الفصل السابع عشر

وليست مصرُ هنالك بَعدُ، وتمتدُّ المِنطقة الواقعةُ بين وادي حَلْفا وأسوانَ، والمسماةُ نوبية الدنيا، ٣٥٠ كيلومترًا على طول النيل، وهي شديدةُ الانعطاف نحو الشرق، وهي من أفقر أجزاء مصر وأشدِّها وَحْشَةً، وقلما تَجِد فيها أراضيَ مزروعةً يَزِيد عرضُها على مائة متر، وتكاد الصحراء تَمَسُّ نهر النيل في الغالب.

وتماثِل حياة الفلاح المصريِّ هنا حياةَ أخيه في الشلالات، وكلاهما نوبيٌّ، وكلاما تابعٌ للساقية والفيضان، ولا أثَرَ هنا لما يُتَّخَذ في بناء البيوت الحجرية والخشبية من غرانيت ونخيل. والبيوت تُصنَع من طين النيل فيما بعد، ومن هنا كان الرِّتَاج١ المصريُّ الذي فَرَضَت مادةُ النيل الطينيةُ شكله فجعلته كأبراج الرمل التي يصنعها الصبيان على الساحل.

وكانت نوبية الدنيا في القرون القديمة مِنطقةً يَمُرُّ منها المصريون إلى السودان لجلب العبيد والذهب فظَلَّت الطريقَ الممكنة الوحيدةَ المؤدية إليه في قرونٍ كثيرة، وتَرَكت الحصارات المتعاقبة آثارًا غريبة هنالك، وإليكَ ضِفة النيل اليسرى بالقرب من وادي حَلْفا، وإليك بقايا قلعةٍ أُقيمت في القرون الوسطى بالقرب من معبدٍ منحوتٍ في الصخر حيث تُبصِر نقوشًا مصريةً قديمة بارزة رُسِمَت عليها صُوَرُ قدِّيسي النصارى، وحيث تُبصِر رأسَ الإله خُنُوم الكبشيَّ يَنْظُر إلى القديس إبيماخوس، وحيث تُبصِر الإلهَ أنُوكِت يُرضِع أحدَ الفراعنة، وحيث تُبصِر العذراء تَضُمُّ الصبيَّ يسوعَ إلى صدرها، وتَرَى على القُبَّة مسيحيًّا بزنطيًّا يَرفَع يده متوعِّدًا، وترى بجانبه الملكَ حارِمْهاب واقفًا أمام الإله تُوت.

وتُبصِر بقايا معبدٍ لهاتُور بجانب أنقاضِ حِصْنٍ نوبيٍّ يَرجِع إلى عهد مملكة مَرْوَى، وتُبْصِر بجانب هذا المعبد قبورًا إسلامية، ونَقَش كاهنٌ قبطيٌّ على بعدٍ من ذلك — وفي معبدِ الدرِّ — اسمَ إبراهيم بين صُوَر الآلهة المصرية معتقدًا أن مَلِكًا نوبيًّا كان قد صَلَبَه في ذلك المكان، وقد تقاتل الكهنة والملوك، والآلهة والعبيد، والقدِّيسون والفلاحون، حول اسم الربِّ وصورتِه فدعاهم إليه وجعلهم رملًا.

وتسير الصحراوان على ارتفاع مختلف على طول النهر، وتَرَى في الغرب صحراءَ ليبية الصفراءَ كالذهب مع جبالٍ سُمْرٍ، وتَرَى في الشرق صحراءَ العرب الأكثرَ صَخْرًا وذاتَ اللون الأسمرِ الرماديِّ، وتَعُوق الملاحةَ بينهما كُثْبَانٌ عريضةٌ.

والبواخر بِيضٌ قريبةُ الغَوْر، ويأتيها الفحم من بعيدٍ؛ يأتيها من نِيُوكاسل، وتَبقَى مواقدُها غيرَ مُغْلَقة في هذا البلد العاطل من المطر فيُخَيَّل إلى الإنسان مرورُ قطار على النهر، وتَجُرُّ سفينةٌ أختَها حيث يكون السود، ويَظُنُّ المسافرون في كلٍّ منهما أن مَنْ على الأخرى هم من مسافري الدرجة الثانية، وتَسِير الجارَّة والمجرورةُ على الأمواج رويدًا رويدًا رمزًا إلى القَهْر الذي يَجْمَع بين العرقين. أجل، تَجِد الآلة والدماغَ المُوَجَّه عند البيض، غير أن الأيديَ الوقَّادة شديدةُ السُّمْرة كأيدي الزُّبُن٢ في الباخرة الأخرى، وهذه الباخرة الثانية هي التي تَنْقُل محاصيلَ البلد إلى الشمال.

وتنتصب بين هذه التلال وبين الماء أربعةُ تماثيلَ ضَخْمةٍ من الحجارة الصُّفْر على بعد ستين كيلومترًا من مجرى النهر التحتانيِّ بعد وادي حَلفا؛ أي في أبي سنبل، حيث تَصِل تلالُ ليبية إلى النيل، فتَرَى الرجلَ بعينه جالسًا أربعَ مرات أمام جدار معبد، ترى إلهًا، ترى مَلِكًا على ما يحتمل، ترى معبودًا متوجِّهًا إلى مَطلَع الشمس منذ ثلاثة آلاف سنة حين استُخْرِج من المَقْلَع، أَوَ هذا تمثالُ أبٍ منصور أقامه له ابنه، أم تمثال بطلٍ مُمَثِّلٍ لإلهه الحافظ، أم تمثال ابنٍ باسل خَلَّدَته به أمه المَلِكة، أم أَثَرٌ لملكٍ نَذَرَه رعاياه للآلهة بعد موته؟

كلَّا، وإنما هو تمثال رمسيس الثاني الذي خلَّد نفسه بنفسه، وقد دام عهدُ هذا العاهل سبعًا وستين سنةً، فكان لديه من الوقت ما يَسهَر به على مَجدِه، فأقام في سبعة أمكنةٍ لآلهته ولنفسه أضخمَ ما في مصرَ من المعابد التي يُعَدُّ هذا المعبد القائم في أبي سنبل بالقرب من الحدِّ الجنوبي صغيرًا بجانبها، وهكذا ضَرَبَ أعظمَ الأمثال على عبادته الذاتية في القرون القديمة، وما كان ليُلَقَّب برَمسِيسَ الأكبر لولا تلك الدعايةُ الجامحة القائمة على تكرار اسمه بلا انقطاع، ثم حَمَلَ الأباطرةُ بعد زمنٍ زمرةَ الكهنة المَهَرَة على التصريح بأنهم «رُسُلُ الله»، أو حَمَلُوا فريقَ العلماء على التصريح بأنهم «منبعُ الحكمة»، ولكن ما هو معنى هذا، وما هو شأنُ خطباء زماننا الشعبيين بجانب ملكٍ كان يَحمِل على نَحْتِ تمثاله الخاص في جَندَلٍ على أربعِ نُسَخٍ متصلةٍ وعلى ارتفاع عشرين مترًا ليكون جالسًا عند آلهته؟

أجل، هو رمسيس الطويلُ الأنفِ طولًا تاريخيًّا والمُدَوَّرُ الوجه قليلًا مع لِينٍ، هو رمسيسُ الحاملُ لتيجانِ مصرَ العليا ومصرَ الدنيا، هو رمسيسُ المُوَلِّي وجهَه هادئًا شَطْرَ الشرق والواضعُ يديْه على ركبتيه، هو العِملاق الذي لا يَخْشَى شُعَاع الشمس، والذي يُلْقِي نظرةً بعد استراحةٍ ليلية على وادي النيل الذي يَصحُو، وهو يَرَى تحت عينيه وتحت السماء الزرقاء حَقْلَ شَعيرٍ صغيرٍ قريبٍ من ساقيةٍ باكية منذ عهده، على ما يلوح، فيُحَرِّكُها ثَوْرَان ذَوَا خُطًى بطيئةٍ، وتذهب امرأةٌ مُدَّثِرة بإزار أسودَ وحاملةٌ جَرَّةً لمَلْئِها من النيل البالغِ الزُّرقة، والذي يُحْدِث نسيمُ الصباح عليه غُضُونًا فِضِّيةً صغيرةً، ويتوجه إلى الشاطئ شراعٌ أبيض، ويَصعَد غلامٌ في الصاري لرفعه، ويمسُّ طرفُ الصحراء شفيرَ الضِّفة الوَحِل.

ومهما يكن قِدَم ذلك الملك ذي التيجان الأربعة هنالك، ومهما يكن جَبَروته، فإن النيل أقدمُ منه وأقوى ألفَ مرة، والملكُ مَدِينٌ لمَوْج النيل بسلطانه منذ أجيال وأجيال، ويُكسَر أحدُ تماثيل الملك الأربعة، ويَضْجَع نصفه الفوقانيُّ في الرمل كما لو كان طاغيةً مَزَّقَه عبيدُه الثائرون، ويَبْدُو بعضُ الشيء بين سيقان تلك التماثيل، يَبْدُو آل رمسيس، يبدو زوجه وأولاده، ويَعرِض تمثالٌ والدتَه التي كان من قَلْبٍ للطبيعة ظهورُها بين ساقَيْ ولدها الهائلتيْن، وهنالك نَقَشَ رمسيسُ اسمَه بين قدميْه كما نَقَشَه على ذراعيه وعلى قلادته.

ثم أتى قُوَّادُ جيشٍ ومرتزقةٌ فرأوا أن يَحصُدوا نصيبَهم من المجد فسَجَّلُوا مآثرَهم على أعضاء ذلك الملك القديم وقاعدته، فكانت الكلمة:

نحن أرْخون بن أَمُوبِيخُوس، وبِلِيكوس بن أُودُومُوس، قد سجَّلْنا ذلك.

وغدا هؤلاءِ القادةُ النَّكِرات الهَزْلَى،٣ الذين أتت بهم المصادفة إلى هنالك، أشهرَ من ذلك الملك الأكبر الذي نَقَشُوا بين أباهِمِ رجليه أسماءهم، وذلك لاستطاعة كثيرٍ من السُّيَّاح في الشرق أن يقرءوا اليونانية على حين لا يَفُك الخطَّ الهيروغليفيَّ غيرُ بضعة علماء.

وأعلن رمسيس نصفَ ألوهيته في داخل الكهف بأن مُثِّلَ بسلسلةٍ من التماثيل البالغة من الارتفاع عشرةَ أمتار، ويَبدُو الإلهُ الشمسُ ذو الرأس الصَّقْرِيِّ أصغرَ من الملك في كلِّ مكان، وفي تصاوير الجُدُر يُقَدِّم رمسيسُ إليه قربانًا مع صورته المُؤَلَّهة، ونرى رمسيسَ أيضًا يتناول السيفَ من إلهٍ ويَقتل عدوَّه ويَرمِي من فوق شُرْفَةٍ خصومَه الضارعين والطالبين عفوَه، ويأمر بإحصاء أيدي أعدائه المقطوعة في الحرب أو يَقُود موكب المغلوبين أمام تمثاله المُؤَلَّه.

وتصبح عبادته الذاتية هذه من الفنِّ في بعض الأحيان، فيكون للملك القاتلِ عدوًّا، والجاعلِ خصمَه المقهورَ تحت قدمه، رَوْعةُ نقشٍ يونانيٍّ بارز، وهو يُصغِي إلى امرأةٍ تُمْسِك زِنْدَه بلطفٍ، وتُبَارِك المَلِكةَ برَفعِ الذُّرْعَان إِلَاهتان مُزَينَتَان بمثل زينة اليوم حاملتان مفتاحَ الحياة.

وفي الصباح تَنْفُذ أشعةُ الشمس في ذلك الغار، وتُنِير هذا المزارَ الذي هو قُدسُ الأقداس، ويَمُنُّ ضياءُ الكهربا الكشافُ في الليل بمنظرٍ جامعٍ مفاجئٍ، ويُنْعِم بمظهر مؤثِّرٍ إلى الغاية، ولا نبالي — مع ذلك — بهذه الأشكال والكتابات المجاوزةِ الحدِّ كما نبالي بما ينطوي عليه الخط نفسُه من صُوَرٍ فنية، ولا تسترعي أسماء الحِيثيين والنوبيين والليبيين أسماعَنا كما يسترعِيها دَوِيُّ تلك الأمواج من بعيد.

ولا يوجِّه انتباهنا شيءٌ من وثائق الحُمْق الملكيِّ لو لم تَدُلَّنا هذه الوثائق — من خلال مناظرَ ذاتِ فنٍّ صبيانيٍّ — على الحياة في الزمن الذي وُضِعت فيه، وبها نُبصِر جنودًا وعبيدًا، ونبصر المصريين وأعداءَ المصريين يعيشون في المُعَسْكَر ويَعلِفون خيولهم، وتَرَى في المعبد المجاور للدر، وبالقرب من رَمسيس نفسه، فُرَّارًا آخذين جرحاهم على حين تَرَى في الضفة الأخرى أهلَهم ينتظرونهم حِزَانًا مع مواشيهم، وتَرَى زنوجًا يقدِّمون إلى الملك قُرُودًا وكلابًا سَلُوقيَّةً ونَعَامًا وزَرَافِيَّ وعاجًا وذهبًا، وترى امرأةً حاملةً طفلًا في سَلٍّ مربوطٍ بعُصَيْبَة على جبينها، ويُؤتَى بجريحٍ إلى قريته حيث تَجلِس امرأته القُرفُصاء بالقرب من النار، وحيث تَقِفُ فوق متراسٍ امرأةٌ أخرى حاملةٌ طفلًا على ذراعيها، ولِمَ تُؤَثِّرُ فينا هذه المناظرُ الصغيرة أكثرَ مما تؤثِّره الصخرةُ التي تَحَوَّلَتْ إلى إله؟

أفلا تَرَوْنَ الارتباكَ النفسيَّ الذي توجبه فينا عَظَمَةُ ذلك العاهل في تلك الصحراء ناشئًا عن النهر المنتصب بجانبه؟

١  الرتاج: الباب العظيم.
٢  الزبن: جمع الزبون، وهو من يتردَّد في الشراء على بائع واحد، وليس من الصواب جمع الكلمة على زبائن، والصواب زبن؛ لأنه فعول بمعنى الفاعل كصبر وغير جمع صبور وغيور.
٣  الهزلى: جمع الهزيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤