الفصل السابع عشر

يأس ضرغام

كان ضرغام قد بثَّ العيون والجواسيس يبحثون عن جهان في أنحاء المشرق، وفيهم من سافروا إلى فرغانة، فلبث حقبة من الدهر ينتظر رجوعهم فعادوا وما فيهم من سمع خبرًا أو عرف شيئًا يهديه إلى مكانها، فضاقت الدنيا في عينيه بما رحبت وغلب عليه اليأس وأخذ يفكر في المجرم الذي سبَّب فقدها، فلم يجد غير الأفشين، ثم تذكر ما عرفه عن سامان ونفاقه وغدره فارتاب في أمره. وكان يقضي أيامه وحيدًا في منزله إلا إذا خرج المعتصم واصطحبه للصيد أو الرياضة أو الصلاة، وكان يستأنس بياقوتة استئناسًا كثيرًا لكمالها ومشابهتها لجهان، وكلما نظر إليها تذكر صاحبه حمادًا وودَّ من صميم فؤاده أن يجمعها به لعله يُوفق إلى من يجمعه بحبيبته.

ولما طال انتظاره وانقطعت أخبار جهان عنه ويئس من وجودها، استولت عليه السويداء ولم يعد يرى للحياة معنى، وودَّ لو أنه يشغل نفسه بحرب أو نكبة أو مرض، أو أن يموت ويتخلص من عذاب الشوق والقلق. وسبيل الموت الانتحار، وهو يعده جبنًا لا يقدم عليه غير الضعفاء إذا غُلبوا على أمرهم أو خُولطوا في عقولهم. ومع هذا فإن في نفسه بقية أمل في العثور على جهان. وكبُر عليه أن يموت ولا يثأر لها، فوقع في حيرة، وظهرت حيرته في وجهه فلم يكن يراه أحد إلا تبيَّن في محياه القلق رغم ما يحاوله من التكتم، ولا سيما أمام أمه لئلا يحزنها، ولم تكن هي لتخفى حاله عليها. فكان إذا سألته عن جهان وأخبارها قال: «إنهم لم يقفوا لها على خبر وقد أرسلت آخرين لجهات أخرى، فلعلهم أن يعثروا عليها.» وكانت أمه توهمه أنها صدَّقت قوله وتزيده أملًا بلقائها فأصبح ولا تعزية له غير وردان، وأصبح على طول العشرة أقرب الناس إليه. فكان إذا سئم أو قلق شكا إليه حاله واستشاره في أمره، فيخفف وردان عنه. فسمعه مرة يتذمر ويسأم الحياة وهو يتمشى في حديقة القصر معه فقال له: «مثلك لا يجوز أن يضعف إلى هذا الحد يا مولاي.»

قال: «لا تقل يا مولاي؛ لأنك صديقي يا وردان؛ ولذا تراني أشكو إليك همي وأكشف لك نفسي، إني لا أرى معنى للحياة مع اليأس من لقاء جهان.»

قال: «لكل نفس أجلها لا تُؤخر ساعة ولا تُقدم ساعة. فاصبر إن الله مع الصابرين.»

قال: «لقد مللت الصبر، ولا أرى راحة إلا في الموت. ولكني أحتقر المنتحرين.»

فأحبَّ وردان أن يبدي رأيًا يرتاح إليه ضرغام ويصادف هوًى في نفسه هو منذ جاء العراق فقال: «أمثلك يكره الحياة ويعجزه السبيل إلى الموت وهو من خاصَّة المعتصم وكبار قواد المسلمين والحرب قائمة لا يخمد سعيرها بينهم وبين جيرانهم من الفرس أو الروم أو العرب؟»

فنبَّه كلامُه ضرغامًا. وكان ينبغي أن يتنبه من قبل فقال: «صدقت، إن الموت في ساحة الوغى ميسور لمثلي. ولكن أمير المؤمنين يلزمني صحبته؛ فقد جعلني صاحبه ومنعني من السفر.»

فقال: «لا أظنه يمنعك بعد الآن.» قال: «ولماذا؟»

قال: «لأن الأخبار تتوالى باستفحال أمر الخرمية في أرمينيا حتى ضاق الأفشين ذرعًا ببابك وحصونه.»

قال: «من أنبأك بهذا؟ كنت أحسب الأمر على عكس ما تقول والخليفة لا يُخفي عليَّ شيئًا.»

قال: «إن الخليفة لا يخفي عليك أمرًا يعرفه، ولكنه لا يعرف ذلك!»

قال: «هل تعرف شيئًا عن هذه الحرب لا يعرفه الخليفة؟»

قال: «نعم يا سيدي؛ لأن الوزراء ورجال الخاصة يرون من حسن السياسة كتمان بعض الأخبار عن الخليفة.»

قال: «صدقت، ولكنني من الخاصة ولم يبلغني شيء مما تشير إليه.»

قال: «ولا أظنه يبلغك من سواي؛ لأني سمعته من مصدر لا علاقة له برجال البريد الذين يحملون الأخبار إلى الخليفة.»

فاستغرب ضرغام ذلك وقال: «ماذا سمعت؟»

قال: «سمعت أن بابك الخرمي تضاعفت قوته بعد أن انتقل من أردبيل إلى البذ واتخذها حصنًا له.»

فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «هذا سمعناه بالأمس.»

قال: «وهل عرفت سبب قوته بعد أن كاد يعمد إلى الفرار؟»

قال: «نعم. إنه استقوى بمن انضمَّ إليه من الأقوام الناقمين على المسلمين.»

فابتسم وردان وقال: «هذا هو السبب الفرعي، ولعله يبلغ الخليفة اليوم على يد صاحب البريد. أما السبب الأصلي فهو غير ذلك.»

قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني بعض القادمين من أرمينيا خبرًا كدت أنكره لولا ثقتي بالناقل؛ ذلك أن بابك المشهور بالتهتك والانغماس بالمسكر والفحشاء قد تاب وأناب وأصبح إذا جالس رجاله لا يشرب معهم. وقد انقطع إلى تدبير أمور جنده واستجماع قواه واستنهاض الناس على المسلمين. أخبرني رجل يعرف دخائل البذ. وهم ينسبون هذا التغيير إلى امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير اسمها جلنار ملكت قياده وتصرفت في أموره.»

فأطرق ضرغام لحظة وقد ساءه رجوع بابك عن رذائله؛ لأنه كان يرجو أن تكون عونًا لهم عليه. وكان يفكر في ذلك وهو واقف بجانب شجرة من التفاح يتلقى بضرب ثمارها المتدانية بخيزرانة في يده ووردان واقف بجانبه. وإذا بغلام من غلمان الخليفة جاء مسرعًا. فلما رآه ضرغام علم أنه قادم من عند الخليفة يدعوه، فالْتفت إلى وردان وقال: «أظن الخليفة يدعوني لإطلاعي على أخبار الحرب.»

قال: «إذا رأى مولاي أن يكون في هذه الحرب فليأمر أن أكون في خدمته؛ لأني أعلم أحوال تلك البلاد وطرقها وقد أنفعه.»

قال: «حسنًا.» واتجه إلى المنزل ولبس قلنسوته وسواده، وقصد إلى دار الخاصة في قصر الخليفة، فوسع له الحاجب وأدخله بلا استئذان. فلم يجد عند الخليفة إلا القاضي أحمد، ولكنه قرأ في محياه القلق والغضب. فلما أقبل وحيا بش له الخليفة وأمره بالجلوس فجلس، فقال له الخليفة: «أرى الصاحب قد ملَّ القعود في هذا القصر وشبعت نفسه ترفًا فاشتاق إلى ميدان الوغى وخوض المعامع.»

فأدرك ضرغام أن الخليفة يمهِّد له طلب السفر إلى القتال، وأنه لم يفعل إلا وهو يرى الحاجة ماسة إلى نجدته فقال: «إن البقاء إلى جوار أمير المؤمنين نعمة وبركة، ولكن الضرب بسيفه فرض مقدس. وقد طالما حدثت نفسي أن ألْتمس من أمير المؤمنين أن يرمي بي في هذه الحرب القائمة بأرمينيا، فإذا أذن لي في ذلك فإنه يغمرني بفضله وأنا في كل حال صنيعته وربيب نعمته.»

فاستحسن الخليفة ذكاءه ونظر إلى القاضي أحمد فالْتفت القاضي إلى ضرغام وقال: «إن أمير المؤمنين ضنين بك حريص على قربك، ولكنني لحظت منك في هذه الأيام انقباضًا حسبته ناتجًا عن هذا الانحباس؛ فإن القائد الشجاع لا يُسَرُّ إلا بخوض المعامع والظفر بالحرب. ونحن الآن في حرب بأرمينية، وقد صبرنا على ذلك المتمرد لاعتصامه في حصونه. فأشرت على أمير المؤمنين بأن يوجهك إليه فيأتي النصر على يدك.»

فقال: «إني على ما يريد أمير المؤمنين، وأنا على أهبة السفر هذه الساعة.»

فقال الخليفة: «أنت تعلم أن جند المسلمين في أرمينية بقيادة الأفشين، فهل يشق عليك أن تكون من قواده.»

قال: «إنما أنا سيف من سيوف أمير المؤمنين، فليستلني رئيسًا أو مرءوسًا.»

فهشَّ له الخليفة وقال: «بورك فيك، وسأبعث إلى الأفشين أن يعرف قدر الصاحب قبل سائر القواد.»

فوقف ضرغام وقال: «يأذن لي مولاي في أن أسافر مصحوبًا بدعائه وبركته، وأرجو ألا أعود إليه إلا وقد فُتح البذ وقُتل بابك الطاغية.»

فابتسم له الخليفة وأمر أن يخلع عليه، فخرج وقد زال قلقه.

وكان وردان في انتظاره بباب القصر. فأخبره بما تمَّ، وقال له: «كنت أحب أن تبقى قريبًا من أمي هنا.»

فقال: «لا بأس عليها فهي في قصر الخليفة وبين يديها الخدم والموالي.»

ومضى إلى أمه فأخبرها بأن الخليفة أشخصه إلى ميدان القتال، فاستحسنت الأمر وشجَّعته وقالت: «أطلب إلى الله أن يعيدك ظافرًا.»

ثم تقدم إلى ياقوتة وحيَّاها، فلما علمت بأنه يتأهب للسفر دمعت عيناها فقال: «ادعي لي بالتوفيق لعلي أرى حمادًا في طريقي، لا تحسبيني غافلًا عن أمره.» قال ذلك وتنهَّد خفيًّا وتذكَّر مصيبته بفقد حبيبته.

فأجابته ياقوتة بدمعتين أرسلتهما على خديها وهي مطرقة لا تتكلم، فتركها وخرج، فأمر وردان بالاستعداد للسفر، وبعد أيام ودَّع أمه وأوصاها بياقوتة خيرًا، وسافر في فرقة من خاصة رجال الفراغنة الأشداء.

•••

جرت بين جند المسلمين والخرمية مواقع عديدة في أردبيل وغيرها انتهت بتخلي الخرمية عن أردبيل، واستقروا في البذ مدينة بابك وهي مدينة حصينة أو قلعة كبيرة مؤلفة من قصور وقلاع حولها سور ضخم له الأبواب الكبيرة وعليه الأبراج الكثيرة، والطريق إليها وعر بين الجبال والأودية. واقتفى جندُ المسلمين أثر بابك عندما فرَّ إلى البذ. وبين البذ وأردبيل محطات عدة جعلها المسلمون نقطًا عسكرية تحفظ لهم خط الرجعة، وتضمن الاتصال مع سامرا مقر الخليفة. فكانت الميرة القادمة من العراق إذا دخلت أرمينية أنزلوها في أردبيل، ومن هناك ينقلونها إلى نقطة عسكرية أسسها «حصن النهر» ثم يعود حُرَّاسها إلى أردبيل ويتولى حراستها جند آخرون من «حصن النهر» إلى أرشف وهكذا إلى خش فبرزند إلى «روذ الروذ» وهي آخر محطة قبل البذ وبينهما بضعة فراسخ.

وكان الأفشين قد كلَّف جواسيسه أن يختاروا مكانًا حصينًا يعسكر فيه، فاختاروا في «روذ الروذ» ثلاثة جبال عليها أنقاض أبنية قديمة، فأقام عسكره عليها وسدَّ الطريق الواصلة بينها وبين البذ بالأحجار الضخمة حتى صارت كالحصون، ثم حفر خندقًا وراء الحجارة عند كل طريق ما عدا طريقًا واحدًا يخرج منه رجاله إذا أراد الهجوم، وقد بذل في هذا العمل جهدًا شاقًّا فكان الرجال ينقلون الحجارة ويحفرون الخنادق، والعساكر يحرسونها ليلًا ونهارًا.

وكان «روذ الروذ» واديًا بين آكام وعرة. فعبَّأ رجاله وعهد إلى كل قائد من قواده، بفرقة منهم؛ وهم ثلاثة: جعفر الخياط، وأبو سعيد، وأحمد بن الخليل. أقامهم في محطات بينه وبين البذ قبل الوادي الفاصل بينهما، فأصبح معسكر الأفشين كبير جدًّا إذا أراد النهوض أو السير به جعل الإشارة ضرب الطبول لبعد المسافات واحتجاب الفرق بعضها عن بعض بالجبال والأودية. فإذا سار ضرب الطبول، وإذا وقف أمسك. فيقف الجند جميعًا أو يسيرون جميعًا في مصافهم وعلى ترتيبهم. وكان للأفشين معسكر أقامه على أكمة يشرف منه على «البذ» ويرى قصر بابك وغيره من قصور المدينة.

وكان بابك كثير الاعتماد في حروبه على طوائف من رجاله يرسلهم ليكمنوا في الأودية وراء التلال ليفاجئوا جند المسلمين ويغدروا بهم. وكان الأفشين يهتم كثيرًا بقطع دابرهم فيرسل الجواسيس أو الكوهبانية للبحث عن الكمين.

قضى في ذلك الحصار مدة طويلة وهو يشاغل الخرمية فيأمر قواده فيقطع الواحد منهم الوادي إلى الجانب الآخر إزاء البذ في كردوس من رجاله فيقف بهم هناك فيخرج بابك فرقة من جنده تحمي باب السور وتمنع الأعداء منه، فإذا انقضى النهار أمر الأفشين رجاله بالعودة إلى معسكرهم وراء الخندق ويبيتوا هناك، فتضايق الخرمية من هذه المناورات فعزموا على الفتك بهم فراقبوا رجوع كراديس الأفشين من جانب الوادي ذات يوم كالعادة حتى لم يبقَ منهم إلا جعفر الخياط بكردوسه فخرجوا عليه وارتفعت الضجة فرجع جعفر ورد الخرمية بنفسه إلى باب البذ وتصايح الجند حتى بلغت الضجة الأفشين فرأى جعفرًا وأصحابه يقاتلون فخاف أن يفسدوا عليه خططه.

أما جعفر فجاءته نجدة من المتطوعة وهي فرقة تنصر المحاربين رغبة في الغنائم والسبي، فاشتد أزره وهجموا على السور وتعلقوا به وكادوا يصعدونه ويدخلون المدينة فبعث إليه الأفشين يقول: «إنك أفسدت عليَّ تدبيري فتخلص قليلًا قليلًا وخلص أصحابك وانصرف.» ثم تحرَّكت كمناء بابك فاضطر جعفر إلى الرجوع أسفًا لضياع الفرصة.

وبقي المتطوعة بعد ذلك أيامًا يقاتلون وحدهم حتى قلَّت علوفتهم ومئونتهم وهم يتذمرون ويقولون: «لو أنجدنا الأفشين لدخلنا البذ.» وضجَّ سائر الجند وطلبوا أن يبادروا بالقتال فكان يماطل خشية الفشل. أو لعله كان يطاول رغبة منه في جمع المال؛ لأن المعتصم كان قد جعل له على كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ما عدا العدة والمئونة. فجمع من ذلك مالًا كثيرًا كان يرسله إلى أشروسنة.

وكان الأفشين جالسًا ذات يوم في فسطاطه المطل على البذ، فوقع نظره على جماعة من رجاله يقودون رجلًا عليه لباس أهل تلك المنطقة، وما وصلوا به إليه حتى عرف أنه سامان أخو جهان. فأجفل ولكنه توقع أن ينتفع به فصاح بالرجال أن يتركوه، فتقدم سامان مطأطئ الرأس وجثا بين يدي الأفشين فأمره أن يقف وبشَّ له وقال: «من أين أتيت؟»

قال: «من البذ يا سيدي.»

فأشار إليه أن يقعد فقعد متأدبًا. ثم سأله: «ما الذي أدخلك هذه المدينة؟»

فهز رأسه وقال: «أتيت إليها في خدمة مولاي الأفشين.»

قال: «وكيف ذلك؟» قال: «ما زلت منذ تشرفت بلقيا مولاي في سامرا أبحث عن جهان عملًا بأمره حتى علمت أنها عند بابك!»

فدهش الأفشين لقوله وصاح به: «جهان هنا الآن؟ هنا في البذ؟!» قال: «نعم يا سيدي.»

قال: «وما الذي جاء بها إلى هذا البلد البعيد؟»

قال: «أخبرتك يا مولاي أن اللصوص خطفوها مني بقرب همذان، وما زلت أجدُّ في البحث عنها حتى علمت أن بابك هو الذي بعث رجاله لاختطافها؛ لأنه سمع بجمالها، وكان قد خطبها من أبي فردَّه خائبًا وكأنه أقام الكمناء يترقبون خروجها حتى تمكَّن من غرضه.»

فقال: «ثم ماذا؟ ألا تزال هنا؟»

قال: «إن أمر أختي يحيرني، فهي لا تستقر على حال، فبعد أن رفضت نعمة صاحب أشروسنة، رضيت ببعض رجاله. ثم عادت فرضيت ببابك وأصبحت أقرب نسائه إليه وتتفانى في نصرته. وكم نصحت لها أن ترجع عن غيها وحسنت إليها المجيء إلى الأفشين لأنه ولي نعمتها فأبت. فلما رأيتها مصرَّة على عنادها تركتها وجئت إليك.»

قال: «بورك فيك، لكني علمت من بعض الجواسيس أن أعز نساء بابك إليه امرأة اسمها جلنار يقولون إنها حازمة حسنة التدبير، وإنها أعانته وشدَّت أزره كثيرًا.»

فقال: «هي جهان نفسها يا سيدي، وقد غيَّرت اسمها تمويهًا. ووعدت صديقها الجديد أن تنصره على جند المسلمين فهي تتفانى في نصرته، ولولاها لقضي عليه من زمن مديد.»

وكان الأفشين يعلم خبث طوية سامان ولكنه جاراه رغبة في الاستعانة به على أمر لا يصلح له غير الخبثاء، ولم يفته أن سامان يكرهه ولو استطاع قتله لقتله، فعمد إلى المداجاة وهزَّ رأسه وحكَّ ذقنه وأصلح قلنسوته وتحرك في مقعده وقال: «بئس ما كافأتنا به هذه الفتاة على إحساننا فقد أغضبناك لأجلها فعقتنا. وعسى يا سامان أن تكره شيئًا وهو خير لك.»

ثم سكت عن الكلام قليلًا وعاد فقال: «ألم يعلم ضرغام أن جهان هنا؟»

قال: «كلا. ولا هي تعلم بأنه على قيد الحياة.»

فلم يصدق قوله وسأله: «وكيف هذا وضرغام لا يدخر وسعًا في البحث عنها!»

قال: «قد ساعدني على هذا تغيير الأسماء. كن على يقين أنها تؤمن بما قلته لها من أنه قُتل، وهو ما يزال يعتقد أنها خُطفت إلى مكان مجهول. وقد فعلت أنا ذلك حِسْبة لوجه مولاي الأفشين رغم ما قاسيته من إعراضه وحرماني.» قال ذلك ونظر إلى الأفشين وعيناه ترقصان حولًا.

فقال الأفشين: «لقد وثقت الآن بإخلاصك. فإذا زدتني يقينًا بإكمال سعيك كنت من الغانمين.»

قال: «إني طوع الإشارة، سل ما تشاء أبذل نفسي في خدمتك.»

قال: «ذكرت أنك كنت في البذ فما الذي تعرفه عن أهله وحصونه وجنده؟»

قال: «إن المدينة منيعة كما ترى وفيها الجند والأسلحة، والخرمية يتضامنون في أموالهم وأنفسهم، يتفانون في خدمة زعيمهم. ولكنني أرجو أن يُغلبوا على أمرهم.»

قال: «بماذا ترجو ذلك؟»

قال: «أرجوه مما أعلمه من دخائل هذا البلد. فأنا أعرف أن فيها من الأسرى المسلمين وغيرهم عددًا كبيرًا، منهم سبعة آلاف وستمائة من النساء والأطفال، ويُقدَّر عدد الذين قتلهم بابك بنحو ٢٥٥ ألف نفس. وأعرف أن الناس قد ملُّوا سيادته حتى المقيمين ببلده، فإذا تمكن عشرون رجلًا منكم أن يدخلوا المدينة ويراهم الناس فأهلها جميعًا يستسلمون.»

قال: «ما رأيك في الجهة التي نهاجم البلد منها حتى نضمن الدخول إليها؟»

فوقف سامان وأشار بيده إلى جبل في طرف البذ وقال: «من هنا يا سيدي. أرأيت هذا الجبل؟ إن بابك يقيم الكمناء في سفحه لعلمه أن العدو إذا تجاوزه سهل عليه دخول المدينة، فإذا احتال مولاي في الإتيان من ورائه ظفر.»

فسر الأفشين من قدوم سامان، وهمَّ بأن يستزيده إيضاحًا، فإذا بالحاجب دخل يقول: «إن بريد أمير المؤمنين بالباب.» قال: «يدخل.»

فدخل البريدي وعلى وجهه أمارات السفر والتعب وعلى صدره صفيحة البريد النحاسية وعليها علامة خاصة. ووقف فناداه الأفشين: «تقدم. ما وراءك؟»

فتقدم البريدي ودفع إليه لفافة حريرية عليها خاتم الخلافة، فتناولها وقبَّلها ثم فضَّ خاتمها فإذا داخلها أنبوبة من فضة مختومة ففتحها وأخرج منها كاغدًا ملفوفًا نشره وأخذ يقرأه وسامان يراعي حركاته وملامح وجهه فرآها تغيرت، حتى إذا فرغ من تلاوته أشار إلى البريدي فانصرف، والْتفت إلى سامان وابتسم ليزيده استئناسًا وترغيبًا في خدمته، وكان سامان واقفًا فأمره بالجلوس وقال: «أتعلم ما في هذا الكتاب؟»

قال: «من أين لي علم الغيب؟»

قال: «إنه كتاب المعتصم يحثني فيه على الثبات، ويبشرني بأنه أرسل إليَّ نجدة بقيادة صاحبه ضرغام.»

فقال سامان: «أترى صاحب أشروسنة في حاجة إلى النجدة وهو الملك والقائد، وجنده يملأ السهل والجبل؟»

قال: «كلا. وأمير المؤمنين يعلم ذلك. وأخشى أن يكون الرجل قادم لغير الحرب. أخشى أن يكون قد عرف أمر جهان … وسواء أعلى علمٍ أم لم يعلم فجهان لا يمسها أحد سواي، إن لم يكن حبًّا لها وافتتانًا بها فانتقامًا من كبريائها وقحتها. إني لا أنسى ذلك اليوم في فرغانة.»

فقال سامان: «أما ضرغام فلا شك أنه لم يعلم بأن أختي هنا، بل هو لا يعتقد أنها على قيد الحياة. وقد يكون كره الحياة بعدها لكلفه بها فأتى إلى ساحة القتال رغبة في الموت، فإني أرى في الناس جنونًا لم أجربه؛ أراهم إذا أحبَّ أحدهم فَعَل فِعْل المجانين حتى يجازف بحياته غرامًا بحبيبه وإذا توفى الله أحدهم أراد الآخر أن يتبعه.»

فضحك الأفشين حتى بانت نواجذه وقال: «إن كان قد جاء يطلب الموت فأهلًا به ومرحبًا. له علينا ذلك حبًّا وكرامة. أما ما تراه من جنون المحبين وهيامهم فأنت معذور لأنك أجرود لا تشعر شعورهم.» ثم أطرق هنيهة وقال: «إذا هجمنا غدًا على البلد ودخلناه فأين تكون أختك؟»

فوقف سامان والْتفت إلى البذ وأشار بيده وقال: «أرأيت هذا القصر الفخم عند الباب الشرقي؟ هذا قصر النساء وبه تقيم جهان. ومن أراد الوصول إليه حالًا فليأته من ذلك الباب.» ثم أشار بيده إلى قصر في الغرب وقال: «وهذا القصر عند الباب الغربي قصر بابك نفسه، وهو أمنع القصور ولا يهاجمه أحد إلا قُتل. فاختر لنفسك.»

وتحرك الأفشين في مقعده، فنهض سامان واستأذن. فقال له الأفشين: «تمكث عندنا لنستأنس بك ولا تخرج من هذا المعسكر إلا للضرورة.»

ففهم سامان قصده فقال: «أحب أن أكون أسيرًا عندك حتى تتحقق من إخلاصي وأتقدم إليك أن تبقي خبري مكتومًا عن ضرغام وغيره وإلا فسد تدبيرنا.»

فأشار الأفشين برأسه موافقًا، ثم نادى غلامه وأمره أن يكرم سامان ويحتفظ به، فخرج سامان من حضرته وقد سرَّه أن الأفشين أحسن لُقْيَاه ووعده بإرث أبيه انتقامًا من أخته. واستبشر بقرب الانتقام من أخته متى جاء ضرغام فيكيد له ويسعى في هلاكه. ونسي أنه كان ناقمًا على الأفشين وقد استعان بضرغام عليه وأن أخته صاحبة الفضل الأكبر عليه. ولكنه يجري في أعماله على هوى منافعه فهو لا يغضب من الأفشين لأنه تعدى حدود الوصاية أو لأنه أراد السوء لأخته، وإنما أبغضه لأنه حرمه من الإرث. ولم يحب ضرغامًا لشهامته وأريحيته أو نسبه وإنما أظهر حبه له ليستعين به في نيل مرامه. ثم إنه لم ينقلب هذا الانقلاب في الحالين إلا جريًا وراء ما يفيده فلم يكن له قلب يحب ولا وجه يخجل. ولكنه ملتفت بكل جوارحه إلى حب المال، وزاده حبًّا فيه يأسه من احترام الناس له لسجاياه أو مناقبه فأراد أن يكسب احترامهم بالمال ظنًّا منه أنه متى صار غنيًّا احترموه وأجلُّوا قدره. وسيان عنده أحبوه أم أبغضوه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤