الفصل الثالث

  • بعد فتح دمشق.

  • الزحف على حلب.

***

يقول المصريون: إن الشام جنة الدنيا، وقد فتحنا لهم الشام فماذا يريدون فوق ذلك؟

من كتاب إبراهيم باشا لوالده

في ١٥ يونيو ١٨٣٢ دخل إبراهيم باشا دمشق وأقام عليها أحمد بك العظم متسلمًا، إلى أن أعلن تأليف المجلس المخصوص من ٢٢ عينًا ليتولى شئون الولاية والألوية. وكان محمد علي باشا قد عين محمد شريف باشا واليًا على دمشق، ووَكَل إبراهيم باشا إلى الأمير بشير تعيينَ المتسلِّمين، فعَيَّن متسلِّمي صيدَا وبيروت وطرابلس واللاذقية من الأمراء الشهابيين أبناء عمه، وصدرت أوامر إبراهيم باشا إلى محمد منيب بك والي عكا بتأييد هؤلاء المتسلِّمين. ولم يصرف إبراهيم باشا سوى أيام قليلة في دمشق؛ لأن الباشاوات قواد الجيوش التركية كانوا قد اجتمعوا بجيوشهم في سهول حمص، فصمَّم على مباغتتهم والزحف على حلب للاستيلاء عليها، وكانت حلب آخر مرمى محمد علي إذا لم يضطره السلطان إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك. ولما كان محمد علي واثقًا كل الوثوق من الفوز والنصر ومن الاستيلاء في أيام قليلة على مدينة حلب، عقد النية على أن يمهد الطريق السياسي، فاستأجر مركبًا فرنساويًّا في ٢٤ يونيو ليحمل منه رسالة إلى حاكم مالطة الإنكليزي، بغية أن يرسلها هذا الأخير إلى حكومته؛ لأنه لم يكن يثق أقل ثقة بالقنصل الإنكليزي، لِمَا كان يظهر من الجفاء نحو مصر ودس الدسائس لمحمد علي وإبراهيم، وليحمل رسالة من قنصل فرنسا إلى حكومته بآراء محمد علي.

وقد حدَّثنا عن ذلك قنصل فرنسا ميمو في رسالته إلى وزير الخارجية سيبستياني فقال:

إن محمد علي لم يستأجر السفينة الفرنساوية لتحمِل إلى مرسيليا ومنها إلى أوروبا خبرَ فتح دمشق، ولكنه استأجرها لتحمل منه رسالة إلى الحكومة الإنكليزية بواسطة حاكم مالطة؛ لأنه لا يثق بالقنصل الإنكليزي، ويعتقد بأنه يتلاعب بالإعراب عن أفكاره وآرائه. أما أنا فلم يسلمني رسالة، ولكنه أملى علي أفكاره التي يريد أن يعرضها على وزير الخارجية، وهي:

يرى محمد علي أن تركيا واصلة حتمًا إلى أزمة من الأزمات الكبيرة التي يتقرر بها مصير الأمم والدول، والآن يتم الانفصال بين شطرين من السلطة تقضي الحوادث والأنظمة والضرورة والأقدار بفصل أحدهما عن الآخر. وكان بالإمكان تلافي ذلك لولا غفلة السلطان؛ لأن محمد علي كان يود دائمًا — بالرغم من انفصال أحد الشطرين عن الآخر بالفعل والواقع — أن يظل التابع الخاضع المخلص، ولكن العناية أرادت غير ما أراد، فالآن قد تم تأليف المملكة العربية، والبلاد العربية هي مهبط الوحي، وهي تحتضن الأماكن المقدسة، وفيها مقر الخلافة وتطوقها الجبال من كل جانب كالأسوار، وإذا اضطرت للدفاع عن نفسها أنشأت القلاع والحصون التي سيتضاعف عددها.

واليوم ننتظر أن يرتمي أسطول السلطان وجيشه على أسطول محمد علي وجيشه، فيكون مصير أسطول السلطان وجيشه السحق. فلماذا مواصلة هذا القتال الذي لا فائدة منه؟ وأية أمة أوروبية تجد فيه ربحها؟ فلا هي فرنسا ولا هي إنكلترا ولا النمسا ذاتها. وذلك للأسباب التي يعرفها الجميع ولا يجهلها أحد.

والدولة الوحيدة التي يهمها سقوط السلطنة العثمانية هي الدولة الروسية. ألا يقوم الدليل على ذلك بدفعها الباب العالي بكلتا يديها ضد محمد علي مع إعلان الغضب والسخط عليه؟

فمنذ تملَّكت الغفلة الباب العالي نراه لا يعمل شيئًا إلا بنصيحة روسيا وأوامرها، وروسيا تعرف أن مصر صارت قوة، وأن هذه القوة تؤيد عند الحاجة الباب العالي ضدها. ولكن الجنون تملَّك الباب العالي فانساق لإرادتها ضد الشطر القوي الحي في السلطنة، ولذلك تريد روسيا أن يمزق بعضنا البعض.

فهل تسمح فرنسا وإنكلترا بأن تحفر السياسة الخادعة هذه الحفرة ليتردى فيها الجهل والغباوة؟

إن عليهما وحدهما وعلى رأيهما ووساطتهما الحيلولة دون فعل الدسائس، فإذا فعلتا كان عملهما خدمة للباب العالي ذاته وللسلام وللإنسانية.

أما محمد علي، وإن كان قد أُهين وسُبَّ، فهو لا يطلب — والنصر حليفه — إلا ما كان يطلبه قبل القتال، فلا يمتد نظره إلى أبعد من إلحاق سوريا حتى حلب بولاية مصر تحت سيادة السلطان، وعلى شروط موافقة للسلطان كل الموافقة. أما إذا ترك قياد السلطان لصديق ماكر، فقد تكون النتيجة عليه بلايا شديدة.

فهو الآن مُحتقَر مكروه من جميع المسلمين؛ لأنهم يَعدُّونه المخرب والعدو للسلام. أما محمد علي، فهو في نظر الجميع السَّند للدِّين والمُدافع المخلِص عنه، والمؤمنون في جميع أنحاء السلطنة تتجه أنظارُهم إليه، وكل جهة ترسِل إليه رسلها في طلب المساعدة والعون.

وهل مَن يشك الآن في أن الانتصار في سهول حلب بفضل عبقرية إبراهيم العسكرية، وبفضل تفوق العرب، وبفضل فوز الأسطول المصري، سوف يحكم بمصير إستامبول؟

فإذا كانت الدولتان الصديقتان تريدان أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فمحمد علي يود إبلاغه ذلك. وعنده أنه لم تبقَ إلا هذه الوسيلة للحيلولة دون انحلال السلطنة، وهذه الوسيلة هي المتفَق عليها بين جميع عقلاء السلطنة؛ لأنها تصون الوحدة التي تساعد على إنقاذ الجميع.

وأشار قنصل فرنسا إلى فتنة والي أشقودرة قبل ذلك، وأنه كان الغرض منها خلع السلطان وتولية ابنه تحت مجلس وصاية.

ذلك كان مسعى محمد علي السياسي المقرون بالنجاح العسكري، ولكن هذا المسعى لم يُوقِفه عن إرسال النجدات لإبراهيم، فأرسل إليه ستة آلاف جندي نظامي؛ حتى قالوا إن مصر خلت بعد هذا من الجند النظامي؛ لأن محمد علي كان في مأمن من الأسطول التركي.

وكان جيش إبراهيم باشا مؤلفًا يوم دخوله دمشق من ٣٠ ألفًا، يؤيدهم ١٥ ألفًا من رجال الأمير بشير الشهابي، وصدر أمر محمد علي إلى أسطوله بالخروج إلى البحر للبحث عن الأسطول التركي وهو مؤلَّف من:
  • ٣ سفن صف، وسلاح كل واحدة أكثر من ١٠٠ مدفع.

  • ١ سفينة صف، سلاحها ٧٤ مدفعًا.

  • ٥ فرقاطات، سلاح كل واحدة ٦٠ مدفعًا.

  • ٢ فرقاطتان، سلاح كل واحدة ٤٤ و٥٠ مدفعًا.

ويتبع ذلك مثل هذا العدد من السفن الأخرى الصغيرة الحربية، و٤ جرافات كبيرة يتولى قيادتها جماعة من اليونان، وهذا ما دعا الباب العالي إلى الاحتجاج لدى الدول؛ لأن محمد علي استخدم في بحريته متطوعة اليونان من أهالي الجزر.

أما قواد السفن الكبيرة، فكانوا فرنساويَّيْن اثنين وإنكليزيًّا واحدًا ومصريًّا كان قد أتم تعليمه في البحرية الفرنساوية، وكان أميرال هذا الأسطول محمد عثمان باشا، وهو رجل شديد البأس واسع المعرفة.

أما الأسطول التركي فكان مؤلفًا من:
  • ٢ من السفن الضخمة، سلاح كل واحدة منهما ١٤٠ مدفعًا.

  • ٣ سفن، سلاح كل واحدة منها ٨٤ مدفعًا.

  • ٦ فرقاطات، منها ثلاث كبيرة.

  • ١٠ نسافات.

  • ٥ جرافات.

  • ٢ زورقان.

  • ١ نقالة.

وكان سلاح الأسطول التركي أضعف من سلاح الأسطول المصري، وأكثر رجاله ممن لم يركبوا البحر، فلم يكن أحد من رجال البحر يُصدق أن أسطول السلطان يستطيع مواجهة أسطول مصر.

•••

أما خطة إبراهيم باشا، فكانت القضاء على جيش الباشوات في حمص، وهو لا يزيد على ٢٦ ألفًا قبل وصول جيش السر عسكر حسين باشا وهو ١٢ ألفًا، وقد جاء من طريق قونيه ومرَّ بطريق أنطاكية.

نهض إبراهيم باشا من دمشق في ٣٠ يونيو قاصدًا حمص، ومعه الأمير بشير وابنه الأمير خليل وأمراء وادي التيم ومشايخ نابلس، ولما وصل إلى النبك وجَّه الأمير بشيرًا ومن معه إلى دير عطية، واتجه هو ذاته إلى القصير، فخيَّم على مجرى نهر العاصي ثم نهض إلى بحيرة حمص. وبينما كان مُجدًّا السير كان الباشاوات الترك الثمانية منهمكين بتبادل الزيارات وتقبُّل التحيات ونصب الخيام الضخمة … إلخ.

ففي صباح ٨ يوليو انقضَّ جيش إبراهيم على حمص انقضاض الصاعقة، فمزَّق شمل الجيش التركي كل ممزَّق، واستولى على سلاحه ومهماته ومراسلاته، ومنها رسالة من الباب العالي إلى باشا حلب بأن يرسل إبراهيم باشا حيًّا إلى إستامبول. وبلغ عدد قتلى الجيش التركي ٢٥٠٠، وقتلى الجيش المصري ١٠٢، وجرحاه ١٦٢، وأسَرَ الجيش المصري نحو ألفين أُرسلوا إلى عكا وخيِّروا بين الذهاب إلى بلادهم أو الانضمام إلى المعسكر المصري في بلدة النحيلة.

أما الباشاوات قواد العسكر التركي فكانوا: محمد باشا والي حلب وهو القائد الأكبر، وعثمان باشا والي المعدن، وعثمان باشا والي قيسارية، وعلي باشا والي دمشق، وعثمان باشا والي طرابلس، ومحمد باشا الكريدلي، ومحمد باشا فريق عسكر الجهادية، ونجيب باشا، ودلاور باشا. ولم يقف إبراهيم باشا في حمص، بل سار بجيشه يقصد إلى حماه لِلِّحاق بهم، ولكنه تلقَّى الخبر بأنهم لم يقفوا في حماه، بل تركوا مدافعهم في الطريق وواصلوا السير، فسَطَتْ عليهم عربان عنزه، فأرسل إبراهيم باشا إلى عكا في طلب الطوبجية لإصلاح المدافع التي غنمها، وهي جميع مدافع الجيش التركي الذي ارتدت بقاياه بلا مدافع، وبقايا هذا الجيش لا تزيد على ١٥٠٠ مقاتل.

ولم يقف إبراهيم باشا في حماه، بل واصل السير إلى حلب، وبينما هو في قرية زينان جاءه فرسان العرب بستة من الأسرى فأخبروه أن الباشاوات ومعهم السر عسكر حسين باشا طلبوا من محكمة حلب إصدار حكم بتقديم المؤن للعساكر، فأبت وأبى الأهالي تقديم هذه المؤن، وتظاهروا بالعداء، فغادر الباشاوات حلب إلى عينتاب تاركين في حلب ١٦ مدفعًا والخيام والذخيرة والمهمات، فركب إبراهيم مع الفرسان بقيادة عباس باشا ووصل إلى حلب، فدخلها على الترحاب وقدَّم له الطاعة قاضيها ومفتيها وأعيانها.

وقبل أن يدخل إبراهيم حلب كتب إلى محمد علي والده يقول: «ها قد فتحنا الشام التي يقول المصريون إنها جنة، فماذا يريدون منا فوق ذلك؟»

وهكذا انتهى فتح الشام الذي كانت بدايته في شهر أكتوبر سنة ١٨٨١ ونهايته في شهر يوليو سنة ١٨٨٢.

وهذا هو المنشور الذي صدر لأهالي حلب:

عمدة العلماء الأعلام، حاكم الشريعة الغراء بمدينة حلب الشهباء، الأفندي الأفخم زيد فضله.

والمأذون بالإفتاء بها نخبة العلماء الكرام، الأفندي المكرم زيد بقاءه.

وفرع الشجرة الزكية، طراز العصابة الهاشمية، قائمقام نقيب أشرافها، الأفندي الأكرم زيد شرف سيادته.

وافتخار الأماجد والأكارم، متسلمها حالًا سياف زاده السيد إبراهيم أغا زيد مجده.

مفاخر الأماجد والأعيان، وجوهها الكرام وأعيانها وساداتها ذوي الاحترام.

أحيطوا جميعًا علمًا بأنه يجب قيامنا وتحريك ركابنا لطرف مرعو. فاقتضى إيفاد قائمقام لأجل تدوين أمور بلدتكم وضبطها وإجراء حكومتها وربطها.

بناء على ذلك قد نصَّبنا رافع أمرنا هذا افتخار الأماجد والأكارم سياف زاده السيد إبراهيم أغا المتسلم الموما إليه، وأبقيناه لأجل إدارة مصالح البلدة ورؤية أمورها.

فأنتم أيها المخاطبون إذا صارت الكيفية معلومكم تكونون جميعًا مع الأغا الموما إليه بالاتفاق، وتشدون عضد المواحدة والاتفاق لإيفاء مراسم الخدمة المبرورة وإجراء مراسم المساعي المقبولة المشكورة لدى جانب ولي النعم أفندينا السر عسكر باشا المعظم.

وأنت أيها القائمقام يلزم منك الانتباه واليقظة في محافظة الطرقات وأبناء السبيل، وعدم التعرض لأحد إلا بالوجه الشرعي، واستجلاب دعوات الفقراء والرعية وديعة رب البريه، وبذلك تحوز رضا سعادة أفندينا ولي النعم المعظم ورضانا … إلخ.

١٢٤٨

خاتم

إبراهيم توفيق

طغراء
يكن إبراهيم
قائمقامي حلب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤