الفصل التاسع عشر

مصرع بابك

كان الأفشين قد أحسن إعداد الهجوم حتى فتح البذ وقتل الخرمية على بكرة أبيهم وأخذ أولاد بابك وعياله، إلا جهان وهيلانة؛ لأنهما كانتا غائبتين وبعد أن أحرق المدينة وتحقق فرار بابك عاد إلى معسكره في «روذ الروذ» وقد ساءه أنه لم يظفر بجهان ولا علم مكانها. فارتاب في أقوال سامان، وخطر بباله أنه فرَّ بها.

وكان بين الأسرى كثيرون من العرب والفرس وأبناء الدهاقين، فأمر بهم فجُعلوا في حظيرة كبيرة وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم فكان كل من جاء وعرف امرأة أو صبيًّا أو جارية وأشهد شاهدين أخذه. فأخذ الناس منهم خلقًا كثيرًا.

وكتب الأفشين إلى ملوك أرمينيا وبطارقتهم بأن بابك هرب، وأمرهم بحفظ نواحيهم ومراقبة طرقه، وندم على تفريطه في ضرغام وهو يظنه قُتل لأن بعض الفراغنة الذين كانوا معه أخبروه أنه أُخذ أسيرًا أو مات؛ لأنهم رأوه محمولًا بين حيٍّ وميت ولم يجدوه بين القتلى.

وفي اليوم التالي عاد ضرغام مع وردان إلى معسكر المسلمين فرحَّب به الأفشين وهنأه بالسلامة وأطرى ما سمعه عن بسالته ليلة الهجوم وبالغ في الإطراء حتى يبعد عنه مظنة السوء. اختصه بالشورى في الشئون الهامة وأهمها يومئذ فرار بابك. وأخبره بما فعله في سبيل القبض عليه.

فقال ضرغام: «إن خادمي وردان أرمني الأصل والوطن، وهو يعرف هذه البلاد فاستخدمه لهذا الغرض. وإذا شئت أتيتك به الساعة.»

قال: «افعل.» فنادى غلامًا أمره أن يستقدم وردان، وكان خارج الفسطاط، فلما دخل حيَّا ووقف فقال له الأفشين: «أتعرف طرق أرمينيا ومسالكها يا وردان؟»

قال: «نعم يا سيدي.»

قال: «أين تظن الخرمي يختبئ وإلى من يلتجئ؟»

قال: «لا أظنه يلتجئ إلى بلد؛ لأن أهل أرمينيا يكرهونه ويريدون قتله، ولكنني أحسبه يختبئ في بعض الغابات أو الأودية وأشهرها الوادي الأكبر المسمى الغيضة، وهو كثير العشب والشجر بين أذربيجان وأرمينيا لا يمكن الخيل نزوله، ولا يُرى من يختفي فيه لكثرة شجره.»

فاستفاد الأفشين من هذه المعلومات، وبعث جواسيسه للبحث في تلك الغيضة فعادوا إليه وأكدوا له اختباء بابك هناك. وكان الأفشين قد بعث إلى المعتصم ليستكتبه كتابَ أمان لبابك. فلما جاء كتاب الأمان دعا الأفشين بعض الذين أمَّنهم من أصحاب بابك وأعلمهم بذلك وأمرهم أن يسيروا إليه بالكتاب وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفًا منه، فقال: «إنه يفرح بهذا الأمان.» فقالوا: «نحن أعرف به منك.» فقام رجلان فقالا: «اضمن لنا رزق عيالنا إذا هلكنا ونحن نذهب إليه.» فضمن لهما ذلك، فسارا بالكتاب حتى أتياه وأعلماه بما قدما فيه، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين. وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابًا فقال لذلك الرجل: «أبلغ ابن الفاعلة أنه لو كان ابني لَلَحِقَ بي، ولكنه ليس ابني، ولأن تعيش يومًا واحدًا رئيسًا خيرٌ من أن تعيش أربعين سنة عبدًا ذليلًا.» وقعد في موضعه. فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده وخرج من بعض تلك الطرق، ومعه بعض رجاله، فلم يجد أحدًا من الجند الذين أرسلهم الأفشين لمحاصرته، وظن بابك أن القوم يئسوا من القبض عليه فرحلوا. فسار هو وعبد الله أخوه، وأمه وامرأة أخرى، يريدون أرمينيا، فرآهم بعض الحراس فأرسلوا إلى الجند المكلف بتعقبه. وكان أبو الساج هو المقدم عليهم، فلحق بهم وقد نزلوا على ماء يتغذون. فلما رأى بابك العساكر ركب هو ومن معه فنجا وأخذ أبو الساج أمَّ بابك والمرأة الأخرى فأرسلهما إلى الأفشين، وسار بابك في جبال أرمينيا مستخفيًا، وكان بطارقة أرمينيا يراقبون سبله فاحتال بعضهم حتى خدعه وأدخله حصنه، وأرسل إلى الأفشين يعلمه بذلك، فبعث الأفشين يعده ويمنِّيه وهو يأبى الاستسلام. ثم احتال صاحب الحصن عليه حتى أخرجه بحجة الصيد وأنبأ الأفشين بخروجه فتمكنوا من القبض عليه ومعه أخوه عبد الله وحملوهما إلى الأفشين.

فلما قرب بابك من المعسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصفَّ عسكره صفين، وأمر بإنزال بابك من فوق دابته فنزل ومشى بين الصفين، فأدخله بيتًا في برزند، ووكل به من يحفظه، وأنعم على الذين أسلموه، وكتب إلى المعتصم بذلك. فأمره بالقدوم إليه به وبأخيه، فانتقل بهما في جنده وحاشيته من بزرند إلى سامرا (سنة ٦٢٣ﻫ). وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم رسولًا يحمل إليه خلعة وفرسًا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم. وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن دؤاد متنكرًا، فنظر إلى بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه أيضًا متنكرًا فرآه. فلما كان الغد قعد المعتصم واصطفَّ الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة. فقال محمد بن عبد الملك الزيات:

قد خضب الفيل كعادته
يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه
إلا لذي شأن من الشان

ثم أدخل بابك دار المعتصم، فأمر بإحضار سيَّاف بابك فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما، فسقط فأمره بذبحه ففعل. وشقَّ بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا. وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل هو بأخيه بابك ففعل وضرب عنقه وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين. وكان ذلك آخر عهد الخرمية.

وكان ضرغام ووردان في جملة الذين رجعوا مع حملة الأفشين وشاهدا قتل بابك فاشتفيا بقتله، وودَّ ضرغام لو أنه قتله بيده في المعركة. وحال وصولهم إلى سامرا سار ضرغام إلى منزله وقبَّل يد أمِّه وسلَّم على ياقوتة وبشَّرها بلقاء حماد، فلم تعد تعرف كيف تشكره. ثم أخبر أمه بطرف من خبر جهان وبأنها ذهبت إلى بلاد الروم وأن حمادًا أبى إلا أن يبحث عنها بنفسه. قال ذلك وياقوتة حاضرة، ونظر إليها وابتسم وقال: «أظن هذا الخبر يسوءك. ولكنه أبى إلا الذهاب.»

فتورَّدت وجنتاها خجلًا وأطرقت وقالت: «مهما نفعل فإننا لا نفي ببعض فضلك، فقد أنقذتني من القتل والعار وكفلتني.»

فقطع كلامها قائلًا: «لم أقم إلا ببعض ما وجب طبقًا لإشارة أمير المؤمنين فنحن عبيده وعلينا طاعته.»

ورأى ضرغام في وجه ياقوتة تغيرًا وفي عينيها ارتباكًا كأنها تهم بشيء يمنعها الحياء من ذكره فسألها عما بها فقالت: «أذكرني تفانيك في نصرة أمير المؤمنين شيئًا لحظته خلال إقامتي ببيت الحارث السمرقندي، وأخشى منه على حياة أمير المؤمنين. فقد فهمت أن هناك قومًا يتآمرون على حياته.»

فلم يشأ ضرغام أن يعير الأمر اهتمامًا فقال: «إننا لا نحفل بما يكيده بعض الخونة لأمير المؤمنين فمعظم ما يأتمرون به لا يترك أثرًا، وسببه على الغالب جهل بعض أهل الخليفة الأقربين فيزين لهم ذوو المطامع من الوزراء أو القواد أن يسعوا إلى الخلافة ليستفيدوا هم من انتقالها من يدٍ إلى يد، وهذا العباس ابن المأمون قد حسَّنَ له بعضهم أن يطالب بالخلافة لنفسه ولا ينالها إلا إذا قُتل المعتصم، فهم يتآمرون ويتواطئون على قتله ولكنهم لا يفلحون، وسيردُّ كيدهم إلى نحورهم.»

فلما سمعته أمه أشرق وجهها وابتسمت وقالت: «بورك فيك يا بني، هكذا الأمانة، وهكذا الرجال.»

ثم لبس سواده وذهب للسلام على المعتصم وعنده الأفشين وغيره من كبار القواد، فلما دخل عليه هشَّ له وقال: «مرحبًا بالصاحب البطل الهمام. بلغنا ما كان من بلائك في الأعداء وما أبديته من البسالة والهمة بورك فيك. ألا تزال ترى لقب الصاحب كثيرًا عليك؟» وأشار إليه بالجلوس قريبًا منه.

فأطرق خجلًا وقال: «إن العبد لا يستأهل أجرًا إذا قام بخدمة مولاه، ويكفيه رضاه عنه.»

فالْتفت الخليفة إلى الأفشين فقال هذا: «يندر يا أمير المؤمنين أن نرى مثل الصاحب في الشجاعة وصدق الخدمة.» وأخذ يطري أعماله يريد أن يمحو ما يخشى أن يكون قد خامره من إساءة الظن به. وعاد الخليفة نفسه إلى الثناء عليه، وأمر له بالهدايا والخلع. ولما انفض المجلس عاد ضرغام إلى منزله وعادت إليه هواجسه في شأن جهان. ولبث في انتظار ما يأتيه من حماد، فكان يقضي أكثر أيامه مع وردان يتحادثان فيما عسى أن يكون من أمر جهان وهيلانة.

وشاع في هذه السنة في سامرا أن «تيوفيل» ملك الروم خرج إلى بلاد الإسلام. وسمع بذلك ضرغام. فأرسل إلى صديقه وردان فجاء، فأخذا في تقليب الرأي فيما هو حادث وما قد يحدث، فقال له وردان: «إني أرى فتح البذ سبب خروج الروم لقتال المسلمين، فقد أنبأني بعضهم أن بابك لما ضيَّق عليه الأفشين وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم بأن جنود المسلمين مشغولون به، فالفرصة سانحة أمامه لاكتساح مملكة الإسلام، وربما كان لجهان يد في هذا التوجيه.»

قال: «تحدثني نفسي أنها مع هيلانة هناك.»

قال: «لو كانتا هناك لجاءنا الخبر من حماد، فإنه يبحث عنهما حيث يكون ملك الروم. ولا بد من الصبر.»

قضى ضرغام في ذلك أيامًا على مثل الجمر حتى جاءه وردان ذات يوم مهرولًا، وأومأ إليه أن يتبعه، فتبعه حتى انفردا في بعض جوانب الحديقة، ثم دفع إليه أسطوانة ملفوفة بمنديل من الحرير فحلَّ المنديل وفتح الأسطوانة، فرأى فيها كتابًا من الكاغد قرأ في صدره اسم حماد فخفق قلبه، وأخذ يتلوه وهذا نصه.

من حماد في عمورية إلى الصاحب ضرغام في سامرا

لقد طال سكوتي عليك، وأظنك مللت الانتظار، ولكني مُكرَه على هذا؛ فإني قضيت أشهرًا أبحث على غير هدى إلى أن بلغني أن تيوفيل ملك الروم قادم على «زبطرا»، فهممت بأن ألقاه هناك لعلي أجد ضالتنا، فما كدت أبلغ البلد حتى علمت أن الروم اكتسحوه وخربوه وسبوا النساء والأطفال. ثم أغاروا على «ملطية» وغيرها من حصون المسلمين وسبوا المسلمات ومثَّلوا بمن أخذوا من المسلمين؛ فسملوا أعينهم وقطعوا أنوفهم وآذانهم، وقد شاهدت بعض أولئك المجدوعين ورأيت الناس قد خرجوا من بلادهم في الشام والجزيرة فرارًا من وجه الروم إلا من لم يكن له سلاح أو دابة. فلما رأيت ذلك عدلت عن الذهاب إلى «زبطرا» وتذكرت أن «ناطس» بطريق عمورية كان قد زار البذ في عهد بابك وعرف جهان. ولعها ذهبت إليه. وقد صدق حدسي؛ لأني علمت عندما دخلت عمورية أن جهان وهيلانة جاءتا رأسًا من البذ للسعي في حمل البطريق ناطس على أن يتوسط لدى ملك الروم في نجدة بابك، فأنزلهما ناطس في قصره ووعدهما خيرًا، ثم جاء الخبر بسقوط البذ وقتل بابك، فلم يبقَ لهما مأرب في أرمينيا كلها فبقيتا في عمورية. وقد حرص عليهما هذا البطريق حرصًا شديدًا ولا سيما جهان، وضيَّق عليهما فلا يسمح لهما بالخروج. ولعل جهان رضيت بالأسر عن طيب خاطر؛ إذ يئست من لقائك. وقد حاولت الاتصال بها لأطلعها على حالك وأبشرها بقرب لقائك فلم يتيسر لي؛ لأن القوم هنا شديدو الحذر من المسلمين، وإذا أساءوا الظن بأحد منهم قتلوه ومثَّلوا به كما فعلوا بأهل «زبطرة». فجهان وهيلانة مسجونتان الآن في قصر «ناطس» بطريق عمورية، وسأبذل جهدي في إبلاغ خبرك إليهما وإن كنت لا أتوقع نجاحًا عاجلًا.

وقد علمت أن الروم ينوون اكتساح مملكة الإسلام، فالذي أراه أن يسبقهم المسلمون ويكتسحوا بلادهم، وهذه عمورية التي تُعدُّ أمنع حصونهم لا أراها تمتنع على المسلمين لعلمي بمواضع الضعف في أسوارها، ولا أخالك بعد كتابي هذا إلا محرضًا صاحبك على فتحها، فإذا فعلت فاجعل رايتك قطعتين مستطيلتين حتى أعرفها إذا نزل معسكركم أمام عمورية وأعرف مكانك والسلام.

وما فرغ ضرغام من قراءة الكتاب حتى تصبب العرق من جبينه وهاجت أشجانه وثارت عواطفه، ودفع الكتاب إلى وردان فقرأه وقال: «أرى أن قد تحتم المبادرة إلى العمل، ولا بد من ذهابي إلى عمورية.»

قال: «لا فائدة من ذهابك؛ فإن المرأتين في إطار أضيق مما قرأته في هذا الكتاب، وقد أراد صديقنا حماد تخفيف الخبر. ألم تقرأ قوله: «إن ناطس حرص عليهما حرصًا شديدًا ولا سيما جهان»، إنه يعني أن هذا البطريق أحبَّ جهان فاستبقاها لنفسه، فلا تجدي الحيلة في إنقاذها منه ولا بد من القوة. وقد أشار حماد إلى ذلك تلميحًا في أواخر كتابه.»

فقال وردان: «إذا كان لا بد من الحرب فلا يثيرها سواك بما لك من المنزلة عند الخليفة.» فنهض ضرغام لساعته تاركًا وردان في مكانه ومضى إلى داره فلبس سواده والقلنسوة وخرج يقصد دار الخليفة فاستأذن فقال له الحاجب: «إن أمير المؤمنين في خلوة مع القاضي أحمد.» فقال: «استأذن لي أيضًا.»

فلما أذن له دخل وسلَّم، فرأى القاضي أحمد جالسًا بجانب سرير المعتصم والاهتمام بادٍ في وجهيهما. فلما دخل ضرغام رحَّب به الخليفة قائلًا: «جاءنا الصاحب في إبان الحاجة إليه فقد كنت عازمًا على دعوتك.» وأشار إليه بالجلوس.

فجلس وقال: «إن نفسي حدثتني بأن هناك ما يدعو إلى مجيئي؛ لأني لا أفتأ أفكر في مولاي، أشاركه آماله فتتلاقى خواطرنا.»

فقال القاضي: «بلغني رضاء أمير المؤمنين بما أبديته من البسالة في فتح البذ، وقد سرَّني صدق توسمي فيك، فأصبحت ذا منزلة لدى مولانا يُعول على رأيك وسيفك.»

فأطرق ضرغام تأدبًا ولم يجب. فأتمَّ الخليفة الحديث قائلًا: «جاءنا البريد من بلاد الروم بأن تيوفيل اللعين نزل «زبطرا» و«ملطية» وأساء إلى أهلهما وارتكب فيهما كل قبيح مما لم يألف المسلمون مثله.» فقال ضرغام: «هل يطلب أمير المؤمنين رأيي؟» قال: «نعم.»

قال: «لا أرى لي غير السيف كما عوَّدهم الرشيد من قبل. فأحمل عليهم ودوخهم واكتسح بلادهم. إن الإسلام لا يصبر على ما فعله تيوفيل من سمل العيون وجدع الأنوف وسبي النساء. جرِّد يا أمير المؤمنين جندك فيعودون من ظفر إلى ظفر آخر وأنا عبدك أول المتطوعين في هذه الحرب. وإذا صبر أمير المؤمنين على سمل عيون المسلمين فلا أخاله يصبر على سبي المسلمات!» وكان ضرغام يتكلم وعيناه تقدحان شررًا وشفتاه ترتجفان، وأحسَّ أنه بالغ في الجرأة بين يدي الخليفة، ولكنه لم ينتبه إلا بعد أن فرغ من كلامه. ورفع بصره إلى المعتصم فرآه وقد تغيَّر وأبرقت عيناه وخالطهما احمرار من الغضب. واضطرب في مجلسه وثبت بصره في ضرغام وهو يتكلم فهاجت حماسته وأصبح كالأسد في بطشه وسلطانه. فخاف ضرغام أن يكون قد أغضب المعتصم بجرأته، فأراد أن يستأنف الكلام للاعتذار فقطع القاضي أحمد كلامه قائلًا: «لقد نبهت حمية أمير المؤمنين إلى مصلحة المسلمين وما هو بغافل عنها، وإنه ليسره أن يرى ذلك في رجاله وأبطاله.»

فقال المعتصم: «إن الصاحب تكلَّم بلساني وعبَّر عن جناني. وسآمر الأفشين والقواد الآخرين بالتأهب لحرب بعد أن أستخير الله فيها. إنها جهاد في سبيل الإسلام.» ثم قال: «موعدنا غدًا إن شاء الله.» فانصرف القاضي وضرغام.

مشى ضرغام إلى منزله وقد هاجت عواطفه، وكان وردان في انتظاره فقصَّ عليه ما جرى فسرَّه الأمر ولكنه خاف أن تئول تلك الاستخارة إلى العدول عن القتال. وفي الصباح التالي جاء غلام الخليفة مبكرًا في طلب الصاحب. فمضى حتى دخل على الخليفة، فرآه في بهوٍ خاصٍّ لا يجلس فيه للناس وهو بثوب النوم وقد الْتفَّ بمطرف. وآنس في وجهه انقباضًا. فأوجس خيفة ولكن المعتصم أمره بالجلوس، فجلس فقال له الخليفة: «أتدري لماذا دعوتك وأدخلتك عليَّ وأنا في هذه الحال؟» قال: «كلا يا مولاي.»

قال: «نهضت من فراشي منذ هنيهة بعد أن استيقظت منزعجًا مضطربًا.» قال: «خيرًا إن شاء الله.»

قال: «صلَّيت العشاء أمس وتوسلت إلى الله أن يلهمني ما فيه خير المسلمين من أمر الروم، ثم نمت فرأيت في رؤياي ما أطار صوابي وأذهب رشدي.»

فظل ضرغام مصغيًا يتطاول بعنقه. فمسح المعتصم لحيته وشاربيه وأصلح عمامته الصغيرة على رأسه وقال: «قلت إني رأيت، والحقيقة أني لم أرَ شيئًا، ولكني سمعت صوتًا اخترق أعماق قلبي. سمعت امرأة هاشمية أسيرة في بلاد الروم تصيح: «وا معتصماه!» فأجبتها: «لبيك»، واستيقظت وقد علمت أن الله يأمرني بالجهاد وأن أكون على رأس المجاهدين، فخذ أهبتك للسفر وسآمر قوادي يتأهبوا. هل أثق بجندي؟»

فتذكر ضرغام ما كان يبديه من الارتياب في إخلاص الأفشين فقال: «لا سبيل إلى تحقق ذلك، وقد علم أمير المؤمنين أنهم إنما يحاربون في سبيل حطام الدنيا، وقد فتحوا البذ وقضوا على الخرمية وسيفعلون ذلك بالروم.»

فقال المعتصم: «يُخيل إليَّ أنهم لولا ذهابك لم يفتحوه إلا بعد أعوام.»

فخجل من الإطراء وقال: «إذا كان لأمير المؤمنين ثقة بعبده فليجعلني في هذه الحملة ولا يخشى غدرًا بإذن الله.»

قال: «وما رأيك في البلد الذي نقصده من بلاد الروم؟»

قال: «إن الصوت الذي سمعته يا أمير المؤمنين خرج من عمورية وهي من أكبر مدائن الروم وعين النصرانية، وفي فتحها نفع للمسلمين.»

قال: «أحسنت.» وتحفَّز للنهوض، فخرج ضرغام مسرعًا إلى وردان يبشره وأخذ في الاستعداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤