الفصل التاسع

بين الأفشين وجهان

عادت جهان إلى القاعة وقد فارقها قلبها وفقدت رباطة جأشها، فندمت على ترغيب ضرغام في السفر، وأخذت تفكر فيما هي فيه، فعزمت على أخذ أمورها بالحزم والتعقل حتى تتخلص من تلك الوصية أو ترى سبيلًا آخر.

ومضى النهار وسامان لم يعد. وفي اليوم التالي نهضت مبكرة وضفَّرت شعرها ولبست ثوبًا أسود وتزمَّلت فوقه بمطرف من الخز الأسود، وغطَّت رأسها بنقاب أسود ووجهها من وراء ذلك السواد كالقمر، لو أن في القمر تلك المعاني، أو لو كان فيه مثل تينك العينين الساحرتين!

وخرجت إلى الحديقة تتمشى بين أشجارها متشاغلة بالتنقل من شجرة إلى أخرى حتى وصلت إلى مقعد فقعدت واستغرقت في تأملاتها، وإذا بالقهرمانة تأتي مسرعة تقول: «سيدتي، أنت هنا؟»

قالت: «ما وراءك؟»

قالت: «جاء … جاء الأفشين، وهو يطلب أن يراك.»

لم تستغرب جهان الخبر؛ لأنها كانت تنتظره بل فرحت بقدومه لتعرف غرضه عسى أن ترى وسيلة للنجاة من وصايته. فنهضت وسألت: «أين هو؟» قالت: «في الإيوان ينتظر قدومك.»

فمشت مشية الجلال كأنها ملك يحف به الأعوان لا تبالي ما ينتظرها لاعتمادها على قوة جنانها وعزة نفسها، حتى أتت القصر، فصعدت الدرجات المؤدية إلى الإيوان متشاغلة بمخاطبة القهرمانة في شئون لا أهمية لها، حتى أطلَّت على باب الإيوان فرأت الأفشين جالسًا متصدرًا، فلما رآها خفَّ لاستقبالها، وهو يومئذ في نحو الستين من عمره وقد خضب لحيته حرصًا على مظاهر الشباب. وكان طويل القامة كبير العينين مستطيل الوجه والعنق، وقد تجعد جبينه وبرزت وجنتاه، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة من الخز الموشى، ولبس قباء بني اللون تظهر السراويل من تحته ترف على قدميه، وفوق القباء جبة سوداء. تمنطق تحتها بمنطقة مرصعة علَّق بها سيفًا قبضته مرصعة. ومشى لملاقاتها مشية معجب بمنصبه، يحسب الترحيب بها تلطفًا أو تنازلًا، فلما دنا منها ابتسم وقال: «مرحبًا بعروس فرغانة، كيف أنت اليوم؟» ومدَّ يده لمصافحتها فمدَّت يدها فأخذها وتباطأ في الإفراج عنها، فاقشعر بدنها وأحست بنفور دلها عليه قلبها ولكنها أجابته عن سؤاله فقالت: «إني في خير، تفضل اجلس.»

فتثاقل حتى جلست، ثم جلس على كرسي أمامها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فلمحت فيهما معاني زادتها نفورًا منه فأطرقت حياء وترفعًا، فحمل ذلك منها على محمل الحزن فقال لها: «إن المصيبة التي أصابتك كبيرة يا عزيزتي؛ لأن موت أبيك — رحمه الله — خسارة لا تُعوَّض، وأنت تعلمين ما كان بيننا من صلات المودة، ويؤكدها أنه قد وكل إليَّ الاهتمام بشئونك بعده، ولم يفعل إلا لعلمه بمنزلتك عندي. ألم تسمعي ذلك منه في حياته …؟ ألم يقل لك كم أنا معجب بتعقلك وذكائك.»

فاستغربت دخوله في الحديث على هذه الصورة، ولكنها سايرته فقالت: «كثيرًا ما سمعت أبي يذكر مودتك ورفعة مقامك، والأفشين صاحب أشروسنة مشهور ليس في فرغانة ولا أشروسنة من لا يعرف اسمه أو سمع بأعماله.»

فسرَّه إطراؤها وجرَّأه على التقدم خطوة أخرى نحو الغرض الذي طالما كتمه فقال: «لم أسألك هذا السؤال لأسمع إطراءك ومدحك وإنما أردت سماع الجواب عن سؤالي. فهل لم تسمعي من أبيك عما لك من المنزلة عندي؟»

فلم يفتها ما يعنيه أو يضمره، ولكنها تجاهلت وقالت: «لا أذكر أني سمعت شيئًا من ذلك، ولا أظنك أحسنت الظن بي إلا لأنك تعدني من بعض أولادك كما تعد أبي أخًا لك، فشكرًا لك على هذا الإحساس، وهذا ما يشجعني على أن تجيبني إلى طلب لي عندك.»

قال: «وما هو؟» قالت: «رأيتك تثني على تعقلي وذكائي، فإذا كنت عند حسن ظنك فما معنى الوصاية عليَّ؟»

فضحك وقال: «إن الوصاية يا عزيزتي لا تسلبك شيئًا من هذه الخلال!»

فقالت: «إنك ملك وقائد، ولك من المهام والأعمال ما يشغلك عن الاهتمام بمثلي، وأنت مقيم بالعراق وأنا بفرغانة، فهل ألقيت أثقال الوصاية عنك؟»

فقال: «كلا … كلا! إني لا أستطيع أن أخالف وصية أبيك، ومهما تكلفني من الأعباء فهي هينة ما دامت في سبيل خدمتك، وهذه أمنية طالما تمنيتها، وأما البعد بين العراق وفرغانة فأمره سهل، فإما أن تنتقلي إلى العراق أو أنتقل أنا إلى فرغانة، ولا بد من أن نكون معًا على كل حال!»

فتحققت غرضه ولكنها لم تشأ أن تفهم مراده فقالت: «لا أرى باعثًا على هذا الارتباط يا مولاي.»

فقال وهو يستعطفها: «لا تقولي مولاي.»

فقالت: «يا أبت أو يا عماه، كما تشاء، إني لا أرى داعيًا لهذا الارتباط.»

فقطب حاجبيه وابتسم، ثم قرَّب كرسيه من كرسيها وقال: «إن قولك يا عماه يسيء إليَّ أكثر من قولك يا مولاي. لماذا لا تخاطبيني كما أخاطبك؟» قال ذلك وأخرج من جيبه عقدًا من الجوهر يساوي مالًا كثيرًا ومدَّ يده نحوها والعقد يتلألأ في كفه وقال: «ما لي أناديك يا عزيزتي فتنادينني يا عمي؟!»

فحوَّلت جهان وجهها عنه وهي تنظر إليه شزرًا وتباعد كرسيها، ووضعت يديها وراء ظهرها وقالت: «لا يا سيدي، لا حاجة لي إلى الجواهر، فإني حزينة ولا أرى مع ذلك مسوغًا لهذا الخطاب.»

فأظهر استغرابه من نفورها وقال: «أهكذا تعاملين رجلًا أقامه أبوك وصيًّا عليك؟ هبي أني من عامة الناس فاحترمي وصية أبيك.»

فقالت بصوت هادئ يزينه وقار وترفُّع: «كان الأولى أن تبدأ أنت باحترام تلك الوصية أيها الملك والقائد!»

فقال بنغمة الفائز الظافر: «أتظنين أباك لم يوصِّ إلا بما في تلك الورقة؟ إنه أوصاني وصية شفاهية لا بد لي من تنفيذها.»

فقالت والازدراء بادٍ في شفتيها وعينيها: «لو كان أبي حيًّا ما قَبِل منك ذلك.»

فابتسم وأبرقت عيناه بريقًا أزعجها، وقال بلحن الهائم الولهان: «هبي أنه لم يقل شيئًا من ذلك، ألا يكفي أن أقوله أنا. يلوح لي أن ما ظننته من تعقلك وذكائك لم يكن في محله؟ أيسوق إليك ملك أشروسنة عبارات التقرب والتودد وتجيبينه بالخشونة والنفور؟!»

فنظرت إليه نظرة ملؤها الاستغراب والدهشة وقالت وفي كلامها تهديد: «قف عند هذا الحد من التلميح، واحذر أن تنزع إلى التصريح، إن ملكك وإن ضخم لا يساوي عندي شيئًا.»

قال: «يظهر أنك لم تفهمي مرادي. ألم تفهمي بعد؟ إني أحبك يا جهان، نعم إني أحبك.» قال ذلك وقد ازدادت عيناه بريقًا وبدا فيهما الاحمرار.

فلما سمعت ذلك نهضت عن كرسيها ونفرت نفور الظبي من الأسد، وقالت: «قلت لك قف عند حد التلميح فلم تصغِ، أما وقد تجاوزته، فاعلم أني لا أسمح لك بمثل هذا الخطاب. وهل يليق بك وقد اشتعل رأسك شيبًا أن تخطب محبة فتاة أصغر من بعض أبنائك؟»

فتنهد الأفشين تنهدًا حارًّا وقال وهو يتذلل ويتلطف: «آه يا جهان! أتحسبين الحب محرمًا على غير الشبان؟ إني أرى الكهولة أولى به وأقدر عليه. إن الناس مخطئون بما يتوهمون فلا شأن للسن بالحب.»

ثم اعتدل في مجلسه وأشار إلى صدره وقال: «إن في هذا القلب من لواعج الغرام ما لا يتسع له صدور الشبان. ولقد كنت شابًّا وأنا اليوم كهل، وأقسم لك بما تعبدين أني أشد كلفًا وأعرق في الحب من قبل، ويدلك على ذلك أني وأنا الملك السيد والقائد الباسل أترامى عند قدميك لأخطب ودَّك وألتمس رضاك متذللًا متصاغرًا.» وترامى عند قدميها وقال: «فإذا أطعتني رأيتني عاشقًا يبذل نفسه في سبيل سعادتك، وكنت الملكة النافذة الكلمة في العراقين وفارس وخاراسان وأشروسنة وفرغانة. وإن أبيت وظللت على خطئك …»

فقطعت كلامه وهي تنظر في وجهه مستخفة وقالت: «انهض يا حيدر، انهض يا ابن كاروس، انهض يا ملك أشروسنة وارجع إلى رشدك ودع ما تقول وأنا أصفح عنك وأغضي عما فرط منك وأكتم خبر جرأتك. إنه لا ينبغي أن تكون فتاة مثلي أربط منك جأشًا وأكثر تعقلًا.»

فوقع كلامها وقع السهم في قلبه فنهض يحرق أسنانه وقال: «لقد قتلتني بعنادك، فلا تحسبيني عاجزًا عن إرغامك؟ وارجعي إلى صوابك وفكري فيما عرضته عليك من أسباب السعادة ولا تعملي عمل أهل الجهالة، واعلمي أنك وما تملكين في قبضة يدي. فإذا أطعتني كنت أنا وما أملك في قبضة يدك!»

فهاج غضبها ودبَّت الحمية في عروقها وحدَّثتها نفسها بأن تزيده تأنيبًا، لكنها أمسكت لعلمها أنها لا تقوى على مناوأته وهو ملك وعنده الجند والعوان، وبيده عهد أبيها بالوصاية المطلقة عليها، فلا ينصرها عليه حاكم ولا ينجيها منه سلطان، إلا إذا كان في دار الخلافة فربما استعانت عليه بالخليفة فينصفها.

فرأت من الحكمة أن تستعين عليه بالتعقل والتدبير، فتمالكت جأشها بما فطرت عليه من قوة الإرادة وقالت بصوت خافت: «سمعتك تستمهلني ريثما أفكر فيما عرضته عليَّ، وأنا أمهلك لتفكر فيما قلته لك، ونرى بعد ذلك ما يكون … وسأكتم ما بدا منك وأبذل جهدي في نسيانه حتى يكون مكتومًا عني أيضًا؛ لأني أضن بصديق أبي ووصيه أن يُقال عنه ما قد يُقال عنك لو علم الناس أقوالك. فهل تقبل ما أقوله لك؟ وإذا أبيت إلا الطيش فأنا أولى بالطيش منك ولا تحسبني فتاة ضعيفة.»

فأحس الأفشين بعظمة تلك الفتاة، ولم يَعُد يقوى على النظر في عينيها، كأن الغضب زاد كهربائيتهما فتطاير منهما الشرر. ووقع كلامها على رأسه كالصاعقة وقال: «ما أنت فتاة ضعيفة ولا أنا من أهل الطيش، ولكنك ترين ما يرى سائر الناس أن الحب مقصور على الشبان، وأنا أريك رأي العين أن الكهول أشد هيامًا. إن بين جنبيَّ قلبًا يضحي بالملك وبالحياة في سبيل محبوبه، فهل يفعل الشبان ذلك؟ وهم إنما يحبون عن خفة وجهالة لا يثبتون في الحب ولا يرعون زمام المحبوب. أما وقد استمهلتني فها أنا ذا أجيب طلبك راجيًا أن ترجعي إلى رشدك، وأيام الحزن على صديقي أبيك لم تنقضِ بعد، فنحن الآن في أوائلها، ولعلي لا يخيب ظني بعد انقضاء أجل الحداد، وبعد أن تتحققي صفاء نيتي فيما أرجوه لك من الخير في دنياك، فأعملي فكرك على مهل.»

فأغضت عن طويل شرحه في بث عواطفه وآماله. وقالت بصوت هادئ وجأش رابط: «بقيت لي كلمة أحب أن تسمعها بوصفك وصيي الأمين، هل قمت بحق الوصية فدبَّرت شئون القصر وأهله؟»

قال: «فعلت كل شيء؛ فالزراع عاملون في الحقول، والقيِّم يدير شئون القصر، وأنا أحرص على مالك منك.» ومدَّ يده والعقد لا يزال فيها وقال: «والعقد ألا تقبلينه؟ خذيه إذا شئت.»

فحوَّلت وجهها عنه مشمئزة وقالت: «لا أريد قبول شيء يذكرني بهذا الاجتماع، ولو استطعت أن أجرِّد هذه القاعة من فراشها وأثاثها لفعلت حتى لا أرى شيئًا شهد هذا الموقف أو سمع هذا الكلام. والآن اسمح لي أن أشكر لك عنايتك بشئون التركة، وذلك ما كنت أرجوه من الأفشين صديق أبي الأمين على أهله. وأخيرًا هل لي أن أعرف لماذا حرمتم أخي سامان إرثه؟»

فأحسَّ الأفشين عند سماع أقوالها أنه يتصاغر أمامها، وأنها هي تعظم وتعلو حتى كاد يتلعثم لسانه وأغلق عليه. وإنما غلبته على بسالته وسلطانه بالعفة وأدب النفس، فتجلد وقال: «إنك تسألينني سؤال القاصر لولي أمره وأنا مكلَّف أن أكتم السبب، فلو سألتني سؤال الحبيب لمحبه لأطلعتك على كل شيء.»

قالت: «اعمل بالوصية ودع الحب للمحبين.»

فدهش الأفشين ولم يزدد إلا هيامًا بها، ولكنه تهيب الكلام معها، فسكت ونهض مستأذنًا في الانصراف. ثم خرج وقد غلب على أمره وعلم أنه لن ينال رضاها، وإنما أطاعها وقَبِل التأجيل فرارًا من الفشل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤