الفصل السابع

  • الجيش المصري على أبواب إستامبول.

  • المساعي لوقف الزحف.

  • ما يطلب إبراهيم باشا لمصر.

***

بعد تدمير جيش محمد رشيد باشا في قونيه تحوَّلت المسألة من عسكرية إلى سياسية؛ فالسلطان ذُعر لوصول خبر الانكسار، وروسيا أرسلت الجنرال مورافيف لِيَعرض على السلطان مساعدتها البرية والبحرية لخوفها من تَقَلُّص سلطانها ونفوذها على الآستانة، وإنكلترا بعد رفضها مساعدة تركيا أعربتْ للنمسا عن خوفها من أن تنتهي المسألة بتقسيم تركيا. وتقسيمها يضيع الموازنة بأوروبا ويفضي إلى الحرب بين الدول. ورجال تركيا كانوا يكرهون طلب المساعدة من روسيا عدوتهم؛ لذلك انحازوا إلى رأي فرنسا بمخاطبة محمد علي بالصلح على أن يتنازل له السلطان عن ولاية عكا ودمشق وطرابلس. وعلى هذا سافر خليل رفعت باشا إلى الإسكندرية، وكان الجنرال مورافيف قد تقدمه لا للصلح بل ليطلب من محمد علي أن يجلو جيشه عن تركيا، وأرسل في الوقت ذاته بالمهمة ذاتها ياوره الضابط دوهامل إلى إبراهيم.

أما إبراهيم فإنه عندما زحف بجيشه من قونيه إلى كوتاهيه كتب إلى والده الكتاب الآتي:

اليوم (٢٠ يناير ١٨٨٣) بدأ الجيش ووحداته بالزحف من قونيه، تتقدمه شراذم صغيرة لشدة البرد ولقلة عدد الجمال للنقل. والذي يستخلص من البُرُد الواردة من إستامبول أنه لا توجد في طريقنا أية قوة تقاومنا. حتى إستامبول ذاتها ليس فيها حركة الاستعداد للمقاومة، وهذا يدل الدلالة الكافية على أنهم قد وضعوا الآن جميع آمالهم بالصلح. ولأجل هذا الصلح أرسلوا إليك خليل رفعت باشا، ولكني أرى — جهد ما يصل إليه علمي الضعيف — أنه ما دام السلطان محمود المشئوم على العرش لا يمكن أن يكون هناك صلح صحيح ولا نهاية للأزمة؛ لأنه سيكون عرضة للظروف؛ ينتهزها للانتقام ويعمل لها كما كان في الماضي وللجَوْرِ على هذه الأمة الإسلامية التعسة وظلمها. فبحق حبنا لهذه الأمة، وبحق غيرتنا الدينية، أرى من الواجب المُحَتَّم علينا؛ لا العمل لمصلحتنا فقط، ولكن العمل فوق كل شيء وقبل كل شيء لمصلحة هذه الأمة كلها. ومن أجل ذلك يجب علينا أن نرجع إلى القرار الأول؛ أي خلع هذا السلطان المشئوم ووَضْع ابنه ولي العهد على العرش، حتى يكون ذلك بمثابة مُحَرِّك يحرك هذه الأمة من سُباتها العميق.

فإذا اعترضتَ عليَّ بأن أوروبا تَعترضنا، قلتُ لك إننا لا ندع لها الوقت للتدخل، وبذلك نتقي الخطر من ذلك الجانب؛ لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يعرف، وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع. وإذا كانت أوروبا تغتنم الفرصة لإشباع مطامعها من هذه الدولة، فأية تبعة تقع علينا؟ وهل باستطاعتنا أن نمنعها عن تحقيق خُطة تسعى لتحقيقها منذ ٨٤ سنة؟

إلا أنا نسأل الله العون والمدد. ومهما يكن من الأمر، فإن الأفضل أن يقع اليوم ما لا بد عن وقوعه في يوم من الأيام. ومع الاستعانة بالله لتحقيق ذلك عزمتُ على التقدم إلى بورصة ومودانيا، فلا وقت إذن عندي لتلقي شيء منك أو من إستامبول يحرم على التقدم. أما أنا فإذا بقيت هنا فإني لا أجد أقل وسيلة لتموين الجيش لفقر البلاد، فلم يبقَ لي إلا الذهاب إلى بورصة، ومن هناك أرسل إليك رسولًا بما نكون قد قررناه تبعًا للظروف.

وقبل أن يصل إلى بورصة تلقى الأمر من والده بأن يقف، وكان هذا الأمر بعد وصول الجنرال مورافيف إلى الإسكندرية.

وصل هذا الجنرال إلى الإسكندرية في ١٣ فبراير، وقابل محمد علي، فلم يقدم له إنذارًا كما كانوا يقولون، بل أعرب له عن رغبة القيصر في أن يتفق مع السلطان، ولا بأس من أن تكون فرنسا الوسيطة. فأجابه محمد علي باشا بأن هذا الذي يطلبه منه قد عرضه على السلطان من شهر نوفمبر، ولكي يثبت للجنرال مورافيف حسن قصده وقَّع أمامه الأمر الذي أصدره إلى ابنه إبراهيم بالوقوف عن الزحف من قونيه. وقبل أن يغادر الجنرال مورافيف الإسكندرية وصل خليل رفعت باشا مندوب الباب العالي، وكانوا يظنون أنه يحمل شروط الاتفاق، ولكنه ظهر أنه يحمل إلى محمد علي عفو السلطان عنه وولاية عكا وملحقاتها. ولكن محمد علي كان على صداقة وولاء مع خليل رفعت باشا، فاتفق معه على شروط الاتفاق: وهي أن يعطى محمد علي ولاية سوريا وأدنه، وأن تُبرم بينه وبين خسرو باشا محالفة تعاون تضع حدًّا لنزاعهما، وأن يكون الاثنان بمثابة قيمين على أملاك الدولة؛ أحدهما في مصر والآخر في إستامبول.

أما إبراهيم، فقد أرسلوا إليه من الآستانة ثلاثة رسل؛ الأول: رسول الباب العالي ليبلغه أنهم أرسلوا إلى والده رسولًا للاتفاق، والثاني: رسول الجنرال مورافيف، والثالث: رسول سفير فرنسا. وقد روى بودوليا رسول سفير فرنسا أنه وجد إبراهيم يعيش في معسكره عيشة بسيطة، وليس معه حريم ولا له حرم، فهو في هذه العيشة يشبه نابليون. وقد كان يقول إنه يود أن يذهب إلى إستامبول ليشرب القهوة مع السلطان، ولا يهمه أمر الروس. ولما طلب منه الجواب على إيقاف الزحف كتب في ١٧ يناير إلى المسيو دي فارن سفير فرنسا:

أنا لست سوى قائد عام مَوْكُول إليه القيام بأعمال عسكرية، أما ما عدا ذلك فإني أرجع فيه إلى السلطة التي أنا تابع لها، فأنا من أجل ذلك سأتابع زحفي، ولكني أرجع في الأمر إلى والدي في الإسكندرية.

وكان إبراهيم يعتقد أن الاتفاق بين خليل رفعت باشا وبين والده محمد علي أمرٌ ممكن، ولكنه كان متمسكًا برأيه ولا يخشى الروس ولا يعبأ بقتالهم، وكان يعتقد — فوق ما تقدم — بأن الصلح الذي يُبرم مع السلطان محمود هو صلحٌ غير دائم، بل يكون بمثابة هدنة حتى يتمكن السلطان من العودة إلى القتال؛ لذلك كتب إلى والده في ٣ فبراير يقول:

أرى أن يكون الاستقلال مُقدَّمًا على كل شيء في المناقشات التي تدور بينك وبين الرسولين — مورافيف وخليل باشا — فمسألة الاستقلال مسألة حيوية تقدَّم على كل شيء. وبعد الاعتراف بالاستقلال يجب أن نطلب أضاليا وأدنه وجزيرة قبرص، وأن يضم إلى مصر — إن كان ذلك في الإمكان — تونس وطرابلس. ذلك أقل ما يجب أن نطلبه، ولا نتساءل عن أي شيء كان مهما كان الأمر؛ لأن مصلحتنا تقضي به. أما إصرارنا على الاستقلال، فلكي نُوَطِّد مركزنا ونَحوطه بالضمانات، فإذا لم نَنَلِ الاستقلال ذهبت جميع مجهوداتنا ضياعًا ومكثنا تحت يد هذه الحكومة الخبيثة التي توقرنا بمطالبها الدائمة وبطلب المال. فمن الآن يجب أن نتخلص من الأعباء المبهظة ولا نجد خلاصًا إلا بالاستقلال.

أما السبب الذي يدعونا لطلب أضاليا وأدنه، فهو شدة حاجتنا إلى الخشب؛ لأن مستقبل أسطولنا مُعلَّق على ذلك ما دامت بلادنا محرومة من الخشب. وأنت تذكر أن إنكلترا منعت وُرود الخشب إلينا، فاضطررنا أن نلجأ إلى النمسا التي أزعجنا رفضها إزعاجًا لا نستطيع نسيانه. وهل من حاجة بي لأُبَيِّن شدة حاجتنا إلى الخشب؟ فأنت أنت ذاتك قلتَ لي في الأمر الذي أصدرته حديثًا: «كما أنه يجب عليك أن لا تهمل وسيلة من الوسائل لصد الجيش التركي، كذلك يجب عليك أن تعمل كل ما باستطاعتك عمله للحصول على الخشب.»

أما ضَمُّ قبرص إلى مصر فهو أيضًا لازم لا مندوحة عنه لسببين؛ الأول: ليكون مركزًا لأسطولنا، والثاني: لمنع الباب العالي من أن يكون له طريق إلى أملاكنا. وإذا شئت أن تطلب بغداد فلا مانع من طرح هذه المسألة على بساط البحث على أن نتنازل عنها في المستقبل؛ لأن هذه الولاية لا تنفع شيئًا، وهي كسنار بعيدة جدًّا عن مصر وتتطلب نفقات باهظة.

هذا ما أعرضه على مسامعك وأوجه إليه — مع منتهى الاحترام — أنظارك.

أما محمد علي، فإنه كان يكتفي بسوريا وأدنه، بينما إبراهيم كان يتعرض إلى تأليف دولة بحرية قوية. كان محمد علي يرى بمصر وسوريا وبلاد العرب والسودان دولة كبيرة وبعيدة عن الاحتكاك بأوروبا، خلافًا لإبراهيم الذي لم يكن يخشى الاحتكاك بالدول الأوروبية.

وفي ٣٠ يناير وصل الخبر إلى الآستانة بأن إبراهيم قام من قونيه إلى كوتاهيه فأمر السلطان ريس أفندي بأن يقابل المسيو بوتيف سفير روسيا ويطلب منه إنجاز الوعد الذي وعد به القيصر وهو إرسال ٢٠ إلى ٢٥ ألف جندي. ولما وصل إبراهيم إلى قره حصار؛ أي على مسيرة ٤٠ ساعة من بورصة، طلب السلطان من سفيري فرنسا وإنكلترا إيقافه عن التقدم، فاشترط سفير إنكلترا أن يسترد السلطان الطلب الذي طلبه من الروس، ولكن محمد علي كان قد أمر إبراهيم بالوقوف في كوتاهيه، فأبلغ إبراهيم ذلك للقائمقام ولسفير فرنسا. ووصل الجنرال مورافيف إلى إستامبول من الإسكندرية وأبلغ الباب العالي أن محمد علي أصدر أمره إلى إبراهيم بالتوقف أمامه، ولكنه نصح الباب العالي بأن لا يغتر بذلك وبأن يتخذ الحيطة، ولكن سفيري إنكلترا وفرنسا استندا إلى جهر محمد علي بالخضوع للسلطان وبأمره إبراهيم بالوقوف، فطلبَا استرداد الطلب الموجَّه إلى قيصر روسيا، ولكن الباب العالي لم يَعْدِل عن ذلك.

وقام الأسطول الروسي من سيبستابول في ١٤ فبراير، وصدر الأمر إلى الجنرال كيسليف باجتياز الرومللي بجيشه إلى الآستانة وصدر الأمر إلى قومندان أوديا بحشد جيشه.

وفي ٢٠ يناير وصل الأميرال روسين الفرنساوي بأسطوله إلى الدردنيل، وأبلغ الباب العالي أنه يدافع عن مصلحته أمام إبراهيم باشا إذا هو استرد طلبه من روسيا، ولكن الأسطول الروسي وصل إلى البوسفور في ١٩ فبراير، فأبلغ الأميرال الفرنساوي الباب العالي أن وصول الأسطول الروسي يُذهب عن الباب العالي كل استقلال، وأن وجود السفير الفرنساوي أصبح عبثًا.

ولما وصل ذلك إلى ريس أفندي أرسل رسله إلى الأميرال يُقنعه بأن يكون الوسيط بين إبراهيم ومحمد علي والباب العالي، على أن يعطي محمد علي ولاية عكا وطرابلس والقدس ونابلس، وأن الزيادة غير ممكنة لبقاء السلطنة. فارتضى الأميرال الوساطة على هذه الشروط، وعلى شرط خروج الأسطول الروسي من المياه التركية. وكانت حجة الأميرال أن الباب العالي لا يستطيع التنازل عن ولاية دمشق؛ لأن التنازل عنها يضعف سلطة السلطان الدينية. أما أدنه فإن السلطان بحاجة كمحمد علي إلى أخشابها.

ولما وقَّع الأميرال وريس أفندي مشروع الاتفاق على ذلك في ٢١ فبراير كتب الأميرال إلى محمد علي وإلى إبراهيم كتابين قاطعين، وطلب من محمد علي أن يستدعي في الحال جيشه؛ لا باسم مصلحته فقط، بل بحكم خلاصه وإنقاذه؛ لأن «الاعتدال صار لازمًا لك، والإصرار على مطالبك يُوقع عليك مصائب إذا زادت جزعتَ لها. ففرنسا تتمسك بالعهود التي أنا قطعتها، وهي تملك القوة، وأنا ضمين إرادتها.»

وأرسل إلى إبراهيم باشا بأنه يجب عليه أن يعتبر الصلح مُبْرَمًا على الشروط التي بحثها الباب العالي، ولا يمكن تغيير أي شيء في أساس هذه الشروط، بل الواجب قبولها وإيقاف القتال.

وبعد ذلك طلب الباب العالي من سفير روسيا شُكْرَ القيصر على المساعدة التي قدمها، وأبلغه أن سفير فرنسا قد توسط للصلح الذي كاد أن يتم على يديه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤