الفصل التاسع

ينتصب رِتاجان في الخُضْرَة بين النخل، ويحتمل أنهما قديمان، ويحتمل صدورُهما عن معبد، أو عن نَمُوذَج معبدٍ ما داما صغيريْن، ويَصغُران كلما دَنَوْنَا، ونتبيَّن في نهاية الأمر أبراج حمامٍ غريبةً شِبهَ أسطوانيةٍ قائمةً على بيت فلاحٍ، وترانا في قريةٍ ما بمصرَ العليا محاطةٍ بخضرة، وذلك على حدود الصحراء التي أُخصبت قسيمةٌ منها، والقسيمة هي وطن الفلاح ومنزلُه المفضَّل في القرية.

وإن ما عليه من سرعة عَطَبٍ هذه البيوت البيض والسمر المبنيَّة من طين النيل نفسِه، وإن ما عليه هذه البيوت من تكتُّلٍ، وإن ما يَسُود ذلك المَدَى الضيِّق من ضَوْضاء، وإن ما يصدر عن الإنسان والحيوان من ضجيجٍ حادٍّ بعيدٍ من صَرِيف الآلة، وإن ما ينبعث من خِثْيِ١ البقر الجافِّ المحترق من رائحةٍ عُذَيْبِيَّة أمورٌ تدلُّ السائحَ على حياة عضويةٍ حيوانية غريزية، ويُشْعَر بالقرية المصرية وتُسمَع وتُذَاقُ حتى قبل أن تُدخَل.
وتَرَى في الطريق الضيقة جُمهورًا منذ الفجر، ويَلْبِط الحمار النطَّاط الذي ينتظر عند باب النَّحَّاس، ويحاول صاحبُه أن يبيع النسيج الملفوف فوق ظهره، ولا يَرفض النحَّاس ذلك لأنه غير مقتصد، ويحتاج إلى وقتٍ طويل ليقرِّر، ومن المحتمل قبل ذلك أن يولِّي وجهه شطرَ الحلَّاق الذي صَنَعَ له طستَ الحلاقة والذي يَجُوب الطريق مُعوِزًا باحثًا عن الزُّبُن، وليس عليه أن يَصِيح، وذلك لِمَا ليس لديه سوى مشتركين يؤدون إليه أجرةَ عمله مرةً في السنة مع سَلَّةِ فُولٍ أو عَدَس، وأسعدُ حالًا من ذلك هم الأولاد والدَّجاج الذين يَلعَبُون على جُثْوَةٍ جافَّةٍ من وَحَلِ النيل، وكذلك الشائبُ الجالسُ على الأرض مديرًا بحبَّات سُبْحته من غير أن يُعْرَف من بعيد هل يَدْعُو الله أو عيسى، وكذلك السائل الذي ينزل من فوق حماره طالبًا صدقةً والذي ينصرف وهو يُهَمْهم٢ بعد أن يقوم بحساباته.

ويُنْعِش القرية أنواع الحيوان، ويَلُوح أن للدجاج من كلِّ جنسٍ صفةَ الضابط الذي يعتقد أنه لا مَعدِل لأحدٍ عنه ما دامت مصر تُصْدِر مائتي مليون بَيضةٍ في كل سنة. ويعدُّ الكلب نَجِسًا فلا تُحْسَن معاملته، وينشأ خبيثًا ويَعُود إلى الحال التي يكون عليها ابن آوَى، وليس من خطيئته أن يَغْدُوَ خَطِرًا، وتَرقُبه الهرَّة الضاربةُ إلى حُمْرة والمُؤَنِّسَةُ المعتنَى بها والمُلبِدة بزاويةٍ خائفةً مزدريةً معًا. والخنازيرُ خاصةٌ بالنصارى، ولكن مَنْ يَعلَم أن المسلم لا يخالف تعاليم النبي الصحية بين أربعة جُدُرٍ فلا يستبدل لدى القبطيِّ قطعةَ خنزيرٍ بقطعةِ ضائن!

والحميرُ تَنهَق مسرورةً، وتتنازع النساءُ ويتشاتمن حولَ البئر حيث يُصعِد الدولابُ ذو الصريف ماءً من السِّماط الواقع تحت الأرض، وهنَّ يتساءلن هل تكون الجارة عقيمًا؛ وذلك لأن عدوًّا لها حملتها على ابتلاع حبٍّ من السِّمْسِم عند وضعها ولدَها الأخير. وهنَّ يَدُرْنَ نحو بائع البصل الذي سَمِعْن صُراخه ويُسَاوِمْنَ بصوتٍ عال، وهنَّ إذا ما خَفَتْن أصواتهن كان ذلك عند الكلام عن ثروة الرجل المتواضع الذي يدخِّن بنرجيلته جالسًا القرفصاء أمام باب المَقهَى المفتوح، وما كان ليَقِفَ نَظَرَ أحدٍ لو لم يُبْصَر تحت كُمَّيْ عباءته السمراء ما على ثوبه الحريري — الجدير بأحد الخلفاء — من خطوطٍ خُضرٍ وصُفر، وتُثْبت عمامته الخضراء أنه كان في مكة فحُقَّ له أن يَلبَسَها لهذا السبب على ما يحتمل، وهو إذا ما وجَّه بصرَه المثيرَ إلى النساء قوَّمْنَ براقعهنَّ وسَتَرْنَ شعورَهن لعدِّها أكثرَ من وجوههن تهييجًا.

وتخرج أصواتٌ حادةٌ، فقد قَلَب حمارٌ يَحمشل ما يَعدِل حجمَ بدنِه ستَّ مراتٍ دلوَ امرأةٍ تحلُب فيها لبنَها على قارعة الطريق لِمَا يُساور المشتريَ من خوفِ إضافتها ماءً إليه، ويَتَجَمَّع الناس والبهائم، ويأتي حيوانٌ غريب من الخلف ويُلقي ظلَّه عليهم، ولا يُعرَف هذا البعير رازحًا تحت حِمله من البُرِّ، ويَمُطُّ هذا الجمل عنقَه الطويلَ الهزيل الذي هو أهلٌ لعجوزٍ إنكليزيةٍ هزيلةٍ مزينةٍ بالجواهر جالسةٍ في دار التمثيل، ويبصِر صُبَّارًا على طرف الطريق ويَلُوكُه هادئًا بين الصَّخَب الذي يَسود النداءَ الثانيَ الصادرَ عن المؤذن من شُرفة المسجد العالية.

ويتهافت الناس نحو الطرف الآخر من الطريق، فقد وَصَلَ العَرَّافُ من المِصر راكبًا حمارًا، ويزدحم النساءُ حوله ويمسسن تمائمه الفضيةَ وقطَطَه وجِعْلَانَه٣ وصورَ العذراء وإيزِيس التي لديه والخاصة بجميع الأديان ويَضَعْنَها في الوَحَل ويَثِبن فوقها ويُقبِّلْن ثوبَه، ومَنْ يَكُ عندها ما تؤدِّي إليه فإنها تنال من حَبِّ الفَحَّال٤ ما تتخذه للشرب، وهو تِرْياقٌ٥ ضدَّ مكايد الحواسدِ اللائي يُرِدْن أن يَحُلْنَ دونَ وضعِها أولادًا آخرين.
ومن المحتمل أن كان المنزل الذي تُهيِّئ المرأة فيه الطعامَ من بناء بعلها، وتحيط النخل بهذا المنزل، وتَحُفُّ به مقاعدُ جميلةٌ ظليلةٌ من تِبن؛ وذلك لأنه يُعْمَل ويُستَرَاح خارجَ البيت، وعلى هذا البيت صُوِّر جملٌ تصويرًا ساذجًا مؤثِّرًا، وعلى ذلك البيت صُوِّرَ خط حديديٌّ، لا القطار السريع الأبيض الممتدُّ على شاطئ النيل، وإنما القِطَار التالدُ الطريفُ الذي سَافَر به ربُّ الأسرة من جُدَّةَ إلى مكة، وقد أدخلت إلى التِّمْرَادَيْن٦ القائمين فوق البيت صفائحُ من خَزَف أزرق يُحِبُّها الحمام، وفي المنزل يُرَبَّى بقرٌ لخِثْيِه الثمين، والخِثْيُ يَصلُح وَقُودًا.

ولا تَقِي غرفة المنزل الوحيدة الرطيبة المُعْتِمة ساكنيها من الشمس، بل من الليل، وتُجاورُها فُرُشٌ مصنوعة من حُصْرٍ وجلودٍ وبضعة مراجلَ وأوعيةٍ خشبية وجِرَارٍ من فَخَّار، ويَتَلمس دُخَانُ الخِثْيِ المحروقِ مَخْرَجًا من خِلال سقفٍ خفيف مصنوع من تِبن الذُّرة، ويجتذب الخِثْيُ الكلابَ والهررةَ والدجاج، وإذا لم يكن الأولاد في المدرسة تَمَرَّغُوا مع الحيوانات في هذا الجَوِّ الخانق.

والفلَّاحة في فَتَائها رائعةُ المنظر لِمَا تكون عليه من صحةٍ ونشاطٍ ومَرَحٍ وعَرْضِ كَتِفٍ واستقامةِ صدرٍ مع حُسْن اختِضابٍ ومَشْطٍ، وهي تَغْدُو زوجًا في الثالثةَ عشرةَ من سِنِيها، وهي تَتَزَوَّج قبل بلوغها السِّنَّ القانونيةَ غالبًا، لتهارُمها٧ أمامَ القاضي، وهي لا تَلْبَث أن تصبح أُمًّا، وهي تنجذب بجميع أفكارها إلى الحياة الجنسية ما حَمَلَتْها الشمسُ وخِصبُ البلد على ذلك. وما كانت كثرة الولد لتحول دون الغيرة وهَوَى النفس، فلا يُحْجَم عن القتل والسَّمِّ في سبيلِ رجلٍ تَرْغَب فيه امرأةٌ ولا ترغب عنه امرأةٌ أخرى.

ولا يقول المسلمون — على العموم — بتعدُّد الزوجات لأسباب مالية فقط، ولا يُجَادَل الطبيب والعَرَّافُ وحدَهما في المسائل الجنسية، بل تجادَل الفَتَيَات فيها أيضًا، ولكن عن سذاجةٍ، وتَرَى المستوى الأدبيَّ أعلى مما في غرب أوروبة فيُفْرَض النكاح أو الفِرَاق عند وجود فضيحةٍ فتعالِج المحاكمُ هذه الأمور، وليس الزواجُ — ولا الفراق — من الأمور المؤبَّدة، فيمكن العود إلى الأمر ثلاثَ مرَّاتٍ قبل أن يُكْرِهَكم القرآن على التوقف، حتى إنه يحلُّ الزواج بالمرأة للمرة الرابعة إذا ما تزوَّجت بآخرَ قبل ذلك.

وأبناء مصرَ خرافيون منذ القديم، فإذا ما أراد رجلٌ أن يتزوَّج أرملةَ أخيه — من أجلِ قطعةِ أرضٍ على ما يحتمل — اتَّخَذَ جميعَ الوسائل وسَحَرَ امرأته لتَمقته، وهو يَدْفِن في قَبْرٍ بيضةً وُضِعَت يوم الأربعاء بعد أن يُكْتَب عليها اسم إحدى الأرواح الشرِّيرة. والمصري — نصرانيًّا كان أو مسلمًا — يعتقد جميعَ ما ينطوي عليه الساحر من رِئَاء وتَصَنُّع، والعُقمُ لا يزال أحسنَ وسيلةٍ للخلاص من المرأة، ولا رَيْبَ في أن المِلْتُوسِية٨ في مصرَ أندر مما في أيِّ مكان آخر.

وتُسفِر تلك الحالُ النفسيةُ عن نتيجتين؛ تسفر عن شِدَّةٍ نحو البنات واحترامٍ عميقٍ نحو الأم، وللأمِّ المقامُ الأعلى عند الابن، ولو كان شَعرُ زوجِه رَماديًّا، وليس للحفيدات أن يَخْرُجْنَ من دون أمهن، حتى إن الأَيِّمَ تَفقِد حقوقَها، ولا يَحِقُّ لها أن تكون وحدَها مع رجالٍ في غرفة واحدة. ومما يقع في أيامنا — أيضًا — أن تأتيَ الأم بابنتها الحُبْلَى إلى الصحراء لتذبَحها أو أن يَقْتُلَ الأخُ أختَه لسوء سلوكها، وتعد الولادة — ولا سيما الأولى — حادثًا ذَا بالٍ، وتُعَلِّق المرأة في الجِدار صُوَرًا ملوَّنة لرجالٍ حتى تُنْعِم النظرَ فيها، وهي — قبيل الوضع — تجرِّر نفسَها إلى شاطئ النيل بحثًا عن قطعة غِرْيَنٍ تَبلَعُها في أثناء الطَّلْق، وتَستُر جِيدَها وذراعيها بتعاويذَ لكي تَضَعَ صبيًّا أو ولدًا حسنَ الهيئة.

والمرأة إذا ما وَضَعَت أنثى عَدَّها زوجها مدنَّسَة مدةَ ثلاثين يومًا، والمرأة إذا ما وضعت ذكرًا عدها زوجها مدنسةً مدة أربعين يومًا. وهل هذا بسبب أهمية الذكَر، أو لأن الذكَر أكثرُ دَنَسًا؟

وتُرضع المرأة ولدَها عامين تقريبًا ككثير من فلاحات النُّروِيج، وتُرَى المرأةُ جالسةً أمام بابها عاريةَ الصدرِ مُمسكةً الولدَ الذي يَرضَع بيدها اليسرى وممسكةً أُنبُوب النرجيلة التي تدخِّن بيدها اليمنى. وتُسَمَّى الرضعةُ الأخيرة بالفِطَام كما تسمَّى سَقيَةُ البُرِّ الأخيرة به أيضًا. والمرأة إذا ما حَمَلَت ثانيةً علَّقت على جِيدِ ولدها الأكبر عُوذَةً٩ لكيلا يَحْسُدَ أخاه الأصغر، ويَحمِل الأولاد على أعناقهم مصاحفَ صغيرةً دقيقةً محفوظةً في أكياس من نسيج قطنيٍّ. وإذا كان الولد نحيفًا سَيِّئَ النموِّ أُتِي به إلى شاطئ النيل في أول الفيضان وحُمِلَ على قَذفِه فيه حَلْوى وتمرًا مع القَوْل بصوتٍ عالٍ في كل مرةٍ: «دعني — أيها النيل — أزيد قوةً كعمقك.»
وفي النهار يكون الزوج في الحقل بجانب الناعورة زارعًا أو حاصدًا، والفلاح مشهورٌ بصحته ونشاطه واعتدال قامته منذ القديم، هو رَبْعَةٌ،١٠ هو مفتولُ السواعد، هو يُشابه تماثيل عهد الفراعنة إذا ما وَقَفَ عاريًا بجانب المِنزَفة وناول رفيقَه وِعاءَ الماء.

وللفلَّاح الحافي في الحقول — بقميصه الأزرق، وسرواله الواسع، أو بعباءته السمراء التي نَسَجَتها له زوجته من شعر العنز، مع لُبَّادةٍ كثيفة على رأسه — هيئة المزارع الرزين الصوت الذي يزرع أرضَ آبائه في غُضُون القرون. ويذكِّرنا رأس الفلاح برأس حيواناته الأهلية، ولا يمتُّ الفلاح إلى الزنجيِّ بصلة، وذلك بجمجمته الغليظة البيضيَّة المخلوقةِ القائمة على رَقبةٍ قوية وبجبينه العريض المائل إلى الوراء قليلًا وبأنفه السَّرْجِيِّ وعينيْه السوداوين اللامعتين تحت حاجبيْه الكثيفين، وبفمه الكبير وأسنانه الجميلة وذَقنه المقرَّن والأجرد أحيانًا.

وليس القسم الأسفل من وجه الفلاح ناتئًا كما عند العروق الأفريقية الأخرى. وجسم الفلاح مما يقاوم الآلةَ، ولا بدَّ من انقضاء قرون حتى توافق روحُه على تغيير عادةٍ. والفلاح فقيرٌ منذ عهد الفراعنة، والفلاح المصري كالفلاح الروسيِّ القديم ما بَلَغَ عددُ الفلاحين بمصرَ اثني عشرَ مليونًا من أربعةَ عشرَ مليونًا. ولِمَ ظلَّ المصريُّ فقيرًا؟ هو غير كسول، هو غير غبيٍّ، هو ذكيٌّ شَغَّالٌ ما دام شابًّا على الأقل، هو قد أُمسِك في بحرٍ من الجهل، هو لم يُبْدَأْ بالعناية بتربيته إلا في وقتٍ حديثٍ جدًّا، هو قد يكون حسودًا خرافيًّا، ولكن مع طيبةِ قلبٍ، ولم يَجْعَل ضِيقُ منزله منه رجلًا عِربِيدًا، وقد حافظ مع القرون على حسن مَعشَره، ويبدو عنيفًا من غير حقدٍ، فإذا قَتَلَ جارًا له لاختلاسه منه بضعَ بصلاتٍ بكاه مخلصًا.

وفي بلد لا يُجْدِي فيه المحراث نفعًا تقريبًا لا يُترَك الفلاح فيما عليه إخوانه بالنيل الأعلى، أو أبناءُ دينه ببلاد الشرق الأخرى، من بِطالةٍ مباركة، فعليه أن يدير الناعورة، وعليه أن يَحمِل الدَّلْوَ على كَتِفه، فلا يَمُنُّ النيل عليه بالخِصْب بلا عمل، ويكون الفلاح عند مِنزَفَته على ضِفة النهر من وقت الفجر، وتَسْمَعُه الشمس عند كلِّ صباح مُنْشِدًا:
الليف المفتول ذراعٌ تحمل دلوًا. لقد اخترعوا الشادوف منذ ألوف السنين لا مراء، هم قد فعلوا ذلك لأن الماء كان لا ينزل من السماء، وماذا كان اسم هذا الرجل الذي نَشكُرُ له؟ وَيْ صالح زبادي! يا ليفُ أنت قويٌّ، ويَقدِر الحَرُّ أن يُحْرِقَني، إذا انفَزَر قلبي لم أجد مَنْ يَبكِيني، وَيْ صالح زبادي!١١
حتى إن الحِرَاثة عند ضرورتها تطالب الإنسان ببَذْل جميع قُوَّته، وإن وَجَب ألا يكون التَّلَم١٢ عميقًا. ولكن المحراث لا يزال مؤلَّفًا من قطعةِ حَطَبٍ مُنحنية ذاتِ حديدةٍ حادَّةٍ فيَجُرُّه ثَوْران مقرونان بِمَجَرٍّ طويل، ويُكْسَر المَدَر١٣ بالأيدي فيُبْذَر. ومما يقع في بعض الأحيان أن تُقْرَعَ الأرض بأرجل الغنم، وتكون الحقول صغيرةً، وتُبصر عند كل ستِّ أقدامٍ حَدًّا، ولا تَجِد غيرَ مربعاتٍ دقيقة مع انحدارات قليلة يُصنَع فيها ثَقْبٌ أيامَ الفيضان، أو يُفْتَح فيها ذلك بالرِّجل.

وهل الحَصَاد هنالك أسهلُ مما في الأماكن الأخرى؟ وفي الشتاء يَنضج القمحُ والفول والعدس والبِرسيم. وفي الصيف تَنضج الذرة والأرز والقطن وقصب السكر. وفي أثناء الفَيَضان يَنضج الدُّخْن والأرز والخُضَر، وهذه المحاصيل الثلاثة تطابق البِدَار (وفي أول نوفمبر يُبذَر في الغرين) فتَجِد في كثيرٍ من بقاع مصر سبعةَ محاصيلَ في ثلاثةَ عشرَ شهرًا، غير أن عمل السقي يَعدِل محاسن الشمس، فظلت الآلات كما في زمن الفراعنة، ويُقْطَع القمح بالمناجل في كلِّ مكانٍ تقريبًا، ويُجْمَع هذا القمح أكداسًا فيَحْمِلها الجَمَل إلى البَيْدَرِ حيث يَدْرُسُه البقر، ثم يُذْرَى البُرُّ ويُحْفَظُ من الريح بأوراق النخل، ولا بدَّ من انقضاء وقتٍ حتى تَحْمل الحميرُ أكياسَه إلى الهُرْيِ المخروطيِّ.

وكان اثنا عشر مليونَ فلاحٍ يَعمَلون من أجل مليوني غَنِيٍّ منذ سنوات قليلةٍ خَلَتْ، ولم يطالب الفلاحون لأنفسهم بغير نصف الأراضي حتى بعد اضطرابات سنة ١٩١٨، ويَبرُز البدويون — الذين لا يقرءون صحفًا ولا يسمعون في واحاتهم خُطَبًا — من فَورهم على ضفاف النيل مع الهُتَاف: «قَسِّمْ واعْدِلْ!» ولا يعدو هذا تلخيصًا لنظريات أبناء المدن من قِبَل أناسٍ مِلَاحٍ عُرَاةٍ صَحْلٍ١٤ على طرف الصحراء. واليوم تتحرَّك الجموع على مَهلٍ، فمن ناحيةٍ يزداد عدد أصحاب الأملاك الصغيرة في هذا البلد الخصيب فيقومون هم وأولادهم بأمور الزراعة، ومن ناحيةٍ أخرى يَكثُر عدد المزارعين على أن يكون خُمُسَا المحصول لهم.
ويَدفَع أقلُّ مالكٍ ثلاثةَ جنيهات أو أربعةَ جنيهات ضريبةً عن كلِّ فدان، غير أن السكان يَغْدُون أكثرَ كَثَافَةً مقدارًا فمقدارًا، وقد تضاعف عددهم في السنين الثلاثين الأخيرة تقريبًا، وهم ما انفكَّ أكثرُهم مُيَاوِمًا.١٥ أجل، يُستخدم عددٌ غيرُ قليل منهم في المطاحن والمِضَخَّات البخارية كما هو الأمر عندنا، غير أن معظمَهم يَعْمَل مثلَ آبائهم، فينالون أجورَهم عَيْنًا ويَنقُل الأولادُ والنساء أجرةَ الزوج على رءوسهم.

ويا للضوضاء حولَ المحكمة عندما يَتَوَجَّه الفلاح إلى المِصر اجتنابًا للحجر! ولا حَجْزَ من عهد كتشنر لما هو أقلُّ من خمسة فدادين، فإذا عَدَوْتَ هذا أخذ الجُبَاةُ كلَّ ما سوَاه، حتى أصغرَ قطعةٍ فضية مزيِّنةٍ لبرقع زوجته، وذلك عند عدم تأديته ما عليه من الضرائب، وذلك سواءٌ أكان الفيضانُ جيدًا أم رديئًا، وها هو ذا يُرَى تحت ظلِّ السَّنْطِ أمام بناءٍ حجريٍّ ذي منظر كئيب كما في بقية العالم، ويدنو من كاتب عرائضَ ليدافع عن حقوقه على حين يَشرَح عشرةُ فلاحين أُخَرُ حالَهم لكَتَبَةٍ عشرةٍ آخرين، وتُبصِر في دار القضاء تلك مثلَ ما في القرية من ازدحامٍ وعدمِ انتظامٍ، وما يُحَرِّك به كاتب العرائض من بطء قلَمِه في الدَّوَاة فيدلُّ على قلة اكتراثه ويَنِمُّ على ما يساوره من مَكْرٍ حول تفكيره في زَبُونٍ أكثرَ ثراءً، وإن الأمر لكذلك إذ يَنهض جميع الجالسين القُرفُصاء في القاعة ذاتِ الظلِّ، وذلك عند دخول القاضي، وإليه يُهْرَع، فلعله يكون أولَ المُتُقُاضِين.

ويبدو القاضي لابسًا حُلَّةً سوداءَ ووشاحًا أحمرَ قبل أن يستويَ أمام مِنضدته العالية، ويضحَك المحامون في الصفِّ الأول ويُثَرْثِرون بمثل ما يَظْهَر من وقاحةٍ وتَجَنٍّ على ضفاف اللُّوَار١٦ والتايمس١٧ والإلبة١٨ والأرنو،١٩ ولكن الكلام يخرج على ضفاف النيل من محاميين معًا، ومن زَبُونَيْهِما معًا، ويخيَّل للعابر أن الأمر واضحٌ عندما تَصدُر زَعَقَاتٌ أربعٌ وتُهَزُّ أيدٍ ثمانٍ أمام القاضي، ويتدافع الحضور إلى الأمام، ويحاول حاجب المحكمة دَفعَهم على غير جَدْوَى، ويُعلِن الرجل اللابس وِشاحًا بصوتٍ نَمَطيٍّ قائلًا: «إن القضية أُجِّلَتْ لثلاثة أشهر.»
والفلاحُ يَرجِع تَعِبًا إلى الغاية من الحَصَاد والناعورة والمحكمة، وما تقدِّمه زوجُه إليه من خبزٍ فيَجِده جيِّدًا، فهو مصنوعٌ من البُرِّ والذُّرة، وهو صالحٌ لبقاء حُسْنِ الأسنان كما يلوح، والفلاح يَغمِسه في حَسَاء البصل والسمن مع الخِيَار والفول، وهذا هو طَعَامُه العادي المفضَّل. ويتَّصِف الفلاح بحبِّ الخير فيقدِّم من طعامه هذا كوبًا إلى أفقرِ من يمدُّ يدَه إليه؛ وذلك لأنه يأكل على عَتَبَة البيت، وينتظر السِّنَّورُ نصيبَه أيضًا، ويُحِبُّ الفلَّاح البصلَ الفِجَّ٢٠ والبصلَ الناضج والعدسَ قبل كل شيء، والخُضَر إذا أمكن ذلك، ويُؤثِر الفلاح ماءَ النيل غيرَ المُصَفَّى مع جميع أوساخه لكي يكون مُطْعِمًا، ويُؤْمِن الفلاح بالنيل.
ومن الأمور الشاقَّة أن يُخرَج الفلاح من القذارة التي نشأ عليها أجدادُه جيلًا بعد جيل مع حيواناتهم منتفعين بأقلِّ سِرْجين٢١ للحَمَام وزبلٍ للأنعام، وذلك من غير أن يَنزِل من السماء ماءٌ يَغسِل الإنسان والحيوانَ والمنزل والآنية منذ ستة آلاف سنة. وقد يمضي جيلٌ أو جيلان قبل أن يَثِقَ الفلاح بالمَشْفَى الحديث أكثرَ من ثقته بالمجبِّرة التي تَضَع سُنبُلة ذُرَةٍ على الساق المريضة مع تلاوة آياتٍ من القرآن، والتي تداوي الحَثَرَ٢٢ بذلك الجَفْن بقطعةِ سكر أو بقَطرِه بعُصَارة بصلٍ مع ملح، والتي تَكْشِط الجلد بصَدَفٍ أو حجارةٍ سحرية.
figure
هوروس (الصقر) في أدفو.
وتَزُول العقائد ويَبْقَى الساحر، ويحتمل أن تكون الظُّلُمات التي يَدَّثِر بها ضربًا من ردود الفعل لنور الشمس الساطع الخالد، ويعيش الفلاح خائفًا خوفًا أزليًّا من اللَّامَّة٢٣ مُحَاطًا بمئات التمائم اللامعة على جِيدِ النساء ورِقَاب الحمير والجمال، ويترنَّح الفلاح بأقاصيص القاصِّين الذين يُكرِّرون وقتَ المساء بحركاتٍ مسرحيةٍ ما قصَّه عليهم آباؤهم مادِّين أذرُعَهم واضعين أيديَهم على آذانهم أحيانًا كما لو كانوا يستوحون. وإذا غابت الشمس وتصاعد دُخان السغاير ظهرتْ في جوِّ المقاهي العُذَيْبِيِّ طائفةٌ من الأحاديث الوهمية الغائمة التي تَخشَى نورَ النهار، والتي تَرجِع إلى ألوف السنين. ومما جاء في كتاب الإله توت السِّحريِّ أن ابنًا لأحد الفراعنة حلَّ بردِيًّا مقدَّسًا في الماء وشَرِبَه فأُشرب كلَّ حكمة. ومما حدث في سنة ١٩٣٦ أن قاضيًا نوبيًّا كتب كلمةً من القرآن وحلَّ حِبرها في الماء وحَمَل المشتكيَ والمتهمَ على شُربها لكي يقولا الصدقَ، ولكن الخرافاتِ تحيط بالحبِّ والموت على الخصوص.
وتَصِل العروس راكبةً جملًا، أو سيارةَ فُورْدٍ — أحيانًا — مهما كانت فقيرة، ثم يُفرِط في الطعام، ويَضَعُ القِسيس — ولو كان قسًّا نصرانيًّا — نسيجًا مُخْمَلِيًّا على كَتِف العريس اليُمْنَى وتحت عاتقه الأيسر، ويتلو أدعيتَه ويَجمَع جُعْلَه،٢٤ ثم يرفع ذلك النسيج، ويَرقُب لُبْسَ كلٍّ من العروسين خاتَمَه، ويعلن زواجهما بذلك، وفيما يُرْقَص ليلًا تَدنو جماعة من الضِّباع على رائحة اللحم المشوي، وتُطْرَد الضِّباع، وتُجَلْجِل من بعيدٍ وتُوَعْوِع بناتُ آوى. وفي صباح الغد وحدَه يذهب الزوج إلى زَوجته، ويمسها بعصًا من جِذْعِ النخل، وتعود هذه العادة إلى ستة آلاف سنة.

وإذا مات أحدهم مات شَبَحه في الوقت نفسه؛ وذلك لأن القَرِينَة تولَد مع الإنسان ولها شكلُ الإنسان وطبيعته. وهي تكافح قرينةَ خصمه، وقد تكون قرينةَ سَوْء في بعض الأحيان فتُزعِج صاحبها فيهْرَع في الصباح إلى الشيخ ليسألَه الوِقاية منها، وقد تكون المرأة شِرِّيرَةً فيؤلِم شبحُها الولدَ حتى السنةِ السابعة من عمره، ثم لا يبقى ما يُخْشَى منه بعد ذلك، وتقول الفتاةُ العاشقة للفتى بلطف: «إن قرينتي طَيِّبَة نحوي.»

وإذا مات ولدٌ اضطرب المنزلُ بأسره، وشُعِرَ بخطرٍ يَحِيق بالجنس وقوة التناسل، ويُسرع لاجتناب بلايا أخرى، وتَخرُج روحُه من فمه ككلِّ ميت، ولكن لا ينبغي أن يُكَفَّن بشدةٍ خشيةَ أن تُصَاب أمه بالعُقْم، ثم تُذْبَح شاةٌ، ويُؤْتَى بخبز، ويأتي رَجُل الدين، ولو كان قسًّا نصرانيًّا — بعد ثلاثة أيام من الموت — ويُذهِب روحَ الولد الميت مع عُثَان٢٥ اللُّبَان، ولا تَجِد لذلك ذكرًا في القرآن ولا في التوراة. فهذه الطقوس مصريةُ الأصل.

وهكذا تنقضي حياةُ الفلاح المرافقة لصريف الساقية، والتي تكون على شيءٍ من السعادة، وذلك مع صفاءٍ صادر عن إلهَيْ أرضه اللذيْن جَعَلا بلدَه مثمرًا وجعلا منزلَه منتجًا، والفلاحُ ينام على صوت قَضْم حماره لفوله، والفلاحُ يَصْحُو على سَجْعِ حمامه.

١  الخثي: ما يرميه البقر من بطنه.
٢  همهم: تكلَّم كلامًا خَفِيًّا.
٣  الجعلان: جمع الجعل، وهو ضرب من الخنافس.
٤  الفحال: ذكر النخل.
٥  الترياق: دواء يَدفَع السموم.
٦  التمراد: برج صغير للحمام، ويجمع على تماريد.
٧  تهارم الرجل: أرى أنه هرم وليس به.
٨  نسبة إلى الاقتصادي الإنكليزي ملتوس الذي اشتهر بنظريته المعروفة عن السكان (١٧٦٦–١٨٣٤).
٩  العوذة: اسم بمعنى الرقية، وهي التي تكتب وتعلَّق على الإنسان لتقِيَه في زعمهم من الجنون والعين.
١٠  الربعة: الوسيط القامة.
١١  لم يشر المؤلف إلى المصدر الذي نَقَلَ عنه هذا النشيد البلدي، وقد حاولنا الوصول إلى أصله فلم نُوفق، فترجمناه.
١٢  التلم: ما تشقه سكة الفلاح من الأرض.
١٣  المدر: الطين العلك الذي لا يخالطه رمل.
١٤  الصحل: جمع الأصحل، وهو من بُحَّ صوته وخشن.
١٥  ياومه: عامله بالأيام.
١٦  اللوار: نهر في فرنسة.
١٧  التايمس: نهر في إنكلترة.
١٨  الإلبة: نهر في ألمانية.
١٩  الأرنو: نهر في إيطالية.
٢٠  الفج من الفواكه وغيرها: الذي لم ينضج.
٢١  السرحين: الزبل.
٢٢  حثرت العين: غلظت أجفانها من رَمَد.
٢٣  اللامة: العين المصيبة بسوء.
٢٤  الجعل: أجر العامل.
٢٥  العثان: الدخان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤