الفصل التاسع عشر

مكافحة الإنسان أوقعت النيلَ في خَطَرٍ على طول مجراه الأوسط من غير أن تغيِّره في أيِّ مكانٍ كان، ولم يُغْلَب النيل في المناقع ولا في الشلالات، وقاوم النيل مُغْوِيات السهل، والنيلُ أبلى الجنادل، والنيلُ قد تَفَلَّت من يد الإنسان، والنيل قد أحبط جميعَ خطط إنشاء القَنَوَات وجميعَ الجهود لجعله صالحًا للملاحة، والنيلُ في وادي حَلفا، وحين خروجه من الشلال السابق للأخير، مَلِكٌ أقوى من الفراعنة الغَطَارِيس، والنيل الصامتُ القليل الهَيَجَان قد اقتحم الجلاميدَ والمناقع والصحراء منصورًا.

ثم عانى النيل هذه المغامرة الأخيرة التي هي أدعى المغامرات إلى الجَزَع لعجزه عن الدفاع ضدَّ عدوٍّ خفيٍّ. وقد راعه أن رأى تصاعدَ موجه بلا انقطاع، وامتدادَه إلى ما لا حدَّ له. ولما غطَّى بارتفاعه المستمر أطراف الصحراء كان عليه أثرُ الغمِّ لا أثرُ التحرُّر، وإنه لكذلك إذ يبصر انتصاب جدار هائل غليظ أمامه؛ إذ يَرَى قيام عدوٍّ لا يُقْهَر أمامه جامعٍ للقوة والحيلة، ومن العبث أن حاولت الصحراء والصخر وقفَ النهر وقَهرَه، فلم يُرِد الإنسانُ البارع زوالَه، وإنما عبَّدَه.

وتُعَدُّ أسوان علامةَ ختام المغامرة في حياة النيل وآيةَ نهاية الفوضى الرائعة فيها، والنيلُ يُقمَع، والنيلُ نافع، والنيلُ الذي لم تقدر عليه العناصر ينثني بين يدي الإنسان ويَخضَع لإرادة العقل، ويَبلُغ عمل ذلك السدِّ من القوة ما يعيِّن معه الربعَ الأخير من مجرى النيل فضلًا عن أنه يؤثِّر بنتائجه وممكِناته في النهر بأسره حتى خمسةِ آلاف كيلومتر من مجراه الفوقاني وإعطائه معنًى جديدًا لجميع ما وصفناه، وسنتكلَّم بعد حينٍ عن تأثير هذا العمل الفاوستيِّ١ في مصر، وقد حلَّ الوقت الذي نَدرُس فيه النيل الذي هو الوسيلة الوحيدة — كعنصرٍ وكماء — لإدراك السبب في وجوب تعيين مصيره بأسوان.

ومن أين يأتي الماء الذي يُوقَفُ على ذلك الوجه؟ وفي أيِّ وقت وبأية قوة يَصِل الموج غدًا؟ يجب على المهندس بالقاهرة أن يَعرِف ماذا تَكشِف له الطبيعة التابعةُ لهواها عن أمرِ النيل الأعلى ليعيِّن مقدارَ الماء الذي تُرسِله حواجز أُسوان إلى القسم الأدنى من النهر ويعيِّن مقدارَ ما يجب حفظُه وإلى أي حين، والمهندسُ في مكتبه الصغير وبقلمه الرَّصاصيِّ وخرائطه وما عنده من جدولٍ في الأنساب العددية يعد الدماغَ المدير، وما يُرْسَم على جِهازِ مُورْس من خطوطٍ بيضٍ في كلِّ صباح فيُعلَم به ارتفاع مياه النيليْن حتى الرُّصَيْرِص ومَلَا كال ويُعِينه على تكوين رأيٍ حول ذلك فيُصدِر الأوامرَ ويُبرِق إلى مهندسِ أُسوان عن مقدار الحواجز التي يجب أن يفتحها في ذلك اليوم.

وإذا كان القياسُ عن المجرى الفوقانيِّ فلِمَ لا يُقهَر النهر مقدَّمًا فيُصنَعَ سَدٌّ في النيل الأعلى والنيل الأوسط؟ وإذا نُظِر إلى الأمر من أسوان فما هو شأن النهر الشابِّ وشأن البحيرات والمناقع والشلالات؟ وما شأنُ كلٍّ من النيلين لدى ذلك السدِّ الأعظم الذي يَرقُب جميعَ أهوائهما ويُقَيدها؟

وإذا وُقِف على السدِّ تحت دائرة السرطان، وإذا رُجِعَ البصر إلى المجرى الفوقانيِّ وسُئل عما يجب عملُه تحت خطِّ الاستواء، غُيِّرَت اللهجة ووجهةُ النظر، فالمسائلُ جديدة، ولم يُوجَد الخزان إلا منذ ثلاثين سنة، وكثيرٌ من الملاحظات خاصٌّ بالمستقبل.

وتتنافس بحيرتان كمنابعَ للنيل الأبيض مثلَ تنافس النيليْن، ويوجد لمِنطقة بحيرة ألبرت الجبليةِ، ولوقوع هذه البحيرة على الطرف الغربيِّ من الوَهدَة الأفريقية الكبرى، ولإمدادها بجبال رُوِنْزُورِي العظيمةِ، تأثيرٌ كبيرٌ في حجم النيل الأبيض، وإذا ما درسنا مِساحةَ تَينك البحيرتين معًا ودرسنا نظامَهما النهريَّ وَجَدْنا حاصلَ نحوِ مليون كيلومتر مربع يُغَذِّي مصر اﻟ ٣٠٠٠٠ كيلومتر مربع. وإذا نُظِرَ إلى الأمر من الناحية العملية رُئِيَ أن نصف الماء الجاري يأتي إلى مصرَ من تَينك البحيرتيْن، وأن هذا النصف ليس مدينًا بغير جزءٍ منه للأنهار التي تغذيهما.

والواقعُ هو أنَّ جميع ما يجري نحو بحيرة فيكتورية لا يملأ صحنَها، وإذا عَدَوْتَ كاجيرا وجدتَ البرديَّ في أشهرٍ يَحُول دون وصول مياه الروافد إليها، والمطرُ النازل من السحاب هو الذي يملأ البحيرة، وهذا يسوغ الأسطورة القديمة القائلة إن النيل يأتي من الجَنَّة، وتزيد مِساحةُ بحيرة فيكتورية على مِساحة سويسرة بمقدار نصف مِساحة هذا البلد، ونرى تقاصًّا بين فَيض مِساحة البحيرة وما يوجبه تبخُّر مائها بسرعةٍ من نقصٍ، ويَعدِل ما يَنجُم عن المطر والتبخُّر من كسبٍ وخُسْر في بحيرة فيكتورية نحوَ أربعة أمثال ما يَنجُم عن الروافد وجريان المياه من كَسْبٍ وخُسْر. ويكفي أن يقام سدٌّ عند مسقط ريبون، وأن يُحْفَظ الماء على هذا الوجه لسنوات الجَفَاف، لتحويل هذه البحيرة إلى حوضٍ احتياطيٍّ ثابتٍ أكيد لمصرَ، ولكن هذا الماء يمرُّ من إسفَنجةِ بحيرةِ كيوغا ومن مناقعَ أخرى، فيكون الخسرانُ كبيرًا نسبيًّا كالذي ينشأ عن ترك الماء يجري طليقًا.

ويُرى أن بحيرةَ ألبرت أصلحُ من بحيرة فيكتورية للسدِّ نظرًا إلى صِغَرها وقلةِ نُقُوعها، ووقوفِ شواطئها، وظهورها خَزَّانًا طبيعيًّا مِثَاليًّا، فيكفي سدٌّ ارتفاعُه مترٌ واحدٌ لجمع خمسة مليارات ونصف مليار من أمتار الماء المكعبة؛ أي أكثرَ مما في أُسوان، ولا تكون البحيرة، ولا التبخُّر، أكبرَ مما عليه لِمَا عليه الشواطئ من حَدْرٍ ووَعْرٍ، ولكن كيف يُصان صلاح النيل الأعلى للمِلاحة مع أن منبعَه الثاني في أقصى شمال البحيرة؟ والمسألة هي أن يُعْرَف — إذن — أيُّ الأمرين أفضلُ: أإقامةُ السَّدِّ عند مخرج بحيرة ألبرت في بَكْوَاتْش أم إقامتُه بعد مائتي كيلومتر عند نموله؟

ويتلقَّى النهر الشابُّ في مجراه من مخرج بحيرة ألبرت كثيرًا من السواعد التي تُضَاعِف ربحَه في موسم الأمطار، غير أن هذا النهر يَبدُو مغامرًا فيَخسَر في أسبوعٍ ما كان قد رَبِحَه في الأسبوع الماضي، فيترك في مناقع مُنغُلة ما يَقرُب من نصف مكاسبه، ويكاد يجفُّ لو لم يخفَّ بحر الغزال إلى مساعدته، ويَبلُغ الخسرانُ في المناقع من الكثرة ما يعدل ١٣٫٥ مليار متر مكعب من ١٤ مليارَ مترِ ماءٍ مكعب؛ أي ما يكفي لجعل مِساحة الأراضي الصالحة للزراعة في مصرَ ثلاثةَ أمثالها، وهكذا لا يُعِين بحرُ الغزال وبحرُ الجبل بغير العُشر من مجموع النيل.

ولكن بما أن سواعدهما عاطلةٌ من الانحدار في القسم الأسفل من مجراهما فإن جميع ذلك يسير إلى ذلك المستنقع، وترى هنالك بُقعةً يستطيع بقر الماء، حين يَشُقُّ طريقًا، أن يُقَوِّض فيها ضِفة نهر فيغير مجراه، وأُريدت معالجة ذلك فَوَرَدَت الذهنَ «خطَّة فرعونَ»، خطةُ مِينَا التي طبَّقها على النيل الأدنى، وهذا النظامُ هو من سرعة التنفيذ وكثرة التوفير ما يُجْتَنَب به ضَيَاع الماء في المناقع، فبه يُحدَث سَدٌّ حجريٌّ على الضِّفة اليسرى من بحر الجبل، بين رجاف وملا كال، بالغٌ من العرض عشرةَ أمتار ومن الارتفاع مترين فيُحْصَر بحر الغزال بذلك.

figure
مجرى النيل التحتاني من أسوان.

وبذلك النظام يُنشَأ عن يمين تلك التسوية سدٌّ ثانٍ عازلٌ لنصف مناقع بحر الجبل، فتَقِلُّ مساحتها بمقدار النصف، وبذلك النظام يكون بحر الجبل قد رُدَّ إلى جهة بحر الزراف فيرتفع مستواه. ومع أن الأرض ترتفع بذلك ارتفاعًا خفيفًا نحو الاتجاه الشرقيِّ فإن المناقع الشرقيةَ تَزِيد هنالك وتَضِيق على طول بحر الغزال، ويُمكِن ذينك السَّدَّين الفرعونيينِ الطويليْن تسعمائة كيلومتر، والبالغيْن من التكاليف مليونَ جنيه، أن يُقَامَا في ست سنين وأن يَفصِلا نصفَ المناقع، ويُحرَم الماءَ نصفُ المناقع بذلك فلا يُنْقَذُ غيرُ ربع اﻟ ١٥ مليارَ مترٍ مكعبٍ التي تَغِيب في تلك البُقعة فيكون لمصرَ نفعٌ كبيرٌ في سِنِي الجَفَاف.

والمناقعُ تستنزف النيلَ ما لم يُحَقَّق ذلك المشروع، وسيُنَاط مصير مصر بروافد المجرى التحتانيِّ وبالسُّوبَاط قبل كلِّ شيء، والسوباط هو الذي يأتي بماء الحَبَشَة الجَنوبيِّ، والسوباطُ خاضعٌ لنظام أمطار الجبال العالية، فيَجِفُّ شتاءً ويَندفع كالسيل صيفًا، ويكفي قليلُ تعديلٍ في الجو حتى تَبلَع المناقعُ جميعَ ماء البحيرات ويصبحَ النيلُ نهرًا حَبَشِيًّا خالصًا.

والنيل كالتاجر الذي يغامر في كلِّ أمرٍ فيَخسَر كلَّ شيء في مشروعٍ هَيِّر،٢ فهو يكاد يَجِفُّ لو لم يأتِ السُّوبَاط لمساعدته في الدقيقة الأخيرة؛ أي فَورَ التقاء بحر الغزال وبحر الجبل. أجل، تُقَلِّل السُّوبَاطَ فيضاناته في مجراه الأعلى، فلا يصل إلى حدِّه الأقصى إلا في شهر نوفمبر مع أن ارتفاعه يبدأ في شهر أبريل، غير أن السوباطَ في فصل الخريف يكون من القوة ما يسدُّ به مجرى النيل ويَدحَر به مياهَه حتى بحيرة نو، ولا يَجُوب السودانَ — إذن — سوى قليلٍ من ماء النيل في ثلاثة أشهر.

وماء الحبشة؛ أي نهرُ السوباط مع توابعه، هو الذي يجري على هِينَته نحو الخرطوم في مجرى النيل الأبيض.

١  الفاوستي: نسبة إلى فاوست الذي هو إحدى روايات غوته المعروفة بهذا الاسم.
٢  الهير: الذي يتهوَّر في الأمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤