الفصل الخامس

  • ماذا فعل الأسطول المصري؟

***

تولَّى محمد علي مصر في سنة ١٨٠٥، وردَّ الإنكليز عنها في سنة ١٨٠٧، وعرف أنَّ حكمًا أو ولايةً أو مُلكًا مستقلًّا لا يَستند إلى القوة لَهُوَ مُلك زائل ضائع. ولم يخطر له أن يستقلَّ عن تركيا كل الاستقلال، ولكنه خطر له أن يجعل نير سيادتها عليه خفيفًا جهدَ الطاقة — كما يقول مؤرخوه. فبعد أن وحَّد حكم مصر وأزال حكم الإقطاع والمماليك، وجَّه نظره إلى تنظيم قوته البرية والبحرية: فبعد أن كان جيشه ٢٠ ألفًا جعله بإرشاد سليمان باشا — الكولونيل «سيف» القائم تمثاله في وسط القاهرة وفي الميدان المعروف باسمه — والجنرال ليفرون، والجنرال بواييه، والكولونيل جودان، مائة ألف. فدرِّبَ على أحسن الأساليب والأنظمة الحديثة، ووضع نظام القرعة ليكون الجيش مصريًّا بحتًا، ويتخلص من متطوعة الأرناءوط والجركس وسواهم ممن لا يُستطاع الركون إليهم، ووجَّه عنايته إلى الأسطول كما وجَّه هذه العناية إلى الجيش، ووَكَل إلى الأميرال بيسون إنشاء الأسطول، كما وكل إلى الكولونيل سيف تأليف الجيش، ولكن مصر الواقعة على البحرين الأبيض والأحمر بحاجة إلى أسطولين بحريين، ومصر الجاري النيل في وسطها بحاجة إلى أسطول نهري ليصل عليه إلى السودان؛ فأنشأ الأساطيل الثلاثة.

ولما كلَّفه السلطان بإخماد ثورة الوهابيين، الذين استفحل أمرهم؛ فهدموا المساجد والمزارات والقباب في الأماكن المقدسة، وانتزعوا الزينات كالأواني والمصابيح والقناديل من الذهب الخالص و٥٠٠ لوح من النحاس مصفحة بالذهب و٢٠ سيفًا مرصَّعًا بالجواهر عدا الطنافس من الروضة المطهرة، وأخذوا اللؤلؤة الكبيرة وهي بحجم البيضة، وكانت معلقة فوق الضريح الشريف باسم «الكوكب الدري»؛ لمَّا كلفه السلطان بإخماد فِتنهم، لم يَرَ بُدًّا من إنشاء أسطول البحر الأحمر، فكان يُعِد قِطَع الأسطول في الإسكندرية ويُكلف عشرة آلاف بدوي بحملها إلى السويس؛ حيث رَكَّبَ ثماني عشرة سفينة في مدى شهرين فقط يتراوح محمول وحداتها بين مائة طن و٢٥٠ طنًّا، وكان العمال بالسويس أكثر من ألف عامل من إفرنج وأروام، وجعل مخازن المؤن بالقصير ومخازن المهمات الأخرى بالسويس، وكان محمد علي يقطع المسافة بين القاهرة والسويس في ١٨ ساعة، وكانت القوافل تقطعها في ثلاثة أيام.

ولما استفحل أمر الثوار اليونان ومزقوا جيش خورشيد باشا الذي كان يناوئ «محمد علي» في مصر — وعدد هذا الجيش خمسون ألف مقاتل، انتحر بعد الانكسار قائدُه ودمر اليونان المراكب التركية — طلب السلطان برسالة تاريخها ١٦ يناير ١٨٢٤ من محمد علي أن يُرسِل جيشه إلى المورة لإبادة العصاة. ولمَّا تلا بوغوص بك وزير خارجية محمد علي على مولاه كتاب السلطان، صاح في وسط الديوان: «فلْيَضع الله جميع تيجان الأرض على رأسك؛ إنك أهل لذلك وجدير به، وإنك الآن بطل أفريقيا وبونابرتها»؛ لأن استنجاد السلطان بالوالي كان أمرًا عظيمًا جدًّا.

وفي ١٠ يوليو ١٨٢٤ قام الأسطول المصري من الإسكندرية، وهو مؤلَّف من ٦٣ سفينة حربية، ومن مائة سفينة نَقَّالة ترفع أعلام الدول ما عدا فرنسا، ونقلت هذه السفن الأورط المصرية المنظمة على النظام الحديث؛ وهي أربع أورط، وأربعة بلوكات من مهندسي الطرق، و٧٠٠ جواد بإمرة حسن بك، ومدافع الحصار والميدان. وكان إسماعيل أغا يقود الأسطول ويقود الجيش إبراهيم باشا، فبعد أن قهر إبراهيم الثوار بمعاونة الجيش التركي اتفقت الدول الثلاث فرنسا وروسيا وإنكلترا على إنقاذ اليونان.

وأبلغوا ذلك إبراهيم باشا، فأجابهم أن الأمر للسلطان ولوالده، ورفض السلطان وساطة الدول، وصدر أمر محمد علي لإبراهيم بمواصلة القتال، وأرسل إليه ٩٢ مركبًا عليها أربعة آلاف جندي نظامي. وكان أسطول إبراهيم مُؤلَّفًا من سفينتين كبيرتين؛ سلاح كل واحدة ٨٤ مدفعًا، و١٢ فرقاطة كبيرة؛ سلاح كل واحدة ٦٥ مدفعًا، و٢٧ سفينة صغيرة، و٤١ نقالة. فاجتمعت هذه السفن المصرية بالسفن العثمانية واصطفت على شكل هلال، وفي ٢٨ أكتوبر ١٨٢٧ دخلت أساطيل فرنسا وإنكلترا وروسيا بين الأسطولين المصري والعثماني، ولم يبدُ منهم العدوان، ولكن سفينة إنكليزية تحرشت بنَسَّافة تركية، فوقع القتال بينهما. وظل محرم بك قائد الأسطول المصري على الحياد، ولكنه اضطر للاشتراك بالمعركة التي دامت أربع ساعات، وأنقذ إبراهيم باشا، وأصلح من أسطوله سفينة كبيرة وسِتَّ فرقاطات وعشر زوارق مسلحة و٣٥ مركب نقل؛ هذا كل ما بقي من الأسطول المصري.

وفي شهر أبريل ١٨٢٩ وَكَل محمد علي إلى المهندس البحري سريزي ترميم أسطوله وإنشاء أسطول جديد بمعاونة المسيو بيسون. وكان يستخدم في بناء الأسطول أربعة آلاف عامل من رجال الصعيد الأشداء، يرشدهم مائتا عامل أوروبي من عمال البحرية، وإنشاء الحياض ودار الصناعة لصنع السلاح والذخائر، ويشرف على العمل بنفسه، فيكافئ المجتهدين ويوبِّخ ويعاقب المهملين، حتى تمكَّن من أن يرسل لحصار عكا خمس سفن ضخمة؛ سلاح كل واحدة مائة مدفع، ومن فرقاطات عديدة قطعت البحر على الأمداد التركية، فأسرت سفينتين روسيتين تحملان الذخائر والمؤن لعكا، وسفينتين نمساويتين تحملان مثل ذلك لطرابلس، وفرقاطة تركية وزَوْرَقين مُسَلَّحين في خليج الإسكندرونة. ونقلت سفن الأسطول آلايين مصريين من الحامية المصرية في كريد إلى سوريا.

ولمَّا اتجه السر عسكر حسين باشا بقوته من الأناضول إلى سوريا، صدر الأمر السلطاني إلى قبطان باشا بأن يسير بالأسطول إلى الإسكندرونة، وكان هذا الأسطول مُؤلفًا من سفينتين كبيرتين؛ سلاح كل واحدة ١٤٠ مدفعًا، ومن أربع سفن؛ سلاح الواحدة ٦٥ مدفعًا، ومن ٨ فرقاطات مختلفة الحجم، ومن عشر طرادات صغيرة، و٨ زوارق مسلحة، وزورقين صغيرين، ومركب بخاري، و٤٥ نقالة من مراكب الأمم الأخرى. فأصدر محمد علي في ١٤ يوليو أمرَه إلى أسطوله بالخروج ومقابلة الأسطول التركي، وكان أسطول مصر مؤلفًا من ثلاث سفن؛ سلاح كل واحدة مائة مدفع، ومن خمس فرقاطات؛ سلاح كل واحدة ٦٠ مدفعًا، ومن فرقاطتين؛ سلاح كل واحدة منهما ٥٢ مدفعًا، ومن ٥ طرادات؛ سلاح الواحدة من ٢٢ إلى ٢٥ مدفعًا، ومن ٨ نسافات؛ سلاح الواحدة من ٨ إلى ٢٠ مدفعًا، ومن ٢٠ نقالة، و٦ جرافات، ومدفعية بقيادة عثمان باشا والأميرال وسطوش بك وكيله. واستخدمت تركيا باخِرتين نمساويتين وأخرى روسية لنقل أخبار الأسطول المصري إليها، واستخدمت مصر باخرة فرنساوية وأخرى إنكليزية للغرض ذاته. وكان قيصر روسيا قد تظاهر بعداوة مصر، فسحب قنصله من الإسكندرية وحرَّم على السفن الروسية خدمة مصر.

ولما وصل الأسطول التركي إلى رودس انقسم قسمين: قسم ليُقلَّ الرجال والمؤن إلى جهة الإسكندرونة لتعزيز قوة السر عسكر، وآخر لجأ إلى لارانكا في سواحل قبرص، وبعد قليل وصل الأسطول المصري إلى ليماسول في الجانب الآخر من قبرص.

وأخذ الأسطول المصري زورقين حربيين من زوارق الأسطول التركي بلا قتال، والتقت بعد ذلك فرقاطة مصرية بطرادة تركية سلاحها ٢٦ مدفعًا، فقبضت عليها بلا قتال، إلا طلقة واحدة أطلقتها الطرادة.

وكان عشرون مركبًا قد أنزلت المؤن والذخائر في الإسكندرونة، فاستولى عليها المصريون بعد انتصارهم في حلب؛ لأن هذه المراكب وصلت متأخرة.

والذي يؤخذ من تقارير بعض القناصل أن محمد علي أصدر أمره إلى أسطوله في قبرص بأن يرقب الأسطول التركي، ولا يهاجمه إلا إذا حاول إنزال الجنود في الجزيرة. وفي تقارير قواد السفن الأوروبية أن خليل قبطان باشا كان يتحاشى لقاء الأسطول المصري، وأن هذا الأسطول انتقل من ليماسول إلى لارانكا بعد خروج الأسطول التركي منها متجهًا إلى سواحل كارامانيا؛ حيث اتصلت به في أغسطس إحدى السفن الحربية الفرنساوية، فقال قبطان باشا لقائد تلك السفينة إنه لا يتوخى قتال الأسطول المصري إلا إذا اصطدم به؛ لأن لأسطوله مهمة أخرى.

وفي ١٨ أغسطس التقى الأسطولان، ولكنهما لم يقتتلا؛ لأن الأسطول المصري توارى تحت جُنَح الظلام بلا قتال. ولما التَقَى قائد الطرادة الفرنساوية بالأسطول التركي في ٢٤ أغسطس، قال له إنه يفضِّل أن يكون تحت حكم محمد علي على أن يكون تحت حكم السلطان.

وفي أوائل شهر سبتمبر أرسل محمد علي مع قومندان البارجة الإنكليزية — التي كانت تنقل إليه الأخبار — كتابًا إلى قبطان باشا يقول له فيه إنه قد حان الوقت لحقن دماء العثمانيين، وإنه يودُّ تلافي الخَطْب الذي يهدد السلطنة إذا رفض السلطان أن يترك له حكم سوريا مقابل الإتاوة اللازمة، كما كان يحكم تلك البلاد الباشاوات الذين تقدموه. فأرسل خليل باشا الرد بأنه من رأي محمد علي باشا، وبأنه أرسل كتابه إلى إستامبول، وسيرسل إليه الرد. وطلب من محمد علي أن يرسل إليه يوسف بوغوص بك لذكانته، ووعد قبطان باشا بالمجيء إلى مصر إذا كان رد الباب العالي بالموافقة. وبعد تبادل هذه الرسائل مع قبطان باشا، أمر محمد علي بإعداد الأماكن اللازمة لنزوله ولرسِوِّ أسطوله، وهكذا كانت الهدنة بين الأسطولين.
figure
الأساطيل المصرية في موقعة نوارين.

ولما أبطأ رسول قبطان باشا بالمجيء، أمر محمد علي أسطوله بالعودة إلى حالة الحرب، فقبض الأسطول المصري على مركبين من ثلاثة مراكب كانت تنقل «البقسماط» للأسطول التركي من سلانيك. وكان محمد علي يحاول تخويف قبطان باشا بكل الطرق والأساليب؛ ولِعلمه أن قنصل النمسا ينقل الأخبار إلى الباب العالي، كان يصرح أمامه بأنه سينزل آلايان في خليج مرماريس، ويركب هو ذاته البارجة الجديدة القاهرة، ويأمر الأسطول بأن يضرب الأسطول التركي بحرًا، كما تَتَوَلَّى البطارياتُ المصرية بقيادة الضابط ريمي — الذي اشتهر بحصار عكا برًّا — ضَرْبَ الأسطول التركي من البر. ولما وصل إلى قبطان باشا أن الباب العالي قرر تعيين خلفٍ له في قيادة الأسطول، عاد بأسطوله إلى الدردنيل، وذهب الأسطول المصري إلى خليج السودا بكريد، ثم تلقى الأمر بالعودة إلى الإسكندرية لإصلاح عدده.

وظل محمد علي مُجِدًّا في تعزيز أسطوله، حتى صارت السيادة على شرقي البحر المتوسط للأسطول المصري وحده، وحرم الترك كل مساعدة من جانب أسطولهم، إلى أن جمع السلطان في سنة ١٨٣٩ جميع ما في الدولة من القوات والقوى البرية والبحرية، فوجَّه جيشه ضد إبراهيم، وأخرج أسطوله لضرب الإسكندرية بقيادة أحمد فوزي باشا، فهدم إبراهيم آخِرَ جيوش السلطان في «نصيبين»، وجاء الأسطول التركي إلى الإسكندرية، فسلم لمحمد علي، وظل هناك إلى ما بعد عقد الصلح، بل كان تسليم الأسطول من أوائل شروط الصلح.

•••

وتوفي السلطان محمود، وخلفه ابنُه السلطان عبد المجيد وهو في السابعة عشرة من عمره.

•••

هذا ولا تزال بقايا أسطول محمد علي في بواخر الشركة الخديوية، كما صارت المراسي ملكًا لهذه الشركة، وأفضى تألُّب الدول على مصر إلى حِرمانها من النصر والجيش والأسطول ورفع عَلَمها فوق البحار، وانتهت على تركيا بفقدان جيشها وأسطولها وسلطانها. فهل لمصر اليوم أن تستعيد استقلالها وقواتها البرية والبحرية والنيلية بعدما تركت ٣٩ باخرة في السودان بعد الجلاء ثم تعززها بالقوة الجوية؟

الأمر بيد الأمة بعد الله.
figure
بوغوص بك يوسفيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤