الفصل الثالث عشر

أحمد بن أبي دؤاد

قضى الصاحب في جوار الخليفة أيامًا يتوقع أن يسمع خبرًا عن جهان أو نبأ بقدومها، وقد ازداد رغبة في مجيئها لتنقذه من الجارية التي اختارها الخليفة. ولم يداخله شك في أن الخليفة إذا رأى جهان زهد في سائر نساء الأرض فلا يلومه حينئذ إذا أبى الزواج بسواها. وطال غيابها واستبطأها فقلق لتأخرها وانقطاع أخبارها، وضاق صدره عن كتمان القلق، فاستدعى وردان ذات يوم وقال له: «ما قولك في أهل فرغانة؟»

ففهم وردان قصده وقال: «أتعني مولاتي جهان؟»

قال: «أعني أني كنت على موعد معها هنا بعد انقضاء الحداد، ولكنها لم تأتِ ولا سمعنا عنها خبرًا، فما رأيك؟»

قال: «أتريد أن أذهب للبحث عنها؟»

فأُعجب الصاحب بتفانيه في خدمته وابتسم وقال: «بورك فيك يا وردان، لا أكلفك هذه المشقة ولكنني أستشيرك في الأمر.»

فأطرق وردان يفكر ثم قال: «الرأي عندي أن نصبر مدة أخرى حتى يأتي مولانا الأفشين من فرغانة.»

قال: «ومتى يكون هذا؟»

قال: «جاءت البشائر بقرب وصوله، فإذا جاء سألناه أو سألنا بعض رجاله.»

فاستحسن ضرغام ذلك، وقال له: «أرى أن تتولى أنت أمر البحث من بعض رجال الأفشين.»

قال: «فهمت مرادك.»

فضحك الصاحب (ضرغام) وقال: «لا تكتم رأيًا ترى فيه نفعًا لي. واعلم أني أعدُّك رفيقًا لي لا خادمًا فأنت أرقى من ذلك كثيرًا.»

فأطرق وردان احترامًا وقال: «أنا خادمك، أتفانى في خدمتك. أتأذن لي في أن أذهب للقاء حملة الأفشين قبل وصولها؟» قال: «افعل ما يبدو لك.» فودَّعه وخرج.

ومكث ضرغام ساعة في القصر، ثم جاءه رسول المعتصم يدعوه إليه، فلبس سواده وذهب إلى القصر فقيل له إن الخليفة في خلوة مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد في دار الخاصة.

وكان ضرغام يعرف منزلة ابن أبي دؤاد عند الخليفة، وأنه لا يختلي به إلا أمر ذي بال، فاستأذن ودخل فرأى الخليفة جالسًا على سريره في صدر القاعة، وأحمد بن أبي دؤاد على كرسي بين يديه.

وكان أحمد هذا معروفًا بالمروءة وبعصبيته العربية؛ إذ كان ينتسب إلى بني إياد، ولكن المعتصم وإن أبعد العرب من مجلسه وقطع أعطياتهم وحطَّ من أقدارهم واختصَّ الأتراك ببطانته؛ كان شديد الثقة به لا يمضي أمرًا إلا بمشورته ولا يشاور وزراءه.

وكانت نشأة ابن أبي دؤاد في قرية من أعمال قنسرين، ثم هاجر أبوه إلى الشام للتجارة فأخذه معه إليها وهو غلام، فنشأ في طلب العلم ولا سيما الفقه والكلام حتى فاق معاصريه، وأصبح معتزليًّا فصيحًا قوي الحجة، ونال عند المعتصم حظوة ودالة لم يسبقه إليهما أحد، حتى صار يفتتح الكلام في حضرته وكانت العادة عند الخلفاء ألا يبدأهم أحد بالكلام. ومن أمثلة دالته هذه أن المعتصم غضب مرة على خالد بن يزيد الشيباني وأشخصه من ولايته لعجزٍ لحقه في مال طُلب منه وأسباب أخرى، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد فشفع فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه الذي اعتاده فقال له المعتصم: «يا أبا عبد الله لِمَ جلست في غير مجلسك؟» قال: «ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا!» فقال له: «وكيف؟» قال: «لأن الناس يزعمون أن ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيُشفَّع.» قال: «فارجع إلى مجلسك.» قال: «مشفعًا أو غير مشفع؟» قال: «بل مشفعًا.» فارتفع إلى مجلسه. ثم قال: «إن الناس لا يعلمون رضا أمير المؤمنين عنه إن لم يَخْلع عليه.» فأمر بالخلع عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، قد استحقَّ هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن ينالوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة.» فقال: «قد أمرت بها.» فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وكان الناس في الطريق ينتظرون الإيقاع به فصاح به رجل: «الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب.» فقال له: «اسكت، سيد العرب، والله، أحمد بن أبي دؤاد.»

ولم يكن نفوذ ابن أبي دؤاد خافيًا على ضرغام، فلما دخل على المعتصم وهو عنده علم أنه دُعي لأمر ذي بال، فلما أقبل على الخليفة حيَّاه بتحية الخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»

فهشَّ له المعتصم وناداه وأمره بالجلوس بجانب ابن أبي دؤاد وهو يقول: «مرحبًا بالصاحب.» ثم الْتفت إلى القاضي وقال: «أظنك تستغرب تسميتي هذا القائد بغير اسمه، فاعلم أني عملت بحسن رأيك فيه؛ فقد طالما أثنيتَ على شهامته وإخلاصه، وقد رأيت منه فوق ما وصفت حتى عرض نفسه للموت لأجلي؛ إنه أنقذني من براثن الأسد ببسالته؛ فقرَّبته وسمَّيته الصاحب وأسكنته بعض قصوري.»

وكان ابن أبي دؤاد في نحو الستين من عمره وقد خطَّ الشيب لحيته وعارضيه، فازداد إجلالًا ووقارًا وهو يلبس زي القضاة: العمامة الطويلة، والطيلسان الرقيق، فلما سمع إطراء المعتصم وترحيبه بضرغام هشَّ له وحيَّاه، والْتفت إلى المعتصم فقال: «ألا يرى أمير المؤمنين حسن ظني في محله؟ إني أنزلته من نفسي منزلًا رفيعًا يوم رأيته، وتوقعت له مستقبلًا مجيدًا. أعانه الله على خدمة أمير المؤمنين.»

فقال المعتصم: «وبناء على ذلك أرى ألا نخفي عنه ما يدور بيننا.»

وكان ضرغام جالسًا متأدبًا ينتظر أمر الخليفة فقال الخليفة: «اعلم يا صاحب أني كنت والقاضي نتشاور فيما بلغنا من أخبار المجوسي في أرمينيا.»

فأدرك ضرغام أنه يعني بابك الخرمي القائم على الدولة في أردبيل. وكان عالمًا بانتقاضه وبوقائع جرَت بينه وبين جند المسلمين ولم يظفروا منه بطائل حتى استفحل أمره، فقال: «وهل أحدث هذا الرجل حادثًا جديدًا؟»

فقال القاضي: «لا يخفى عليك أن بابك الخرمي تمرَّد على أمير المؤمنين بأرمينيا، فرماه بالأفشين ورجاله مرة، وبغيرهم مرة أخرى، والشقة بيننا وبين أرمينيا واسعة؛ فكانت الحرب سجالًا، ولا يزال الرجل معتصمًا هناك وأمير المؤمنين …» وسكت ونظر إلى المعتصم، فأتمَّ هذا كلامه قائلًا: «قلت لك يا صاحب إني لا أثق بالأفشين هذا ولا أعلم كيف أستغني عنه وقد رأيته أنت في بلاده بين أهله وعشيرته، فكيف وجدته؟»

قال: «إن لهذا الرجل سطوة عظيمة في تلك البقاع، فهم يعدونه ملكًا كبيرًا ويسمونه ملك الملوك، وبعضهم يخاطبه بإله الآلهة كما كانوا يفعلون قبل إسلامه، ولعله الآن يستنكف من هذا. وقد رأيت يا أمير المؤمنين من سلطانه شيئًا عظيمًا حتى يجتمع لندائه ألوف الألوف من الرجال. وإذا رأى أمير المؤمنين أن يخلعه فإنه فاعل ما يشاء، وإذا شاء أن يرمي بي في مكانه بذلت دمي وروحي في خدمته. ولا أزعم أني أقدر من ذلك الرجل ولكنني طوع أمير المؤمنين والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.»

فقال القاضي للمعتصم: «إن الصاحب يبدي إخلاصه وتفانيه في خدمة الدولة، ولكنه لو سُئِل عن عاقبة هذا التبديل لما جهل الخطر الذي يترتب عليه. لا أرى أن يعلم الأفشين أو أحد رجاله بما يجول بأذهاننا عنهم، وإذا أذن أمير المؤمنين أبديت رأيًا لعلَّ فيه نفعًا.»

فقال: «قل ما بدا لك.» والْتفت إلى ضرغام وقال: «إن القاضي أحمد يحل لدينا محل الوزراء والمشيرين، فعندنا من الوزراء والخاصة غير واحد ولكنني لا أثق بأحد منهم وثوقي به. قل أيها القاضي.»

فقال: «إن الأفشين ملك في بلده وعنده الجند والأعوان، وقد رضي أن يخدم أمير المؤمنين طمعًا في المال. ويتحدث بعض الناس بأنه لا يخدم المسلمين إلا لذلك، ولو تُرك لشأنه لانضمَّ إلى بابك وحاربنا. وهو إذا صح إسلامه فإنه لا يزال حديثًا فيه، فإذا جافيناه انقلب علينا، وإذا اتحد مع بابك أصبحا خطرًا علينا مما لا يخفى على أمير المؤمنين. والذي أراه أن نظهر له ثقتنا بإخلاصه ونشتريه بالمال هو ورجاله ونضرب بهم ذلك المجوسي المتمرد في أرمينيا، فإذا غلبوه كفونا شره، وإذا اتضح لأمير المؤمنين بعد ذلك أن الأفشين خائن، سهل علينا الاقتصاص منه؛ إذ يكون وحيدًا. وإذا أخلص حقًّا نال ما يستحقه.»

فلما سمع ضرغام كلام القاضي أدرك أن الرجل ينطق عن تعقل ودهاء، ولو تُرك هو لرأيه لم يصل إلى هذا الحكم؛ لأنه من أهل الشجاعة وليس من أهل الرأي، ويندر اجتماع الشجاعة والرأي في واحد. ثم قال الخليفة: «أرى قاضي القضاة يغالي بقوة هذا الفارسي أو الأشروسني ويخشاه، وفَاتَه من في جندنا من القواد العظام وكلٌّ منهم يدفع عن دولتنا برجاله وعدته.»

قال: «صدق أمير المؤمنين؛ فعنده أشناس التركي وأيتاخ وبغا وسما وغيرهم، ولكن هؤلاء نشئوا من العامة ليس لأحد منهم ما للأفشين من النفوذ في نفوس الجند، وقد سمعنا الآن بما لهذا الرجل من السطوة في قومه وهم ألوف الألوف، فإذا أغضبناه لا يقوم هؤلاء مقامه. ولولا تمرد بابك هذا لم نكن نخشى بأس الأفشين. وأنت يا أمير المؤمنين شجاع باسل، أيدك الله بالخلافة، فلا ترى الالتجاء إلى الحيلة أو الصبر على المكاره، ولكنا نعلم من الحديث المأثور عن الرسول أنه قال: «الحرب خدعة.» فهذا رأيي والأمر من قبل ومن بعد لأمير المؤمنين، وأنا وسائر رجال الدولة رهن ما يريد، نبذل دماءنا وأرواحنا في طاعته.»

فالْتفت المعتصم إلى ضرغام كأنه يستطلعه رأيه، فقال ضرغام: «إني لا أرى ردًّا على قول قاضي القضاة، ولم أكن لأفطن لما فطن هو له من حسن السياسة، وقد سمع أمير المؤمنين جوابي فإني رجل سيف أصدع بالأمر، فإذا رميت بي أذربيجان أو تركستان أو أرمينيا ركبت إليها ودمي على كفي، ولكن الصواب فيما قاله قاضي القضاة والرأي الأعلى لأمير المؤمنين.»

فقال المعتصم: «قد استشرتكما في الأمر لسببين؛ الأول: أن طلائع الأفشين جاءت تبشِّر بقُرب وصوله، والثاني: أن قد جاءنا جاسوس من أرمينيا بأن بابك الملعون قد استفحل أمره وربما تحرَّك نحونا، فلا ينبغي أن نمكث هنا في انتظاره.»

قال القاضي: «لا أظنه يجسر على القدوم وإنما هو يقنع بأن نتركه وشأنه، وعلى كل حال أرى أن نحتفل بقدوم الأفشين ونبالغ في إكرامه حتى نفرغ من حاجتنا إليه.»

•••

وفيما هم في ذلك سمعوا صوت الأذان لصلاة العصر، فتحفز الخليفة للقيام وصفق فجاء الحاجب فأمره بأن يخبر صاحب وضوئه أنه سيصلي العصر في المسجد الكبير.

فلم يبقَ لضرغام والقاضي بُدٌّ من الذهاب إلى الصلاة معه في ذلك المسجد، وكان المعتصم قد بناه وبالغ في إتقانه على شكل لم يسبق له مثيل في الإسلام، فجعل جدرانه من مرايا حتى إذا وقف الخليفة للصلاة رأى من يدخل المسجد من خلفه، وبنى له منارة عظيمة على شكلٍ لولبي مكشوف يُصعد إليها على درج لولبي من ظاهرها. ولعل ابن طولون بنى منارة جامعه في مصر على مثال تلك. وكان المعتصم كثيرًا ما يصلي في ذلك المسجد لقربه من قصره. فلما تحفز للنهوض استأذن أحمد وضرغام في الانصراف وذهب كل منهما إلى منزله حيث توضأ ويمم المسجد.

دخل الخليفة أولًا والناس وقوف للتبرك برؤيته، وفيهم القواد والوزراء حتى إذا دخل المقصورة الخاصة في أثره، وفيهم القاضي أحمد، ومحمد بن عبد الملك الزيات وزيره، وقواده الأتراك الذين ذكرناهم. أما ضرغام فدخل حتى وقف في جملة الحاشية وكانت المرايا في الجدران على شكل غريب يرى الناس صورهم فيها كأن أمامهم مسجدًا آخر فيه أناس يصلون، ووقف ضرغام في جملة الواقفين للصلاة.

وبينما ضرغام واقف يصلي وعيناه على المرايا في المحراب يرى الناس يدخلون من الباب وراءه ممن يعرفهم ولا يعرفهم، وقع بصره على رجل لم يكد يتثبته حتى أجفل ولم يتمالك أن الْتفت إلى الوراء ليتحقق ظنه فإذا هو مصيب في تخيله؛ وكان قد رأى بالمرآة صورة سامان أخي جهان، فاحتال في التقهقر رويدًا رويدًا حتى دنا من الباب ورآه سامان يتقهقر فسبقه إلى صحن المسجد، فخرج ضرغام في أثره وهو يحدق فيه ويكاد ينكره لما رأى في حاله من التغير. فقد فارقه في فرغانة وعليه لباس أهل الوجاهة مما يعوض عن قبح صورته بعض الشيء، ولكنه رآه هذه الساعة في حالة يُرثى لها من الضعف ورثاثة الثوب وقد ربط زنده وعصب رأسه ووقف ذليلًا كئيبًا، فأثَّر منظره فيه وأخذته عليه الشفقة وخشي أن يكون قد أصاب جهان سوء فصاح به: «سامان؟!» قال: «نعم أنا سامان يا سيدي.»

فقال: «ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين جهان؟»

قال: «إذا أذنت لي في خلوة قصصت عليك كلَّ شيء، فقد تعبت من البحث عنك في سامرا، وأخيرًا أتيت المسجد لعلي أراك.»

فأشار إليه أن يمشي وراءه في صحن الجامع وقال: «يظهر أنك سألت عني باسمي القديم (ضرغام) وأنا اليوم لا يعرفني أحدٌ بهذا الاسم، وإنما اسمي الصاحب. أين جهان؟ وما لي أراك رث السربال على هذه الحال؟» وكانا قد انتهيا من الصحن إلى بناء مربع على هيئة الكعبة. فرأى الصاحب أن يدخل إليه ليختلي بسامان؛ إذ لم يبقَ له صبر حتى يصل إلى المنزل، فدخل وأشار إليه أن يجلس على دكة هناك وهو يقول: «أخبرني أين جهان وماذا جرى لكم؟»

فجلس يتنهد ويتمسكن وقال: «أحمل إليك خبرًا لا يسرك.»

فاضطرب ضرغام وقال: «هل أصاب جهان سوء؟»

قال: «لم يصبها سوء ولكن …» وبلع ريقه.

قال: «ولكن ماذا؟ أين هي؟ قل!»

قال: «لا أدري أين هي يا سيدي … فقد خطفها مني اللصوص.» قال ذلك وتظاهر بالبكاء.

فزأر ضرغام كزأر الأسد وحملق عينيه ووقف شعر شاربيه وأصبح منظره مخيفًا وقال: «اختطفوها؟ من تجاسر على ذلك؟»

قال: «لا أعلم يا سيدي مَنْ أولئك اللئام الذين اختطفوها. ولكن تمهل قليلًا حتى أقص عليك الخبر كما وقع.»

قال: «قل وأوجز.»

قال: «فارقتنا يا مولاي وظللنا في فرغانة بعد سفرك بضعة أيام ذُقْنَا فيها الأَمَرَّين.» قال ذلك وأرسل بصره إلى صحن الجامع وخفض صوته كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فلما تحقق خلو المكان من السامعين قال: «إن مصيبتنا أتت من أقرب الناس إلينا؛ أتت من الرجل الذي أوصاه أبي بنا؛ فالأفشين لم يكتفِ بأنه حرمني من ميراث أبي حتى مدَّ يده إلى أختي!»

فاقشعر جسد ضرغام من هذا التعبير مع ظنه أنه يعني تعدِّيه على حِصَّتها من الميراث كما تعدى على حصة سامان، ولم يخطر له شيء وراء ذلك فقال: «أظنه طمع في ميراثها أيضًا؟»

فتشاغل سامان بحك ذقنه الأجرود وتنحنح وظلَّ ساكتًا، فارتاب ضرغام في أمره فقال: «أليس الأمر كما أقول؟»

قال: «لو أنه اكتفى بالإرث لكان خيرًا، ولكنه طمع فيها هي نفسها. ويحزنني أن أغضبك بهذا الخبر ولكنه الواقع وعليَّ أن أصدقك؛ فإنه طلب الاقتران بأختي على علمه أنها مخطوبة للبطل ضرغام وأنها يستحيل أن تقبل سواه.»

فقال ضرغام وهو يرتعد: «ثم ماذا؟»

قال: «تداركنا الأمر بالفرار؛ ففررت أنا وجهان في قافلة بما خفَّ حمله من المال والمتاع، ولم نخبر أحدًا من أهل القصر إلا القهرمانة خيرزان، فأخذناها معنا وركبنا مسرعين نقصد إلى سامرا قبل أن يعلم الأفشين بنا، فقطعنا البراري والقفار، وقاسينا عذابًا شديدًا من الحر والبرد والتعب حتى دخلنا خراسان ودنونا من همذان. وهناك فارقتنا القافلة وحسبنا أننا صرنا في أمان، فاعترضنا قوم من قُطَّاع الطريق على خيولهم فدافعنا عن أنفسنا دفاعًا حسنًا جهد طاقتنا حتى كلَّت يدي وجُرح رأسي، وكنت أتمنى لو أُقتل وتبقى جهان سالمة ولكن …»

فصاح به: «ولكن ماذا؟ هل أصابها سوء …؟ أليست حية؟»

قال: «هي حية يا سيدي ولكنهم خطفوها وذهبوا بها وبقهرمانتها، وآخر ما سمعته منها قولها: «سلِّم على ضرغام وأخبره بما جرى».»

فتعاظم غضب ضرغام حتى غلى دمه واحمرَّت عيناه وقال: «ومن هم أولئك اللصوص؟ ألم تعرف أحدًا منهم؟»

قال: «كلا؛ فقد كانوا ملثمين ولم يفوهوا بكلمة ولا سمعنا لهم صوتًا خوفًا من انكشاف أمرهم.»

•••

وأطرق ضرغام برهة كان فيها كالضائع يحسب نفسه في حلم أو كأنه انتقل إلى عالم آخر، ثم انتبه لجلبة الناس أثناء خروجهم من المسجد وتذكر أن الخليفة معهم، فخاف أن يراه مختبئًا فيشك في أمره فخرج واختلط برجال الدولة وأشار إلى سامان أن ينتظره فظلَّ واقفًا في مكانه. وبعد قليل انفرج الوقوف وشقوا طريقًا للخليفة ووقفوا للتحية فمرَّ بهم المعتصم يتفرَّس في وجوههم حتى وقع بصره على ضرغام فأشار إليه أن يتبعه، فاستعاذ بالله وخاف أن يكون في تلك الدعوة ما يحول دون البحث عن جهان. وتفرَّق الناس عن الخليفة رويدًا رويدًا حتى وصل إلى القصر ولم يبقَّ معه غير ضرغام، فدخل وأشار إليه أن يلحقه، ففعل حتى وصلوا إلى غرفة خاصة، فالْتفت الخليفة إليه وقال: «رأيتك خرجت من المسجد قبل الفراغ من الصلاة.»

فخجل ضرغام من هذا الاستفهام وقد فاته أن الخليفة يرى الخارجين والداخلين بالمرايا كما رأى هو سامان، ولكن رؤية سامان فجأة أنسته نفسه وموقفه. فلما سأله الخليفة عن سبب خروجه اعتذر بقوله: «خرجت لمشاهدة رجل لم أكن أنتظر رؤيته ويهمني أمره، وكان ينبغي أن أتم الصلاة لأكون في معية أمير المؤمنين، فعفوًا لمولاي، وإني أعد ملاحظته الْتفاتًا كبيرًا إلى صنيعته.»

قال: «إني كثير الاهتمام بشئونك؛ لأنك صاحبي، فأرجو ألا يكون عليك بأس مما رأيته أو سمعته.»

فرأى ضرغام الفرصة مناسبة للاستئذان في الذهاب إلى همذان فقال: «لا بأس عليَّ ما دمت في ظل مولاي أمير المؤمنين، ولكن قومًا من أهلي قادمين من فرغانة إلى العراق فأصابهم ما أخَّر وصولهم فبعثوا يستعينون بي على ذلك، فهل يأذن مولاي بذهابي بضعة أيام؟»

فأطرق المعتصم ثم قال: «سر ولا تطل الغياب، وإذا رأيت أن تستعين بجند أو بريد فافعل.»

فانحنى ضرغام شاكرًا واستأذن وعاد إلى المسجد حيث ترك سامان، وقد سرَّه اهتمام المعتصم بأمره ولكنه ظلَّ مضطرب البال لما سمعه عن جهان والأفشين، ولم يكن الأفشين قد وصل إلى سامرا بعد، فرأى ضرغام المبادرة إلى همذان فأمر بإعداد أفراس البريد ينتقل بها هو وسامان، وذهب لوداع أمه وذكر لها أنه ذاهب في مهمة يعود منها بعد بضعة أيام، فقبَّلته وودَّعته. فركب في ذلك المساء وقلبه يكاد يسبقه من شدة القلق إلى همذان، وكلما وصل إلى محطة من محطات البريد لتبديل الركائب يسأل الناس هل سمعوا بلصوص يلجئون إلى بعض الأماكن في تلك الناحية. وكان يواصل السير نهارًا وليلًا ولا ينام إلا قليلًا حتى دنوا من همذان وبجانبها جبل وعر وطريق البريد بجانب ذلك الجبل وفيه محطة لخيل البريد، فلما وصل إلى هناك سأل سامان: «ألا تذكر المكان الذي وقع فيه الحادث؟»

قال: «وراء هذا الجبل على ما أظن.»

وكان وصولهم إلى الجبل عند الغروب، وقد أعدَّ له أصحاب البريد منزلًا يبيت فيه، ولكنه لم يستطع صبرًا إلى الغد. وكان في تلك المحطة غير واحد من السعاة والكوهبانية وأصحاب الأخبار الْتقوا هناك صدفة وكلٌّ منهم سائر في طريق، وعلم صاحب تلك المحطة أن الصاحب من خاصة الخليفة وقد جاء للبحث عن شيء يهمه، وأنبأ الآخرين بذلك فأصبحوا يتوقون إلى خدمته، وسأل ضرغام صاحب المحطة: «هل أنت هنا من زمن طويل؟»

فقال: «من بضعة أسابيع ونحن أصحاب البريد ننتقل دائمًا، فهل يأمر مولاي بخدمة نقوم بها؟»

قال: «شكرًا لك، هل سمعت بلصوص أو قطاع طريق يعتصمون في بعض هذه الأودية أو الجبال أو يمرون من هذه الأمكنة؟»

قال: «قلما نسمع بشيء من هذا، ولكني علمت بالأمس أن جماعة من قطاع الطريق معتصمون وراء هذا الجبل، ولم يصل خبرهم إلى الحكومة بعد على ما أظن.»

فلما سمع ضرغام كلامه قال له: «أرسل معي رجلًا يهديني إلى مكان أولئك اللصوص.» ومشى.

فأُعجب الرجل بشجاعته ومبادرته إلى الذهاب وحده فقال: «ألا ترى يا سيدي أن نرسل أحدًا للبحث عنهم وتمكث أنت هنا؟»

قال: «كلا، يكفي أن ترسل معنا رجلًا يدلنا على الطريق.» ومشى وسيفه إلى جانبه وقد الْتفَّ بعباءته والكوفية حول رأسه، وتبعه سامان ورجل من حراس تلك المحطة، سار أمامهما في شعاب وعرة وقد غابت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، وضرغام مطرق لا يلتفت ولا يتكلم، حتى انتهوا إلى منعطف في ذلك الجبل فوقف الدليل وأشار بيده إلى نور ضعيف على أكمة أمامهم وقال: «هذا مقر القوم يا سيدي، وأخاف أن يبطشوا بنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤