الفصل الخامس عشر

عاش السلاطين على شواطئ النيل مسالمين للنصارى قُرُونًا كثيرة، ويَقَعُ الصِّراع ذات حين، وتَصْعُب معرفة المسئول عن ذلك، ولا عَجَب، ما دمنا لا نَعْرِف المسئولَ عن الحوادث العصرية في الغالب، ومع ذلك يَلُوح أن التَّبِعَة تَقَعُ على النصارى لِمَا كان من رغبتهم في حَمْلِ الناس على دِينِهِمْ.

وهل انتهك المسلمون حرمة القبر المقدس؟ كان المسيحُ خامسَ الأنبياء مَرْتَبَةً لدى المسلمين، وكان محمدٌ قد صَرَّح بصحة دين اليهود والنصارى الأولين، وبأن كتبهم المقدسةَ هي التي حُرِّفَت، ولم يَسْتَوْلِ العرب وخلفاؤهم على مصرَ حملًا لها على الإسلام، وما كان من بَدْئِهم بالهجرة إليها قبل محمد دفعهم إلى تلك الأرض الخصيبة طلبًا للحَبِّ والجِزْيَة، لا حُبًّا لحَمْلِ الناس على دينهم، وإِذ كان العرب يَجْهَلون لغةَ مصرَ مع عدم ثَقافةٍ فإنهم تركوا إدارةَ مصرَ للأقباط الذي كانوا أقدرَ منهم على الحساب، ويقوم الأقباط بفِتَنٍ مَنْعًا لزيادة الضرائب في الدِّلتا فيُبْدِي العرب شدَّةً، وتصبح اللغةُ العربيةُ لغةَ مصرَ الرسميةَ بعد قرنين فتَحُلُّ بذلك محلَّ اللغة القبطية، ويكون الأقباط أولَ من يتعلَّم العربية.

وكان النصارى مُعْتَدِين عندما حَفَزَهم مَقْصِدٌ نبيلٌ إلى الاستيلاء على القبر المقدس، ولكن القدس لم تظلَّ نصرانيةً غيرَ ١١٣ سنة من ثلاثةَ عشرَ قرنًا، ثم غَدَتْ قبضةَ المسلمين نهائيًّا، ويلوح — إذن — أن الصِّرَاعَ انتهى بعد أن وَقَعَ في الأرض وفي السحاب كما في روايات أوميرس.

ولما صار المسلمون يَضْطَهِدُون النصارى في أثناء الحروب الصليبية كان ذلك عن انتقامٍ لأنفسهم، ثم حَظَرَ السلاطين على الأقباط رُكُوبَ الخيل وحيازةَ عبيدٍ من المسلمين وحَمَلُوهُمْ على لُبْس عمائمَ زُرْقٍ، وعلى لُبْسِ جلاجلَ حَوْلَ أعناقهم عند الذهاب إلى الحمَّامات، وعلى وَسْم أيديهم بسِمَة الأسد معاقبين من يخالف بقَطْع يده، ولم يَصْدُر هذا الاضطهاد — قط — عن مِثلِ ذلك التعصب الذي دفع النصارى — في عهد ديُوكْلِيسْيان — على التقتيل وعلى هَدْمِ معابدِ مصرَ القديمةِ.

ومما يُرْوَى أنه كان يوجَد حوالي سنة ١٣٠٠ سلطانٌ من أصلٍ نصراني، وإذا ما صُدِّقت الروايات وَجَدْنَا أن أصل لاشِين من شواطئ البحر البلطيِّ، وأنه من كتيبةِ فرسانِ الألمان فحارَب الصقالبةَ في بدءِ الأمر ثم اشترك في آخر الحروب الصليبية واعتنقَ دينَ أعدائه ونُودِيَ به سلطانًا في القاهرة حينما نَسِيَ جميعُ الناس أصله، ويُقال ردًّا على مغامرته: إن إناءً إسلاميًّا عجيبًا خُطِفَ من خزائن المماليك في إحدى القَرْصَنَاتِ١ الجِرمانية فأَتى به إلى بروسية فتَجِده اليوم في قصر مارِينْبُرْغ.

ولم يُسْلِم ألوفُ النصارى عن إكراهٍ أو اقتناعٍ، بل أسلموا فِرارًا من الضرائب الثقيلة، وبَلَغَ عددُ من أسلموا من الكثرة ذاتَ حينٍ ما نَزَلَ معه دخلُ بيت المال من ثلاثة ملايين جنيه إلى مليوني جنيه وما ذُعِرَ معه أمين بيت المال فَطَلَبَ إلى السلطان أن يَمْنَع موقَّتًا كلَّ اعتناقٍ جديدٍ للإسلام؛ وذلك درءًا لِمَا قد يَحِيق بماليته وسلطته من خطر.

ويَعقُب ذلك دورٌ كبير من السَّلْم الدينيِّ في مصر، ويُعَيَّن في أثناء ذلك نصرانيٌّ وزيرًا للملك الناصر كما كان يوسفُ قد عُيِّنَ وزيرًا لأحد الفراعنة، فأخذ الأقباط في أعيادهم يستعيرون الشماعدَ والبُسُطَ من المساجد المجاورة، وصارت جميعُ الأديان تَتَّحِد عند عدم ارتفاع مياه النيل فتؤلِّف مَوْكِبًا رسميًّا على طُول النهر فيتقدَّم السلطانُ المَوْكِبَ لابسًا ثوبًا من صوفٍ أبيضَ، ويكون الخليفةُ بجانبه، ثم يأتي قاضي القضاة والشيخ الأكبر، ثم يأتي أحبار اليهود وقُسُوس القبط، ثم تأتي الكتبُ الثلاثة — القرآن والتوراة والإنجيل — التي أدَّتْ إلى نشوب حروب كثيرة، بجانب بعضها بعضًا، ثم يُضْرَع إلى الله باللغات الثلاث، وباسم الأنبياء الثلاثة الغرباء، أن يُنْزِل غَيْثَه على النهر ويَسْتُر البلد بالخَضَر، وكان ذلك يَقَعُ في القرون الوسطى، في عصرِ التعصُّب والجهل، في بلد التسامح مصرَ التي قد يُكَرَّرُ فيها ذلك غدًا.

وكان سلوكُ الخليفةِ عمرَ أكثرَ روحانيةً عندما يتأخَّر فيضان النيل، فلما رَفَضَ فاتحُ مصرَ — عمرو بن العاص — تقديمَ عروس لتكون قربانًا للنيل لاح هذا النهرُ حاقدًا، فأبدى عمروٌ ما يساوره من غَمٍّ لمولاه عمرَ الذي كان بدمشقَ سائلًا إياه عما يَفْعل فأرسل عمرُ إليه الكتابَ الآتي آمرًا إياه بأن يَقْذِفَه في النيل، وإليكه:

من عبد الله عمرَ أميرِ المؤمنين إلى نيلِ مصرَ، أما بعد فإن كنتَ تَجْرِي من قِبَلِكَ فلا تَجْرِ، وإن كان الله الواحدُ القهارُ هو الذي يُجْرِيك فنسأل الله الواحدَ القَهَّارَ أن يُجْرِيَكَ.

ولم يَسَعِ النيلَ تِجاه هذا الوعيد المَلَكِيِّ المشتملِ على طابعِ السموِّ والخشوع معًا إلا الخضوع ففاضت مياهُه في الغد، وهذا ما رواه المقريزي على الأقل؛ وذلك لأنه كان يُؤْذَن للجغرافيين أن يكونوا من الشعراء.

حتى إن السلاطين انتفعوا بقناة السويس القديمة مجدَّدًا، فكانوا ينقلون بها الحبوبَ إلى جزيرة العرب، فلما اشتعلت الفِتَن في بلاد العرب أَمَرَ الخليفةُ بإغلاقها كما صنع ذلك ملوكُ الفرس فيما مضى.

وفي أربعينَ يومًا حفر سلطانٌ آخرُ قناةً واسعةً بين القاهرة والإسكندرية فوُسِّعَ بذلك نِطاق جَنوب الدِّلتا الغربيِّ وبُنِيَ ثلاثون جسرًا حجريًّا فساعد ذلك على نُمُوِّ التجارة في تلك البقعة، وشِيدَتْ هنالك قصورٌ رائعة، وأُنْشِئَت هنالك مائةُ قرية، وأُتِيَ بأشجار مثمرة من سورية فسُتِر بها ما عُدَّ حتى الآن من الصحارى.

وأنشأ السلاطينُ طُرُقًا تجاريةً كبيرة وغَرَسوا في مِنطقة النيل الأعلى من غابِ السَّنْط ما يكون لهم به خشبٌ يُنْشِئون منه سفنًا لهم، وكان يُمْكِن صنعُ جميع ذلك مع ما يَحْدُث من تبديلٍ مستمرٍّ بين أولياء الأمور، وبفضل ما كان من سلسلة مراتبَ وثيقةٍ بين الجنود تَمْلَأُ بالسلاح ما يَفْصِل السلطانَ عن رعيته من هُوَّة، وذلك مع وقوفها دون تأليف نظام إقطاعيٍّ، وذلك لعدم القيام بفُتُوحٍ ولعدم وجود منزلٍ لضابط، ومن ناحيةٍ أخرى كان لأقلِّ أمير من أمراء المماليك جنودُه؛ أي كان له عشرةُ عبيد على الأقلِّ كما كان لأمير الطُّبُول من العبيد ما بين الأربعين والثمانين وكان للأمير القائد من العبيد مائةٌ وعشرون، وكان على كلِّ أميرٍ أن يُجَهِّزَ رجاله ويُطْعِمَهُم بما يُخَصَّص له من أرزاقٍ ووظائفَ، فكان ما ينطوي عليه نظامُ المماليك هذا من سلطةٍ مركزية قويةٍ ضامنًا لسلامة القلعة والعاصمة والبلد.

وقد يُقَاس المماليك بالفرقة الأجنبية، لِمَا تشتمل عليه من أناسٍ منتسبين إلى عروق مختلفة. والمماليكُ هم من الترك والشركس والألبان والروم والصرب، ومن فرنسيي الجَنوب ومن الجِنوِيِّين أيضًا، فكان في كلِّ سنةٍ يَنْزِل الألوف من هؤلاء إلى الإسكندرية مع حَظْرِ الملوك وحِرْمِ البابوات. والفارقُ الوحيدُ هو أن هؤلاء عبيدٌ عابرون ينتقلون كالخيل بين راكبٍ وراكبٍ وتُطْمَس أسماؤُهم وأصولُهم فلا يُحْفَظُون إلا باسم تاجرهم وسيدهم، وقد ظهر منهم وزراءُ أقوياء مع ذلك، وقد نَقَل أبرعُهم سلطانَهم إلى أبنائهم مع ذلك، فساروا في ذلك على غِرَارِ نُظَّارِ القصر في العهد الفَرَنْجِيِّ، وذلك بدلًا من أن يَجْلِسُوا بأنفسهم على العرش. وهل يُمْكِن سلطةً قائمةً على مثل تلك الوسائل أن تظلَّ مقبولةً لدى الشعب زمنًا طويلًا؟

وكان المماليكُ يمارسون صناعاتِ البلد المكتَسَبَةَ أو ما وَرِثُوه عن آبائهم، فازدهرت حِرَفُ الفُرْس في القاهرة بعضَ الزمن، وبَلَغَ حُسْنُ ما كان يُحْبَك في تِنِّيس ودمياط من نسائج الحرير درجةً يبتاع أمراءُ الأجانب معها كلَّ ثوبٍ بمائة جنيه، وبخمسمائة جنيه إذا كان مُنَيَّرًا٢ بذهب، ومن هنالك جُلِبَ مِعْطَفُ رُوجِرَ الصِّقِلِّيِّ.

ولم يكن إنشاء المباني ليتِمَّ بسرعةٍ كما يَهْوَى المماليك الفاقدو البصر، فإذا لم يَكْفِ العبيد للعمل سُخِّرَ ألوفُ الناس له بالسِّيَاط، وهكذا حُوِّلَ مَقْلَعٌ واقعٌ في القلعة إلى حَظيرة غَنَمٍ بعملٍ متصل دام خمسةَ أسابيعَ. وهكذا كانت الدولة تأخذ فائدةَ عملِ أرباب الحِرَف، والفَلَّاح — البعيدُ من رقابتها وحدَه — هو الذي كان يظلُّ بجانب ساقيته، فيُصْعد الماء.

والدولة هي السلطان، ويَحِيقُ الخَطَر بذلك النظام في كلِّ مرة يَفِرُّ فيها السلطان أو يموت أو يُقْتَل، ويَقَعُ هذا في كلِّ خمس سنين، ويتعاقب ثلاثٌ وخمسون حكومةً من المماليك تنتسب إلى اثنتين وعشرين أُسْرةً في ٢٦٠ سنة، وقد مات ثلاثةَ عشرَ سلطانًا على فراشهم، وقد خُلِعَ الآخرون أو قُتِلُوا، وكيف يمكن الذكاءَ أو المالَ أن يُسْفِرَ عن عملٍ كبير في حالٍ خالٍ من الأَمْن كما رأيتَ؟ حتى إن إدارة النيل لم تَظَلَّ باقيةً إلا لأن الفراعنة ابتدعوها منذ أربعة آلاف سنة.

ويداوم النيل على الجَرَيَان، ولكن ما أبعدَ الأَمَدَ بينه وبين الفراعنة! ويَعقُبُ أملَ الفراعنة في الخلود ذكاءُ الأغارقة وظرفهم وروحُ الرومان العمليةُ الفاترةُ وتعصُّب النصارى ذوي الأبصار المرتفعة إلى السماء ثم حُبُّ القتال الغريزيُّ لدى الآسيويين، ثم تُبْصِر مصر قبضةَ قُسَاةٍ مغامرين يعيشون يومًا بعد يوم ويتهادمون دومًا بما يَحُوكُونَه من مؤامراتٍ مستمرة.

ومَنْ يَمْلِكُ: آلسلطانُ أم وزيرُه أم حريمُه أم أمراؤه؟ فهذا هو السؤال الذي كان يحرِّك العاصمة فتتوقَّف عليه سعادةُ من يتصرفون في شئون مصر وتَعَسُهُم، ولا تَجِدُ في تاريخٍ مؤلَّف من تسعمائة صفحةٍ لمصرَ في العهد العباسيِّ غيرَ وصفٍ لذلك الاستياء العامِّ تقريبًا، والسَّقَّاءُ الحاملُ لقِربته والفلاح بجانب ساقيته وحدَهما هما اللذان كانا يأمُلان أن يُبْصِرَا شمس الله في الغد إذا ما داومت قلوبهما على الخَفَقَان، وكان الاقتراب من شمس السلطان — أو نيلُ الحُظْوة لدى بِطانته على الأقل — غايةَ كلِّ رجلٍ وكلِّ امرأة، وكلما دنا الإنسان من ذلك زاد زَلَقه، ويَسْقُطُ مُعْظَم الناس قبل بلوغ الغَرَض.

وصغارُ الناس وحدَهم هم الذين كانوا يَكتفون بكَسْب عيشهم، وأما الآخرون فكانوا يَطلُبون الذهب. وإذ كانت القلعة هي التي توزِّع الذهبَ والصُّكُوك فإن ذلك أسفرَ عن درجةٍ من المحاباة لم تَصِلْ إليها أوروبة في القرن الثامنَ عشرَ، ولم تَبْلُغْهَا سان بُطْرُسْبُرْغُ قطُّ، فلم تَزُل بقاياها من القاهرة حتى الآن.

وكان من عادة السلاطين في ذلك الزمن أن يسمِّنوا ذوي الحظوة لديهم، فإذا ما اكتَظُّوا ذبحوهم ووَهَبُوا خزائنهم لمن يَخْلُفُهم في الحظوة، وكان من الخَزَنَة من يَنْهَبُون الأوقافَ الخيريةَ عِدَّةَ سنواتٍ ويبتزُّون أموال الأمراء من غير أن يمنعهم أحد — حتى السلطان — من إدخال قسم من هذا الذهب إلى جيوبهم، ويَمضِي زمن فيقدِّر السلطان — الذي لم يكفَّ عن رقابة هؤلاء الخَزَنة — أن أحدهم بَلَغَ من الثراء ما يَعُدُّهُ معه غنيمةً كبيرةً، فيَسْجُنُه ويعرِّيه ويقيِّد يديه ويُرْكِبُه حمارًا ويأمر بأن يَمرَّ من الشوارع على هذا الوجه، ويكتشف الجَلَاوِزَةُ٣ ما عنده من أكداسِ الحجارة الكريمة والثيابِ الثمينة، فيعذِّبون أمَّه وإخوته وأصدقاءه نَبْشًا للكثيرِ من المخابئ فيَقْضِ السلطان بذلك يومًا سعيدًا، وكان السلطان الناصر يسأل رُسُلَه عن الحُلْوَان الذي يأخذونه من الأمراء، وكان الوزير نَخْمِيد يقترض بضعةَ دوانقَ من أصدقاءَ له تظاهرًا بالفقر.
١  Pirateries.
٢  نَيَّرَ الثوب: جعل له نيرًا، والنير هو القصب والخيوط إذا اجتمعت، والنير هُدْبُ الثوب ولحمته أيضًا.
٣  الجلاوزة: جمع الجلواز، وهو الشرطي الذي يخف في الذهاب والمجيء بين يدي الأمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤