الفصل الثالث

كتاب ضرغام

قالت القهرمانة لجهان: «كيف رأيت كلامي يا سيدتي؟»

قالت: «لا بدع إذا أطريتني وأعجبت بي فإني بمنزلة ابنتك وكل أم بابنتها معجبة حتى تظن الملوك يقتتلون عليها.»

فقالت: «إني لم أقل ما قلته إلا واثقة من صحته، وهل هناك شكٌّ في أن أعظم ملوك الفرس يطلبون رضاك؟!»

فهزَّت جهان كتفيها مفكرة مستبعدة وقالت: «ملوك الفرس؟ وهل للفرس ملوك اليوم؟» فاستبشرت القهرمانة بقرب إقناعها بعلو مرتبتها؛ لأنها على ثقة مما تقول فقالت: «لا تهزي كتفيك يا سيدتي. إن للفرس ملوكًا عظامًا لا يلبثون أن يعيدوا سلطان الأكاسرة. ألا تعرفين مازيار صاحب طبرستان؟ ألا تعرفين بابك الخرمي صاحب أردبيل؟ إن كلًّا من هذين ملك عظيم تخضع له الألوف من الأبطال، ولكنه في الوقت نفسه يخضع لعروس فرغانة، ويضحي بحياته في سبيل رضاها.»

فهزَّت جهان رأسها مستخفة وقالت وهي تنظر إلى جوادها الأدهم سارحًا يرعى العشب: «دعينا من الملوك، لا أرب لنا في غير ضرغام. وما لنا وبابك ومازيار وأين نحن من أردبيل وطبرستان؟»

قالت: «إذا كنتِ في شكٍّ من قولي فاسألي أخاك سامان عن بابك الخرمي.»

قالت وقد تذكرت: «أظنني سمعته يطري صاحب هذا الاسم، ولكنني لا أثق بأقواله كلها كما تعلمين، ولم أكترث للأمر؛ لأن ضرغامًا ليس مثله أحد عندي ولا رغبة لي في الملوك والأمراء.»

فقالت: «إذا كنت تستبعدين تلك البلاد فهذا الأفشين صاحب أشروسنة على مقربة منا، وهو الآن قائد جند المسلمين كافة في بغداد، وعما قليل يأتي لزيارة أبيك؛ لأن سيدي كتب إليه منذ أشهر يدعوه إلى زيارته في عيد النيروز.»

وكانت جهان حتى الساعة لا تبالي ما تقوله خيزران، فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وتغيَّر وجهها وانقبضت نفسها، وصدَّت خيزران عن الكلام بكفها كأنها تقول: «كفي لا تذكري هذا الاسم!»

وأرادت هذه أن تستأنف الحديث فصاحت بها جهان قائلة: «دعيني من ذكر هذا الرجل؛ إني لا أتحمل سماع اسمه! إنه سبب كدري الذي زعمت أنك عرفته؛ فإن نفسي انقبضت منذ سمعت بقرب قدومه إلى فرغانة وأنه سيقضي بعض أيام عيد النيروز عندنا، ولو أني استطعت أن أقضي العيد في مكان بعيد لفعلت.»

فاستغربت خيزران كرهها للأفشين وقالت: «وهل أساء إليك الأفشين في شيء؟»

قالت: «ما أساء إليَّ ولا كلَّمني كلمة، ولكنني منذ رأيته يأتي لزيارة أبي ونفسي تعافه وتنكر النظر إليه. ولا أذكر أن شعوري خانني في الحكم على الناس!»

فقالت القهرمانة: «يا للعجب! ألا تعلمين أن الأفشين رئيس ضرغام، وإن غاية ما يبلغه ضرغام من التقدم في جند المسلمين أن يصير قائدًا من قواد الأفشين وتحت رايته.»

فقالت بترفع وهدوء: «كلا يا أماه، إنه لا يعمل تحت رايته بل هو رئيس حرس الخليفة.»

قالت وقد ظهر الاستغراب في محياها: «وهل أنت على يقين مما تقولين؟!»

فنظرت إليها وابتسمت وقالت: «نعم، أنا من ذلك على يقين أصح من يقينك برغبة الملوك في طلبي!» ومدَّت يدها إلى جيبها وقالت: «وقد جاءني كتابه منذ بضعة أشهر يخبرني بذلك وينبئني بقرب قدومه إلى فرغانة، ولكنه إلى الآن لم يأتِ.» وأخرجت الكتاب ودفعته إليها لتقرأه وهو مكتوب بالبهلوية، فقرأت فيه:

من ضرغام في سامرا إلى حبيبة قلبه جهان في فرغانة

يا سيدتي، ولا أزال أدعوك سيدتي لأنك سيدة العالمين؛ وأنت أيضًا حبيبتي لأنك ملكت قلبي وكل جوارحي. تركت فرغانة منذ بضع سنوات ولم أكتب إليك حتى الآن؛ لأني لم أكن أهلًا لمخاطبتك، وكيف يتجاسر ضرغام الفقير اليتيم أن يخاطب جهان بنت المرزبان صاحبة السيادة مالكة الأموال والرقاب! وقد وعدتك يوم الوداع أن أبذل جهدي في طلب العلا، فإذا بلغت درجة تقربني من مقامك أتيت إليك والْتمست رضاك وإلا فإني أموت في سبيل طلبك. وقد انتظمت في الجندية وخضت المعامع باسمك واستقبلت النبال بصدري وهو فيه فوقاني من الأذى. ولما ارتقيت في مراتب الجند حتى صرت رئيس الحرس في قصر الخليفة بادرت إلى زفِّ البشرى إليك، وكأنك تسألينني عن عاقبة ذلك التقدم فإنه إن لم يكن لأكتسب به رضاك فلا مأرب لي فيه؛ لأني لا أرى للحياة قيمة إن لم تكن لك ومعك. وقد أخذت أسعى في الشخوص إلى فرغانة لأقبِّل يد سيدي المرزبان وأحظى بمشاهدة حبيبتي جهان، ولولا بعض المشكلات التي نخاف عواقبها على الخلافة لجئت إليك منذ أشهر، على أني ظفرت الآن بوسيلة تساعدني على الرحيل؛ ذلك أن أمير المؤمنين بنى سامرا بالقرب من بغداد كما تعلمين لتكون خاصة به ليجعل فيها جنده الأتراك وأنا واحد منهم، وقد أراد أن ينتصر بهم على الأحزاب المختلفة التي نشأت في المملكة الإسلامية من الفرس وغيرهم، وخشي على هؤلاء الجنود إذا اختلطوا بسكان المدن المجاورة أن تذهب شِدَّتهم ونخوتهم؛ فارتأى أن يزوجهم جواري تركيات من وراء النهر، وعيَّن أناسًا يرسل بهم إلى ما وراء فرغانة يبتاعون الجواري والإماء ويعودون بهن. وقد أعربت له عن رغبتي في زيارة وطني وطلبت السماح لي بمصاحبة ذلك الوفد، فوعدني الخليفة بتحقيق هذه الرغبة. فعسى أن آتيك قريبًا. وقد عهدت في توصيل كتابي هذا إلى رجل من خاصتي. أمي تهديك السلام.

فلما فرغت القهرمانة من تلاوة الكتاب همَّت بجهان وضمَّتها إلى صدرها وقبَّلتها وهي تقول: «بُورك فيك وفيه، إنه أهل لك. صدقت؛ إن الرجل بأعماله لا بماله، وإذا كان قد أصبح رئيس الحرس بجده وبسالته فكيف بعد أعوام والدولة الإسلامية لا تزال حروبها قائمة ومثل ضرغام لا يعدم وسيلة للارتقاء!»

فسرَّت جهان لموافقة القهرمانة على ما في ذهنها لكنها ما لبثت أن استدركت وقالت: «إن هذا الكتاب جاءني منذ عدة أشهر ولم يأتِ ضرغام ولا عرفت شيئًا عنه.»

قالت: «لا تجزعي إنه آتٍ. ولكن …» وأطرقت كأنها تفكر في أمر طرأ لها. فقالت جهان: «ولكن ماذا؟ قولي يا أماه!»

قالت: «ولكن أباك قد لا يرضى بضرغام.»

قالت: «لم أخاطبه في شأنه بعد، ولكنني أعلم أنه يحبه ويجله. كما أنه لم يمنعني أمرًا أردته قط.»

قالت: «أعلم أن سيدي المرزبان يحب ضرغامًا ويجلُّه، ولكن هناك أمرًا آخر هل فكَّرت فيه؟»

قالت: «وما هو؟»

قالت: «إن ضرغامًا مسلم على ما أعلم، فكيف يصح زواجه بك إلا إذا اعتنقت الإسلام.»

فقالت: «وما يمنعني من ذلك، والإسلام دين الدولة؟!»

فقالت: «وتتركين ديانة أبيك وعشيرتك؟!»

قالت: «إذا كانت هذه الديانة تحول بيني وبين ضرغام فإني أتركها؛ لأني أحب أن أكون حيث يكون هو في الدنيا والآخرة.» قالت ذلك واغرورقت عيناها وهي تبتسم.

وأحست القهرمانة أن الحديث طال وتحرَّج، فأحبَّت أن تشغل عنه جهان فنهضت وقالت: «مضى قسم من النهار ولم تباشري الصيد، فاركبي فرسك وأنا أتبعك وألهو بما أشاهده من مهارتك في مطاردة الغزلان.»

•••

أشارت جهان إلى السائس أن يأتي بالجواد والقوس والنبال، ثم نظرت إلى الجبال أمامها لتختار جهة تركب إليها، فبصرت بوعل يركض على صخر قريب منها، ولم تكن تعهد وجود الوعول في تلك الجهة فبغتت وصاحت بالسائس: «فيروز، هات القوس.»

فأسرع إليها بالقوس فأوترتها وسدَّدت السهم، وأسرَّت أنها إذا أصابت طريدتها كان ذلك فألًا بنيلها ضرغام وقرب مجيئه وإلا فلا. ونظرت إلى الوعل فرأته وقفًا على تلك الصخرة والْتفت نحوهم فرمته بأسرع من لمح البصر وسمعت طنين النبل في الهواء وخيزران تنظر إلى الوعل وتخاف أن يفرَّ قبل إطلاق السهم فما لبثت أن رأته سقط ثم انقلب إلى شق بين صخرين فصاحت جهان: «وقع وقع … إليَّ به يا مرجان.» فركض ورفيقه والسائس في أثرهما، وظلَّت جهان واقفة وقلبها يكاد يطير من الفرح، ثم تقدَّمت خيزران إليها وهي تضحك وتقول: «لقد سرَّني رمي هذا الوعل، ليس لأنك أصبته فقط ولكنني قبل أن ترميه أضمرت أن يكون فوزك في صيدك هذا رمزًا إلى فوزك بضرغام.»

فابتسمت جهان وقالت: «وهذا ضميري أيضًا … أتقولين بعد ذلك إن ضرغامًا يليق بي؟»

قالت: «بسطت لك رأيي وأنا الآن أكثر رغبة فيه.» وضحكت تمازحها.

فانبسطت نفس جهان وسُري عنها بعد مكاشفة خيزران. ثم سمعت صياحًا فالْتفتت فرأت الرجال يجرُّون الوعل جرًّا لثقله فأسرعت إليهم فرأت الوعل ميتًا لا حراك به. فتعجبت من سرعة مصرعه بسهم واحد. فلما وصلت إليه رأت سهمها لا يزال مغروسًا في خاصرته ولاحت منها الْتفاتة فرأت سهمًا آخر في ليته فصاحت: «إنه مُصاب بسهمين وأنا لم أطلق إلا سهمًا واحدًا. هو ذا السهم الآخر!»

وأمرت مرجان أن يستخرجه فأخرجه بعد عنف شديد وهو يقول: «إن الوعل مات بهذا السهم.» ودفعه إلى جهان فتناولته وقلَّبته بين أناملها فرأت على ريشه كتابة بالعربية وكانت تحسن قراءتها، ولم تكد تتبين أحرفها حتى صاحت: «ضرغام … ضرغام! إني أقرأ اسم ضرغام على هذا السهم.» فتقدم مرجان، وكان يقرأ العربية أيضًا، فقال: «هو اسم ضرغام.»

فبهتت جهان والْتفتت إلى خيزران وهي تتجلد خوفًا من ظهور بغتتها أمام الرجلين، ثم أمرتهما أن يذهبا بالوعل إلى مكان يذبحانه فيه ويفعلان به ما شاءا، فلما ابتعدا قالت: «ما قولك في هذه المصادفة؟»

قالت: «يظهر أن ضرغامًا قريب من هذا المكان وهذا سهمه قد رمى الوعل به فحمل الوعل جرحه مسافة طويلة؛ لأن هذه الوعول لا تسرح إلا عند ضفاف نهر الشاش على مسافة بعيدة من هذا المكان.»

فأطرقت جهان وهي تحسب نفسها في حلم ثم قالت: «إنها مصادفة غريبة! على أني أخاف أن نكون قد أخطأنا الظن. ولكن لا … إن قلبي يحدثني بصدق ظني … فإذا كنت مصيبة فأين تظنين ضرغامًا الآن؟»

قالت: «أظنه معسكرًا على ماء للاستراحة قبل دخول فرغانة، ولا أعرف ماء في هذه الجهة إلا نهر الشاش فلعله معسكر على ضفته الشرقية.»

قالت: «وهل هذه الضفة بعيدة عنا؟»

قالت: «إنها على فرسخ وبعض الفرسخ من هنا. أظنك تريدين الذهاب؟»

فابتسمت والخجل يعارض ابتسامها، وحدَّقت في خيزران لتستطلع حقيقة غرضها من السؤال، فرأتها تنظر إليها باهتمام فعلمت أنها تشاركها شعورها فقالت: «وهل تظنين في ذهابي إليه بأسًا؟»

فأشفقت خيزران على عواطفها وأحبت مجاراتها فقالت: «لو علم القوم أنك ذاهبة إليه عمدًا لتحدثوا بذهابك، ولكننا إذا لقيناه اتفاقًا فلا بأس، على أن المكان بعيد لا يخلو الذهاب إليه من المشقة. هل تستطيعين ذلك؟»

قالت: «لا مشقة علينا ونحن راكبتان، هلمي بنا.» قالت ذلك والْتفتت إلى الرجلين فرأتهما مشتغلين بذبح الوعل بعيدًا.

فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم هناك.»

فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع مهرولًا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤