل كانت حياة أولئك الملايين الستة بالغة القصر بالغة التوتر فنزعها المثل الأعلى الجديد منهم؟ وهل للجمهور ربحٌ من تلك المنازعات؟ ويثق مغامرٌ بنفسه أكثر مما يجب مائة مرة، ويساعده بضعة آلافٍ ويساعدون بذلك أنفسهم، ويُمنى الآخرون بضروب الخيبة ويغدون من الضحايا، وما ينتزعه الخارج من تفكيرٍ فلا يفيد من أضلهم الطاغية؛ وذلك لأنهم لم ينفكوا يُصرعون في المعارك التي لا نفع منها لهم، ولا لوطنهم.

ولم تكن البنادق السريعة الطلقات، ولا المدافع الحديثة التي نقلت على خطوط الصحراء الحديدية إلى قلب أفريقية، ولا النظام والشجاعة وتجربة القائد الإنكليزي، وحدها عوامل النصر، وقد مضى خمسة عشر عامًا، فقد انطفأت نار الإيمان الذي انتشر بين السودانيين كالحريق في السهب، وقد حاول في السنوات التي أتت فيما بعد مهديان صغيران أو ثلاثة مهديين صغارٌ أن يلهبوا ذلك الإيمان مرةً ثانية فلم يوفقوا، ومن سعادة من ظلموا أن قضى على الطغيان كما في جميع الأحيان، وانحاز كثيرٌ من القبائل إلى الإنكليز طوعًا وعن سرورٍ، واختفى الخليفة عامًا في البقاع النائية، ثم يحاصره الإنكليز، وينتظر العدو، ويجلس على سجادةٍ كبيرة محاطًا بمريديه مبصرًا حكم القدر كمسلمٍ صالح، ولا يقاوم، ولا يطلب العفو، ويقتل رزينًا بالرصاص هو وأتباعه بالقرب من تلك الجزيرة النيلية التي ظهر المهدي منها.

ويخرب كتشنر قبر المهدي، ويأمر بقلبه رأسًا على عقب، لكيلا يصبح محل حجٍّ، وتُحرق عظامه ويُلقى رمادها في النيل ويعبر كتشنر وجنوده النيل الأبيض والنيل الأزرق بعد النصر ويدخلون الخرطوم كما صنع المهدي منذ خمسة عشر عامًا، ويتوجهون إلى أنقاض القصر، ويرفع علمان بدلًا من علمٍ واحد فوق الكتائب التي صفت على شكلٍ مربع، يرفع العلم الإنكليزي والعلم المصري، وينشد النشيدان الوطنيان ثم نشيد غوردون المفضل: «أقمْ معي»، ويُروى أن كتشنر الثابت الجنان لم يسطع أن يكتم وجده عندئذٍ عن حنان.

١  مارى: جادل ونازع.
٢  نسبة إلى الرسام والعالم الفيزيوي الأمريكي مورس الذي وُلد سنة ١٧٩١ ومات سنة ١٨٧٢.
٣  الأينق: جمع الناقة.
٤  Mécaniciens.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤