الفصل السابع

من الراجح أن كليوباترة أصغرُ سِنًّا من جميع النساء المشهورات، ولكنك لا تَجِدُ من تَمَتَّع بالحياة مثلَها بينهن حتى موتِها في التاسعة والثلاثين من سِنِّها؛ فهي قد قَبَضَتْ على زمام الملك عشرين عامًا ودام دَوْرُ غرامها ثمانيةً وعشرين عامًا على الأقل، وكانت الفِتنُ تَهُزُّ بلادَها وفؤادَها في أثناء تلك المدة، ولكنها لم تُغْلَب قطُّ، ويحتمل أنه لم يُصِبْها خزي غيرَ مرةٍ فقط، وما نالته من نَصْرِ هو من الانتصارات النِّسْوية، ولم يَحْدُثْ أن بَدَتْ على أعمالها الجريئة وأفعالها الجارمة سمة الرجولة، وعنها قال هوراس: «إنها امرأةٌ متغطرسة.»

وهذا الحكم ناقصٌ؛ وذلك لأنها قضت حياتَها بدهاءٍ أكثرَ مما اتَّفَق لأيةِ مَلِكَةٍ أخرى، وما كانت لتخشى أن تكون ذاتَ ولدٍ في أثناء ثَملِ حياةٍ حُفَّت بالمخاطر، وكانت تُذْعِن لاندفاعاتِ غريزتها مع أنها لم تكن أكثرَ قسوةً من أسلافها. ومع أنها كانت تُظْهِر مروءةً تِجاه ما خفَّ من الشتائم، ومع أنها كانت تَظْمَأُ إلى الانتقام تِجَاه ما عَظُمَ منها، ومع أنها كانت تَعْرِف عِدَّةَ لغاتٍ وكانت كثيرةَ الثقافة، وهي مدينةٌ لفُتُونِها بكلِّ شيء، وهي قد وَضَعَتْ حَدًّا لحياةٍ أضحت لا معنى لها عندما أبصرتْ رجلًا يقاوم سِحْرَهَا ذلك.

وقد تكون أقلَّ جمالًا مما جاء في القصة. أجل، يَبْدُو إقدامُها أظهرَ من حُسْنِها في الأوسمة النادرة الموثوق بها، غير أن المعدِن لا يَقْدِر على إظهار سِحرِها، ولم تكن الصورة — ولا الأسطورة — لتُظْهِر صوتَها وحديثَها وعُذُوبَة لَحْظِها وسِحْرَ نظرها. والحقُّ أنه كان يُعْوِزُها شاعرٌ كبيرٌ ليَتَغَنَّى بها، وما نالته من انتصاراتٍ على ثلاثةٍ من أعاظم الرومان فيَنِمُّ على ذلك السحر، ويُعَدُّ هؤلاء الأكابر شعراء لفُتُونِها.

ومن يُرِدْ أن يتبيَّن أساسَ خُلُقها واقترانَ المَجَانة١ بجَهْلِ الخير والشرِّ فليَذْكُر أنها وليدةُ عدَّة عروق، وهي المشرقيَّة التي ثَمِلَتْ بسموم مصرَ، وهي حفيدةُ خليلةٍ مشهورة وابنةُ نَغِيلٍ مُجْرِم، وهي فتاةُ الإسكندرية التي بَلَغَت من العُمْر ثلاثَمائة سنة فأخذ نَجْمُها يَأْفِل بعد موتها، ولو سَألتَ عن هذه المدينة التي نشأت فيها تلك الفتاة لعَلِمَتْ أنها تقع بين قسمي العالَم الخاضعيْن لرومة، وأنها مجاورةٌ لجزر أوروبة وحدود آسية، وأنها أفريقيةٌ مع ذلك، وأنها على شاطئ البحر، وأنها قريبةٌ من النيل، وما كان من انتظار نهاية العالم ومن صليل السلاح في الشوارع وفي قَصْرِها ومن نزول المرتزقة المختلفي الأجناس إلى الدِّلتا فقد أثار شَوْقَها إلى الملاذِّ.

وقد انتزعت من القَدَر — مع ذلك — بضعَ سنين من الغرام تُعَدُّ قصيدةً رعائيَّةً تقريبًا. ومن المصادفات المباركة التي لا يَقَعُ منها غيرُ واحدةٍ في عشرة قرونٍ انجذابُ أقوى رؤساء الدول إلى بلادها، ويأتي هؤلاء للبحث عن حبوب فيَجِدُون فاتنةً.

ويَعُود أبوها الذي كان يَحْمِل اسمًا ماجنًا — يحمل اسمَ نيوس ديُونِيزُوس فلقَّبَه الشعب بالزَّمَّار — من رومةَ التي لجأ إليها فقَتَلَ فيها مائةً من أهل الإسكندرية أتوا ليسوِّغوا عصيانَهم ضِدَّه، ويكتفي في عاصمته بقتل زوجته ورؤساء الحزب المعارض الموالين لها ويزوِّج ابنته الكبرى — كليوباترة — البالغةَ من العمر أربعَ عشرة سنة، بأخيها البالغ من العمر تسعَ سنين ليَرِثَا عرشه، ثم يموت مغمورًا بالازدراء. وكان بُونبِي هو الرجل الذي نَصَبَه مجلسُ الشيوخ الرومانيُّ وصيًّا على هذين الزوجين الصغيرين، وكان بُونبِي هذا موضعَ نِقَاشٍ عنيفٍ في مجلس الشيوخ ذلك ومحلَّ شَغَبٍ دام في الفُورُوم،٢ وكان مثلُ هذه المصادمات يَقَعُ في ميدان الإسكندرية في ذلك الحين.

وكانت كليوباترة في العشرين من عمرها عندما أبصرت اقتتال بُونبِي وقيصرَ، وقد راقَها بُونبِي — لا ريب — ما دامت قد أمدَّتْهُ بخمسين سفينةً لم يُكتَبْ لها الرجوع قط. وكانت كليوباترة السابعةُ — وهذا هو لقبُها في ذلك الحين — قد بَلَغَت من مَقْتِ العاصمة لها ما طَرَدَها معه حزبُ أخيها وزوجِها، وتَجْمَع كتائبَ على الحدود العربية حيث تتكلَّم بلغة قبائلها، وإنها لتَزْحَف ضدَّ أخيها إذ تشاهد رومانيًّا آخرَ يَصِلُ إلى الدلتا بعد قتله بُونْبِي.

أصبح قيصرُ سيدَ رومة وسيدَ العالم بعد انتصاره في معركة فَرْسَالُوس، وما كان يُعْوِزُه سوى شيءٍ واحد — سوى المال — ويجيء مصرَ للبحث عن المال، ولم يكن من الفُضُول أن يَرَى تلك الملكةَ المترجِّلَة التي كانت قد أيَّدت خصمه، ويَسبِق كليوباترةَ ويَدْخُل المدينة، ويَدْخُل القصرَ، منصورًا خلفَ حَمَلَةِ الفُئُوس من ضبَّاط الرومان وعلى مرأى من الجمهور الساخط، بيد أن الملكةَ تَرْكَبُ السفينة من بِيلُوزَةَ مُتَنَكِّرةً وتَبْلُغ الإسكندرية وتُلَفُّ وتُحْمَل إلى القصر حيث قيصرُ وأخوها وزوجها، ويُنْشَر البِساط أمام قيصر الذي اعتقد أنه هديةٌ فتَخْرُج منه كليوباترة.

ويرمي أخوها التاجَ على أقدامِها مُغَاضِبًا، وعلى قيصرَ أن يختار بين صبيٍّ مَغِيظٍ وامرأةٍ فاتنة، ويحاول من النافذة أن يسكِّن المجنونَ المتوعِّد، ويَعْمَل بوصية بطليموسَ الزَّمَّار ويُعِيدُ كلا الزوجين إلى العرش، غير أن رئيسًا لمرتزقةِ الأغارقة يطالب بمكافأةٍ لإنقاذه الملك، ويثور الجمهور، ويُشْعِل قيصرُ السفنَ المصرية التي كانت في الميناء والتي كان عددُها اثنتين وسبعين، فيمتدُّ اللَّهَب إلى المكتبة بفعل الرياح ويَحرقها فيتحول بذلك أربعمائة ألف طُومَارٍ من ورق البرديِّ إلى رَماد، ويُعْلَن في الميدان الواسع نَصْبُ خَصِيٍّ قائدًا للكتائب.

ويظلُّ قيصر وكليوباترة وحدَهما في القصر المُحَاصَر، وكان في السنة الثانية والخمسين من عمره وكانت في السنة الثانية والعشرين من عمرها، وتُضَاء ليالي غرامهما الأولى باحتراق حكمة العالَم كلِّها.

ويقيم قيصرُ بمصرَ نحوَ عامٍ أي ضِعْفَيْ إقامة الإسكندر بها، وفيما كان أنصارُ بُونْبِي يجمعون قُوَاهم في إسبانية وأفريقية كان الكهلُ الأصلعُ قيصرُ يرافِق قاصرةً تابعةً لهواها فيتوجهان إلى مجرى النهر الفوقانيِّ راكبيْن سفينةً فاخرة، وفيما كان عالَم جديدٌ يَثُور ضدَّ الفاتح الكبير كان هذا الفاتح يَدْرُس أعمدةَ عالَمٍ قديم وكتاباتِه كما يُدْرَس سِحْرُ آخرِ فرعونةٍ، ويغدو الزوجُ شابًّا مزعجًا متطلِّبًا فيَغرَق في النيل في إحدى المعارك، ويذهب قيصرُ في نهاية الأمر، ويَهزِم فَرْناس ويرسل إلى مجلس الشيوخ كلمتَه المشهورة: «جئتُ فأبصرتُ فغَلَبْتُ»، التي ليست — على ما يحتمل — سوى كلمة غرامٍ ظافرٍ سَرَت على لسان كليوباترة المنصورة، ويَترُك لها ثلاثَ كتائبَ وأملَ ولادةِ ولدٍ، فتسميه قيصرون.

ويمضي عام، فتذهب إلى رومة، وستضمُّ نصفَ إلهٍ بين ذراعيها، وهذا اللقب هو الذي كان يُقْرَأ على قاعدة تمثاله في الكابِيتُول على الأقلِّ، وتَجْلِس على المِنَصَّة حينما كان قيصرُ يبصر أعداءه المقهورين مقرَّنين في الأصفاد بالفُورُوم، وتُبْصِر بينهم أختَها أرسِينُويه التي كانت تَمْقُتُها كثيرًا، ومما كانت تفكِّر فيه — لا ريب — أن ذلك يكون مصيرَها لو لم تَفْتِنْ عدوَّها القويَّ وقتَ الحِصار ووقتَ الحريق، وتَتَحقق أحلامُ زَهْوِها في رومة، ولو لم تتحقَّق أحلامُ غرامها، واستطاعت أن تُظْهِر سعادتَها مع الافتخار في عامين، ولا عَجَبَ، فقد كانت خليلةَ سيدِ العالَم، وكانت أغنى منه، ويحافِظ قيصر على شرفِ امرأته، فهو يجد زوجًا صبيًّا للمصرية ويُظْهِرهما أمام الجمهور معًا، ويَحمِلُهما على العيش معًا، ويدعوها قيصرُ إلى منزلٍ جميل عبر نهر التيبر، ويَغِيظ سيرُها الفرعونيُّ قدماءَ الجمهوريين الذين هم من طِرَازِ شِيشِرُون، ويُزْعَم أنها تحرِّض قيصرَ على لُبْسِ التاج.

بيد أن قيصرَ يُحِبُّ كليوباترة، وهو إذا ما زارها أبصر صورتَه في ابنه البالغ سنتين من العمر لتشابههما تشابهًا غريبًا، ومن المحتمل أن كانت تَجِدُ ترويحًا لها بعودة ربيبه أُكْتَافْيُوسَ الصاخبةِ، فتَعُدُّ خصمَ الغد هذا فاتنًا، ويَرْفض قيصرُ التاج الذيَ عرضه أنطونيوس عليه في مجلس الشيوخ، ولكن قيصر يَنْصِب في ذلك الحين تمثالًا ذهبيًّا لخليلته في معبد فِينُوس، ولكن قيصرَ يُعِدُّ قانونًا يُحِلُّ له أن يكون ذا أزواج شرعياتٍ كثيرات، فكان كل شيءٍ يَلُوح مهيَّأً لجعل ابنة النَّغِيل المصريِّ كليوباترةَ إمبراطورةً حينما قُتِلَ قيصر.

وهي لم تتفلَّت من الاضطرابات التي عَقَبَت ذلك إلا بمعجزةٍ، حتى إنها لم تَهْرُب، حتى إنها لم تَعُدْ إلى الإسكندرية إلا بعد بضعة أسابيع، ويتوارى أخوها وزوجها الثاني في تلك الساعة النفسية، ويتعقَّبها سادةُ رومة، كما لو كانت هذه الساحرةُ تجتذبهم إلى مصر، ويكتفي أنطونيوس بتقليد قيصرَ فلا يألو جُهْدًا في نَيْلِ حُظْوة لدى عشيقته الشهيرة تلك، ولولا ذلك ما جَذَبَه شيءٌ إلى مصرَ، وهو لكيلا يستحوذ عليه ظلُّ قيصرَ يجب عليه أن يجرِّد من كلِّ قِناعٍ تلك التي شَغَفَتْ قلبَه حُبًّا منذ سنتين في ولائم قيصر.

وكان أنطونيوس — الشعبي الجنديُّ ابن الجنديِّ الفاجرُ المعرَّض لغَيْرَة امرأته — دون قيصرَ من كلِّ ناحية، ولكنه كان يفوقه فَتَاءً، وكان شريكًا في تُرَاث إمبراطورية العالم، ولكنه كان طالبَ لَذَّةٍ ومعاقرَ خمرةٍ قبل كلِّ شيء، وكان يُخَيَّل إليه — على ما يحتمل — وجودُ شَبَه بينه وبين الإسكندر على هذا الوجه فيفضِّل أن يكون باخوسَ في أفَسُوسَ٣ على أن يكون إمبراطورًا في رومة.
ويدعو كليوباترة إلى أفَسُوس كمتهمة، فلا تُلَبِّي دعوتَه، ويكون في طرْسُوس، وإنه ليَقْصِد إقامة العدل في ميدانها العامِّ؛ إذ يُنَبَّأ بوجود سفينةٍ فاخرة ذات شراعٍ أرجوانيٍّ ومجاديفَ فِضية تَسِير في المجرى الفوقانيِّ من نهر البَرَدَان،٤ ولا يَتَّزِن، فيذهب إلى الضِّفة ويساعد الملكة حين نزولها إلى البَرِّ — بين العطر والزهر وصوت المِزْهَر — على وَضْعِ رجلها الصغيرة فوق الأرض، وكانت كليوباترة في السابعة والعشرين من عمرها حينما واجهت هذا الرومانيَّ الثالث، ولم يكن أنطونيوسُ في الأربعين من عمره كما أنه لم يكن أصلَعَ، وكان أنطونيوسُ دون قيصر طُمُوحًا وحكمةً، وكان أقربَ إلى الشرقيِّ بمزاجه وذوقه، وكان له بذلك اللقاء تقريرٌ لمصيره، مع أن كليوباترة لم تكن غيرَ حادثٍ عَرَضِيٍّ في حياة قيصر.

وتَبْدَأ الملكة فصلًا جديدًا في حياتها في الإسكندرية نفسِها، وفي القصر نفسه، وعلى مرأًى من رجال البَلاط أنفسِهم، وضمن الحدِّ الذي لم تتخلَّص منه، وينطوي ذلك الفصل على المغامرة الكبرى، ويدوم عشرَ سنين.

ولم تتجلَّ عظمة قيصر في خَلَفه. ولما أعطاها هذا الخلفُ الروماني مائتيْ ألفِ طُومار من ورق البرديِّ لتجديد المكتبة لم يَعْدِل في عينها ذلك الذي حَرَقَ ضعفيْ ذلك ليُشْعِلَ ليلة غرامها الأولى، ويلوح أنها خافتْه أقلَّ مما خافت قيصرَ، ومع ذلك كان لديها من الوقت ما تقابل فيه بين الرجلين والحكومتين وتقرِّر فيه ما كانت تستطيع أن تصنعه إلى حد ما من اتخاذ رومةَ أو الإسكندرية عاصمةً للعالَم، ولا يَتَوَقَّف هذا القرار عليها وحدَها؛ وذلك أن عاشقها الجديد توارى بعد أول شتاء ليتزوَّج أُكْتافْية أختَ منافسه أُكْتافيوس، فلا تَعْرِف كليوباترة هل يعود أو لا، ما دام الأمر زواجًا سياسيًّا، فصار عليها أن تَرْسُم خطَّة جديدة لتَرْجِعَه إلى حظيرتها.

ويستولي السأم على أنطونيوس في شهر عسله مع زوجه الرومانية العذراء، وتَضَعُ كليوباترة توءمًا، «تَضَعُ الملكَ الشمسَ والملِكَةَ القَمَرَ» وَفْق تعبيرها، وتَزُفُّ إليه هذه البشرى، وتُخْبِره بنبوءةِ منجِّمٍ قائلةٍ: إن مجرى النجوم لا يَمُنُّ عليه بنصر في غير الشرق، أَوَليست ساحرة؟ ولِمَ تلازمه أكتافية الفاضلةُ مع أنفها المستقيم وأساريرها الجافية؟ ويترُكها في أثينة، حيث كانت فُولْفَيه قد ماتت غَيْرَة، متذرِّعًا بأنه يَوَدُّ أن يجنِّبها بذلك عناءَ حرب ضدَّ الفرطانيين، ثم يدعو كليوباترة إلى اللَّحَاق به في منتصف الطريق، وهو يَمْنَحها بعضَ الجزر وجزءًا من فنيقية لعدم استطاعته أن يُعْطِيَها أورشليم من غير أن يجرِّد صديقَه هيرودس.

غير أن سوء الحظِّ يُلِمُّ به، فيَهْزِمُه الفرطانيون على حين ينال أكتافيوس نصرًا بعد نصرٍ، ولن يُرْسِل هذا المنافسُ إليه مَدَدًا ما لم يترك تلك المصرية، ومن حسن الطالع أن كانت الإمبراطورية الرومانية من الاتساع ما تستردُّ معه سُمْعَتَهَا بأن تَتَوجه ضدَّ شعبٍ آخر، ويُغْلَب الأرمنُ، ويُرْجَع إلى الإسكندرية حيث يُعْرَض مَوْكِب النصر أمام كليوباترة التي صارت زوجةَ أنطونيوسَ الشرعيةَ أيضًا. ويبدو القائد الرومانيُّ والملكةُ المصرية على دَكَّةٍ فِضية واحدة ويَجْلِس أحدهما بجانب الآخر على عرش من الذهب، وتظهر ابنةً للخامسة والثلاثين من عمرها على زِيِّ إيزيس وتنتحل أشعِرَتَهَا، ويظهر على زيِّ ديونيزوس، ويظهر التوءمان فِلادلفيا وسِلينه أمامَهما في السنة السادسة من عمرهما، ويَظهَر بجانبهما صبيٌّ جميلٌ في العاشرة من عمره، يَظْهَر قَيْصَرُون الذي يذكِّر بتلك السياحة الزاهية فوق النيل مع قيصرَ، ويَلبَس الأولاد أحذيةً مقدونية؛ وذلك لأن الإسكندر ترك هنالك أَحَد البرابرة منذ ثلاثمائة سنة، ترك جدَّ عِرْقِهم.

ويُعْرَض أسرى البرابرة مقيَّدين بسلاسلَ ذهبية، وتتأذَّى كليوباترة — على ما يحتمل — حينما يُحَيُّونها بوجهٍ عبوس من غير أن يَرْكَعُوا أمامها، ويُنْصَب الأولاد الثلاثة ملوكًا لولايات رومانية.

ويَعْنِي ذلك قطعَ العلاقات برومة، ويُعَدُّ ذلك دليلَ القتال، ويتحدَّى أكتافيوس أنطونيوسَ ويَغْلِبُه في أَكسيوم أمام كليوباترة، لا عن خطأٍ اقترفته كما زُعِم، ولو تَمَّ النصر لأنطونيوسَ لصارت مصر مركزَ العالَم وصارت الإسكندرية عاصمتَه ولغدا النيل مَلِكَ الأنهار ونهرَ الملوك. ويعود المغلوبون إلى مصر هادئين، ويحاول أنطونيوس أن يفاوض قاهرَه علنًا، ويُرْسِل إليه ابنَه مع هدايا، وتُرسِل كليوباترة أشعِرة المملكة المصرية إلى أكتافيوس سرًّا، وترى أن تقوم بلَعِبها مرةً أخرى.

والواقع أن هذا الرومانيَّ الرابع هو رومانيٌّ أكثرَ من أسلافه، فهو لا يريد أن يَتَلَهَّى، وهو لا يرى من الكرامة أن يَحُوزَ خليلةَ قيصَرَ، وإنما كان يُفكِّر في أخذها مقيدةً بسلاسلَ ضمنَ مَوْكِب نصره برومة، وذلك عن مقتٍ لقَيْصَرُون — الابن الحقيقيِّ لقيصرَ — وذلك لِمَا يُبْصِره من إمكانِ منازعته إمبراطوريةَ العالم، وكان يُعْوِزُه الذهبُ والحَبُّ فيجيء مصرَ للبحث عنهما، ويَرْفض الذهاب إلى مجرى النيل الفوقانيِّ، ويَرفض أن يكون فريسةَ الواحة المسحورة وفريسةَ حَرِّ شمسها وفريسةَ أساليبِ نسائها السِّحْريَّة.

وتُلقِي سُفُنُ أكتافيوسُ مراسيَها، وتُنْزِل الكتائبَ الرومانية إلى البرِّ، ويَذْكُر أنطونيوس أنه رومانيٌّ، ويَقَع على سيفه، ويُؤْتَى به محتضرًا إلى كليوباترة، وتختبئ في ضريحها هي وابنتُها وماشطتُها، ويموت أنطونيوس، ويُحْمَل سيفُه الدامي إلى أُكْتَافْيوس. ويُرْوَى أن أُكْتَافيوس سَكَبَ دموعًا عند هذا المنظر كما صنع قيصرُ أمام رأس بُونْبِي. ويدخل أكتافيوس الإسكندريةَ ويعفو عن الشعب، «احترامًا للإسكندر الأكبر وإرضاءً لصديقه الفيلسوف أَرِيُوس»، وكان أولَ عملٍ قام به أن جَلَبَ إليه قَيْصرون وَوَعَدَه بأن يكون صديقَه.

ويزور كليوباترةَ المريضةَ المستلقية على سريرها في قصرها بعد بضعة أيام، فترتمي على قدميْه عند دخوله وتُسَلِّم إليه قائمةً بكنوزِها، ويتَّهِمها أحدُ موظفي البَلاط المطلعُ على الحقيقة بأنها أخفت قسمًا منها، ويضحك أُكتافيوس ويَبْدُو مهذَّبًا ويُسَرُّ من حسن صحتها لاستطاعته أن يَأْتِيَ بها أسيرةً إلى رومة، بَيْدَ أن هذا الرجلَ سيقع في شَرَك خِداعها، وتُجرِّب حَظَّهَا للمرة الأخيرة ما دامت تنحاز إلى الغالب في كلِّ وقت، ويَحْبَط ما سعت إليه، ولكن مع تمكُّنِها من عدم المراقبة، وفيما هو يَجُوبُ القصرَ صاعدًا نازلًا متمثِّلًا نصره الآتي؛ إذ تَقْتُلُ أسيرتُه نفسَها تحت سقفٍ واحدٍ بِلَدْغَةِ حَيَّةٍ على ما يحتمل، فتموت موتةً خليقةً بملِكة وبخليلة قيصرَ، ويَمْثُل قيصرونُ أمام أُكتافيوس خاضغًا فيَقْتُلُه أُكتافيوس، وهكذا يَقْضِي في دقيقة واحدة على عِرْقِ الإسكندر ودَمِ قيصرَ.

١  المجانة: كثرة قلة الحياء.
٢  الفوروم: هو الميدان الذي كان الشعب يجتمع فيه برومة.
٣  أفسوس: مدينة قديمة بقرب إزمير، ومكانها الآن أيا صولوق.
٤  البردان: نهر بقرب طرسوس، واسمه بالتركية «قره صو» وباليونانية «كودنوس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤