الفصل الثاني والعشرون

من شأن انحطاط أبناء ذوي العبقرية من الملوك والمتفنِّنين، من شأن ضَنَى الطبيعةِ هذا بعد جُهْدٍ كبير، أن تَقَعَ أُسَرُهم الجديدةُ في خَطَر، وذلك مع اتزانِ الأُسْرَة القديمة بعد أن تُجَاوِز ظافرةً دَوْرَ المخاطر الأولى. أجل، ضَمِن محمد علي في خمسين عامًا كفاحَ ميراثِ مُلْكه، غير أن القَدَر حَرَمَه حقَّه؛ إذ أخذ أحسنَ بنيه مع بلوغ عددهم خمسةً وتسعين، فلما غاب ابنُه الأكبرُ خَلَفَ تاجرَ القهوة المقدونيَّ على عرش الفراعنة رجالٌ صِغَارٌ، فيسارع حفيده وابنٌ له في السنين الأربعَ عشرةَ إلى تغيير الوَضْعِ تِجاه إنكلترة في ميدان السياسة الخارجية، كما يسارعان في الداخل إلى العدول عن الاشتراكية الحكومية، وهكذا يُضْعِفان ما يخالط العالَم من احترامٍ نحو مصر التي كانت تهُبُّ من نومها، وهكذا يُعَوِّدان الدول العظمى على الاعتقاد بأن ما وَقَعَ على ضِفاف النيل ليس إلا مغامرةً نابليونة يمكن صقلُ نتائجها سريعًا بمبدأ المُلْكِ الشرعيِّ.

وتُمْكِنُ مقابلةُ عهد إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩) بعهد وِلْهِلْهم الثاني، فهما، إذ كانا حفيديْن لاثنين من بناة الإمبراطوريات الصَّوَارِم، لم يكن لديهما رَشَدٌ كافٍ حينما جلس كلٌّ منهما — ابنًا للثلاثين — على عرشٍ لم يكن بعدُ من القوة ما يقاوِم معه مُفَاجِئَ الحركات ونَزِق الإشارات. كلاهما موهوبٌ، كلاهما أنيسٌ، كلاهما بدَّد تُرَاثَ أبيه لا عن معايبَ كريهةٍ، ولا عن حروبِ طموحٍ، بل كانا ضحيتيْ دُوَارٍ صادرٍ عما نالاه بغتةً من سلطانٍ لا رقيبَ عليه تقريبًا، فعرَّفه بسماركُ متلهِّيًا بقوله: «إن الإمبراطور يودُّ لو يُحْتَفَل بعيد ميلاده كل يوم.»

والواقع أن رجلين من ذوي الجِدِّ والوقار شَبَّا في دورٍ ثوريٍّ فشقَّا طريقًا لهما على مَهْلٍ مع مقاومة الدول المُسِنَّة فحافظا حتى المَشِيبِ على بساطة العيش، ثم خَلَفَ كلَّ واحدٍ منهما حفيدٌ غنيٌّ كاتمٌ لتردده تحت سِتارٍ من فخامة المظهر محاولٌ انتزاعَ احترامِ العالَم له بما ينتحله من كبرياء. والواقع أن إسماعيلَ وولهلم الثانيَ — المقيميْن ما لا مثيلَ له من الأعياد والحَفَلَات — قَضَيَا ثلاثين عامًا في تبديد تُرَاث عظيم عُهِدَ إليهما في المحافظة عليه فخُلِعَا بقرار من الأعداء الذين رَأَوْا أنهما ألحقا ضررًا بهم، وقد أمضى الرجلان بقيةَ حياتهما في منفًى ذهبيٍّ بعيدٍ من المجد والحكمة ملائمٍ لسجيَّتهما.

ويظهر أن إسماعيلَ الذي نال قسمًا كبيرًا من تربيته في باريسَ، والذي وَجَدَ ما يفسده ببعثاتٍ سياسية في عواصمِ أوروبة اتَّخَذَ أقلَّ ملوك أوروبة رَصَانَةً في ذلك الدور مثلًا له؛ اتخذ نابليونَ الثالثَ قُدْوَةً له، ويَرَى أن يجعل من القاهرة — التي كانت وافرةَ الغِنَى حين ارتقائه إلى العرش — باريسَ ثانيةً، فلا يكون فيها ما هو أفريقيٌّ، وتُسْكِره الإنارةُ بالغاز والخطوطُ الحديدية والميادينُ العامة والشوارعُ ذاتُ الأشجار والنسائج الحريرية والزَّخَارف، ولا سيما استقبالاتُ البلاط الباهرة، وتعكِّر ما في دَمِه من روحٍ تجارية وَرِثَها من محمد علي فأَثبت وجودَها في البُدَاءة بإدارة أملاكه على الطُّرُق العصرية.

ويبدُو كلُّ شيءٍ باسمًا له عندما قَبَضَ على زمام الحُكْم، فلما أَدَّت حربُ الانفصال إلى عدم إصدار القطن الأمريكي اغتنت مصر — المنتجةُ الجديدةُ للقطن — من فَوْرها، وما كان العالَم المضطرُّ إلى الاكتساء لِيُبَالِيَ بما يدفعه من الأثمان، وما كان من ارتفاع الأسعار بما لم تسمع بمثله أذنٌ قد أثار أسطورةَ الثراء الخياليِّ. ويذهب مهندسون إلى مصرَ طلبًا للرزق على ضِفاف النيل، وتتنازع فرنسة وإنكلترة حفظًا لمركزهما، وتَجْتذب قناة السويس — التي كانت تُنْشَأ — أبصارَ الناس إلى مصر، ولا تَعْجَبْ إذا ما استعدت أعظمُ مصارف أوروبة لوَضْعِ رءوس أموالها تحت تصرف الملكِ السعيد. وهل في قبول ذلك جريمةٌ لا تُغْتَفَر؟ ويقترض إسماعيل من أوروبة تسعةً وتسعين مليونَ جنيهٍ في ستَّ عشرةَ سنة.

هو لم يُبَذِّر كلَّ شيء، فقد حُفِرَ في عهده من القَنَوَات ما طولُه أربعةَ عشرَ ألفَ كيلومتر، وقد حَفَرَ قناةَ إبراهيم بالقرب من أسيوط، وقد أحيا من الأراضي الصالحة للزراعة ما يَعْدِل ألفَ ألفِ فدان على ما يُرْوَى مع التوكيد، والبلادُ مدينة له بكثيرٍ من المرافئ والمناور وبزيادةٍ في إنتاج القطن ما صار يُصْدَر منه بأربعةَ عشرَ مليونَ جنيهٍ بعد أن كان يُصْدَر منه ما قيمتُه أربعةُ ملايين من الجنيهات، والبلاد مدينة له برفع عدد مدارسها من مائتيْ مدرسة إلى خمسة آلاف مدرسة مع تعيين ثمانين ألفَ جنيه لها في كلِّ عام، ويُعدُّ المُتْحَفُ الكبير الذي أقامه في القاهرة أعجوبةً على حسب ذوق الزمن كما يُعدُّ جسر الجزيرة الذي أقامه بجانبه.

ومع ذلك كان إسماعيلُ ضحيةَ الأحوال، كان ضحيةَ زَهْوه، كان ضحيةَ الدولاب المسنَّن الذي وَضَعَ نفسَه عليه فيُسْرِع في الدَّوَرَان مقدارًا فمقدارًا، فيصبح في مثل وَضْع الفلاح الفقير تمامًا.

ومما حَدَثَ أن سُنَّ قانونٌ شائنٌ جَعَلَ إسماعيلُ به جميع الأجانب في منجًى من سلطان القضاء المصري، ومكَّنَ به أربابَ رءوس الأموال الشرقيين من استعباد الفلاحين بأن يُقْرِضُوهم على حساب محاصيلهم ما هو ضروريٌّ من المال لدَفْعِ الضرائب المفروضة عليهم، وذلك بِرِبًا فاحش يترجَّح بين الأربعين والخمسين في المائة، ومثلُ هذا ما كان من أكبر صَيَارِفَة أوروبة الذين استغلُّوا احتياجَ إسماعيلَ إلى النقود وعدمَ اكتراثه لها، فقد بَلَغُوا من غَرِّه وغشِّه برباهم وسمسرتهم ولجانهم ودَفَعَاتِهم الوهمية، وقد بَلَغَت مَصَافقُ باريسَ ولندنَ من ابتكار الحِيَل، ما يُساق الرجل العاديُّ معه إلى غَيَاهِب١ السجون، وقد وصف إنكليزيٌّ أولئك الصيارفةَ الكبارَ بقُرُوش٢ أوروبة لعدم تسليمهم إلى الملك البَطِر غيرَ ستين في المائة من حسابه، وإذا وُجِدَ رجلٌ جديرٌ بالاحتقار في هذا الأمر فالدائن، لا المَدِين، هو ذلك الرجلُ، ولا يَشعُرُ المؤرِّخ بعطفٍ نحو أولئك الذين بَدَّدَ ذلك المبذِّر أموالَهم على ضِفاف النيل.

ولم تكن الأمور قد بَلَغَتْ تلك المرحلةَ حينما احتفل إسماعيلُ بأبهى يوم في حياته، حينما احتفل بافتتاح قناة السويس.

ومن الفرنسيين رجلٌ أهيفُ ذو ذكاءٍ نادر كان أيام شبابه قد أعطَى سلف إسماعيلَ المحبوبَ سعيدًا دروسًا في الفُرُوسية، فنال هذا الفرنسيُّ بمصادقته سعيدًا وثيقةً ثمينةً امتنع محمد علي ومَنْ خَلَفَه عن موافقة أحدٍ عليها حتى الآن، وبهذه الوثيقة المؤلَّفة من سطريْن يُؤْذَن في إنشاء قناةٍ بين السويس، الواقعةِ على البحر الأحمر، وخليج بِيلُوزَة صالحةٍ لسَيْرِ سُفُنِ البحار، وكان طَيْفُ كلٍّ من نابليونَ وغوته يحلِّقان فوق هذا المشروع، وفيما كان العالم بأسره — ولا سيما عالم التجارة الإنكليزية — يُدْرِك من فَوْره أهميةَ المشروع، وفيما كان السانسيمُونِيُّون في فرنسة يَبْدُون على رأس الحركة، كان اللورد بَلمِرستن — الذي هو من أشهر أقطاب السياسة في عصره — يَجعَل من نفسه مهزأةً حين يكتب في سنة ١٨٥٥ ما يأتي:

تَفصِل هذه القناةُ مصرَ عن تركية، وتَعُوقُ هذه القناةُ سيرَ كتائب السلطان، وهي تَجْعَل مصالح إنكلترة بمصرَ والهند تابعةً لمشيئة فرنسة.

وكان خوفُه من فرنسة يَضْفُو على بصره بأمر الإمبراطورية البريطانية، ويَرَى المتَزَمِّتُون من البريطان أن يَحُولُوا دون حَفْر بَرْزخ السويس بما اكتشفوه بغتةً من إمكان تسخير الفلاح وجعلِه تحت الرحمة، ويَسْتَبْدِل أنصارُ حفر البرزخ الفرنسيون بعضَ الآلات بالفلاح استبدالًا جزئيًّا، ويُسْمَع صوتُ جَرَّافاتٍ بخاريةٍ في البحر الأحمر للمرة الأولى.

figure
نسوة يملأن ماءً من النيل.

وقصةُ قناة السويس خاصةٌ بالتاريخ البشريِّ، لا بتاريخ النيل، والقناةُ تُنَافسُ النيلَ من بعض الوجوه لأنها تَجُرُّ مصرَ إلى البحر، وكان لدى إسماعيلَ شعورٌ بما سيأتي حينما صَرَّحَ في حَفْلَةِ الافتتاح بأن تلك القناةَ تَفْصِلُ مصرَ عن أفريقية وتَرْبِطُها بأوروبة، وإن غابت الناحية الفاجعة عن مِزَاجه الطيب لا ريب.

والحقُّ أن الماءَ الذي يصل تلك الدولةَ الأفريقية بخطِّ الاستواء أنفعُ لإسماعيلَ من الماء الذي قد يُفَرْنِجُها، والحقُّ أن مما يُرَى في الساعة الراهنة ارتباطُ مصير مصرَ في النيل، لا في البحر المتوسط، والحقُّ أن العالَم بأجمعه استفادَ من فَتْح البرزخ، وأن مصرَ وَحْدَهَا هي التي خَسِرَت به، وكان إسماعيلُ راغبًا في إنشاء القناة من أجلِ مصر، لا أن تكون مصرُ خادمةً للقناة، ويحبط مشروعه هذا بسبب سجيَّته، وهو لم يلبث أن خَسِرَ جميع أسهمه وما يَجِب أن ينال من فوائد.

ويَبْدُو سعيدًا يومَ الافتتاح من شهر نوفمبر سنة ١٨٦٩، ويكون إمبراطورُ الفرنسيين وكثيرٌ من الأمراء ضيوفًا عنده، ويُدِير فِرْدي٣ الكبير في أُوبرَا القاهرة الجديدة أولَ تمثيلٍ لروايته المصرية، ولن يَرَى ذلك المسرفُ الأنيس مثلَ تلك الفرصة لصَبِّ الذهب، ومع ذلك كان يَظْهَر ذانك النَّجْلَان لطبقةٍ متوسطةٍ غامضةِ الأمر على شواطئ البحر المتوسط، ومع ذلك كان يظهر ذانك العاهلان اللذان تَدُلُّ سيما أحدهما على أنه معلِّمُ مدرسة ويدلُّ رأسُ الآخر منهما على أنه صَيْرَفِيٌّ، مضحكيْن لو لم تقطع الإمبراطورة الفاتنةُ أُوجِينِي التي هي وَحْيٌ حَيٌّ لروايةِ جنسِها الخالدة ذلك الشَّرِيطَ الرمزيَّ.
وكان إسماعيلُ قد دفع الملايين للسلطان نَيْلًا لِلَقب خديو وتنظيمًا لوِراثة العرش بأوثقَ مما في الماضي، ويَعْزِم إسماعيلُ أيامَ افتتاح القناة على التخلُّص من متبوعِه الضعيف بأن يُعْلِن في خُطبةٍ مدوِّيةٍ استقلالَ مصرَ وينادي بنفسه ملكًا، ويُمْنَى هذا المشروعُ بالإخفاق في الدقيقة الأخيرة لِمَا كان من اعتراضِ دولةٍ أجنبية.٤

ويسير كلُّ شيءٍ من سيِّئ إلى ما هو أسوأُ منه بعد ذلك الحين، فيُخْلَع الإمبراطورُ نابليون بعد سنةٍ وتُبْعَد الإمبراطورة، ثم يأتي دورُ إسماعيلَ بعد عشر سنين، وتصبح قناةُ السويس ذاتَ أهميةٍ عالمية، ويرتفع عدد السفن التي تجاوزها من خمسمائة إلى ستة آلاف في خمسين سنة، ويرتفع عددُ من يَعْبُرُها من السُّيَّاح من ٢٧٠٠٠ إلى ٢٥٠٠٠٠، ويَزِيدُ الدخل على ما كان عليه مائةَ مرة.

ومما حدثَ أن اضطُرَّ الخديو المِتْلَاف — عن إفلاسٍ قريب الوقوع — إلى بَيْعِ أسهمه في قناة السويس بأربعة ملايين جنيه، وفي هذه المرة يُبْدِي الفرنسيون غَبَاوَةَ رَفْض ما عَرَضَه إسماعيل عليهم، ويَحْتَمِل ديسرائيلي سِرًّا مسئوليةَ ذلك الشراء بواسطة روتشيلد، وتُرَدُّ هزيمةُ الفرنسيين في أفريقية إلى تلك الخطيئة في سنة ١٨٧٥.

ويغدو إسماعيل خاسرًا، ولا يكون لخطته في ضَمَان حماية فرنسة وإنكلترة لمصرَ وفي مدارةِ السلطان بأكداسِ الذهب قيمةٌ إذا لم يبقَ متموِّلًا. والواقع أن المَدعُوِّين إلى الباخرة البالغةِ الزخرفة التي تَمَّ استقبالُ الإمبراطورة فيها كانوا ضيوفَ أنفسهم من بعض الوجوه ما دام إسماعيل قد اضطرَّ — لإقامة ذلك المهرجان — إلى عقد قرضٍ ماليٍّ في باريس.

وما حَدَثَ من سقوط أثمان القطن ونَقْصِ فيضان النيل مرتيْن وما أسفر عنه هذا النقصُ من رداءة المحاصيل عَجَّلَ حدوث الكارثة، وبَلَغَ مموِّلو الخديو منذ عشر سنوات من الفساد ما لا حَدَّ له، فإذا ما طُلِبَ منهم مِدْفعٌ للتجرِبة أرسلوا اثنيْ عشرَ مِدْفَعًا، ويقدِّم خَيَّاطٌ باريسيٌّ في أثناء الارتباك العام قائمةً إلى الخديو بمبلغ ١٥٠٠٠٠ فرنك ثمنًا لثياب أميرة واحدة، ويطالِب المزيِّنون والجَمَّالة والحَمَّارة بما يَجِبُ أن يُدْفَع إليهم.

وأخيرًا تتدخل الدول، فترسل إلى القاهرة لجنةً لِتَضَعَ يدها على دَخْل الدولة، ويَستقبل إسماعيلُ دائنيه تحت سُرَادِقٍ من حرير منصوبٍ عند سَفْح الأهرام، ويُقِيم مهرجانًا عامًّا فخمًا لمن فُوِّضَ إليهم أن يبحثوا في ماليته ويَتَصَدَّوْا لها، وذلك ليشاهِد ألوف الفلاحين حُسْنَ صلاتِه بالدول العظمى.

وتشابه لَجنةُ الديون تلك إحدى المهازئ فَيرقب إنكليزيٌّ الدخلَ ويرقب فرنسيٌّ الخَرْج، وتَجِدُّ تلك اللجنةُ في نَيْل بعض الشيء للدائنين الهائجين في مصافق أوروبة، وعلى الفلاح أن يَدْفَعَ الآن — كما كان يدفع — نفقاتِ ما يُقِيمُه الخديو من مهرجانات، وكان أحد أصحاب المناصب العالية من الإنكليز — شيرول — قد ذكر منذ بضع سنين في تقريرٍ له قولَه: «كان الفلاحون يُجَرُّون من حقولهم ليَعْمَلوا في الأراضي الواسعة التي كان الخديو قد اغتصبها منهم، ويُهَدَّدُون بالسِّيَاط دَوْمًا ليَعْمَلُوا مسخَّرين كالعبيد في حفظ القَنَوَات نَفْعًا لغيرهم، وفيما يَطْلُب جمعٌ جائعٌ من النساء والأولاد سنبلةَ ذُرَةٍ تَرَى إسماعيلَ جالسًا على العرش بين حاشيته، وتَرَى مستغلِّيه من المصريين والأوروبيين يغتنون على حسابه.»

ويُلْقَفُ كلُّ شيءٍ في سبيل دائني باريسَ ولندنَ وبرلين الذين طَمِعُوا أن يُثْرُوا بلا تَعَب، فلا يَبْقَى ما يُؤَدَّى إلى موظفي المصريين بانتظام، والمحامون لدى المحاكم المختلطة الذين كانوا يغتنون، وعادَ الفلاحُ غيرَ ذي عِمامة، وصار الفلاح يقتصر على جِلْبابٍ أزرق، وإذا ما كان لدى الفلاح ثيابٌ أخرى أخفاها، وليس من القليل أن كنتَ تَرَى شيوخًا يُضْطَرُّون إلى هدر كرامتهم فيَخْرُجُون بلا جُبَب.

وتبصر لجنةُ الرَّقابة ذاتَ سنةٍ وجودَ نقصِ ١٥٠٠٠٠٠ جنيه في اﻟ ٤٨٠٠٠٠٠ جنيه المُخَصَّصَة للفوائد، وهنالك يُرْسَلُ إلى جميع أنحاء البلاد اثنان من الباشوات وستةٌ من المُرَابين لحمل الفلاح على أن يبيع المحاصيلَ منهم مقدَّمًا بنصفِ الثمن وإن لم يَحِنْ وقت حَصَاد الحَبِّ بعد، وذلك على أن يؤدَّى ذلك الثمنُ بعدَ شهر لعدم إدراك الحَبِّ، وذلك إلى استيفاء الضريبة مما يَمْلِك الفلاح ولو كان قِطَعًا ذهبيةً مَخِيطَةً في براقع نسائه، وهكذا تُسَلِّم الحكومةُ المبلغَ الناقصَ قبل الوقت المعيَّن ببضع ساعات. ومما حَدَثَ أن القنصل الإنكليزيَّ جَرُؤَ في تقاريره على الدفاع عن الفلاحين فأوجب الدائنون الجياعُ إخراجَه من مَنْصِبِه.

وكان الفلاحُ يَجْهَل مؤتمرَ برلين جَهْلَه مصارفَ باريس، ومع ذلك قَرَّرَ بسماركُ مصيرَ مصرَ في أثناء ذلك المؤتمر، وبسماركُ كان — منذ عامين — قد نَصَحَ الإنكليز بأن يستولوا على مصرَ راجيًا أن يَحُول هذا الاحتلالُ دون نُشُوب حربٍ في الشرق الأدنى. وبسمارك في هذه المرة يقترح عَزْلَ الخديو، ولكن الرجلَ المُسِنَّ المريضَ، ولكن السلطانَ يَظْهَر بغتةً كما يَحْدُث في خاتمةِ الرواية الهزلية، فبعد أن ترك السلطانُ نائبَه يقوم بشئون الحكم على ضِفاف النيل كما يشاء مدةَ خمسين سنةً رأى أن ينتحل وَضْعَ الطاغية فيَحُولَ بذلك دون تَدَخُّل الدول الغربية، فأرسل إلى إسماعيلَ برقيةً عنوانها: «إلى خديو مصر السابق بالقاهرة».

ويَتَّخذ إسماعيلُ من الوضعِ ما هو كاملٌ، ويَرْوِي شاهدُ عِيَان أنه دُهِش، ثم فتحَ البرقيةَ هادئًا وقرأ ما يأتي: «أطيعوا صاحبَ الجلالةِ السلطانَ فسَلِّموا الخديويةَ إلى خديو مصرَ محمد توفيق.» ثم طَوَى الورقة بعنايةٍ وقال: «أرسلوا مَنْ يَبْحَث عن صاحب السموِّ توفيق باشا في الحال.» فلمَّا لاح ابنُه أسرعَ إليه مجاوزًا القاعة مع طُولِها وَوَضَعَ يَدَ ابنه على فَمِه قائلًا: «أهلًا بمولاي.» ثم طَبَعَ قُبْلَةً على خَدَّيْه وهنَّأَه وتمنَّى له حُسْنَ التوفيق، ولم يَنْطِق بغير ذلك ذاهبًا إلى دائرة حريمه تاركًا الأميرَ الشابَّ حائرًا مرتعبًا، تاركًا ابنه الذي صار مَلِكًا بين ساعةٍ وأخرى، فلما كان الغدُ قَصَدَ القصرَ، فكان أولَ من قَيَّدَ اسمَه في دَفتر مهنئي وليِّ الأمر الجديد، ثم وَضَعَ أمتعتَه في حقائبه وأَخَذَ بعضَ نسائه وأصدقائه ومبلغَ ثلاثة ملايين فرنكٍ وتَوَجَّهَ إلى إيطالية بحرًا.

وقد قَضَى إسماعيلُ ليلتَه الأخيرةَ في مصرَ مع ابنه فقط.

١  الغياهب: جمع الغيهب، وهو الظلمة.
٢  القروش: جمع القرش، وهو نوع من السمك يُعرف بكلب البحر يقطع الحيوان في الماء بأسنانه كما يقطع السيف، والقروش هنا بمعنى الأراذل.
٣  فردي: ملحن وكاتب روائي إيطالي (١٨١٣–١٩٠١).
٤  ذلك ما بلغه الملك فؤاد إلى المؤلف، ويظهر أن الوثائق الخاصة بهذه المسألة موجودة في خزائن السجلات الإيطالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤