الفصل التاسع

في منبع النيل وبالقرب من المساقط يوجد عَمُودٌ من صَوَّانٍ رماديٍّ يحمل لوحًا مكتوبًا عليه: وَجَدَ سبِيكُ منبعَ النيل هذا في سنة ١٨٦٢، وإلى ذلك اللوح تؤدِّي طريقٌ طويلةٌ من خلال غابة التاريخ البِكر.

وما أكثر الأممَ التي جَدَّت في رِيَاد هذا النهر! ومن الرواد الخمسة كان سبيكُ وغرَانْت١ وبِيكر٢ وستانلي من الإنكليز، وكان أمينٌ٣ من اليهود، ومن بين أولئك الذين تقدَّم على يدهم تخطيط النيل أشاد اختصاصيٌّ بذكر ستين اسمًا من أربعَ عشرةَ أمةً، وما أعظم ما بذله هؤلاء من نشاطٍ وما احتملوه من أَلَمٍ، وما قَضَوْهُ من أعوامِ حياةٍ خارقةٍ للعادة وما لاقوه من تعسٍ وُصُولًا إلى قليل سعادة!
ومع ذلك تَرَى في جميع من خاضوا غِمَار ذلك الكفاح حنينًا إلى تلك المخاطر والأَوْصاب٤ وإلى الإياب إلى أفريقية على الأقل، ويَلُوح وجود قُدْرَةٍ ساحرة في هذه القارة، ويَظْهَر وجودُ قوَّةٍ مِغْنَطِيَّة خَفِيَّة تجتذب ذوي الإخضال٥ من الرجال، وليس جميع من قصدوا أفريقية من الكارهين لأوروبة، ولا تجد أحدًا رجع إلى أوروبة من الكارهين لأفريقية، ومعظم هؤلاء قد فُتِنَ بالحرية الفردية التي لم يكن ليجدها في أيِّ بلدٍ غربي، ومن هؤلاء عَدَدٌ غير قليل سَحَرَتْه الحرية الجنسية التي لا تُذكر إلا نادرًا.
figure
جبل رونزوري.

والفرق كبيرٌ بين الأجوال التي جَعَلَتْ من أولئك الرجال رُوَّادَ النيل، وبين أخلاقهم والعوامل التي دفعتهم، وبين أهدافهم والمجد الذي نالوه، ويتماثلون آلامًا وجهودًا، وكانت هذه الآلام التي عانوها والجهودُ التي بَذَلُوها في انفرادهم أكثرَ صعوبةً وأشدَّ قُتُومًا في زمنٍ لا برقَ ولا لاسلكيَّ فيه مما يعانيه ويبذله رائدٌ في أيامنا، وما لدى أولئك الذين كانوا أقلَّ نجاحًا من ميلٍ إلى الكفاح ورغبةٍ في المغامرة فيَعدِل ما لدى أولئك الخمسة العظام، وإذا ما هجر رجلٌ أسرته وبلده ومهنته وثروته ابتغاءَ ارتيادِ مجاهل أفريقية والبحثِ عن منابع نهرٍ مجهولةٍ فإن كل شيء فيه يسترعي التفاتنا، وإن دواعيَه والغاية التي يَسْعَى وراءها وسرَّه وجهره ومزاجَه وإدراكَه للحياة ووضعَه تجاه البِيض والسود وتجاه المبشِّرين والشرقيين وتقاريرَه التي يكتبها فيما بعد أمورٌ تنمُّ على أخلاقه بما يَرْبُو على ما يريدُ إنشاءَه.

وحبُّ السياحة هو الذي حَفَزَ هذا، وحبُّ الاطِّلَاع هو الذي حَفَزَ ذلك، وآخرون قد دُفِعُوا عن طموحٍ واستياءٍ ورغبةٍ في مشاهدة ما هو مجهولٌ من نباتٍ وحيوان، وبعضهم قد حُرِّكَ عن كُرْهٍ للناس لا يُسَكِّنُه سوى الاتصال بالسُّود؛ وذلك لأنهم قد بَدَوْا جميعًا مدافعين عن الزنوج خَلَا ستانلي الذي كان وحده يُفَضِّل مجتمعَ البِيض على مجتمع السُّود.

وهل يُعْجَب من فقد أولئك الرجال لشعور القياس في أثناء تلك الرِّيَادات الطويلة المثيرة حينما يغدون منفردين بلا رقيبٍ ولا اتصالٍ بمسرَّات أمثالهم وآلامهم فلا يبالون بغير هدفٍ خفيٍّ في ناحية من الغابة البكر؟ والعجيب هو محافظتهم على ذلك الشعور، وهم إذ كانوا مضطرِّين إلى مدح أنفسهم دومًا فإنك ترى أحسنهم هم الذين يَضِيقُون ذَرْعًا عندما يكتبون ولو لم يبالغوا في بيان مغامراتهم، ولم يكن الكُتَّاب الموهوبون منهم هم الذين يُدَبِّجُ يراعُهم خيرَ اليوميَّات، ويظلُّ متهكمٌ إنكليزيٌّ مثل سبيك فذًّا في البساطة التي يُعَبِّرُ بها عن مشاعرَ يُحَوِّلُها الآخرون إلى بطولة.

هم يُخطئون الهدف، ويُشوِّه أعمالَهم ضربٌ من الخُنْزُوَانِيَّة،٦ وما أَشَدَّ المرارةَ التي تُمَازِجُهُم عندما يجادلهم بعد العَوْد علماء في الغرفة حول النتائج التي انتهوا إليها! وهم قد عاشوا سنواتٍ بين الوحوش والحيوانات وهم قد احتملوا خرافاتِ أحقرِ رئيسٍ لقبيلة، وهم قد استُهزِئ بهم لتعريض أنفسهم لبؤسٍ كثير في سبيل اكتشاف منبعٍ ومجرَى نهرٍ وشكلِ بحيرةٍ، وهم إذا ما عادوا صُدِموا بمثل ذلك الجحود، وقد وجد سبِيكُ نفسه أمام أساتذة بَيَّنُوا له استحالة كون منابع النيل حيث وَجَدَها، وأُلِّفَتْ جمعياتٌ لمناهضته. أجل، كرَّمَتْه صحيفة البانش، ولكن الحكومة لم تُنْعِم عليه بمقامٍ، أو مال، أو بما كان يتطلَّع إليه من لَقَب، وكل ما أُذِنَ له فيه هو توسيع شعار أسرته بأن يضيف إليه بَقَرَ ماءٍ وتمساحًا، وهذا وحدَه هو ما كوفئ به مكتشفُ منبع النيل!

وبيكر هو أكثر رواد النيل حظوةً من قِبَل الطبيعة والطالع، وهو الوحيدُ الذي كانت له بِنيَة عملاق استطاع بها أن يُطِيقَ جميع المتاعب، وهو ما انفكَّ يَذهَب إلى الصيد في إنكلترة حتى بعد مجاوزته السبعين من عمره، ويَلزَم بطلُ مكافحة الاسترقاق الكبير هذا جانبَ الصمت مع ذلك عندما عاد النَّخَّاسُون الذين كان يطاردهم إلى سابق سيرتهم بعد انصرافه.

وما أشدَّ خيبةَ أمل ستانلي الذي حَقَّقَ أعظم الفتوح! وهو لمَّا وجد لِيفِينْغسْتُن٧ عُدَّ دجَّالًا، ويُشَكُّ في صحة الرسائل التي أتى بها، ولما غدا اكتشاف الكونغو أمرًا لا مراء فيه بُكِّتَ هذا الصحافيُّ الكبير على قسوته خَفْضًا لمجده فقط، ولم يكن لدى ستانلي الذي هو أكثر الجميع طموحًا صفاءُ سبِيكَ حتى تكونَ له راحةُ بالٍ في شعوره بمآثِرَ، وقد مات خائبًا غاضبًا. وقد أبصر أولئك الرواد ما تَمَّ من تصحيحٍ دائم لخرائطهم على يد سياحٍ آخرين، وما فَتِئَتْ خريطة البحيرات ومنابع النيل تتحول بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٧٧، وكانت هذه الخريطة تُرِي بعضَ تلك الأماكن بعيدًا من بعض، ثم صارت أصغر مما كانت عليه فتدانت كما يَقَعُ بالمِرْقب٨ الذي يُقَوَّم رويدًا رويدًا.
وأين صِيتُ أولئك الرجال في الوقت الحاضر؟ يَعرِف كلُّ بلدٍ اسمَ أبنائه الذين أنجزوا الكثير، ولا شيء غيرَ ذلك تقريبًا، وكلُّ خلودٍ حقيقيٍّ يمكن الرائدَ أن يناله هو أن يُذْكَر اسمُه في الخرائط، وهم لم ينالوا ذلك في غير زوايا صغيرة مستورة، لا بحروفٍ من نار على المنابع والبحيرات والأنهار. ومن الرُّوَّاد من وَدُّوا ضمانَ أنفسهم من النسيان على مقياسٍ ضيقٍ فأطلقوا أسماءهم المُلَتَّنَة٩ على أنواعٍ جديدة من الحيوان والنبات، وما كان لأكابر الرُّوَّاد أن يصنعوا مثل ذلك، فقد اختاروا لذلك أسماء الملوك والملكات وأسماءَ رؤساء الجمعيات الجغرافية التي أرسلتهم إلى الخارج، وبدا ستانلي وحدَه ساذجًا مُختالًا فسمَّى الكونغو حينما اكتشفه بنهر لِيفِينْغسْتُن كما سَمَّى جبالَ القمر بسلسلةِ غُوردُون بِنِت فلم يَلْبَث الاسمان أن تَوَارَيَا.
وأطلق الشهم دوك أَبْرُوزي،١٠ الذي كان أولَ من تَسَلَّقَ ذُرَا تلك السلسلة، على هذه الدُّرَا أسماء الرواد الثلاثة العظام الذين اكتشفوا منابعَ النيل، ولكنك لا ترى هذه الأسماء على الخرائط العامة، ولكن أحدًا لا يعرفهم لذلك، وتحمل مدينةٌ في الكونغو اسم ستانلي، ويحمل خليجٌ في بحيرة فيكتورية اسمَ سبِيك، ولا شيء يُذكِّر باسم غرانت أو اسم بِيكَر، وتَمَّحِي بالتدريج ذكرى الملوك الذين تَحمِل البحيرات أسماءهم، فإذا ما تَحَدَّثَ الطَّلَايِنَة عن بحيرة ألبِرتُو قصدوا بهذا الاسم كارلُو ألبِرتُو البِيمُونِيَّ؛١١ وذلك لأنك إذا استثنيت إنكلترة وجدتَ الجمهورَ يَجهَلُ ألبرت جهلًا تامًّا.

ألم يَقُمْ أولئك الرُّوَّادُ العظماء بمغامراتهم في سبيل الجمهور والبشرية بأسرها؟ وإذا عَدَوْتَ العلماء لم تَرَ أحدًا يَجِدُ معنًى لتسمية منبع النيل ومسقطيه الكبيرين باسم الوزير ريبون والأستاذين أوين ومُرْشِيسُن.

ويجب أن تُقْرَأَ يوميَّات هؤلاء الرجال لتَمثُّل ما لاقوه، ومقابلتِه بالحوادث الخفيفة التي تقع في مبارياتنا من خلال الغابة البِكر والسُّهُوب حيث يُعَدُّ عدم إصابة الهدف ونوبةُ الحُمَّى مسألةَ حياةٍ وموت، وإذا جسَّمْتَ هذه العوارض تجسيمًا لا حَدَّ له تَجَلَّتْ لك جهود أولئك وآلامهم، وما أدراك ماذا كان البحث عن منابع نهر في ذلك العرض؟ أتظن أنه كان مقرونًا — كما يقع اليوم — بالمال والسلاح والزَّاد والهدايا وأدوات القياس تبيُّنًا لطريقٍ ورسمًا لها بعد دراسة جميع الكتب الخاصة درسًا عميقًا؟

كان ذلك يتطلَّب في كل صباحٍ جَمعَ الرائد لرجاله، وتوزيعَه الأثقال بين مائةٍ من الحَمَلَة والحيوانات وتأكُّدَه من أمر جميع السُّيُور١٢ وسهره على جلب الماء ودَلَالَتَه على الطريق، وتحريكهَ الزِّنجيَّ الذي يخيفه أقلُّ الأشياء وإغراءَه على السير أو إكراهه عليه. وكان على الرائد أن يظهر رئيسًا لمائة رجلٍ بسيطٍ تقوم إطاعته على نظرة الأبيض وحركته، وألا يبدو تَعِبًا مع الحرارة أو الزوبعة أو أذى الحَشَرات، وأن يُعْنَى بالمرضى، وأن يَدفِن الموتى، وأن يحتفظ بالقيادة ولو مَرِضَ، وأن يُمسِك الفارِّين من الحَمَلَة ويجازيَهم، وأن يفاوض الرؤساء الخُبَثَاء من أجل الدُّخْنِ١٣ ويلطِّف طمعَهم.

وكان عليه أن يرضى بالأسر، وأن يعرف كيف يخلِّص نفسه، وأن يكافح النهر الزاخر ظُهرًا، وأن يصارع الأنمار في المعسكر مساءً، وكان على الرائد عند عبوره النهر وإضاعته صناديقَ الرصاص التي تتوقف عليها حياته أن يبعث من الرسل من يبحثون له عن أبيضَ انتهى إليه صيته، فلعله يُنجِده، وكان عليه أن يَعِيش سنوات بلا نساء أو أن يقتصر على زِنجيَّاتٍ وأن يظلَّ محرومًا كلَّ نبأٍ عن وطنه.

تلك هي أحوال أولئك الرجال الذين كان عليهم أن يكافحوا الإنسانَ والحيوان والعناصرَ دومًا، أولئك الرجال الذين هُوجِموا وعُدُّوا من الآلهة في الوقت نفسه، أولئك الرحَّال الذين جابوا في شهورٍ وسنواتٍ غابًا وسهوبًا لم يدخلها أحدٌ قلبهم، فكان عليهم أن يُبصِروا كل شيء، وأن يتداركوا كلَّ شيء باستمرار، فالمنازعات والآلام وسعادة البلاد المتوحِّشة وخيبة الأمل في العودة إلى الوطن أمورٌ اقتضاها ذلك النهرُ العجيب الذي ضَحَّوْا بحياتهم في سبيل اكتشافه.

١  غرانت: سائح من أصل اسكتلندي (١٨٢٧–١٨٩٢).
٢  بيكر: (١٨٢١–١٨٩٣).
٣  أمين: هو محمد أمين باشا الذي كان يهوديًّا ألمانيًّا ثم أسلم، وأصل اسمه إدوارد شنتيز (١٨٤٠–١٨٩٢).
٤  الأوصاب: جمع الوصب، وهو التَّعَب.
٥  أخضل الشيء: بَلَّهُ.
٦  الخنزوانية: جُنُونُ العظمة.
٧  ليفينغستن: مبشر وسائح إنكليزي ارتاد أفريقية الوسطى وأفريقية الجنوبية (١٨١٣–١٨٧٣).
٨  Télescope.
٩  Latinized, Latinisé.
١٠  دوك أبروزي: أمير إيطالي ولد في مدريد سنة ١٨٧٣.
١١  بيمون: من أقسام إيطالية الشمالية.
١٢  السيور: جمع السير، وهو قدة من الجلد مستطيلة.
١٣  الدخن: نبات حبه صغير أملس، وهو غير الجاورش الذي هو نبات يشبه حبة الأرز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤