الفصل العاشر

  • الفتن والثورات في فلسطين وسوريا.

  • أسبابها ونتائجها.

  • اتحاد إنكلترا مع تركيا ضد محمد علي والدولة المصرية.

***

إنَّ نُقصانَ دَخْلِ البلاد إبَّان الحروب، وكثرةَ النفقات على الجيوش، أَحْوَجَ محمد علي إلى الأموال. ثم إرسال الباب العالي رشيد باشا إلى حدود سوريا من جهة الأناضول وحَشْده الرجال والإتيان بالسلاح، أَحْوَجَ محمد علي إلى الرجال، فأَخَذَ بالبحث عن هذين الموردين؛ لأن مصر أعطتْ كل ما كان بإمكانها إعطاؤه، ففكر في عقد القروض في أوروبا، ولكن أصحاب الأموال والدول اشترطوا أن يوافق الباب العالي على تلك القروض؛ لأن محمد علي كان واليًا على مصر وسوريا، فلا يكون القرض صحيحًا إلا بموافقة السلطان، ولا يأمن أصحاب المال على مالهم إلا بتقديم الضمانة. وهذا أيضًا ما كان يطلبه أصحاب الأموال ولا يسلم به محمد علي. وكانت الأموال التي يتوصل إليها محمد علي من الخارج هي عبارة عن «سلف» على القطن؛ فمحل بريجس وتوربون ومحل غوتيه وباستره هي المحلات التجارية التي كانت تقدم السلف على القطن المصري، فمحل باستره قدم لمحمد علي ٣٠٠ ألف ريال إبان حصار عكا.

ولما عرضت فرنسا في سنة ١٨٣٣ تقديم عرض كبير مقابل ضمانات يقدمها محمد علي، أبى تقديم الضمانات؛ لأنه كان يطلب سلفًا لمدد قصيرة لا قروضًا لمدد بعيدة طويلة؛ لذلك رفض ما عَرَضه عليه روتشلد، وهو إقراضُه مائة مليون فرنك، وعُرض عليه قرضٌ آخر على أن يكون ضمانته دَخْل الحكومة، فرَفَض أيضًا وأصدر أمره إلى إبراهيم باشا بتحصيل الأموال وتجنيد الرجال من البلاد التي فتحها وتولى حكمها، فغالى الولاة والحكام في ضرب الضرائب وطلب التجنيد، فكان ذلك سببًا للفتن والثورات في تلك البلاد، بل قد لا ترجع تلك الفتن إلى سبب واحد، إنما إلى عدة أسباب:
  • الأول: إزالة نفوذ أصحاب الإقطاعات في تلك البلاد وحكمها حكمًا نظاميًّا أغضبهم؛ لأنه قَطَع أرزاقهم وسلطتهم على الشعب.
  • الثاني: وقوفُ رشيد باشا بجيشه الجديد على الحدود، وإرسالُه الرسل إلى أولئك الناقمين، وحَثُّهم على الفتن لاستعادة سلطتهم بمساعدة الباب العالي والدول.
  • الثالث: ثِقَلُ حِمْلِ الضرائب والرسوم، وإفراط الحكام بالتحصيل، وتجنيد الشبان بالقوة.
  • الرابع: خُلْف الوعد مع اللبنانيين، بترك سلاحهم لهم، وعدم التعرض لاستقلالهم، وعدم زيادة الضرائب، والإصرار على تجنيد الدروز، وإهانة شريف باشا شيوخهم.
  • الخامس: ظهور الإنكليز بمظهر العداء لمصر ونشرها الدعوة ضد محمد علي … إلخ.

أما الضرائب التي ضُربت، فهي احتكارُ حاصلاتِ الحرير في سوريا، كاحتكار حاصلات القطن في مصر. فطلبتْ إنكلترا من الباب العالي إصدارَ أمرٍ بإلغاء هذا الاحتكار، فزاد ذلك في الاضطراب. ثم ضريبة الفِردة، وهي ضريبة يدفعها كلُّ رجلٍ من سِن الخامسة عشرة إلى سن الستين، وأقلُّها ١٥ قرشًا على الفقير و٥٠٠ قرش على الغني، وصَدَر الأمرُ بعد ضَرْبها بأن تُحَصَّل على سنتين. ثم رَسْم الدخولية بين ٦ ونصف و١٢ بالمائة على البضاعة التي تُرسل من مدينة أخرى، ورَسْم التَّسْريح على الحاصلات المحلية التي تُنْقل من بلد إلى آخر، ورسوم المواشي كالغنم والمعزى والجِمال، وضريبة الشونة؛ وهي أن يُقَدِّم الأهالي للجيش في جهتهم كلَّ حاجاته، ثم رسم الطاحون. على أن إبراهيم باشا لم يكن راضيًا عن ثقل الضرائب، ولكنهم كانوا يكتبون إليه من القاهرة بأن الضرورة تقضي بذلك، ولا مرجع عنه. ومع ذلك لم يكن دَخْل سوريا يكفي للإنفاق عليها.

أما التجنيد فلم يكن أهل سوريا قد ألِفوه؛ لأن الحروب والاشتراك بها كانت على وجهٍ عام دائمةً، ولكنها كانت حروبًا محلية. ولما تَقَرَّر التجنيد أخذوا يُنفذونه بالقوة وبحصار المدن والقرى، والتقاط الشبان، كذلك نزع السلاح من الأهالي.

كانت الفتنةُ الأولى في فلسطين؛ فإن إبراهيم تلقى أوامر والده وهو في يافا مع أركان حربه بضرب الضرائب التي ذكرناها، فأذاع ذلك بمنشور وأوامر أصدَرَها إلى الحكام، فاتفقت أسرة طوفان وأسرة الجزار — من جبال نابلس — مع أسرة أبي غوش — بين القدس ويافا — على مقاومة ذلك. وسبب اتفاق هذه الأسر: أن الأولين كانوا الحكام على عهد الترك، فأسقطهم إبراهيم وأحلَّ محلهم آل عبد الهادي. وأما أسرة أبي غوش، فكانت تَقْطَعُ الطريق على الحُجاج وسواهم، وتأخذ منهم «الخوة»؛ وهي ضريبةٌ على كل مارٍّ بالطريق بمناحر أو بمواشي ما بين يافا وغزة وبئر سبع، فضرب إبراهيم على أيديهم وأبطل تلك المظالم وسَجَن في سِجْن عكا كَبِيرَهم.

ولمَّا بلغ إبراهيمَ تآمُرُهم أسرع إلى القدس وطلب أعيانَ البلاد وحَتَّمَ عليهم تنفيذَ الأوامر، فوعدوا بإبلاغ قومِهم ذلك، وانصرفوا، ولكنهم انصرفوا لإضرام نار الفتنة وإذاعة الأخبار عن زحف جيش رشيد باشا من سيواس، فانتقض العربان في جهة البحر الميت وقبيلة أبي غوش وأهالى جبل نابلس، وتحرج موقف الحامية في القدس. ولما أرادت الانسحاب إلى يافا اعترضتها في الطريق قبيلة أبي غوش، فأكرهتها على العودة إلى القدس والاعتصام بالقلعة. وأرسل إبراهيم باشا آلايًا من يافا إمدادًا للقدس، فصُدَّ عن غرضه. ووصل إليه في الوقت ذاته أن الثوار فَتَكوا بحامية الخليل، وأنهم مُقبلون لحصار القدس وقد نهبوها، فقام من يافا بستة آلاف مقاتل، فقهر في طريقه قبيلة أبي غوش، ودخل القدس، وظل القتال دائرًا بين الثوار وجيشه، إلى أن وصل محمد علي إلى يافا في ٢٩ يونيو سنة ١٨٣٤ ومعه جيش قوي، فغنم إبراهيم الفرصة وتغلب على الثوار بالوسائل السياسية.

وكان أهالي صفد قد ثاروا ونهبوا أموال اليهود وأملاكهم وفتكوا بهم، فطلب محمد علي من الأمير أمين ابن الأمير بشير الذي أوفده والده لتحية محمد علي عند وصوله إلى يافا، أن يبلغ والده أن يسير إلى صفد رجاله، ويؤدب ثوارها ويرد المسلوبات لليهود، فنهض الأمير إلى صفد، وقبل أن يدخلها قابله قاضيها وعرض عليه طاعة أهالي صفد، ووعده برد الأسلاب. فقَبِل طاعتهم، وأرسل إلى صفد الأمير أفندي حاكم راشيا ليستلم قلعتها ويعيد المسلوبات إلى اليهود، فنفذ أمر الأمير وقبض على الذين اعتدوا على اليهود وسلبوا أموالهم، وأرسلهم إلى سجن عكا.

وكان إبراهيم باشا قد أرضى أسرة غوش بإخراج زعيمها من سجن عكا وتعيين ابنه متسلمًا للقدس. وسار إبراهيم باشا إلى جبال نابلس، فأخمد الفتنة، وقبض على كثيرين من الثوار، ثم سار إلى الخليل وقاتل الثوار وكسرهم، ثم اتجه إلى الكرك والسلط وأخمد الفتنة. وعاد محمد علي إلى مصر في ٢٩ يوليو؛ أي بعد أن استَتَبَّ النظام في فلسطين، وعاد الأمير بشير إلى لبنان.

وظل إبراهيم يطارد زعماء الثوار الذين لجئوا إلى عرب عنزه، فأرسل إلى رؤساء تلك القبيلة ليُسلموا زعماء الثورة، وأهمُّهم الشيخ قاسم أحمد، فسلموهم وحكم عليهم بالإعدام.

ووصل إبراهيم بجيشه إلى دمشق، فبلغه من شريف باشا حاكمها أنه لما بلغ أهلَها خبرُ فتنة فلسطين بَدَتْ عليهم علائم الاضطراب، فأرهبهم بالقبض على المُهَيِّجين، وجَمَع منهم نحو خمسة آلاف بندقية وسيف. وأمر إبراهيم بمضاعفة الطلب، وظهرت بوادر الفتنة في طرابلس؛ حيث اكتشفوا مؤامرة على حاميتها وعددُها ٤٠٠ جندي، فأرسل محمد علي قبل سفره من يافا إلى الأمير بشير أن يرسل ابنه الأمير خليل لِيَتَّحد مع المتسلم سليم بك على تأديب الثوار. ولما وصل الأمير خليل برجاله إلى طرابلس، قبض على ٢٥ رجلًا من الجانحين إلى الفتنة واعتقلهم بالقلعة. ووصلت الأوامر من إبراهيم باشا وهو في دمشق بإعدام زعماء الثورة، فأعدم ثلاثة عشر منهم، واتجه الأمير خليل ومتسلم طرابلس إلى بلاد عكار وصافيتا، فقبضوا على الزعيمين أسعد بك المرعب وأسعد بك الشديد، وعلى وَلَدَيْنِ من أولاد محمد بك القدور، وعلى ٣٠ شخصًا من الأعيان. وهكذا فعلوا في جهة صافيتا واللاذقية، فهدأت الفتن في هذه الجهات.

بعد أن انتهت فتن فلسطين وصافيتا وعكار للأسباب التي بسطناها وعلى الوجه الذي بَيَّناه، وصل إلى إبراهيم باشا — وهو في المزيريب قاصدًا إلى دمشق — أن النصيرية هاجموا آلايًا من جيشه وهو ذاهب من اللاذقية إلى حلب، فهزموه وفتكوا بنصف رجاله في كمين كمنوه له في الطريق، وأكرهوه على التقهقر إلى الساحل، وأنهم هاجموا بعد ذلك مدينة اللاذقية، فنهبوا أملاك الحكومة والمسيحيين، وحصروا المُتسلم سعيد أغا العينتابي في داره، فأصدر أمره إلى سليم بك بأن يقوم بقوته من طرابلس إلى اللاذقية لتأديب العصاة، وكتب إلى الأمير بشير الشهابي بأن يُرسل أحدَ أولاده بقوة لبنانية لإخماد الثورة، فأرسل الأميرُ بشير ابنَه الأمير خليل على رأس جيشه، وأرسل بعض أبناء عمه الأمراء مع رجالهم من وادي التيم للغرض ذاته. ولما وصل الأمير خليل إلى قرية البهلولية، فَرَّ النصيرية من وجهه، فغَنِم مواشيهم وما يملكون، وأحرق ١٥ قرية من قُراهم، وتقدم سليم بك من هناك، فصدمه الثوار صدمة شديدة، فارتدَّ عنهم، وأرسل إلى الأمير خليل لِيُنْجده، فأرسل إليه النجدات، وعلى رأسها أحد أولاد عمه الأمير جَهْجاه، فقهروا الثوار وأحرقوا ثلاثين قرية من قراهم، ثم تقدم الأمير خليل ومعه فرسان العرب المصريين من عرب الهنادي، فطاردوا الثوار مطاردة شديدة اضطرتهم أن يلجئوا إلى قلعة صهيون حيث جاءتهم الأمداد، فضَيَّقَ عليهم الأمير خليل حتى اضطرهم إلى طلب الأمان، وأرسل الأمير بشير ٥٠٠ رجل من أهالي زحلة وبسكنتا نجدة لابنه، فقابل النصيرية تلك النجدة، وكانت معركة شديدة عند جسر السن وصل خَبَرُها إلى الأمير خليل، فأرسل قوة لإنقاذ اللبنانيين، فأنقذتهم وطردت النصيرية وطارَدَتْهم في كل مكان حتى خضدت شوكتهم، وقدموا جميعًا طاعتهم. وكان إبراهيم باشا قد وصل إلى حمص فأمر بإعادة اللبنانيين إلى بلادهم، وبإعادة الجنود إلى مرابطها، وهكذا انتهت الفتن التي قامت في سنة ٣٣ و٣٤، وكان أشدها ثورة بلاد النصيرية.

كان الباب العالي هو الذي حَرَّكَ هذه الفتن في سوريا؛ لأنه كان ينوي استخدام معاهدته مع روسيا لاستعادة تلك البلاد من محمد علي بقوة الروس.

ويحدثنا الدكتور محمد صبري في كتابه «الإمبراطورية» المصرية عن أعمال الباب العالي، فيقول: إن رشيد باشا الذي أرسله الباب العالي إلى سيواس لِحَشْد الجيوش بحُجة إخضاع القبائل الكردية، حَشَد الجنود وجَمَع المدافع على الحدود السورية استعدادًا للهجوم على المصريين، وهو في الوقت ذاته كان يدس الدسائس لإثارة الاضطرابات والقلاقل في بلاد تَسْهل فيها إثارة الفتن المتفقه مع طبائع أهلها.

ولما وصل خبر اتقاد الفتن إلى إستامبول في شهر يوليو، اتفق رأي السلطان ورأي بعض رجال الديوان على أن يرسلوا الأوامر إلى رشيد باشا ليساعد الثوار السوريين، وقرروا في نفس الوقت إرسال الأسطول التركي لمهاجمة محمد علي بحرًا. وأكد ريس أفندي لسفيري إنكلترا وفرنسا أن روسيا لا تشترك في القتال في سوريا، فأجاب اللورد بونسوبي والأميرال روسين أن السلطان إذا أقدم على قتال محمد علي يُعَرِّض تاجه وعرشه للخطر. فهذا القول حمل السلطان على التردد، ولكنه ظل يرسل الأموال إلى رشيد باشا. وأدخل سفير إنكلترا في صدر السلطان الوسواس بقوله له: إن من مصلحة روسيا أن يقوى محمد علي؛ لأن ذلك يعود بالوهن والضعف على تركيا، وأيَّدَ ذلك في صدر الباب العالي والسلطان ردُّ روسيا على الباب العالي — وقد طلب منها مساعدته لتأييد الثوار السوريين — بأن المعاهدة بينهم معاهدة دفاعية، وأنها لا تستطيع إمداده إذا كان هو المعتدي والمهاجم.

أما محمد علي، فإنه كان يرى ذلك كله، ولا يخطو خطوة واحدة للتحكك بالباب العالي. وقد روى قنصل فرنسا في الإسكندرية في كتابه إلى وزير الخارجية «أن محمد علي يُشَبِّه السلطان برجل يحمل على رأسه إناء من الفخار، فهو إذا ظل يمشي وحده قد لا يقع الإناء إلا أن يصطدم بأيِّ شخص أو يدنو منه أيُّ شخص، فيقع الإناء ويتحطم.» فمحمد علي لا يريد أن يُحطم ذلك الإناء، ولكنه لا يريد أن يضمن سلامته، وكل ما يريده الآن أن يكون بمعزل عن أي عمل سياسي أو غير سياسي في الشرق.

ولكن السلطان ظل مُجِدًّا في سعايته ضد محمد علي، فأرسل في ١٣ سبتمبر ١٨٣٤ أمير ساموس فوغوريدس بك إلى سفير إنكلترا لِيُعرب له عن رغبة جلالته في أن تُكرِه إنكلترا وفرنسا محمد علي على التضحية، وعلى أن يكتفي بولاية مصر وباشاوية عكا.

فهذه الأعمال كلها كادت تدعو محمد علي إلى العودة لطلب الاستقلال التام، فكتب إلى ابنه إبراهيم في ٢٤ أغسطس يُذكِّره بمسعى الباب العالي لدى الدول لإكراهه على ترك سوريا وأدنه، وبالاستعداد للهجوم عليه إبان الثورة السورية … إلى قوله:

ولنا الأمل بأننا إذا فَهَّمْنا الدول الأوروبية سوء نية الباب العالي وخطته العدائية نتمكن من تحطيم هذا القيد؛ قيد العبودية الذي نحمله الآن في أعناقنا.

وينبهه في هذا الكتاب إلى اتخاذ الحيطة والاستعداد للأزمة التي قد تقع بالمستقبل.

فرد إبراهيم باشا على والده يُحذره من كل مسعى يسعاه في هذه الظروف للوصول إلى الاستقلال؛ مخافة أن يتخذ الباب العالي ذلك وسيلة للهجوم عليه؛ لا من أجل الفتن في سوريا كما كان يريد، بل من أجل مسلكه معه، وأن الجيش المصري بعد طول الحرب ومكافحة الفتن، قد تولاه التعب والملل. فهل هو يستطيع الآن منازلة الجيش التركي؟ وهل الحالة السياسية العامة موافقة لطلب الاستقلال؟ إلى قوله في ذلك الكتاب:

إنك تقول لي في كتابك المؤرخ ٣٠ سبتمبر ١٨٣٤ إنه يجب علينا الآن أن نتمكن من تحطيم هذا القيد؛ قيد العبودية، الذي نحمله الآن بأعناقنا، «وأن نحمله نحن لرجال إستامبول»، فهل تذكر يا والدي ومولاي أني إبان الحرب الأولى طلبتُ منك أن تلقي نير العبودية، فأجبتني أنك تكتفي باسم محمد علي؟ فإذا كنتَ ترى أن الوقت قد حان الآن لإلقاء هذا الغل من أعناقنا، فأنا أرى أن هذا المسعى ليس من السهل تحقيقُه، بل أرى الأمر على عكس ذلك؛ أي إني أراه صعبًا جدًّا؛ فعند التُّرك رجال أبطال كرجالنا أو هم أكبر بطولة، ومهاجمة أسطولهم للسواحل تضر بك أكثر من إضرارها بي.

فلم يرتَح محمد علي إلى هذا الجواب، وعزاه — فيما كتبه بعد ذلك إلى إبراهيم — إلى تعب أعصابه تعبًا قضى عليه بألا يُدرك مغزى كتابه ومرماه، فلم يمعن فكرته قبل الجواب. فأجاب إبراهيم بما يلي:

تقول لي في كتابك في ٢٧ سبتمبر، إن عبارتك كانت منحصرة في ضرورة تحطيم نير التابعية، وإني أنا في كتابي عَزَوْتُ إليك لا حب تحطيم القيد، بل دفعه على أعناق الترك، وأن هذا الخطأ مني مرجعه إلى عدم فهمي كلامك.

والحقيقة أني أدركت فَهم ألفاظك وعبارتك، وإذا كنت قد زدت عليها كلمة «تحميل القيد لأعناق الترك»، فإني قد تعمدتُ ذلك، وإليك البيان والسبب:

إن السلطنة التركية تَدَّعي تَبَوُّء عرش الخلافة؛ لأنها تملك الأرض المقدسة والحرمين الشريفين على أن الحجاز في قبضة يدنا الآن. فإذا نحن نِلْنا استقلالنا سقطتْ حُجة تركيا من تلقاء نفسها، وسقطت الخلافة عنهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا بعد ذلك في المساجد عن السلطان إنه خادم الحرمين الشريفين؛ لأن الحرمين والأراضي المقدسة تكون في أيدي الحكومة المصرية، وحينئذٍ — وعلى هذا الوجه — أجزتُ لنفسي أن أقول: «يحمل الترك نير العبودية بدل مصر.»

وليس تبادل الكتب بين محمد علي وولده إبراهيم منذ البدء في حملة سوريا على ما اطلع القراء، إلا الدليل على اختلاف طريقة الابن عن طريقة الأب؛ فإبراهيم كان يقول منذ الساعة الأولى بالعمل الحازم ووَضْع أوروبا أمام الأمر الواقع قبل أن تسترد نفسها وتُعمل فكرتها وتُنظم خُطتها. ومحمد علي كان مترددًا يَرْقُب جَوَّ السياسة ولا يريد أن يخطو خطوة واحدة غير أمينة العاقبة. وزيادة على ما تقدم لتأييد هذا الرأي نُورد نص كتاب إبراهبم إلى والده يزيد فيه التبسط في الموضوع الذي أغضب محمد علي، قال:

تذكر يا والدي أني عندما وصلت إلى قونيه أَلْحَحْتُ بكل خضوع بأن نكسب الفرصة لإعلان استقلالنا، فرددتَ عليَّ في الحال بأنك تكتفي «باسم محمد علي» وكنا في ذاك الحين منتصرين، وكانت الفرصة سانحة فلم ترد. فهل بعد سنتين من تسوية المسألة وإقامة الحدود تطلب الاستقلال؟ إن الترك أبرموا في هذه الفترة معاهدة مع الروس، وشروط هذه المعاهدة تقضي بأن كل خطوة نخطوها وراء الحدود تعتبرها روسيا اعتداء تدفعه عن تركيا، ولكنهم لم يشترطوا مَنْع تركيا عن الاعتداء علينا. فالترك عندهم الضمانة منا، ولكنهم أحرار في أن يهاجمونا ولا تعترض دولة من الدول عليهم.

ولما وثقت الآن من أن الباب العالي يوقد الثورات في سوريا، جَنَحْتَ إلى الاستقلال، مع أن الظروف غير موافقة. وهذا الإعلان الذي تعلنه أتم إفساد الصلات بيننا وبين الترك، مع أني كنت قد وجهتُ نظرك إلى خطورة مثل هذا العمل، فاكتفيتَ بأن رددتَ عليَّ بأنك أعلنت إرادتك بالاستقلال.

وغرضي الوحيد من ذِكر ما تقدم هو تذكُّر الأخطاء الماضية، حتى لا نتسرع في المستقبل بأي عمل من الأعمال، وحتى نُقَدِّر لكل عمل من أعمالنا نتائجه.

وسببُ هذا الكتاب الذي أرسله إبراهيم باشا بهذه اللهجة، هو أن محمد علي أبلغ الدول سرًّا أن في نيته إعلان الاستقلال التام، في الوقت الذي أخذتْ فيه تركيا تستعد وتكسب عطف الدول عليها، بينما الجيش المصري منهوك القوى من الحروب، والخزانةُ في عجز.

فلما رأى محمد علي أن الباب العالي يُثير الفتن ويحشد الجيوش ويستنجد روسيا لإخراجه من سوريا، أبلغ الدول أنه عزم على الاستقلال، وأرسل إلى ابنه إبراهيم ليكون على استعداد وأُهْبَة، فلم يُقِرَّ إبراهيم هذا الرأي كما ذكرنا. وها هو نص الكتاب الذي أرسله بوغوص بك الذي كان يتولى إدارة ديوان الخارجية إلى قنصل النمسا:

لا شك في أنك عرفتَ الميول العدائية التي أظهرها الباب العالي حديثًا ضد مصر؛ فهو يجمع منذ بضعة شهور، وبدون سبب ظاهر، جيشًا ضخمًا في سيواس بقيادة الصدر الأعظم رشيد باشا، مع أن سموه أرسل مندوبه لإتمام المباحثات بشأن الجزية التي تُدفع وبشأن الجلاء عن أورفا التي أمر إبراهيم باحتلالها مؤقتًا لِيَصُدَّ بعض القبائل البدوية المتمردة. وفي خلال ذلك أخذ الباب العالي يوزِّع الأموال بواسطة عبد الله باشا الذي كان حاكمًا في عكا لإثارة الثورات والفتن في جبل نابلس وخليل الرحمن والقدس. وقد عمت الثورة تلك الجبال وتَطَلَّبَ إخمادُها مجهودًا استنفد ثلاثة أسابيع. ولما وصل إلى محمد علي باشا خبرُ هذه الحركات العدائية، أبلغ قناصل الدول أنه قد يرى نفسه مضطرًّا لإعلان استقلاله؛ لأن الباب العالي لا يرضيه إلا هدمُه سياسيًّا، والجميع يعرفون أن سموه لم يطلب في حين من الأحيان استقلاله، ولكن التفرقة التامة والدائمة بين الوطنين العربي والتركي هي الآن الضمانة الوحيدة العاصمة من النتائج المهلكة من جراء الحرب الأهلية الدائمة ومن غزوة أجنبية.

وإذا اعترف باستقلال سموه، فإنه يستطيع بعد هذا الاعتراف أن يحصر همَّه في تنظيم ماليته، وحشد ١٥٠ ألف مقاتل منظمين تنظيمًا تامًّا، فيتمكن من القيام بالمهمة الكبرى، وهي المبادرة لإنقاذ تركيا من روسيا.

ولما اطلع مترنيخ وزير خارجية النمسا على هذا الكتاب، كتب إلى سفيره في بطرسبورج: «إنا نستنتج من اعتراف محمد علي أنه يريد أمرين: استقلاله التام عن الباب العالي، وإنشاء الدولة العربية.» وكان إنشاء الدولة العربية هاجسًا مُقْلِقًا من هواجس مترنيخ، فكان يطلب اتفاق الدول الأربع للحيلولة دونه، ولكن إنكلترا كانت ترفض كل ارتباط دائم يحول دون حريتها، عملًا بسياستها التقليدية. ولكن نظرها شزرًا إلى محمد علي بدأ من يوم فَتْح الحجاز واليمن وطَرْد الإنكليز من مخا، وازداد بعد اتفاق كوتاهيه. ولم تُجب محمد علي الذي طَلَب محالفتها ووضع جيشه قيد إرادتها، ولا أجابت على عرضه أن يفتح قناة للتجارة من القاهرة إلى السويس، ولا على طلب مشورتها في إرسال حملة ضد أحد ضباطه الذي ثار في بلاد اليمن، وأخذ السفن الإنكليزية، مع الوعد بأن يعيد تلك السفن، وكان صمتها عن كل ذلك فصيحًا.

والذي يبين لنا وجهة نظر الإنكليز تقرير قُنصلهم فارن في دمشق في سنة ١٨٣٤، فقد قال في هذا التقرير إن تجارة إنكلترا لا تتمتع في بلد من بلاد العالم تَمَتُّعها في تركيا، وأن الرعايا الإنكليز لا يميزون في بلد تَمَيُّزهم في بلاد السلطان، وأن محمد علي وحكومته لا يمكن أن يعطوا الإنكليز هذه الامتيازات، وفوق ذلك أن محمد علي ينشئ المعامل، وهو الآن يورد مصنوعاتها إلى سوريا. وكذلك من الوجهة السياسية، فإن الاتفاق مع الباب العالي أفضل.

وهكذا اتحدت إنكلترا مع تركيا منذ سنة ١٨٣٤ لمكافحة محمد علي، وطلبت منه إنكلترا خدمة لتجارتها في مذكرة قَدَّمها إليه الكولونيل كامبل في ٢١ أكتوبر ١٨٣٤، بأن ينشئ طريقًا للمركبات من أنطاكية إلى الفرات بطريق حلب، وأن ينشئ مُستودعًا للبضائع في أزمير، وأن يأذن بعض الإنكليز بإنشاء حياض على الفرات في الجهة التي يختارونها، وبأن يعين آلايًا لحراسة الحياض والمستودعات، وبأن يرسل من لدنه مَنْ يُوثق صلات المودة مع قبائل البدو حتى لا يعتدوا على المراكب الإنكليزية التي تنقل البضائع.

وكان رئيس العمل — أحد ضباط الطوبجية الإنكليزية — يريد نقل قطع مركبين حربيين من أنطاكية إلى الفرات، ومعهما شرذمة من الجنود الإنكليز، مع إنشاء طابية وحصون في بيره جك. فرد محمد علي بواسطة وزيره بوغوص أن المسألة خطيرة، والواجب أن يستأذن السلطان بشأنها؛ لأن محمد علي لا يزال تابعًا له. فسعى الإنكليز سَعْيَهم لدى السلطان، فأصدر لهم فرمانًا بذلك، ولكنه اشترط في هذا الفرمان أن يكون والي بغداد ووالي سوريا حُرَّيْن مُخَيَّرَيْن بالتنفيذ. ولما صدر هذا الفرمان، مال محمد علي إلى تناسي كل شيء بينه وبين الباب العالي، والاتفاق معه للحيلولة دون مشروع الإنكليز واحتلالهم العسكري. وإليك رأي إبراهيم باشا في الرد على كتاب والده في هذا الموضوع العظيم الشأن:

مما لا شك فيه أنه إذا توصل الإنكليز إلى إقامة المعاقل والحصون على مجرى الفرات، وحققوا الأمر الذي نخشاه كثيرًا جدًّا، فقد يعرف الحقيقة القليل من الناس، ويدركون أنك لست السبب في ذلك. ولكن عامة الشعب الإسلامي الذي يجهل بواطن الأمور سيقولون إن هذه الأعمال التي تمت على حدودنا إنما كان إتمامها برضانا وتسليمنا. وأما الاتفاق الآن مع الباب العالي على ذلك، فهو من الأمور المستحيلة؛ لأن الحرب حفرت هاويةً بيننا وبين الترك، وقلوبهم ملأى بالحفيظة علينا. زِد على ذلك أن طلب الاستقلال الذي وجهتَهُ إلى الدول إبان ثورة جبال نابلس، قد أزال من نفوسهم كلَّ ما بقي من الثقة بنا؛ فهم يرفضون كل اتفاق معنا، وهم يقولون: «إذا نحن اتفقنا مع الإنكليز بقيتْ لنا على الأقل بورصة وإستامبول، ولا تُهدم السلطنة العثمانية. أما الاتفاق مع محمد علي فهو الفناء التام.» فلم يبقَ إذن من شك في أن الباب العالي يخشى على وجوده وكيانه من وراء الاتفاق معنا.

ويقول الدكتور صبري في كتابه «الإمبراطورية المصرية»: إن محمد علي لم ينتصح بنصيحة ابنه إبراهيم بشأن الاتفاق مع الباب العالي على مقاومة المشروع الإنكليزي الذي يمس الإسلام في الصميم، فوسَّط الروس بينه وبين الباب العالي، فغنم الباب العالي الفرصة، وأبلغ مسعاه السري إلى الإنكليز ليوقع بينه وبينهم؛ إذ كتب بوتنيف سفير روسيا في الآستانة إلى زميله الإنكليزي بونسوبي في ٦ نوفمبر ١٨٣٥ أنه قدم للباب العالي باسم محمد علي اقتراحًا سريًّا بالمعنى الآتي:

إن محمد علي يعلن أنه مستعد لأنْ يقيم العراقيل بكل ما لديه من الوسائل؛ لِيَحُول دون نجاح البعثة الإنكليزية إلى الفرات على شرط أن يأمره الباب العالي بذلك.

وهذا البلاغ مصدره السر عسكر، ومن الممكن الوثوق به دون أقل حيطة.

ولم يفلح المشروع الإنكليزي؛ لأنَّ أمره افتُضِحَ لدى الدول، حتى كتب بونسو دي بورغو إلى سفير روسيا في الآستانة في ٥ ديسمبر ١٨٣٢ يقول — كما جاء في سجلات الباب العالي: «إن هذا المشروع الإنكليزي شديد الخطر على السلطان؛ لأنه إذا سمح بتسيير المراكب الإنكليزية على الفرات تَبِع ذلك طلب آخر يُحتم حق استخدام وسائل حماية تلك المراكب، وهذا يتطلب إقامة المعاقل والحاميات، ولا تكون هناك مندوحة عن ذلك، لا سيما إذا نحن نظرنا إلى ما يملكه الإنكليز من الوسائل في بلاد الهند.

أما إذا سمح باشا مصر للمراكب الإنكليزية أن تأتي إلى السويس، فإنه لا يُعرِّض نفسه وبلاده لأقل خطر؛ لأنهم مضطرون للوقوف على الساحل. ولكن الأمر في الفرات على الضد؛ لأن شواطئه وما حوله من البلاد تؤخذ وتمتلك في المستقبل.»

وهكذا أظهر الإنكليز العداء الكامن في نفوسهم نحو محمد علي، وهكذا ظهرت مقاصدهم في أن يملكوا طريق الهند قبل حفر قناة السويس. وقد حدث أمر آخر؛ وهو احتكار محمد علي لحرير سوريا، حتى يغذي بهذا الحرير معامل القاهرة ودمشق وحلب، وقرر أنه بعد تناول هذه المعامل حاجتها يصير بيع الباقي حرًّا لتجار أوروبا. وعيَّن التجار والخبراء لتحديد سعر الحرير ودَفْع ثمنه نقدًا، فأثار عليه الإنكليز الثوائر بحجة أنه احتكر الحرير لنفسه. ولما اعترض الكولونيل كامبل على ذلك، أمَرَ إبراهيم باشا في أول سبتمبر ١٨٣٥ بأن تكون تجارة الحرير حرة من كل قيد. ونال الإنكليز بعد ذلك فرمانًا من السلطان بإلغاء احتكار الحرير، وغنموا فرصة صدور هذا الفرمان ليحطوا من شأن محمد علي أمام الشعب، وليثيروا عليه ثائرته.

وحدث أن شاه إيران أراد توثيق الروابط الودية مع محمد علي، فأرسل إليه مع سفير خاص ميرزا جعفر كتابًا يحيِّي فيه «هادم الإلحاد وخادم الأماكن المقدسة والحرمين الشريفين»، وزاد الشاه على ذلك أنه يهنئه «بميوله وأفكاره المضمرة»؛ أي الاستقلال.

فلم يَرْقَ عمل الشاه في نظر سفير إنكلترا، فسعى لدى الشاه ليعدل عن إرسال مندوبه وكتابه إلى محمد علي، وعلل ذلك في كتابه إلى حكومته «بأن مطامع الشاه هي أن يوسع أملاكه بالاتفاق مع محمد الطامع الطمع ذاته.»

ولما أراد إبراهيم احتلال بيرجك على مجرى الفرات ليَحول دون غزو البدو، كتب فارن قنصل إنكلترا في دمشق ٢٢ أكتوبر ١٨٣٥: «إن هذا الاحتلال يجعل لمحمد علي النفوذ الكبير على بلاد العراق، وإذا هو وصل العراق بدمشق بمرابط عسكرية، فإنه يضع لجامًا للقبائل.»

وأرسل الكولونيل تايور من بغداد يقول: «إن الدير شطر من ولاية بغداد.»

وتلت ذلك كله حملةُ صحف لندن على وزارة الخارجية؛ لأنها ساعدت محمد علي أو سمحت له بأن يوسع دائرة حكمه. وقد جاء في وثائق دار السفارة الروسية في الآستانة أن اللورد بالمرستون ندم على خطئه الذي أخطأه بترك محمد علي وشأنه.

وقد كان محمد علي في كل ما عرضه على الإنكليز يريد اتقاء عداءهم، حتى لامه قنصل النمسا عندما عرض على إنكلترا وضع جيشه تحت إشرافهم؛ لأنه يصبح تابعًا صغيرًا لهم، بدلًا من أن يكون وزيرًا خطير الشأن في تركيا. فأجابه محمد علي: «إن هناك مغامرة خطرة، ولكني رأيت أنه لا مندوحة عن المرور بهذا الخطر.»

أما الإنكليز، فإنهم كانوا على أشد الحذر منه، وقد كتب قنصلهم في الإسكندرية يصف محمد علي وإبراهيم بقوله:

أما إبراهيم، فإنه يعتمد في كل أعماله على القوة والعمل الفاصل ليبلغ غرضه، وأما محمد علي، فإنه عند الاضطرار يستخدم المال والمداهنة والوعود الخلابة والدسائس والحيلة المفتعلة، وهو ينبوع لا ينضب في كل مأزق وحرج، وهو قادر على التَّمَلُّص مهما ساء موقفه حتى موقف اليأس.

منذ اتفاق كوتاهيه أخذت إنكلترا تقف في وجه محمد علي؛ لتَحُول دون تأليف الدولة المصرية الكبيرة من شطر من آسيا وآخر في أفريقيا. ولكن القلوب كانت تهوي إلى مصر من كل جانب، فقد عرفنا أنهم بذلوا كل جهدهم ليَحولوا دون مجيء رسول الشاه إلى مصر يحمل رسالة الود والولاء من مولاه. وحدث قبل ذلك أن اللورد بالمرستون كتب في أول يوليو ١٨٣٣ إلى الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في مصر كتابًا يقول له فيه:

أرسل إليك مع هذا كتابًا من المستر فرازير قنصل إنكلترا في بونا، وقد أرسله إلى وزارة المستعمرات، وهو يتعلق بعريضة وَجَّهَها — على ما يقال — سيدي علي بك مغتصب طرابلس الغرب إلى محمد علي يطلب مساعدته، فأنا أَكِلُ إليك أن تتخذ الوسائل لتعرف هل هذه العريضة أُرْسِلت إلى محمد علي أم لا. فإذا كانت قد أرسلت إليه، فوَجِّهْ إلى محمد علي التنبيه حتى لا يتدخل في هذا النزاع.

ولما أراد محمد علي في سنة ١٨٣٧ مُعاقبةَ الجيشان الذين اعتَدَوْا على الأراضي المصرية في السودان وتوسيعَ مُلْكه في تلك الجهة، تلقى من إنكلترا إنذارًا تقول له فيه: «إن الحبشة هي المملكة المسيحية الوحيدة في أفريقيا، وقد أعلنت إنكلترا مرارًا وتكرارًا الأهمية الكبرى التي تعلقها إنكلترا على بقاء هذه المملكة سليمة من كل مساس.»

أما من جهة العراق وسوريا وبلاد العرب، فقد تلقى الكولونيل كامبل من اللورد بالمرستون في ٨ ديسمبر ١٨٣٧ البلاغ الآتي:

إنى قد أكلفك بأن تبلغ باشا مصر بأن حكومة جلالة الملكة تَلَقَّتِ التقارير عن حركات الجنود المصرية في سوريا وبلاد العرب، وهي تدل على أنه ينوي أن يبسط سلطة مصر إلى جهة الخليج الفارسي وولاية بغداد، فأَبْلِغ الباشا بكل صراحة أن الحكومة الإنكليزية لا تستطيع أن تنظر دون اكتراث إلى تنفيذ مثل هذه المشروعات.

وفي ٢٠ يناير ١٨٣٦ قال ريس أفندي للمسيو بونتيف سفير القيصر: «إن الباب العالي أدرك في الأيام الأخيرة كل الإدراك أنه يستطيع الاعتماد في المستقبل على مساعدة إنكلترا؛ لوَضْعِ شكيمةً لمطامع باشا مصر، فبادر بإرسال التعليمات إلى نوري أفندي عند سفره إلى لندرة في سنة ١٨٣٥، بالسعي لتسيير إنكلترا في هذا السبيل.» ولم تفتر تركيا من يوم احتلال محمد علي سوريا من إرسال الوفد تِلْوَ الوفد والمندوب تِلْوَ المندوب إلى لندرة؛ لِتَسْتَعين بها ضد محمد علي.

أما فرنسا، فإنها تحولت إلى محمد علي تُقدم له ما يحتاج من المساعدة، وكان كل هَمِّها النهائي أن توفِّق بين محمد علي والباب العالي، فكان الباب العالي يتظاهر بموافقتها على أن يعطي محمد علي حكم مصر ويجعله في سلالته ويترك له قوة كافية من الجيش، ولكن الظاهر أنه كان يقصد مُخادعتها، بدليل أن وزير خارجية تركيا أرسل في ١٠ أكتوبر ١٨٣٦ إلى سفير تركيا في باريس تلغرافًا يقول فيه عن اقتراح سفير فرنسا والتظاهر بقبوله: «إن الغرض من هذا التظاهر مجاراتُه وإرضاؤه فقط دون أن نُطلعه على خفايا نفسنا، فنحن قد نُسلم بإعطاء محمد علي صيدا وعكا إذا كان هذا الإعطاء يرفع يده عن البلاد الأخرى، على شرط أن يرضي ذلك الإنكليز. ولكي نزيد في إخفاء ما نضمره قد أرضينا سفير فرنسا بتوقيع الاقتراح الذي اقترحه.

وعلى انتظار حل هذه المسألة نُخادع محمد علي ونداهنه جهد الطاقة.»

وللوصول إلى هذا الغرض أرسل إلى محمد علي باشا صارم أفندي لِيُفاوضه فيما يرضيه. وقد كتب خلوصي باشا عن مهمة صارم أفندي يقول: «إن القصد الوحيد من إرسال صارم أفندي هو الوقوف على مقاصد محمد علي، ولكنه لم يؤذن له بأن يتفق معه أو يفاوضه، إنما أفهمه — تلميحًا — أن الباب العالي قد يرضى بإثباته في حكم مصر مضافًا إليها عكا، ولكنه ظهر أن محمد علي يريد البقاء في جميع البلاد التي يحكمها.»

ولما ظهرت لمحمد علي مهمة صارم أفندي، قال لأحد القناصل: «إن رجال الباب العالي هم الذين أرسلوا يُفاوضونني، ولكنهم يريدون أن يُظهروا للملأ أني ارتميت على أقدامهم؛ لأطلب منهم بعض الشيء، فما فتحته بسيفي لا ينازعني فيه منازع، لا أنا ولا ابني. أما سلالتنا، فإنها تعمل ما يكون بإمكانها للمحافظة على حقوقها.»

وكتب سفير فرنسا إلى حكومته يقول: «إن غرض الإنكليز الآن هو أن يستولوا هم على مصر، وهذا لا يتفق مع مصلحة فرنسا؛ لأنهم إذا هم احتلوا مصر، استحال على فرنسا أن تظل في الجزائر، فمن مصلحة فرنسا حَلُّ مسألة مصر بإعطائها لمحمد علي وسلالته بعده.»

هذه كلها هي الأسس التي بُنيت عليها سياسة الدول في ذاك الحين، وظهرت آثارها اليوم.

كل هذه المشاغل والمتاعب السياسية لم تشغل محمد علي وإبراهيمَ عن تنظيم بلاد سوريا، فأول هَمِّ إبراهيم كان توحيد شعب سوريا بإزالة الفوارق الدينية، ففَتَح أبواب دمشق للأوروبيين، وكان دخولها مُحرَّمًا عليهم، وقرَّر المساواة بين المسلمين واليهود والنصارى، فأعلن الأهالي أن اليهود والنصارى ليسوا أحطَّ من المسلمين مقامًا حتى ينزل النصراني عن دابته إذا قابل في الطريق أيَّ شخص مسلم، ولا أن يُحرَّم عليهم لبس الحذاء الأحمر، ولا أن يُكرهوا على ارتداء الملابس السوداء والزرقاء. وأذن للتجار الأجانب بأن يبتاعوا ويبيعوا في داخل البلاد، وقد كان محظورًا عليهم الاتجار مع غير بعض المواني في الساحل. وأمر بإحصاء الأهالي لِيَعْرِف حاجاتهم والأعمال التي يقدرون على القيام بها، فكان عددُهم على وجه التقريب نحو مليوني نفس، وهو:
  • ٩٧٧٠٠٠ مسلم.

  • ٣٤٥٠٠٠ أرثوذكسي.

  • ٢٦٠٠٠٠ كاثوليكي وماروني.

  • ١٧٥٠٠٠ يهودي.

  • ٤٨٠٠٠ درزي.

  • ٤٢٠٠٠ نصيري.

  • ١٥٠٠٠ متوالي ويزدي.

وأخذ إبراهيم يولي غير المحمديين الوظائف في الحكومة، وألَّف المحاكم المدنية، كما ألف دواوين المشورة من الأعيان. ووَجَّه نظره إلى القضاء على وجه التخصيص، حتى كتب الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في الإسكندرية إلى حكومته في سنة ١٨٣٧ يقول:

إن القضاء في سوريا قد سار في مدة قصيرة سيرته في مصر بعد طول الاختبار فيها؛ فقد كان القاضي الشرعي يحكم في جميع القضايا، وكان الباب العالي يعين المفتي في كل سنة، والمفتي يعين القضاة، وهؤلاء يحكمون بأحكام الشريعة، ولا تقبل شهادة المسيحي إلا في حالة عدم وجود الشاهد المسلم، ولا يستطيع الإنسان أن يتصور الفساد والرشوة، حتى إنهم كانوا يعرفون في إستامبول قهوة للشهود الزور يُقاوِل الواحد منهم على شهادته وعلى مدة الأيام التي يُستخدم فيها لأداء هذه الشهادة. وقد يتمكن المفتي في مدى السنة التي يُعَيَّن فيها من جَمْع ثروة طائلة؛ لأن تعيين القاضي ليس بالجدارة والاستحقاق بل بالثمن. وإذا لم يكن بإمكان محمد علي إزالة ذلك كله دفعة واحدة، إلا أنه خَفَّفَ منه كثيرًا جدًّا، وأكبرُ عمل عَمِله هو أنه لا يسمح للمحكمة بنظر القضية إلا إذا تلقت إذنًا بذلك من الحاكم، فإلى الحاكم تُقَدَّم مذكرة بموضوع القضية، وهو يُصدر بعد ذلك الإذن، والحاكم لا يمنع نظر أية قضية ما عدا القضايا الجنائية. أما قضايا الأحوال الشخصية وقضايا الملكية والمذهب … إلخ، فإن الحاكم يدرس مذكرتها، ثم يُحيلها إلى القاضي بقرار يلخص فيه الموضوع. أما قضايا الضرائب والتجارة والديون … إلخ، فإنها تُحال على ديوان المشورة.

وكافَحَ إبراهيم الرشوة بما أحله بالقضاة من العقاب، حتى استقام أمرُهم وساروا على منهاج العدالة والإنصاف. ولم يكن للقضاة رواتب، فقرر أن يعطى القاضي في العام من ٥٠ إلى ٦٥ جنيهًا. وعين الرواتب لجميع الموظفين، وكانوا يتناولون أجورهم من أصحاب القضايا. وعَمَّمَ مجالس المشورة في عكا وبيروت ودمشق وحلب وعنتاب وكلليس، وجعل الديوان العالي في دمشق. وكان بحري بك رئيس هذا الديوان الذي ينقض الأحكام أو يقرها بأمر الحاكم شريف باشا. ولم يتخذ إبراهيم لنفسه مقرًّا ثابتًا؛ لأنه صمم على أن يُشرف بنفسه على جميع الشئون، فكان ينتقل من بلد إلى آخر، وكان يطَّلع في كل بلد على شئونه ورقابة حكامه والموظفين فيه، وكان يعامل الموظفين الكبار إذا خرجوا عن جادة العدالة بكل صرامة. ا.ﻫ.

وإليك ما كتبه المستر فيري قنصل إنكلترا في دمشق إلى حكومته:

إن إبراهيم باشا فَتَّشَ أثناء إقامته هنا أعمالَ الحكومة والحكام، فوجد في أعمالهم ما يُوجِب المؤاخذة والعقاب، فطَرَد عددًا كبيرًا من الموظفين، وأنزل رُتَب البعض، وحكم على أحد حُجَّاب شريف باشا — الحاكم العام — بالسجن خمس سنين في عكا، وذهب بنفسه إلى ديوان المشورة، ولم يسمح لأعضاء هذا الديوان بأن يغادروا عملهم مدة عدة أيام إلى أن أتموا الأعمال التي كانت متراكمة فيه.

ولما قامت فتنة فلسطين وجبال نابلس في شهر يونيو من سنة ١٨٣٤ قصد محمد علي إلى تلك البلاد؛ لِيُباحث ابنه إبراهيم في تنظيم إدارتها، وليَقِف منه على كل شيء، وليعاونه على إخماد الفتن. ولكنه لم يكن هناك سوى شهر واحد؛ أي من ٢٩ يونيو إلى ٢٩ يوليو، وعاد إلى مصر، وواصل إبراهيم عمله في إخماد الفتن في الجهات الأخرى يعاونه الأمير بشير الشهابي. وألف محمد علي مجلسًا لإدارة الشئون في مصر مدة غيابه برياسة عبدي بك أحد المتخرجين من مدارس فرنسا العليا في التدبير السياسي، وجعل أعضاء هذا المجلس العالي من رؤساء الدواوين ومن اثنين من كل مديرية، وأن يُقسم المجلس أقسامًا فيَختص كل قسم بما خصص له أعضاؤه وينفذ الرئيس القرارات.

وبعد أن أطفأ إبراهيم الفتن استدعاه والده من سوريا ليستريح وليتفق معه على إدارة شئون تلك البلاد، ولا سيما مسألة جبل لبنان، فأقام إبراهيم في القاهرة من يناير إلى أغسطس ١٨٣٥، وبعد عودته إلى سوريا أخذ ينفذ الخطة التي اتفق عليها مع والده؛ وهي تجنيد اللبنانيين ونزع سلاحهم؛ لأنه وإن كان الأمير بشير حليف محمد علي إلا أنه كان يخشى اللبنانيين إذا ظلوا مُسلَّحين، فطلب إبراهيم باشا من الأمير بشير ١٨٠٠ شاب من الدروز ليُجَنَّدوا، فأبى الدروز تقديم شبانهم، وأوْهَم المسيحيين أنه سيعفيهم من التجنيد ونزع السلاح. وجاء حَنَّا بحري لإقناع الدروز بتسليم السلاح، فلم يقنعوا، فزحف إبراهيم باشا بجيش كبير، فأرسل الأمير بشير أولاده وأحفاده ليجمعوا السلاح من الدروز، وبعد ذلك طلب السلاح من النصارى وترك دروز حوران وشأنهم. وكان الكثيرون من شبان الدروز قد غادروا لبنان إلى حوران، وانتهى الأمر بعد أخْذِ سلاح الدروز والنصارى بأنه أمَرَ بإرسال ٦٠٠ شاب من الدروز إلى عكا ومصر ليُدَرَّبوا على الأعمال العسكرية. ثم أخذ إبراهيم بإتمام تنظيم الشئون في أنحاء تلك البلاد تنفيذًا للبرنامج الذي حمله من مصر، وهو يتناول كل فرع من فروع الحياة القومية في تلك الأقطار. وكان مذهب إبراهيم في إدارة تلك البلاد هو مذهب نابليون «بأن الشورى للجماعة والتنفيذ للفرد»؛ لذلك حاول أن يكون حوله جميع الذين يستطيعون الخدمة وخدمة المصلحة، ولكنه حال دون مرامه أمران؛ الأول: فقر البلاد بالرجال الصالحين لتولي العمل، والثاني: فساد الموظفين وأخذهم بالطرق القديمة. وقد كتب عنه المستر يانس في كتابه تاريخ مصر الحديث: «إن هذا الأمير كان مُحبًّا للعدالة، ولما كان مُتوليًا أمور سوريا لم يُهمل وسيلة من الوسائل لِكَبْحِ جماح الموظفين وقَمْعِ فسادهم، فأنزل قيمة الفوائد المالية والربا الذي كان يُحَصِّله الصراف والمرابون، وفتح بابه لكل سائل ومُتظلِّم، وكان الناس يغنمون فرصة خروجه من باب ديوانه ليبسطوا له ظلاماتهم. ودَوَّنَ شاهد عيان أن جبليًّا اعترض إبراهيم باشا في طريقه ليبسط له ظلامته، فلما ضاق صدر الباشا قال له: «يا عزيزي، لقد طالعتُ اليوم مائتي عريضة وأود أن أرتاح قليلًا، فثِقْ بأن عريضتك ستكون موضوع عنايتي.» وحدث مرة أخرى أن أهالي الناصرة تظلموا من سَلْبِ الحاكم الأموال، فأمره إبراهيم بأن يُقدم حساباته بلا إبطاء، فظهر له أنه زاد مبلغ ٦٠٠ قرش على الضرائب، ولما كان هذا الموظف لم يصرف في الخدمة سوى ١٢ شهرًا، فأمر بسجنه في سجن عكا ١٢ شهرًا كاملًا.»

وكتب الكولونيل كامبل إلى حكومته سنة ١٨٣٤ يقول: «كان من عادة أعيان سوريا أن يقدموا في شهر رمضان الهدايا للولاة والحكام، وقد أمر إبراهيم بمنع هذه الهدايا؛ لأنها لا تخلو من معنى الرشوة. وكان إبراهيم يحب الزراعة، فأنشأ المصرف الزراعي لإعطاء الفلاحين ما يحتاجونه من المال لزرع أرضهم، ووقاهم شر البدو الذين كانوا يعتدون على المزارع.» وكتب إلى حكومته في ١٥ أبريل سنة ١٨٣٤ يقول: «لا تزال إلى الآن مساحة كبيرة من الأراضي بورًا. ولكي يشجع إبراهيم الفلاحين على الزرع عَيَّنَ صرَّافًا في حلب وآخرَ في أدنه وثالثًا في دمشق، ووضع تحت تصرف كل صراف ألف كيس — ٥ آلاف جنيه — يعطون منها أصحاب الأملاك حاجتهم. وبما أن غرضه تنشيط الزراعة، فإنه وجَّه إلى الولاة اللوائح بهذا الشأن. وقبل نظام إبراهيم كانت الفائدة ٥٠ للمائة، ومع ذلك فالفائدة التي يتناولها الولاة اليوم عالية لأنها ٢٠ للمائة. وكانت نتيجة عمل إبراهيم ونظامه أن تضاعفت حاصلات تلك البلاد ثلاثة أضعاف، وحلَّ اليسر محل العسر، وعمرت الأرض.» وكتب هذا القنصل ذاته في سنة ١٨٣٦: «إن إبراهيم أنفق أموالًا طائلة على الزراعة، وقد كان الأهالي هجروا كثيرًا من القرى فعادوا إليها وزادت حاصلات الحرير.» وكتب مولينوا قنصل سردينيا في حلب: «إن الفلاح السوري قد أثرى في ظل الحكم المصري.»

وكتب قنصل فرنسا في القاهرة: «إن النهر الجاري من عينتاب إلى حلب قد طهَّره إبراهيم ونظَّفه، فزادت مياهه الجارية، وهو صارفٌ جهده لتنشيف المناقع حول الإسكندرونة، وسيصبح النهران اللذان يجريان بطرسوس صالحين لسَيْر المراكب. وقد أنشأ هناك الطرقات على الساحل وفي الجبال لنقل الحاصلات والأخشاب، وكل الشكوى كانت من أن الفلاحين كانوا يقتلعون في الليل ما يغرسونه في النهار، وقد عَزَوْا ذلك إلى الجهل.» ولكن المسيو لورين قنصل فرنسا علَّل ذلك بجَوْر الموظفين. وقد قال في تقريره عن سنة ١٨٣٩: «إن زيادة الأرض المنزرعة بلغت ٨٠ ألف فدان في سنتين، وغرسوا آلافًا من شجر التوت والزيتون، ولكن رجال الميري لم يفرِّقوا لجهلهم وغطرستهم بين النبت القديم والحديث، فضربوا الضرائب عليهما جميعًا؛ لذلك اقتلع الأهالي الغرس الجديد. ولما وصل الخبر إلى إبراهيم باشا استنكر عمل موظفي الميري، وأمر محمد علي بمعاقبتهم، ولكن الضرر كان قد وقع وعَدَل الأهالي عن الزرع.»

وأمر إبراهيم — كما جاء في تقرير قنصل إنكلترا في حلب — بإلغاء أخْذِ الخُمس من الحاصلات الزراعية، ووَزَّع ٤٤٦ شمبلًا من البذار (والشنبل ٧٥ أقة) و٣٢٠٤٠٠ قرش على الفلاحين، وزرع ٢٤٧ ألف شجرة توت و٥٢٤٥٥ شجرة زيتون و٢٦٤٩٠٠ غرسة عنب، ووَزَّع ٦١١ محراثًا، وكان قد وزع قبل ذلك ١٧١٨ محراثًا.

وكتب بورفيل قنصل فرنسا في حلب سنة ١٨٣٦: «إن المجهود الذي يبذله إبراهيم لِيُعَزِّز مركزه في سوريا لَهُوَ مجهودٌ لا يَعرف التعب إليه سبيلًا، وهو يُظهر حزمًا عجيبًا، وإذا حدثته أظهر عطفه الكبير على الأهالي، وهو يود من صميم فؤاده نشر المدنية بينهم.»

وروى عنه القنصل كامبل عندما زاره في برية حلب وهو منهمك بإبادة الجراد، فقال: «وجدته نازلًا في خيمة قديمة كأحد العساكر، وهو في أثواب تكاد تكون رثة، ويجلس على سجادة قديمة، ويتكئ على سرج جواده، ولم يكن عنده سوى كرسي واحد قدَّمَه لي. وحدثني عن الجراد، فقال إنه يأمل إبادة بيضه قبل أن يفقس ويضر بالزرع. وقد وزع عساكره العشرة الآلاف على عدة مناطق، وقال لي: إنا أحرقنا حتى الآن ١٦ ألف إردب.» والذي يؤخذ من تقارير القناصل أن إبراهيم أدخل زراعات جديدة في أنحاء سوريا كلها، وأتى بأنواع النبات والأشجار من أوروبا. ولما خرج المصريون من سوريا كتب قنصل إنكلترا يقول إن كل ما فعله إبراهيم قد أُهمل وبار، حتى القرى التي أنشأها لتحضير البدو قد تهدمت.

أما الصناعة، فكان تَقَدُّمها في المدن كبيرًا، فكتب المسيو بوالكانت يقول إن كل مدينة من مدن سوريا تختص الآن بنوع من الصناعة؛ فدمشق تصنع الآن ٤٠٠ ألف ثوب من الحرير الممزوج بالقطن، يبلغ ثمنها ستة ملايين فرنك، وحلب تصنع المقصبات من الحرير والذهب، ومصنوعاتها أفضل من مصنوعات ليون وأمتن وأرخص، وطرابلس تصنع الأحزمة والزنار، وأهالي القرى قد تعلموا نسج الحرير، واشتهرت دمشق في كل أنحاء الشرق بصنع سروج الخيل، وطرابلس والقدس ونابلس ويافا والرملة تعلَّمت صنع الصابون، والخليل تصنع المصابيح الزجاجية، وأنطاكية ودمشق تُتقنان الآن دبغ الجلود، وطرسوس تصنع أشرعة المراكب التجارية. ولحماية هذه الصناعات زاد محمد علي الضرائب الجمركية على مثيلاتها ٣ بالمائة، بحجة أن الدول الأوروبية تحارب مصنوعات بلاده في أملاكها. وقد راجت المصنوعات السورية في بلاد العرب وإيران وما وراءها وتركيا كلها.

ويقول الكولونيل كامبل إن ما استَنْفَدَتْه معامل حلب ودمشق وحماه وطرابلس ودير القمر وصيدَا من حرير البلاد السورية بلغ في سنة ١٨٣٦ ألفًا و٢٠٠ قنطار.

وأنشأ إبراهيم معملًا لنَسْجِ الصوف في صيدَا يكفي سكان الجبال الباردة حاجتهم، كما أنشأ معاصر لزيت الزيتون في طرابلس، وأتى بالآلات والعُدد من فرنسا.

واستخدم محمد علي علماء المعادن للبحث عنها في أراضي لبنان وسوريا، فوَكَل إلى المهندسين الفرنساويين البحث عن الرخام وأمثاله، وإلى الإنكليز البحثَ في لبنان وفلسطين عن الفحم الحجري، وإلى النمساويين البحث عن الرصاص والفضة والنحاس والذهب والحديد في بلاد النصيرية.

وزادت بعد ذلك تجارة سوريا زيادة كبيرة جدًّا، فقد بلغت ٣١ مليون فرنك في سنة ١٨٣٣، وأخذت بالنمو حتى وصلت إلى ٤٨ مليونًا في سنة ١٨٣٥ كما جاء في تقارير قناصل الدول وأهمها تقريرا كامبل قنصل إنكلترا ولورين قنصل فرنسا. وصارت دمشق — وعدد سكانها ١٢٠ ألفًا — مركز تجارة الشرق، وحلب تجارة الأناضول والعراق. واهتم إبراهيم بطرق المواصلات، فأنشأ الطرقات، وبنى ٣٠ مركبًا للنقل من أنطاكية في نهر العاصي، فاتهمه قنصل إنكلترا بأنه يريد من ذلك فَتْحَ بغداد، ولكن إبراهيم كان يود أن يُعيد لأنطاكية مجدها القديم لأنها كانت عاصمة الشرق يوم كانت رومة عاصمة الغرب.

هذا هو المجهود الذي بذله إبراهيم باشا لتعمير سوريا وتحضير البدو، وتلك هي النتائج الباهرة التي وصل إليها في سنين قليلة. وقد عرفنا من الوجهة السياسية أن اتفاق كوتاهيه كان هدنة فقط، وأن سياسة إنكلترا نحو مصر تَغيرتْ كل التغيير بعدما استخلصت تركيا من نفوذ الروس لنفسها ولنفوذها، فصار همُّها هدم محمد علي ونفوذه، كما يستدل من نص التعليمات التي أصدرها اللورد بالمرستون إلى القنصل الإنكليزي في حلب بأن يثير ثائرة الأهالي على محمد علي، وبأن ينشر دعاية السلطان محمود. وقد حدَّثَ اللورد بونسوبي سفير إنكلترا في الآستانة في سنة ١٨٣٤ البارون ستومر سفير النمسا عن محمد علي، فقال:

أما الآن فإني لا أخشى محمد علي؛ لأنه فوَّتَ الفرصة الوحيدة التي عنَّتْ له، وكان باستطاعته أن يلعب دورًا في منتهى الأهمية، وأن يجعل نفسه رجلًا هائلًا. وهذه الفرصة التي فاتته لن تعود ولن ترجع ثانية، فقد كان عليه أن يأتي هو ذاته على رأس جيشه إلى إستامبول لا أن يرسل ابنه إبراهيم، ولو أنه فعل لعَزَل السلطان ولجَلَس على عرشه إذا هو أراد. وقد كان كل شيء مُعدًّا كما تعلم أنت وأعرف أنا؛ لأن السخط على السلطان كان عامًّا وجميع الأنظار والآمال تتجه إلى محمد علي، وبما أنه لم يجد في نفسه القوة للانتفاع من افتراض كهذا، كانت جميع دلائله في جانبه، فلم يبقَ أمامنا شيء نخشاه.

وكان يُضاعِف في سَخَط بالمرستون على محمد علي أنه يكاد يُؤَلِّف إمبراطورية من آسيا وأفريقيا، وهذه الإمبراطورية إذا تُركت وشأنها، فإنها تكون أكبر حاجز في وجه التجارة الأوروبية والإنكليزية على وجه التخصيص؛ لأن الأرقام دلَّتْ — على ما جاء في تقرير قنصل إنكلترا — أن الصادرات من مصر إلى إنكلترا زادت زيادة كبيرة على الواردات من إنكلترا إلى مصر وسوريا، وهذه الحالة في تزايد متواصل.

وإذا أردنا أن نعرف سبب الفتن والثورات في سوريا عُدْنا إلى أقوال قناصل الدول ذاتهم قبل العودة إلى الوثائق المصرية. فبعد فتنة نابلس أرسلت إنكلترا قنصلها في الإسكندرية إلى فلسطين للتحقيق عن أسباب هذه الفتنة، فكتب يقول إن الثوار هم في الأصل الترك من جبال نابلس بزعامة الشيخ عيسى بن عمر، وأهل جبال القدس بقيادة إبراهيم أبو غوش، انضم إليهم أربعة آلاف من عرب عنزه؛ لأن إبراهيم أبو غوش الذي سَجَن إبراهيمُ والدَه في عكا زوج بنت أمير عنزه، وسببُ سجن أبو غوش هو أنه ظل يطلب الإتاوة من أديرة الرهبان في القدس رغم تحريم ذلك، ولم ينقطع عن سلب الحُجاج ونَهْبِهم. ومنع إبراهيم البدو من التعدي على أملاك الحَضَر، وعزل الموظفين الترك، وكانوا جيشًا جَرَّارًا، وعين لهم الرواتب التي تكفيهم، فحدث أن شابًّا تركيًّا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صَنَع صليبًا من الخشب، وصعد إلى مأذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المأذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلمًا فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا.

ويقول الكولونيل كامبل إن في ذلك أكبر شهادة لإبراهيم؛ لأنه حرَّم النهب والسلب وحمى اليهود والنصارى مما كانوا يَلْقَوْن من الاضطهاد، وبَسَط ظل الأمن في البادية.

وأرسلت روسيا قُنصلها دي هامل إلى سوريا للغرض ذاته، فقابل هذا القنصل الأمير بشير الشهابي وسأله عن سبب الفتنة، فقال له الأمير: «إن الباشوات الذين كانت ترسلهم إلينا تركيا لم يكونوا حُكَّامًا وولاة، ولكنهم كانوا مُدَمِّرين هدَّامين لهذه البلاد، وإذا أردت برهانًا فانظر إلى هذه السهول الخصبة التي ما كان يزرعها أحد ولا يسكنها أحد، وانظر إلى هذه القرى وكان قد هجرها أهلها وسُكَّانها؛ فإبراهيم باشا يبذل الجهد ليملأ هذه القرى بالسكان من عرب البادية، ومنذ بسطت حكومة مصر يدها على هذه البلاد تغيرت الحال وبدأ اليسر، ولولا التجنيد الإجباري لَاسْتَطَعْنا أن نقول إن البلاد في غبطة وسعادة تامَّيْنِ.»

ولقد عرف محمد علي أن الشر أيضًا في مسلك الموظفين مع الأهالي، بدليل الحديث الذي نقله عنه قنصل إنكلترا؛ إذ قال له: «إني أعرف أن الشر آتٍ من جهتين: جهل الأهالي، وشراسة الموظفين. وإذا عدتَ إلى التاريخ وجدتَ أن الأمم الأوروبية لم تَخْلُ من هذا العيب، ولكن هذا العيب ضُوعِف بأعمال السخرة لإقامة الحصون والمعاقل ومطاردة الشبان في المنازل والقرى وفي كل جهة.»

وهذا التجنيد، مضاعفًا بالأسباب الأخرى والسياسة المعروفة، كان سبب الثورة الدرزية في حوران في سنة ١٨٣٧؛ فإن إبراهيم باشا دعا الحكام والولاة إلى اجتماع عقدوه في عكا، وأبلغهم أوامره بإجراء التجنيد العام على قاعدة أخْذِ رجل واحد من كل عشرة رجال، وأرسل شريف باشا إلى شيخ مشايخ الدروز يحيى حمدان، فلما حضر إليه مع الوجوه طلب منه ١٧٠ شابًّا للجندية، فاعتذر الشيخ عن ذلك، وحاول إقناع شريف باشا بأن الشبان الدروز في حوران يدافعون عن بلادهم من اعتداء البدو، فما كان من هذا — على ما روى الدكتور غاليارود — إلا أن عبث بلحية الشيخ مُهَدِّدًا، فقال له الشيخ: أنا ذاهب، وسأحضر إليك بعدد من الرجال أكبر مما طلبت.

ولما عاد الشيخ وأصحابه إلى حوران، عقدوا جمعيتهم واتفقوا على الانتقام لشيخ مشايخهم عن هذه الإهانة، وأرسلوا الرسل إلى عرب السلوط لمحالفتهم، وبدأ العدوان بأن نهبوا أملاك شريف باشا والي دمشق وبحري بك مدير مالية سوريا، فوَجَّه إليهم شريف باشا قوة من ٤٠٠ جندي، فاجتمع قائد القوة بكبارهم في قرية النعلة، فوعد الدروز بإعادة ما سلبوه وبتقديم المُجَنَّدين في مدى عشرة أيام، ولكنهم انقضوا في الليل على تلك القوة فأفْنَوْها، ولم يَنْجُ منها إلا ثلاثون جنديًّا. وكان الدروز قد انسحبوا من الحضر إلى اللجاه والوعر، واللجاه وعر بركاني كثير التجاويف والمنعرجات، لا يستطيع السائر أن يخطو فيه خطوة واحدة دون دليل، فوجه إبراهيم باشا حملة كبيرة بقيادة محمد باشا مفتش الجهادية، فاستدرج الدروز الحملةَ إلى داخل اللجاه، حتى إذا ما دخلت الوعر طلع عليها الدروز من مكامنهم الخفية فقتلوا محمود باشا وبعض القواد، ومزقوا القوة وغنموا ما معها.

فذهب شريف باشا وجمع شتات الحملة، وطلب إبراهيم باشا من والده إرسال أحمد باشا المنيكلي لتَوَلِّي رياسة الحملة لانهماكه هو باتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الترك الذين كانوا يتأهبون على الحدود. فدخل أحمد باشا اللجاه للبحث عن الدروز، فظهر أمامه بعض طلائعهم، فأمر باقتفاء أثرهم، فاستدرجوه إلى الوعر، فخُدِعَ كما خُدِعَ محمد باشا، وكان نصيب جيشه نصيب جيش محمد باشا.

وكان هذا الانكسار الثاني وسيلة لنشر الدعاية ضد قوة الجيش المصري، ونهض دروز وادي التيم ولبنان لشَدِّ أزْرِ إخوانهم وقَطْعِ طرق المواصلات، فأرسل الأمير بشير بعض الأمراء لتأمين المواصلات، فنهض شبلي العريان قائد دروز وادي التيم لمقاتلة الأمير سعد الدين شهاب في حاصبيا، وانضم إليه أميران من أمراء الشهابيين؛ لأنه كان من عاداتهم المرعية أنه لا يجوز أن يحارب الأمراء غير الأمراء. وبعد قتال طويل أرسل الأمير بشير ولده خليلًا، فانسحب شبلي العريان إلى حوران، وانضم رجاله إلى الثوار، وأرسل إبراهيم باشا إلى والده يطلب الجنود الأرناءوط لمحاربة الدروز في الوعر؛ لأن الجنود النظامية المصرية لم تألف هذا الضرب من القتال، وعيَّن سليمان باشا الفرنساوي قائدًا للحملة، فتريث سليمان باشا إلى أن يَحُل فَصْلُ القَيْظ ويقل الماء في مغاور اللجاه والوعر فيضطر الدروز إلى الخروج لانتجاع الماء، ولكن الدروز ظلوا يشنون الغارة على الطرق وعلى قوافل الذخيرة وبانوا إحدى الحملات ليلًا ففتكوا بها.

ولما وصل الأرناءوط في شهر أبريل سنة ١٨٣٨ تولى إبراهيم باشا القيادة وقسَّم جيشه أربعة أقسام أحاطت باللجاه، وصرفت هَمَّها إلى الاستيلاء على المياه. ودامت المعارك حول المياه نحو شهرين، ولما اشتد الضيق بالثوار توجه شبلي العريان من حوران مع مائتي مقاتل إلى راشيا، فقتل المُتسلم والجنود ليُحوِّل ضغط قوة إبراهيم عن اللجاه. ووجهت إليه قوة من الشام فانتصر عليها وضيَّق على الجنود في القلعة فخرجوا، ولكنه لحق بهم واستولى على أسلحتهم وذخائرهم، وانضم إليه عدد كبير من دروز لبنان، فكتب إبراهيم باشا إلى الأمير بشير يطلب إرسال أربعة آلاف رجل من نصارى لبنان مع ابنه خليل لقتال شبلي عريان على أن تبقى لهم أسلحتهم طول الحياة. وجاء إبراهيم باشا ذاته إلى راشيا، وجرت معركة بين الدروز والجيش في وادي بكا، فانكسر الدروز وارتدوا إلى سفح جبل الشيخ، فأمر إبراهيم باشا الأمير خليل الشهابي بالزحف على الجبل، ولكن الدروز صدوا رجاله. وهجم جيش إبراهيم باشا فتغلب عليهم، فأرسلوا وجوهَهم إليه للتسليم، فقَبِل تسليمهم على أن يُسلموا أسلحتهم ويعودوا إلى وطنهم، وأمر بمطاردة شبلي العريان والقبض عليه، وانتهى الأمر بأن سُلم شبلي، فعفا عنه إبراهيم باشا وعينه قائدًا لفرقة نظامية من الهوارة.

وبعد ذلك أوفد الأمير بشير أحد رجاله جرجس أبو ديس يدعو دروز حوران للتسليم، وأرسل إبراهيم باشا معه الشيخ حسن البيطار للغرض ذاته، فسلموا وقدموا لإبراهيم باشا ٧٠٠ بندقية من سلاحهم، وألفي بندقية كانوا قد غنموها من الجيش. وأعفاهم إبراهيم باشا من الجندية والسخرة؛ لأنهم يقومون بحماية بلادهم وما جاوَرَها من سَطْو بدو الصحراء. وهكذا انتهت هذه الثورة التي ابتدأت في نوفمبر، في آخر شهر أغسطس، ويُقَدِّر القناصل الذين كتبوا عنها أن خسائر إبراهيم باشا كانت فيها عشرة آلاف رجل، كما كانت خسائره في ثورة جبال نابلس وفلسطين وسواها أربعة آلاف نفس، وأظهر الدروز من الشجاعة وحسن التدريب والشهامة ما أُعجب به كبار القواد.

وفي إبان ذلك وصل إلى بيت الدين مقرِّ الأمير بشير الدكتور كلوت بك مفتش صحة الجيش المصري، فطلب منه الأمير أن يستأذن محمد علي بإرسال بعض الشبان ليتعلموا الطب في مصر، فأجاب محمد الطلب على أن يكون تعليمهم مجانًا، فكان الوفد الأول مؤلفًا من أربعة رابعهم سليم مملوك الأمير. وظلت هذه البعثات تفد من لبنان إحداها تلو الأخرى، وتتلقى علم الطب مجانًا في مصر حتى أول عهد الاحتلال الإنكليزي، فانقطعت.

وكان الأمراء اللبنانيون يلبسون العمائم، فطلب منهم إبراهيم باشا، توحيدًا للزي في جميع الأقطار الخاضعة لمحمد علي، طَرْحَ العمائم ولبس الطربوش، فأصدر الأمير بشير أمرًا بذلك إلى الأمراء أولاد عمه، واقتفى أثرهم أعيانُ البلاد.

ولكن الأمير بشير ظل متغيرًا على شريف باشا والي سوريا، حتى إنه أبى زيارته مرارًا وهو في دمشق؛ لأن شريف باشا سأله مرة: «مَنْ صَيَّرَك أميرًا؟» فوضع الأمير يده على قائم سيفه وقال له: هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤