تمهيد

هل ندري ونحن نَمُرُّ أمام ذلك التمثال في ميدان الأوبرا أمامَ أية قوة من قوات البطولة نَمُرُّ؟ وهل نعرف أن هذا التمثال سفير كبير لأجَلِّ صفحة من صفحات التاريخ؟ وهل نعرف أنه يجب علينا أن نقف أمامه ذاكرين، وأن نُعلِّم أولادنا مَن هو صاحب التمثال، فإذا علَّمْناهم حبَّبْنا إليهم البطولة وعلمناهم تاريخ مصر الحديثة، بل تاريخها المجيد؟

أندري إلى أي حد بلغ جهل العامة، فقدَّموا ذِكْر الحصان على راكبه، فيضربون الموعد للقاء عند «الحصان» أو في القهوة أمام «الحصان»، وتعلو الفلاحات الساذجات فوق الكافة، فيَنْظُرن إلى الفارس لا إلى الفرس، ويَقُلْن إذا ما تحدَّثْنَ عنه: «المادد إصبعه»!

أندري إلى ما تشير تلك اليد الباطشة القوية؟ إنها تشير إلى المورة وكريد وبلاد اليونان، وقد أعجز البابَ العالي إخضاعُها، فندب لها إبراهيم على رأس ١٦ ألف جندي دَوَّخوها ودَكُّوا حصن موسوليغي الحصين إلى أن أخذت أساطيل الدول أسطوله بنيرانها من كل جانب وهو راسٍ في فرضة نافارين، فوقف إبراهيم البطل البطاش والفاتح العظيم ينظر إلى ذلك الأسطول الذي كان الثالث في أساطيل البحر المتوسط يحترق بلا إنذار ولا وعيد، فدمعت عيناه ولم يَفُهْ إلا بكلمة وَجَّهَها لأحد رفاقه من الضباط الفرنساويين: «أتشترك فرنسا بتحطيم الأسطول الذي بناه مهندسوها؟!» وكان الأسطول مؤلفًا من ٦٣ سفينة حربية و١٠٠ مركب لنقل الجنود، ثم صدر إلى إبراهيم أمرُ أبيه بالعودة برجاله فعاد، ولم تستهل سنة ١٨٢٥، ووصلت اليونان بعد عودته إلى استقلالها بتألُّب الدول في سنة ١٨٢٦.

أندري أن هذا البطل هو الذي صعد في السودان إلى النيل الأبيض فسمِّي في ذاك الحين باسمه كما سمِّي النيل الأزرق باسم أخيه إسماعيل وكما سميت بحيرة الأوغندا «الإسماعيلية» باسم ابن إبراهيم.

وهل ندري أنه هو الذي أخضع بلاد العرب كلها: نَجْد — بعد أن شَتَّت شمل الوهابيين — والحجاز واليمن، وأعاد مفاتيح الكعبة لتركيا؟

أندري ونحن ننظر إلى تمثال هذا البطل المغوار والفاتح العظيم، أنه تولَّى حكم مصر السفلى ولم يَزِد عمره على ١٧ سنة ليُمكِّن والده من السفر إلى الحجاز في سنة ١٨١٣، فأظهر من الحنكة والدراية ما كان مَضْرِب المَثل؟

أندري أنه وهو فتى الإهاب كان يعامله أبوه وهو يعامل أباه النابغة معاملةَ النظير للنظير، حتى خُيِّل للسُّذَّج من رجال الدولة الذين يجهلون تاريخه أنه ليس ابن محمد علي، بل هو ابن زوجه، تبناه محمد علي بعد وفاة ابنه طوسون الذي قاد قبل إبراهيم حملة الوهابيين ومات في برنبال بالطاعون، ولكن مُؤرِّخ محمد علي «إدوار جوين» ردَّ هذه الفرية ودَفَعها، فقال: إن محمد علي تزوج من ثَيِّب غنية لما أظهره في بلده من البطولة، فرُزق منها خمسة أولاد ذكور؛ منهم إبراهيم وطوسون وإسماعيل، وكان مولد إبراهيم في سنة ١٧٨٩، وقد وصف الذين زعموا ذلك الزعم بالقحة والسماجة والباطل!

حمل إبراهيم عَلَم مصر عاليًا من سنة ١٨١٤ إلى سنة ١٨٤٠، فما نكس بيده مرة واحدة، بل رفرف هذا العَلَم بيده والنصر معقود بأهدابه في الجزر اليونانية وبلاد اليونان والصرب وفي أفريقيا والأناضول وبلاد العرب وسوريا.

وإذا كان إبراهيم قد اشتهر بصلابته في القتال، فإنه قد اشتهر أيضًا بصلابته في العدل بين الناس، حتى بات إلى اليوم مضرب المثل بالعدل في بلاد الشام التي حكمها ثماني سنين، فلم يكن الحاكمَ العسكري فقط، بل كان العسكري المُصلِح الذي بقيتْ آثارُه هناك إلى اليوم، ولا يزال الناس يتغنَّون بعدله إلى الآن ويضربون على ذلك الأمثال.

وهذا ما حَمَل بعض الأدباء في لبنان إلى مكاتبة أصدقائهم هنا بأن تُؤَلَّف لجنة من المصريين والسوريين لإقامة عيد السنة المائة لاستيلاء إبراهيم على بلاد الشام من حدود صحراء سينا حتى جبال طوروس. وإبراهيم هو الذي نظر مع والده إلى وحدة هذه البلاد، فلما تألَّبَتْ عليه الدول وقررت أن تكون حدودُ مصر سيناءَ، رأى إبراهيم ورأى والدُه أن تتلقى العلومَ في المدراس المصرية العالية مجانًا طائفةٌ من أبناء تلك البلاد، وأن يُكتب على شهاداتهم التي ينالونها ما يُشعر بذلك؛ لتكون دليلًا على عطف مصر وإخائها. وظل الحال على هذا المنوال إلى أن كان الاحتلال الإنكليزي، فقطع هذه الصلة الروحية بعد أن قَطعت الدول الصلة المادية بإقامة الحدود التي محاها إبراهيم بسيفه.

كثرت أساطير الناس وأقاويلهم عن إبراهيم، فإذا لم تكن تلك الأساطير والأقاويل صحيحة، فإنها تدل فقط على اعتقاد الناس بحكمته وعدله؛ فقد رَوَوْا أنه لما عَزَم محمد علي على استئناف النضال في بلاد الوهابيين — بعد وفاة ابنه طوسون الذي عقد هدنة مع زعيم الوهابيين — جمع قواده ورجال الحكم والسلطة وبسط لهم إرادته، وبعد ذلك أمر ببَسْط إحدى الطنافس الكبيرة في الدار ووَضَع في وسطها تفاحة، وقال: إن الذي يتناول التفاحة بيده ويقدمها لي دون أن يمس السجادة أُوَلِّيه قيادة الحملة. فأخذ الحاضرون يتطاولون إلى التفاحة بلا جدوى، إلى أن جاء دور إبراهيم وكان قصير القامة، فلم يَزِد على أنه تناول طرف الطنفسة بيده وطواها إلى أن وصل إلى التفاحة، فتناولها وأعطاها لأبيه، فولَّاه قيادة الجيش.

لا شك في أنهم يقولون ذلك ويبتدعونه كما ابتدعوا حكاية البيضة وكريستوف كولمب إذ ازدَرَى حُساده بعمله أمام المَلِك، فطلب منهم أن يُوقفوا بيضةً على رأسها، فلما أعجزهم الأمرُ تناول البيضة وكسر أحد رأسيها فوقفتْ!

ويروي أهل الشام عن عدله، أن عجوزًا شَكَتْ إليه جنديًّا أكل تِينَها اغتصابًا، فأتى بالجندي وسأله فأنكر، فقال للمرأة وقال للجندي: إني سآمر ببَقْرِ بَطْنِه فإذا وجدتُ فيه بزرَ التين أكون قد أنصفتُكِ منه، وإلا فإني ألحقكِ به. فارتضتْ، ووجد بزر التين بأمعاء الجندي — أسطورة عندهم على عدله.

•••

قبل أن نتكلم عن فتح الشام والأناضول نحتاج مع القارئ إلى استعراض الحالة السياسية في ذاك العصر؛ لنعرف كيف اندفع محمد علي إلى الفتح، والسببَ الذي دفعه، وماذا كانت مهمة إبراهيم في بلاد اليونان وبلاد العرب، ولماذا وكيف دُكت تلك الإمبراطورية التي ألَّفها إبراهيم بسيفه ومحمد علي بحكمته. وقد وصف المؤرخ «جوين» محمد علي بقوله: «سلك مسلك الثعلب أحيانًا، ومسلك الأسد دائمًا، فألقى بالعثمانيين بأيدي المماليك، وبالمماليك بأيدي الألبانيين، وبهؤلاء بأيدي المصريين. وهدم أربعة ولاة دون أن يخشى الجلوس على أريكة مُزعزعة، حتى قالوا إن صعوده إلى تلك الأريكة كان عملًا عظيمًا جدًّا، ولكن بقاءه على تلك الأريكة كان أعجوبة.»

كانت تركيا مريضة تحتضر، ولم يكن يمنع الدول عن اقتسامها سوى اختلافهم على ذلك الاقتسام. وكانت مصر مطمح أنظار الفرنساويين، فبعد أن أخرج الإنكليز جيش نابليون منها وفسخوا معاهدة «أميين» التي كانت تقرر الاحتفاظ بمصر كما هي، تطلعوا إلى بَسْط حمايتهم عليها بواسطة المماليك الذين كانوا يحكمونها. وكانوا فيها حلفاء الإنكليز الذين كانوا قد قدَّموا للباب العالي اقتراحًا بإثبات هذه الحماية، فأرسل الفرنساويون قُنصلَهم دي ليسيبس إلى مصر ليبحث عن الرجل الذي يستطيع مقاومة الإنكليز إذا هم حاولوا الاستيلاء على مصر، فوجد ضالته بمحمد علي، فبذل له كل مساعدة، ووجد محمد علي بالعلماء أصحابِ السيطرة أكبرَ عون، فاختاروه واليًا وطردوا الولاة الثلاثة الذين عيَّنهم الباب العالي؛ لأن البلاد كانت قد ضجرت وملَّت حكم المماليك، وأراد الإنكليز احتلال البلاد فتمكَّن محمد علي من طردهم بعد احتلال الإسكندرية ستة أشهر، وكانت تابعة للباب العالي فضمها محمد علي إلى حكم البلاد.

وعرف أن الإنكليز هم أعداؤه السياسيون، فحاول الاتفاق معهم، ولكن حكومتهم فَضَّلت اتباع سياسة هدمه على سياسة محالفته، وظلت هذه السياسة سياستهم حتى النهاية، واحتكر محمد علي الغلال، فاستطاع أن يؤلف جيشًا ويبني أسطولًا، وأن يضع أمام عينيه امتلاك بلاد العرب وسوريا والعراق وتأليف إمبراطورية عربية.

ولم يفاجئ محمد علي حكومة إستامبول برغبته في أن يتولى حكم سوريا، بل طلب ذلك من صارم بك رسول السلطان إليه، كما طلبه من نجيب أفندي الرسول الثاني، ولكنه قرن الطلب بأن يكون حكم مصر وسوريا وراثيًّا، وكانت حكومة السلطان تجعل الحكم في البلاد إقطاعيًّا، فلا يهمها إلا أن يدفع الوالي المال، فإذا تقدَّم آخرُ بالزيادة وَلَّتْه وخلعت الذي تتقدمه. أما الحكم بالتوارث فلم تكن تُسلِّم به، وبلغ ما عرضه محمد علي على الباب العالي مقابل حكم سوريا ٦٠ ألف كيس في السنة — الكيس ٥٠٠ قرش — فعرض الباب العالي عليه حُكْمَ المورة وكريد وقبرس وهو يعلم بضياعها، وحُكْمَ بلاد العرب وهو يعلم أنها عبء ثقيل على حاكمها. ولكي ينفِّذ محمد علي خطته أخذ منذ سنة ١٨٢٥ يعدُّ الأنصار والأصدقاء في بلاد الشام، فتوسَّط لدى الباب العالي بأن يعيِّن عبد الله باشا الخازنه جي واليًا على عكا. وعكا هي مفتاح سوريا، وقد ثبتت في وجه نابليون ولم يستطيع فَتْحها، فارتدَّ عنها واستعان القائد الفرنساوي بأمير لبنان بشير الثاني فلم يُعِنه، واحتاج عبد الله باشا إلى المال ليدفعه للباب العالي فأمدَّه محمد علي.

ثم وجَّه نظره إلى الأمير بشير، فأحكم به صلاته، ونزل الأمير بضيافته في مصر في حاشية كبيرة مدة ثلاثة أشهر، وكان اتفاقهما تامًّا، ثم أوفد إليه الأميرُ ابنَه الأمير أمينًا، فظل في مصر سنة وشهرًا، ولم يرجع إلى لبنان إلا قبل قيام حملة إبراهيم باشا بأيام قليلة، وجاء مصر أحد أكابر البلاد الشيخ علي العماد للغرض ذاته. وكان حنا البحري الحمصي هو الصلة بين أمراء سوريا ومحمد علي، حتى صارت شئون تلك البلاد شطرًا من شئون مصر في نظر محمد علي، يتدخل بها تدخلًا فعليًّا، حتى إنه هدد والي دمشق بإرسال عشرة آلاف مقاتل بقيادة ابنه طوسون إذا لم يتحول عن اضطهاد اللبنانيين الذين يدخلون بلاده فيسجنهم إلى أن يدفع أميرُهم الفدية.

ولم يَرَ الباب العالي من وسيلة لصَدِّ محمد علي عن غرضه إلا أن يُحرِّض لمقاومته عبد الله باشا والي عكا، ففَتَح عبد الله باشا ذراعيه لجميع المصريين الفارين من بلدهم لسبب من الأسباب، حتى بلغ عددهم ستة آلاف شخص، فكتب محمد علي إلى عبد الله باشا أن يعيدهم إلى وطنهم، فأجابه جوابًا جافًّا وقال فيه: إن هؤلاء الستة آلاف هم رعايا السلطان، وشأنهم هنا كشأنهم بمصر، فإن شئت فاحضُر لأخذِهم. فأجابه محمد علي: إني سأحضر لأخذ ستة آلاف وواحدًا فوقهم! وأراد بهذه الكلمة أخْذَ عبد الله باشا ذاته. وكان كتاب عبد الله باشا إنذارًا، وكان جواب محمد علي ردًّا على ذاك الإنذار. ولمَّا قيل إن الأمير بشيرًا هو حليف محمد علي وسيكون في صَفِّه كَتَب قنصل النمسا يقول لدولته: «إن وجود الأمير بشير في صف محمد علي لهُوَ عبارة عن وجود سوريا في قبضة مصر.»

وغادرت طلائع الجيش المصري مصرَ إلى عكا في ١٤ أكتوبر ١٨٣١، واحتلت الحملة البحرية المصرية يافا في ٨ نوفمبر، ووصل إبراهيم باشا قائد الحملة إلى حيفا في ١٣ نوفمبر، وضرب الجيش المصري نطاق الحصار حول عكا في ٨ ديسمبر، وهكذا بدأ فتح الشام والأناضول.

ولم تَلقَ طلائع الحملة المصرية من العريش إلى عكا مقاومةً تستحق الذِّكر، بل لقيت في بعض الأماكن كل المساعدة والتسهيلات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤