الفصل التاسع عشر

تظهر واحاتٌ في صحراء التاريخ القديم، ويَربِط ما بين هذه الواحات طرقٌ غيرُ سالكةٍ لم يعرفها غير قليلٍ من الروَّاد المدوِّنين للتاريخ، ومن كان من الشعوب ذا صلةٍ بمصرَ التي هي أعظمُ هذه الواحات فقد دَخَلَ حظيرةَ التاريخ. ولولا مصرُ لظلَّ السومريُّون والكنعانيون والهكسوس والإثيوبيون الذين ظَهَرُوا قبل الميلاد بألفيْ سنة أو ثلاثة آلاف سنة مجهولي الأمر. وإذا ما أُغْضِيَ عما بين النهرين — دجلة والفرات — وَجَدْنَا شعبًا واحدًا اتصل بالمصريين وساواهم أو فاقهم صيتًا، وهذا الشعبُ هو أول من وجَّه أنظار الناس إلى مصرَ مع عدم قضائِه طويلَ زمنٍ هنالك ومع عَطَله من السلطان في ذلك البلد. والتوراة قد أدخلت مصرَ إلى أدب العالَم، ولا تزال الملايين من الآدميين تَرَى أن فرعونَ هو اسمُ مَلِكٍ معيَّن لعَرْضِه على هذا الوجه في سِفْرِ الخروج.

ولم يَصِل اليهود إلى مصر فاتحين، وفي البداءة استقرت أسرةٌ يهودية واحدة بمصر، وزاد عدد اليهود بمصر، وهم كلما زاد عددهم في مصر صار وضعهم غير ثابتٍ فهجروا هذا البلد الذي كان يعبدهم في نهاية الأمر، وهم، مع ذلك، قد عملوا على ذيوع صيت مصر أكثر مما عملت جميع الأمم التي غزتها وملكتها، وقد أدت بضع صفحاتٍ من كتابٍ دونه الأعداء بلسانٍ معروفٍ قليلًا إلى تخليد الشعب الذي مثل هنالك دور الباغي، وقد أثار رجلان أعزلان خيال جميع العالم بفضل ذكائهما، ومن المحتمل، أيضًا، أن أحاطت أغاني شاعرٍ ذينك الرجلين بنسيج ساطع من الأساطير، ومن الأجيال ألوفٌ ومن الأمم مئاتٌ تجهل رمسيس وأمينوفيس وتعرف تاريخ يوسف وموسى، ولا ريب في أنهما عاشا هنالك، ثم أسفرت دراسة الكتابات الهيروغليفية عن إقناع العلماء في ذلك، وأثبتت أ. س. يهودا، بما قام به من مباحث ممتازةٍ، دقة التوراة التاريخية فجعل يوسف في مصر حوالي سنة ١٨٥٠ قبل الميلاد، وجعل خروج العبريين مع موسى منها سنة ١٤٥٠ قبل الميلاد.

ومن الواضح عَطَلُنا من أية وثيقة كانت، ما لم نَعُدَّ من الوثائق ما وُجِدَ في الدِّلتا من الخنافس مع خطوطٍ من الهيروغليف دالَّةٍ على يعقوبَ. ومهما يكن من أمرٍ فإن المقابلة بين النصوص التورائية والعاداتِ المصورة على القبور وأوراق البرديِّ تُظْهِر من الأدلة ما لا يمكن دَحْضُه، وإن لم تكن الأسماءُ بعينها هنالك، وذلك إلى أننا نستطيع بما عندنا من علمٍ بأحوال الدولة الجديدة أن نُعَيِّن التاريخَ الذي سَبَقَ قيامَ يوسفَ بانقلابه في طيبة، وذلك إلى قرب قَلْعَة زارُو التي سُجِنَ يوسفُ فيها من حدود آسية، وإلى كون رؤيا البَقَرَات السبع تطابق بَقَرَات هاتُور السبع المقدسة في المديريَّات السَّبْع، وإلى العدَّائين الذين يَتَقَدَّمون عَرَبَةَ الوزير كما صُنِعَ ذلك في زمن اللورد كُرُومر، وإلى حَمْلِ الوزير قلادةً حول العُنُق وسَوْقِ يوسفَ إلى فرعونَ وحَلْقِ لحيته الآسيوية الكثيفة، ويُسْكِنُ يوسفُ إخوتَه أرضَ جاسان، وتَقَعُ هذه الواحةُ في شرق الدِّلتا بين النيل والطرف الشماليِّ من البحر الأحمر. وقد امتدح خِصبَها كاتبٌ في عهد رَمسيسَ الثاني.

وكلُّ شيءٍ في يوسف يَبْدُو غريبًا في مصرَ. ويوسفُ هو اليهوديُّ الخياليُّ المملوء لطفًا ووقارًا، ويوسف هو الفتى الذي يَفتِن النساء؛ وذلك لأنه — على حسب رواية التوراة — ذو قَوَامٍ جميل ووجهٍ وسيمٍ مع حُسْنِ سلوكٍ، ويوسف — في الوقت نفسه — هو رجلُ الأعمال النبيهُ الذي أغنى مليكه من غير أن يَحرِم أحدًا حقَّه، وهو الدِّبْلُمي الماهر في كَتْم مشاعره، وهو الصابر الذي يَدَعُ خططه تَنْضج رويدًا رويدًا، وهو البالغُ الشرفِ الكاتمُ للسِّرِّ الإنسانيُّ مع البَصَر بالأمور، وإذا عَدَوْت هواه أبًا وأخًا لم تَجِدِ الشهوة سبيلًا إلى اعتداله واتِّزانه ذكاءً وخيالًا وشعورِه بقيمته الشخصية؛ أي إلى الأمور التي يَجِد بها مواهبَ حياته طبيعيةً. وما كان من اقتران ذكائه وقلبه وزُخُور مشاعره العميقة وأفكاره الحكيمة فقد جعلت منه يهوديًّا عظيمًا كديسرائيلي١ بعد زمنٍ طويل.

وذلك الخلق وحدَه هو الذي أمكن به نجاحه، وذلك النجاح وحيدٌ في التاريخ، وذلك الفوز قد ناله أجنبيٌّ لا جارَ له ولا سلاحَ عنده ولا معارفَ خاصةً لديه، وهو — مع هَوَى العناصر وعدمِ المَطَر في إثيوبية وفيضان النيل مدةَ سبعِ سنين — قد جَعَلَ من المَلِك سيدَ جميع البلاد حين وَجَبَ عليه أن يَهَاب الثورة، ويَرهَب الرَّدَى، ويَجْمَع الحَبَّ في سِنِي الخير السبع «فلم يُكْتَلْ منه لكثرته»، ويَحسُب سلطانَه الاستبداديَّ مقدَّمًا تقديرًا للمجاعة الآتية وللزمن الذي يُصْبِح فرعون فيه بائع الحَبِّ الوحيدَ. وهكذا يقصدون فرعونَ ليَعرِضوا عليه أنعامَهم وأبدانَهم وأطيانَهم إذا ما أنعمَ عليهم بالطعام، «وهكذا يحول يوسفُ بذكائه وبصره دون موت المصريين جُوعًا ويَضمَن للملك جميعَ أملاك البلد بمضاربةٍ لم تَسمَع بمثلها أذن.»

ويُلَخِّص غوته بتلك الكلماتِ عبقريةَ رجلِ الدولة والعمل يوسفَ، ويَظفَر يوسفُ بثلاث سلطاتٍ دفعةً واحدة، فيُبَجِّل الفلاحون ذلك الذي أنقذهم من الزعماء المحليين الوسطاء بينهم وبين فرعونَ مرجِّحين أن يكونوا تابعين لفرعونَ رأسًا لِمَا يَرَوْنَ فيه رَبًّا منقذًا، ويكون لدى فرعونَ من الأسباب الكثيرة ما يُثْنِي معه عليه، ويَخضَع له النيل، ويوسفُ هو الرجل الوحيد الذي سيطر على النيل حتى ذلك الحين.

تَمَّ النصر لذلك الذي بلغ الثلاثين من عمره؛ وذلك لأنه كان قادرًا على استخراج درسٍ من أحلامه وتفسيرِها تفسيرًا عمليًّا؛ وذلك لأن هذا الواقعيَّ اهتدى بخياله وانتقل من أنغام الطُّنْبُور إلى ميدان العمل، ويَنِمُّ ذلك العملُ الفذُّ في السياسة الاجتماعية على إنسانيته ونُبْلِه ومساواته فيهما لفرعونَ الذي وَثِقَ به واعتمد عليه. وهذا الغريبُ هو من كَرَم المَحتِد ما يُنْسَى معه أنه بدأ عمله عند موظفٍ في البَلَاط، ولا مِرَاء في أن هذه هي المرة الأولى التي يَخْلَع فرعونُ فيها ثيابًا كَتَّانيَّةً ناعمةً على أسيرٍ لا يُعْرَف مأتاه، ويَضَعُ بين عشيَّةٍ وضحاها قِلَادةً من ذهب حَوْلَ عنقه ويُلْبِسه خاتَمه ويُسَمِّيه «مُقِيتَ الدولة» قبل أن يختبره، وبعد أن أصغى لخطَّةٍ نشأت عن رؤيا!

إذن، لا عَجَبَ في انحناء فرعونَ أمام رجلٍ للمرة الأولى. أجل، إن أبا يوسف — يعقوبَ — كان في السنة الثلاثين بعد المائة من عُمره كما رُوي، وإن هذا السبب كان يكفي لاحترامه، غير أن يعقوبَ الأجنبي نَهَضَ في نهاية اجتماعه بفرعونَ وبارك له وَفْقَ العادة الأجنبية، ويَحنِي مثالُ الربِّ في الأرض — ابنُ رَع — رأسَه أمام حفيدِ رئيسٍ لقبيلةٍ بعيدة وينالُ البركةَ من إلهٍ لا تُوجَدُ حتى صورةٌ له.

سيطر يوسف على النيل، واجتنب نتائج أهوائه، وعُدَّ موسى ابنًا للنيل، وكاد موسى يُقتَل مع جميع الأولاد الذكور من العبريين الذين كَثُرَ عددُهم في مصر، وجددت ابنةُ فرعونَ موسى في سَفَطٍ٢ ويسمَّى مُوشِه، وتجيء كلمة «مو» بمعنى الابن وكلمة «شه» بمعنى الحَوْض أو النيل.

ويبدو وجه النبيِّ العبوسُ المقرَّن وراء وجه الأمير الفاتن اللطيف السعيد، ويَظْهَر بعد ذلك الذي أبعد جوائحَ مصرَ هذا الذي جَلَبَها إليها، ولم يَكُ موسى محبوبًا من زمنه ولا من الأعقاب، وكانت شخصيتُه أقلَّ ظهورًا؛ وذلكَ لأنه واسِطَةٌ بين الرَّبِّ والناس قبل كلِّ شيء، ولأن رسالتَه الروائيةَ هي من شدة الرمزية ما لا تَصِحُّ معه على ذلك الوجه، وما كانت القصةُ التي تتوِّج كلَّ أسطورةٍ فتَضمن صحتَها الأولى لتدوم إلا من أجل ولادته، ويَلُوح أن القتل الذي اقترفه يذكِّر بأمرٍ معروف، وكان العبريُّ موسى — الذي قَتَلَ مصريًّا لإيذائه عبريًّا — رجلًا عنيدًا مستقلًّا مدافعًا بغريزته عن شرف عِرْقه الذي مَسَّه لئيمٌ بسوءٍ، ويمتاز موسى من الأنبياء الذين بَدَوْا بعدَه منفِّذين أذلاءَ لأوامر الرب.

ولا ريب في أن موسى لم يكن أمام الشعب الذي واجهه يوسف، وكان على موسى أن يعالِج أمر أناسٍ عُسَرَاء لم يتحوَّلُوا إلى أمة إلا بفضله، وكان الراعي المجهولُ — الذي خَدَمَ أجنبيًّا فبدا زعيمًا قوميًّا لجَمْعٍ ناقصِ التكوين — يُثِير حوله من الخصومة أكثر مما أثار يوسف الذي حَمَاه فرعون فعَمِلَ له، وهذا إلى أن موسى كان يخاطب شعبًا مضطَهَدًا فتزيده العبودية والحقد قوةً.

ولم يكن العبريون أولَ من خَدَم المصريين في طرف الدلتا، فقد مرَّ أناسٌ من تروادة وبابل ليُعَبَّدوا هنالك، ومن المحتمل أن كان فرعون الذي أراد إبادة العبريين مع رفضه السماحَ لهم بالذهاب هو أمينوفيس الثاني، وفي سِفر الملوك ما يجيز هذا الافتراض، وهو في جميع الأحوال فاسقٌ ظالم تَجِد له مثيلًا بين طغاة زماننا، ويرسَل اليهود إلى معتقلاتٍ مركزية ويُنزَع منهم التِّبْن الضروري لصنع الآجرِّ مع مطالبتهم بمقدارٍ من الآجرِّ كما في الماضي، ويُكْرَه فرعونُ على تركهم يرتحلون في نهاية الأمر، ويردِّد فرعون صَدَى الطاغية الذي يغدو عاجزًا حين يقول: «وباركوني أيضًا؟!»

ويدلُّ عمل موسى في مصرَ على أنه ابنٌ ظافر لأجدادٍ أشدَّاء، ولم يبقَ أثرٌ فيه لتربيته في البلاط أو بإشراف البلاط، ولا للحضارة المصرية، ولا لصلته بالقبيلة التي تزوَّج امرأةً أصيلة منها، ولم يَطْبَعْه اسمه — ابن النيل — وصِبَاه بطابعهما قطُّ، فهو ابن الصحراء المعتزِل دومًا المحاوِر ربَّه المنهوكُ عن انتظارٍ للمفاخر الجديرة بقوة ذراعيه، وما كان في سنينَ كثيرةٍ ليَعرِف شيئًا عن قومه خلا ما تأتيه به القوافلُ من أخبارٍ، ويَملِك نفسَه، وتُوحي حياةُ البادية إلى هذا المتهوِّس برغبةٍ في إعادة أولئك القوم الذين لم يتَّصِل بهم إلى بلادِ أجدادهم.

figure
طيبة والأقصر.

بَيْدَ أن هذا الرجل العبوس البسيطَ التفكير لم يَتَرَدَّد في اعتقاده مخادعةَ طاغيةٍ كفرعونَ يُمْعِن في إبادة العبريين بالأعمال الشاقَّة وسوء المعاملة ويذبِّح أبناءهم ويَحُول دون رحيلِ هذا الشعب الذي يَزعُم حقدَه عليه والذي يريد الفِرار، ويَسْخَر من موسى وهارونَ ويدَّعِي أن هؤلاء الغرباء تعلَّموا حَرْثَ الأرض وصاروا صُنَّاعًا في بلاده، ويهدف إلى استئصالهم خوفًا من محالفتهم أعداءَه، والآن يمنعهم من الرحيل بعد أن حرمهم كلَّ حقٍّ. والآن يقول عن حماقةٍ ككلِّ طاغيةٍ: «لقد كَثُرَ عدد هؤلاء القوم في البلاد في الوقت الحاضر، وأنتم تريدون قَطْعَ ما اتَّصَل من سُخْرَتِهِمْ.»

ولم يُبَالِ فرعونُ بإله العبريين، ولا بموسى الذي يقابِل المكرَ بالمكر، وما كان من قَتْلِ موسى في شبابه مصريًّا عن حبٍّ للانتقام فيَحفِزُه إلى ذَبْحِ أبناء المصريين الذين كانوا يقتلون أبناءَ قومه. ومن الراجح أن وَجَدَ اليهودُ ما يشجِّعهم على النضال في ذكرى جدِّهم يوسفَ الذي أنقذ المصريين من الجوع فيما مضى.

ومن المحتمل أن مرُّوا من بين البحيرات الكبيرة المُرَّة والبحر الأحمر، ومن المحتمل أن مرُّوا من طريق غَزَّة حتى سيناءَ على طول البحر، ثم من خلال بلاد المَدْيَنِيِّين والمؤابيين حتى الأردن، ومن المحتمل أن جابوا البادية.

ويرى غوته أن من المستحيل أن يَحمِل رجلٌ فعَّال حازم نشيط كموسى قومًا كثيري العدد على التَّيْه أربعين عامًا بلا سبب وصولًا إلى غايةٍ رائعة يَوَدُّ بلوغَها، حتى إن غوته هَزَأَ بعالمٍ فرنسيٍّ حاول أن يوضِّح ذلك الإبطاء جغرافيًّا، فقال: «إن هذا يَعنِي رَقْصَ بولونيَّةٍ لقافلة.»

ويفترض غوته نفسه أن ساقةَ العبريين كانت مؤلَّفةً من أناس قَسَتْ قلوبهم بذبح الأبناء المولودين حديثًا فكان المجال ملائمًا لأسلوبهم في القتال لا ريب. ومهما يكن الأمر فإن البحر الأحمر قد ابتلع عَرَبَاتِ فرعونَ الحربيةَ البالغةَ ستَّمائة.

١  ديسرائيلي: هو القطب السياسي الإنكليزي المشهور باللورد بيكونسفيلد (١٨٠٤–١٨٨١).
٢  السفط: وعاء كالقفة، ويستعار للتابوت الصغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤