الفصل الثامن

  • موقف الدول من مصر الفائزة.

  • محمد علي يرفض مطالبها المشينة.

  • خوف إنكلترا على طريق الهند.

***

ظن الأميرال روسين الفرنساوي أنه بكتابة العهد الذي وَقَّعَهُ في ٢١ فبراير بأن يُبرم محمد علي الاتفاق مع الباب العالي على أن يُعطى عكا وصيدَا وطرابلس ونابلس، قد أنهى المسألة، وقد أبعد الروس عن الآستانة؛ لأن همه الوحيد انحصر بإبعادهم فقط عن عاصمة تركيا. وظن أن الباب العالي صادق بوعده بأن يطلب من الروس العودة من حيث أتوا، وكانت سياسته مضمخة بريح البارود؛ أي التهديد والوعيد بقوة فرنسا، ففشل في كل ذلك؛ لأن الباب العالي لم يطلب من روسيا إلا أن تُرسِل أسطولها إلى ميناء قريب من البوسفور، حيث ينتظر وصول القوات البرية. وغضب قيصر روسيا لعمل الأميرال روسين حتى قال لسفير فرنسا لديه: إذا أرادت فرنسا منازلتي وقتالي فأنا مستعد، ولا أسمح أن تحل مسألة من مشاكل الشرق دون مشاركتي؛ لأني أقرب الدول إلى الشرق والشرق يهمني، ويكفي محمد علي أن تكون حدوده جبال طوروس.

ورفض محمد علي ورفض إبراهيم الشروط التي وَقَّعها روسين باسم حكومته.

وقد عرفنا أن الأميرال روسين كتب إلى محمد علي بأن يستدعي قواته من الأناضول «لا بحكم مصلحته فقط، بل لأجل سلامته»، فكان في ذلك كمن يأمر أمرًا.

وأرسل مع مندوبه إلى الإسكندرية كتابًا إلى قنصل فرنسا لدى محمد علي المسيو ميمو «بأنه لا يصدق بأن إبراهيم يتعرض للتبعة الهائلة التي تقع عليه إذا هو تقدم؛ هذا إذا لم يتقهقر، والواجب أن يرسل إليه والده بريدًا ليأمره بالوقوف.»

وأغرب ما في موقف الأميرال روسين أن حكومته لم تَكِلْ إليه سوى الوساطة الودية بين الخصمين، وكانت منذ أوائل ١٨٣٢ تقول بإعطاء محمد علي سوريا كلها خلافًا لما فعل مندوبها. ولم يكتفِ الأميرال روسين بما تقدم، بل خطر له أن يُصدر الأمر إلى قسم من الأسطول الفرنساوي، بأن يذهب إلى المياه السورية ويقطع المواصلات مع إبراهيم باشا بحرًا. ولما طلب من زميله الإنكليزي ماندفيل أن يحذو حذوه، أجابه السفير الإنكليزي أنه يقره على ما فعل؛ لأنه يتفق مع سياسة إنكلترا، ولكنه يعتذر عن إصدار الأوامر إلى الأسطول.

أما إبراهيم باشا فإنه رد على كتاب الأميرال روسين بقوله «إنه يقيم حيث يقيم الآن في كوتاهيه بأمر والده، وإنه لا يتقدم ولا يتأخر على هواه، بل طبقًا للأوامر التي يتلقاها من مصر وحدها.»

وكان إبراهيم قد وقف في كوتاهيه وأرسل جنوده، فاحتلوا القرى والمدن الواقعة على الميمنة والميسرة. وفي ١٩ فبراير ذاع في أزمير أن جيش إبراهيم باشا مُقْبِل عليها، فسَلَّم واليها طاهر بك مقاليد الأمور إلى أحد أعيانها أمين أفندي الذي تولى الحكم باسم إبراهيم باشا. ووصل الخبر إلى الآستانة في ٢٤ فبراير، فكان الجزع شديدًا، واغتنم الروس الفرصة لإبقاء أسطولهم في البوسفور «دفعًا للخطر الداهم»، وأرسل السلطان صنيعته أحمد بك لزيارة الأسطول الروسي تَمَلُّقًا إليه.

ولكي يثبت الأميرال روسين للسلطان بأنه متمسك بشروطه على مصر، أمر قنصل فرنسا في أزمير أن يُنزل عَلَم القونصلاتو، وحذا حذوه قناصل إنكلترا والنمسا وبروسيا. فلما رأى ذلك أمين أفندي الذي يتولى الحكم باسم إبراهيم باشا أعاد مقاليد السلطة إلى الوالي طاهر بك.

•••

استعاد حزب الروس قوته في إستامبول بعد تعيين رءوف باشا صدرًا أعظم؛ لأن روسيا الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدة الباب العالي، فغضب لذلك الأميرال روسين، وكتب إلى حكومته أن الدواء الوحيد لخلاص تركيا لا يكون إلا بخلع هذا السلطان، وقال: إن الشعب في سبات عميق، فهو أعجز من أن يفعل ذلك. وفي ١٥ مارس أبلغ الأميرال الفرنساوي الباب العالي أنه إذا لم يبتعد الأسطول الروسي بعد ٢٥ ساعة عن البوسفور، فلا يكون مسئولًا عن اتفاق ٢١ فبراير. ومن أجل هذا البلاغ جمع السلطان ديوانه، وكلف ريس أفندي أن يذهب إلى السفارة الروسية وأن يبلغ الجنرال مورافيف والأميرال لازاريف أن الاتفاق قد أُبرم مع مصر، فهو يأمل إعادة الأسطول الروسي إلى روسيا. فأجابه الجنرال أن إبراهيم باشا لا يزال على مسيرة خمسة أيام من إستامبول، وأن باستطاعته أن يهجم عليها. فأجاب ريس أفندي أن لدى الدولة وسائل المقاومة. وهذا ما أبلغه الباب العالي إلى الأميرال روسين، ثم ظهر أنه لم يكن صحيحًا. أما نظر إنكلترا إلى اتفاق ٢١ فبراير، فكان نظر الارتياح، فكتب بالمرستون إلى ويليام كامبل سفير إنكلترا في كابل يقول:

إن الشروط المعروضة على محمد علي باشا حسنة جدًّا ما دامت هذه الشروط تحرمه من دمشق وحلب، وهما الطريق إلى العراق. وفوق هذا، يجب أن يثبت في كل سنة في ما أعطى له وإن كان تثبيته في ولاية مصر دائمًا.

وقد كان قصده تأليف مملكة عربية لجميع بلاد العرب، والمشروع جليل الشأن بذاته لولا أنه يقضي بتقسيم تركيا، فلا يمكنا أن نُسلم به.

أضِفْ إلى ما تقدم أن تركيا أفضل دولة تملك طريق الهند، فهي أفضل من أي ملك عربي يقوم على هذه البلاد نزوعًا للعمل كثير الحركة.

فالواجب علينا أن نساعد السلطان على أن يعيد تنظيم جيشه وأسطوله وماليته، فإذا استطاع أن يعيد النظام إلى تلك الولايات الثلاث استطاع البقاء. ا.ﻫ.

أما «فيينا» فإنها قابلت خبر اتفاق ٢١ فبراير بالارتياح، وإن كان مترنيخ اتهم الأميرال روسين بأنه عمل بلا حساب وبحكم الحسد، الأمر الذي يجرح روسيا، ولولا اشتراط الأميرال روسين سفر الأسطول الروسي من إستامبول لَغَادرها ذلك الأسطول بعد الاتفاق، ولا يمكن أن تسكت روسيا على الجرح الذي أصابها.

أما روسيا فكان جوابها أن القيصر لم يكن يحاول جراية منفعة، أما بعد الآن فإن تركيا باتت في قبضة روسيا ولا قيمة لاستقلالها بعد احتلال الأسطول والجيش أملاكها.

وارتبكت السياسة الفرنساوية لأن الأميرال روسين تجاوز التعليمات، فأوقفها موقف العداء تجاه روسيا، وموقف الخصام لمحمد علي، ولم يكن باستطاعتها أن تتجاوز عن كرامتها فتعلن استنكار عمل ذلك السفير الذي نفذ سياسته الشخصية لا سياسة حكومته، كما قال الملك لويس فيليب لكلوت بك عندما قابله ليبسط له خطأ سياسة الأميرال روسين مع محمد علي صديق فرنسا. ذلك ما كان من أمر الدول في اتفاق ٢١ فبراير.

أما في مصر، فإن الفكر السائد بعد وصول خليل رفعت باشا كان على أن الصلح قد تم، ولكن وصول رسول الأميرال روسين يحمل اتفاق ٢١ فبراير وكُتُب التهديد منه لمحمد علي وإبراهيم وَقَعَ وقوع الصاعقة.

فالكبتن أوليفيه وصل إلى الإسكندرية في ٣ مارس على البارجة مزانج، وفي اليوم ذاته قدمه القنصل ميمو إلى محمد علي، فقدم نص الاتفاق وكتاب الأميرال روسين إلى محمد علي وصورة من كتابه إلى إبراهيم. ففي الجلسة ذاتها أمر محمد علي أمين سره بوغوص بترجمة ذلك، وكان محمد علي يقاطع المترجم بعبارات الاستياء والاستنكار، ولما ذكر المترجم «عكا وطرابلس والقدس» هز محمد علي رأسه وضحك ضحكة الاستهزاء. ولما انتهى بوغوص من تلاوة الاتفاق والكتب قال محمد علي:

إذا كانت الدول التي يهمها أمر مصر أكثر من سواها قد تخلت عني بهذا الشكل، فأنا أعتبر ذلك منها حكمًا عليَّ بالموت. ولكني أعرف كيف أموت شريفًا وكيف أجعل موتي مجيدًا كما كانت حياتي مجيدة. وإني أقابل الحكم وسيفي في يدي، وإذا أنا قبلت مثل هذا الثمن بعد نصري فإن الباب العالي يعود بعد سنة أو سنتين إلى إصلاح قواته، وإلى دس الدسائس التي أكون ضحيتها. فالأفضل أن أعرف كيف أموت منذ اليوم.

وكان الأميرال روسين يهدده إذا لم يقبل شروطه باستدعاء الضباط الفرنسيين من جيشه البري ومن أسطوله. ويقول المسيو ميمو إنه هو والكبتن أوليفيه تَعِبا في إقناعه بأن فرنسا التي عاونته وهي تُعجب به لا تريد به شرًّا. فظل على قوله «إنه ضحية مكيدة يُراد منها هلاكه» إلى قوله لهما بكل شدة «إنه متمسك بالمقترحات التي سلمها لخليل رفعت باشا، وإنه لا يحيد عنها قيد شعرة؛ وهي إعطاؤه سوريا كلها وأدنه، وإنه هو وإبراهيم ابنه يعرفان كيف يسقطان في ميدان المجد والشرف.»

قال المسيو ميمو: وعُدت إليه في اليوم التالي وبيَّنْتُ له أن نتيجة الرفض ستكون سيئة؛ لأن فرنسا تستدعي من جيشه وأسطوله جميع ضباطها، وأن الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي يطوفان السواحل المصرية والسورية، واستحلفه بأن يقبل الصلح. فأجابه:

إن ظهور الأسطول الروسي في الآستانة مكيدة مدبرة بين الرجال المابين والروس الذين اشتروهم بالمال. وهم غنموا فرصة وصول الأميرال روسين الذي يعرفون خلقه وتسرعه ليدفعوه فيما اندفع فيه. وخسرو باشا هو عدوي، وقد طلب الروس لإستامبول بينما كان مندوبه يفاوض هنا بالاتفاق. أما الآن فقد انتهى كل أمر، فكيف تدخلت الدول الأوروبية الآن مع أن المتفق عليه معها كان تركَ هذا النزاع العائلي وشأنه، بل كيف يوقعون اتفاق ٢١ فبراير ويضمنون تنفيذه بغياب أحد الخصمين؟ وكيف يجوز لهم أن يعتبروا الغالب مغلوبًا؟ أنا لا أصدق أن فرنسا وإنكلترا تقدمان على هدم دولة تعدُّ كل واحدة منها وجودها مفيدًا لها. وظهور الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي على سواحل مصر لا يمنع وجود الأسطول الروسي تحت سراي السلطان محمود.

والظاهر أن أوروبا تجهل مسألة مصر، فهم يظنون أني أطلب الاستقلال، وأنت تشهد أني لم أطلب ذلك، بل كان قصدي وغايتي النهوض بالسلطنة وتوطيد أركانها، وأن أزيد أراضيها وأن أضاعف قوتها بمضاعفة القوة المصرية. وبهذه الوسيلة نحول دون غزوات روسيا، وننهض بالأمة الإسلامية لندفع عن بلادها التي يستولي عليها عدوُّها الطبيعي قطعةً قطعةً وشطرًا شطرًا.

رفض محمد علي كما رفض إبراهيم قبله التسليمَ باتفاق سفير فرنسا والباب العالي، وسلم محمد علي في ٨ مارس للكبتن أوليفيه ردَّهُ على كتاب الأميرال، وقد قال فيه:

إن الأمة كلها في جانبي، وإذا أنا أردت إثارة الرومللي والأناضول، فأنا قادر بالاتفاق مع الأمة على كل شيء، وقد بسطت سيادتي على جميع البلاد، وانتصرت في جميع المعارك، ولما جاءني من لسان حال الأمة ومن الذين يتكلمون باسمها أنهم يُولوني حكم سوريا، أوقفتُ جيشي عن الزحف حقنًا للدماء، ولمعرفة ميول السياسة الأوروبية. فهل يكون اليوم ثمنُ الهوادة التي عملتُ بها بعد تلك الضحايا الكبيرة من أجل أمة دَعَتْني إليها وانضمتْ إليَّ وأنالتني النصر بعد النصر، تركَ البلاد التي احتللتها؟ وأن يُطلب مني سَحْبُ جنودي إلى مقاطعة صغيرة تُسمونها الولايات الأربع؟ إن هذا لا يكون، وإنْ في هذا الحكم عليَّ بالإعدام السياسي.

في ٨ مارس عاد خليل رفعت باشا من القاهرة إلى الإسكندرية، فأبلغه محمد علي أنهم يريدون أن يُكرهوه على قبول شروط وقَّعُوها هم. فهو قد صمم على المسير حتى النهاية، فلم يبقَ لخليل باشا إلا العودة حالًا إلى الآستانة. فتبرأ خليل باشا من هذه السياسة ودافع عن الباب العالي واستسمح أن يرسل رشيد بك معاونه إلى إستامبول فسمح له، فسافر يحمل إنذار محمد علي بأنه لا يقبل أقل تعديل بشروطه، وأنه أعطى ابنه إبراهيم السلطة المطلقة للمفاوضة وتوقيع الصلح باسمه إذا أُجيبت مطالبه. وحينئذ يعيد جيوشه إلى البلاد التي تعطى له. وإذا لم تُجب شروطه وأصروا على اتفاق ٢١ فبراير، فإبراهيم حُرٌّ في أن يواصل زحفه وأن يعمل ما يرى عمله بلا قيد ولا شرط تَبَعًا للظروف.

عاد الكبتن أوليفيه رسولُ الأميرال روسين سفيرِ فرنسا في الآستانة إلى محمد علي ورشيد بك معاونِ خليل رفعت باشا رسولِ الباب العالي من الإسكندرية إلى إستامبول، وهما يحملان إنذارَ محمد علي للباب العالي، ورَفْضَ الاتفاق الذي وقَّعَه الأميرال روسين، وتخويلَ ابنه إبراهيم السلطة المطلقة بأن يوقِّع الصلح إذا أُجيبت جميع مطالبه، أو يواصل الزحف على الآستانة إذا شاء وإذا رُفضت تلك المطالب جميعًا أو رُفض شيء منها. وهذه المطالب هي إعطاؤه سوريا وولاية أدنه.

ولما وصل الرسولان إلى إستامبول في ١٣ مارس كانت الحالة قد تغيرت تغيرًا كليًّا؛ فالباب العالي لم يطلب من الروس استدعاء أسطولهم، والأميرال روسين صار في حِل من تنفيذ اتفاق ٢١ فبراير، ولكن تَحرُّج الحالة حَمَل الأميرال روسين على أن يكتب إلى وزير الخارجية يقول: «إذا أرادت فرنسا وأوروبا إنقاذ السلطنة كان فرضًا واجبًا عليها إيقافُ محمد علي ولو بالحرب. ولقد يكون الوقت قد فات؛ لأن إبراهيم سيكون في إستامبول بعد ثمانية أيام، فلا يجد السلطان بدًّا من أن يعطيه سوريا كلها، ولكن هل تسمح له روسيا بذلك؟!»

أما الباب العالي، فإنه عندما تلقى إنذار محمد علي تَمَلَّكه الجزع والقلق الشديد، فطلب الوزراء من سفير روسيا بأن يُعجِّل بطلب خمسة آلاف مقاتل لحماية العاصمة، وبأن يستعجل زحف الجنود الروس، ولكن ريس أفندي كان يعرف أن الجنود الروسية لا تصل قبل انقضاء شهر، مع أن إبراهيم يستطيع أن يصل إلى الآستانة في عشرة أيام. فأمام «هذا الخطر الداهم» رأى الباب العالي استشارة السفراء، فقابل ريس أفندي سفير روسيا والجنرال مورافيف، فقال له المسيو بونتيف: «إن من الصعب على الأجنبي بذل النصيحة، فالوزراء الترك هم يعرفون ما لديهم من القوة للمقاومة، أما الأمداد الروسية فإنها تصل متأخرة لأنهم لم يرتضوها عندما عُرضت عليهم.» ولما خرج الجنرال والسفير من عند ريس أفندي ذهبَا إلى خسرو باشا السر عسكر الذي تظاهر أمامهم بشدة السخط على محمد علي دون الآخرين، وقال إن من رأيه مواصلة الحرب، وإن باستطاعته جَمْع ٢٥ ألف مقاتل تامِّي العدة.

ولما سئل سفير فرنسا رأيه قال: «إن إعطاء محمد علي سوريا وأدنه أخفُّ شرًّا من دخول الروس الآستانة.»

أما سفير إنكلترا فكان قوله «إنه لا يستطيع أن يبدي رأيًا رسميًّا، ولكن إذا كانت لدى الباب العالي قوة للمقاومة فلا ينصحه بالتسليم، وإلا فالأفضل اختيار أهونِ الشَّرَّيْنِ؛ وأهونُهُما إعطاء محمد علي طلباته.»

فأجاب ريس أفندي: إن الباب العالي مُستعد أن يعطي حلب ودمشق لمحمد علي، ولكنه لا يستطيع التنازل عن أدنه، فإذا أيده سفيرَا فرنسا وإنكلترا في ذلك يصعب على إبراهيم باشا الرفض.

وفي ٢٩ مارس اتفق الأميرال روسين والباب العالي على إرسال المسيو فارين وكيل سفير فرنسا في الآستانة مع رشيد بك مندوب الباب العالي إلى كوتاهيه، للاتفاق مع إبراهيم باشا على إعطاء ولاية سوريا كلها لمحمد علي، وعلى تخفيف الشروط بشأن أدنه جهد ما تصل إليه الطاقة. وحمل الرسولان إلى إبراهيم باشا كتابَي الأميرال روسين والمستر ماندفيل بمعنى ما تقدم.

وفي الوقت ذاته أرسلت فرنسا إلى محمد علي المسيو بوالكنت أحد مديري وزارة الخارجية ليقنع محمد علي بالجلاء عن الأناضول. وأصدر اللورد بالمرستون أمْرَهُ إلى البحرية بتعزيز أسطول البحر المتوسط، وبإرسال هذا الأسطول إلى مياه الإسكندرية. فإذا وصل الأسطول إلى المياه المصرية، ولم يكن الاتفاق بين محمد علي والباب العالي قد تم، فيُقدم الأميرال للقنصل كامبل كلَّ المساعدة التي يطلبها. فإذا كان تطور المفاوضات يتطلب اتخاذ الوسائل القاهرة إلى أن يتم الاتفاق، يقطع أميرال الأسطول جميع المواصلات البحرية عن جيش إبراهيم، وإذا هو التقى بالأسطول الفرنساوي يطلعه على هذه التعليمات ويدعوه لمشاركته في حدود التعليمات التي يكون قد تلقاها، وإذا ظهر أسطول روسي أمام الإسكندرية، يعامله الأسطول الإنكليزي معاملة الصديق، ويدعوه للاشتراك معه. ويقول وزير خارجية فرنسا في رسالته عن ذلك إلى الأميرال روسين: «إن الذي دعا إنكلترا لأنْ تضغط على محمد علي هو خوفُها من أن يملك العراق وطُرق مواصلات الهند وسواحل سوريا والخليج الفارسي.»

كل هذا لم يُخِفْ محمد علي الذي قال لقنصل فرنسا: «إني قد تَعلمت من أوروبا الآن أن الخضوع لا يكون لغير القوة.» ولكن تَعَلُّمه هذا الدرس جاء متأخرًا؛ لأنه لم يشأ سماع نصيحة ابنه إبراهيم ورأيه منذ ستة أشهر مضتْ.

أما الباب العالي فظل على سياسة تأليب دولة على أخرى؛ فبينما هو يرسل رشيد بك والمسيو فارين إلى إبراهيم بأنه قابل شروط محمد علي، يطلب من الجنرال مورافيف في ٣٠ مارس استدعاء الخمسة آلاف روسي من أودسا. وقال ريس أفندي للمسيو بونتيف في ٣١ مارس: «نحن نعلم أن الخمسة آلاف مقاتل لا تكفي لقتال جيش إبراهيم، ولكنها تحمينا من المباغتة والأخطار في بلاد الأناضول ضدنا.»

أما إبراهيم فإنه أصدر أمره في أول أبريل بالزحف على الآستانة تنفيذًا لأوامر والده، ولكنه لما تلقَّى خبر قدوم المسيو فارين ورشيد بك أمَرَ بإيقاف الزحف، ووصل الاثنان إلى كوتاهيه في ٥ أبريل، وفي اليوم ذاته وصل إلى الآستانة الخمسة الآلاف روسي مع الفرقة الثانية من أسطول القيصر. ولكن ذلك لم يحسِّن الحالة، بل زادها سوءًا؛ لأن وصول الجنود الروس إلى العاصمة أغضب المسلمين، ولا سيما العلماء والوزراء، وبدأت الاضطرابات بين الجمهور، ورفض المفتي إصدار فتواه بتصويب عمل الباب العالي في طلب الأمداد الروسية، ورفض أيضًا إبعاد طلبة الدين الذين كانوا يعلنون في المساجد آراءهم ضد الإفرنج والروس على وجه التخصيص، وكان عددهم ثلاثين ألفًا.

ولما احتل الروس إستامبول اشتد الاضطراب في لندن، فاقترح تاليران وزير فرنسا أن تتفق فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا على قطع العهد بينها بألا تطمع واحدة منها بامتلاك أرض من تركيا، فوافقت إنكلترا على ما يلي:
  • أولًا: التعهد بألا تُجَزَّأ تركيا.
  • ثانيًا: موافقة الدول الأربع على أن كل اتفاق بين الباب العالي ومصر يصون سيادة تركيا.
  • ثالثًا: تعهد الدول الأربع بأنه في حالة رفض محمد علي قبول ذلك، تتفق هذه الدول على الوسائل التي تتذرع بها لحمله على القبول.

ولكن النمسا والروسيا أحبطتا المشروع، فعَدَلت عنه إنكلترا، وتدخلت روسيا في أمر مهمة المسيو دي فارين ورشيد بك لدى إبراهيم باشا، فأبلغت الباب العالي «أن الصلح على الشروط التي حملها إلى إبراهيم باشا مُحقرة له. وإذا صدقت فرنسا بأنها توقف إبراهيم باشا عن الزحف، فليكن ذلك على أحكام الشروط التي أملاها الباب العالي وحملها خليل باشا إلى محمد علي، لا على التنازل عن سوريا كلها.»

فأرسل الباب العالي في ١٠ أبريل رسولًا إلى الأميرال روسين بأن يصدر تعليماته إلى المسيو دي فارين، بأن يلزم في مفاوضته إبراهيم باشا حدود اتفاق ٢١ فبراير، والعدول عن مكالمته على قاعدة التنازل عن حلب ودمشق. فرد الأميرال روسين بأنه إذا تغيَّر حرف واحد من اتفاق ٢٩ مارس بينه وبين الباب العالي على أن يتنازل الباب العالي عن حلب ودمشق، فإن فرنسا تستدعي المسيو دي فارين وتنفض يدها من هذه المسألة. فتدارك ريس أفندي الأمر وأبلغ الأميرال أنه لا يغير شيئًا من اتفاق ٢٩ مارس.

وفي ١٠ أبريل كتب المسيو دي فارين «أن رشيد بك أبلغ إبراهيم باشا بأن الباب العالي يعطي محمد علي سوريا كلها، ولم يبقَ من صعوبة إلا في أمر المقاطعات الأخرى؛ لأن إبراهيم لا يطلب أدنه وسلفكي فقط، بل أورفا وديار بكر. وبعد مناقشات طويلة ارتضى إبراهيم أن يرجع عن طلب ديار بكر وأورفا، وأن يكتفي بأدنه التي لا يتنازل عنها بحال من الأحوال. فإذا ارتضى الباب العالي ذلك، فإن إبراهيم يرسل إلى والده بأن الصلح قد تم، ويأمر سليمان بك بأن يعيد إلى قونيه الفرق التي غادرتها إلى كوتاهيه.»

ولما وصل هذا الكتاب، طلب ريس أفندي من سفير إنكلترا أن يكتب إلى إبراهيم باشا بأن الباب العالي ارتضى التنازل لوالده عن حكم أدنه أيضًا، والسبب الذي حمل ريس أفندي على أن يطلب ذلك من سفير إنكلترا هو أن هذا السفير كان يعارض أشد المعارضة في إعطاء حُكْم أدنه لمحمد علي. وأيد هذه الفكرة الأميرال روسين، فكتب إلى إبراهيم باشا أن فرنسا لا تتساهل في مسألة أدنه، وحُجَّتُه في ذلك أن إعطاء ولاية أدنه لمحمد علي يضع في يديه الأخشاب ومسالك الطرق في جبال طوروس وطريق إستامبول. وكان رأي الأميرال روسين أن تتفق الدول جميعًا على ذلك، وإن أفضى الاتفاق إلى إكراه محمد علي بالقوة؛ لأن الباب العالي قد يسلم بمطالبه تحت ضغط إبراهيم.

وفي ١٥ أبريل صدرت التوجيهات، وهي جدول أسماء الولاة والحكام المُثَبَّتِين في ولايات الدولة، وفي هذه التوجيهات أن ولايات مصر ودمشق وحلب وعكا وبيروت وطرابلس الشام وكريد والقدس ونابلس، قد حُولت إلى عهدة محمد علي، وأن ولاية الحبشة وجدة ومكة إلى عهدة إبراهيم باشا. وأما ولاية أدنه موضوع الخلاف، فإنها تظل تابعة لخزانة الدولة.

ولما أبلغ ذلك إلى إبراهيم، صاح صيحة الغضب والسخط، وقال للرسول: «كيف أستطيع أن أكتب إلى والدي أن الحكومة التركية لا تنفذ عهودها؟ فليكتب الباب العالي ذلك إلى والدي، أما أنا فإني أوقف كل حركة إلى الوراء.» لأنه كان قد أصدر أمره إلى إحدى الفرق بالعودة إلى قونيه، ولكن الثلوج منعتها عن السفر.

وفي ٢٣ وصل كتاب القايمجي إلى الباب العالي بأن إبراهيم باشا يُلِحُّ في أن يُعيِّن حاكمًا لأدنه، ومعنى ذلك أنه يرفض التنازل عن هذه الولاية.

فاجتمع الوكلاء، وقرروا أن يطلبوا من إبراهيم باشا أن يُرسِل إلى الآستانة إما عثمان بك وإما باقي بك من رجاله المقربين، للمباحثة في مسألة أدنه، ففهم إبراهيم أن المقصود المماطلة والتسويف، حتى تصل الأمداد الروسية — وهي بين ٦ آلاف و٧ آلاف مقاتل وعشر سفن حربية — فضلًا عن أن الأميرال روسين الفرنساوي كان يهدد محمد علي بقوة أوروبا. ولكن وزير خارجية فرنسا كتب إلى هذا السفير «أن الوصول إلى الصلح أغلى من أدنه ثمنًا.» وحاول الأميرال روسين الاستعانة بالجنرال مورافيف والمسيو بولتيف، فرفضا، ووصل في أول مايو اللورد بونسوبي سفير إنكلترا إلى إستامبول، فأدرك أن الباب العالي يميل إلى إعطاء أدنه إن كانت إنكلترا وفرنسا تسمحان له بذلك. وفي الوقت ذاته سأل سفير روسيا الديوان عما يريد أن يفعل الجيش الروسي الذي وصل إلى نهر الدانوب، وعدده يتراوح بين ٣٠ ألفًا و٤٠ ألفًا، أهو لحرب يواصلها أم تسليم شئون تركيا إليه؟ فاجتمع الوكلاء واتفقوا على الاستعفاء إذا طلب الجيش الروسي. فصدر بعد ذلك بثلاثة أيام خط سلطاني بالموافقة على قرار الوكلاء، وهكذا انتصر الميل إلى الصلح.

وكان إبراهيم باشا قد أبلغ الباب العالي أنه يكتفي بأن يكون «محصل أموال أدنه»، كأي محصل آخر، وأن هذا يرضي والده ويريح الباب العالي، وهذا ما قَبِلَهُ الديوان وقرره.

كان وصول إبراهيم البطل الفاتح إلى كوتاهيه سببًا لانهماك الدول في مسألة تركيا ومصر، فأوفدت فرنسا والنمسا وإنكلترا مندوبين سياسيين إلى مصر: هم بوالكنت من مديري الشئون الخارجية الفرنساوية، والكولونيل كامبل من سياسي إنكلترا، والهر بروكس أوستن من سفراء النمسا. وأوفدت إلى الآستانة الأميرال روسن الفرنساوي واللورد بونسوبي الإنكليزي والجنرال مورافيف والكونت أورلوف الروسي.

وكانت سياسة روسيا ترمي إلى بسط حمايتها على تركيا، وسياسة النمسا حل المسألة بالاتفاق مع روسيا، وسياسة فرنسا وإنكلترا إبعاد روسيا عن تركيا والحيلولة دون أن يؤلف محمد علي الإمبراطورية العربية؛ لذلك كان رأي اللورد بونسوبي بعد درس المسألة أن ينصح — بالاتفاق مع الأميرال روسين — السلطان بقبول الحل الذي حله إبراهيم باشا، وذلك بأن يعين مُحصلًا — أي مديرًا — لأموال أدنه باعتبارها جفلكًا سلطانيًّا. وكان سَخَطُ العلماء وطلبة الدين — وعددهم ثلاثون ألفًا — ظاهرًا باديًا في الآستانة لاستدعاء السلطان الجيش الروسي والأسطول الروسي لاحتلال عاصمة السلطنة. ولما خرج السلطان للصلاة في اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى بدا له سخط الشعب لهذا السبب ولشدة الضائقة من قلة الغذاء؛ لأن جيش إبراهيم قطع المواصلات مع بلاد الأناضول التي تغذي الآستانة، ولأن الروس زاحموا الأهالي على ما عندهم من المآكل. فلما عاد إلى القصر السلطاني سلَّم بإعطاء إدارة أدنه لإبراهيم. وهكذا انتهت المفاوضات التي بدأت في أبريل بقبول شروط محمد علي في ٣ مايو. ولم يشأ محمد علي أن يطلب قبرص لفقرها؛ «لأن الإتاوة التي يطلبها الباب العالي ستة آلاف كيس (٣ آلاف جنيه)، وهي عاجزة عن دفع هذا المبلغ مع أن كريد صالحة للتعمير والاستثمار.» وهو إذا ملك كريد وأدنه وسوريا ومصر ألَّفَ من ذلك كله وحدة قوية وغنية معًا. ومما قاله محمد علي لمندوب النمسا: «إن امتلاك أدنه لازم لي؛ لأن الباب العالي لا يستطيع التجاوز عن عملي معه، فالواجب أن تكون بيدي الضمانة؛ فهو غدره ضعيف الآن ولكنه يستطيع أن يستعيد قواته بعد ست سنين، وهو يحكم ستين مليونًا، وأنا لا أحكم سوى أربعة ملايين، فلا بد لي من بلاد تدافع هي عن نفسها.»

أما السبب الذي دعا اللورد بونسوبي إلى نصيحة الباب العالي بأن يعطي إبراهيم باشا أدنه، مع تصريح اللورد بالمرستون قبل ذلك بأن إنكلترا لا تسلم بقيادة دولة عربية فتية على طريق الهند، فهو أن تستعين إنكلترا بالصلح بين مصر وتركيا على إخراج الروس من الآستانة، ثم تستغل بعد ذلك حفيظة الباب العالي على محمد علي حتى ينهض بعد إصلاح شئونه لأخْذِ الثأر ومنع التوسع المصري.

ولما وصل الكونت أورلوف الروسي إلى الآستانة في أبريل، بلغه أن الصلح بين السلطان ومحمد علي وضع في اليوم السابق لوصوله، فقال: «إن هذا الصلح ليس سوى هدنة لا تدوم أكثر من خمس سنين إلى ست سنين.» وهذا ما وقع بعد ذلك. ولم يكن اتفاق كوتاهيه معاهدة صلح تضمنها الدول، ولكنه كان محضرًا بين إبراهيم ومندوب السلطان، نفذ بصدور فرمان الولاية لمحمد علي على مصر وكريد وسوريا، وبتعيين إبراهيم مُحصلًا أو مديرًا لأدنه وواليًا للحجاز … إلخ.

ووصل خبر الاتفاق إلى الإسكندرية في ١١ أبريل. وفي ١٦ أبريل وصل الأميرال سليم بك من قواد جيش إبراهيم، وكان قد غادر كوتاهيه في مساء ٩ أبريل، وقابل محمد علي في دار صناعة السفن بحضور القناصل، فصاح بوغوص بك بأعلى صوته: «لقد أبرم الصلح.» فتغير وجه محمد علي وضحك ضحكة عصبية؛ لأنه لم يستطع تمالك نفسه. ورأى الحاضرون دمعتين تنحدران على خديه من عينيه رغم رزانته ومهابته.

ولكن الرد على مسألة أدنه أبطأ، فأخذ مندوبو الدول يلحون على محمد علي بأن يتحول عن طلب أدنه، وكل واحد منهم يقرن طلبه بالتهديد أن يسلم لهم، إلى أن وصلت سفينة حربية في ٥ مايو تحمل من إبراهيم خبر تسليم الباب العالي بأدنه، فأمر محمد علي بأن ترفع المراكب والسفن زينتها كاملة، وبأن تُطلِق القلاع والطوابي في جميع أنحاء البلاد مائة مدفع ومدفعًا. وقرر السفر إلى القاهرة وتفقد المزارع بطريقه، حتى لا يقابل مندوب السلطان برتو بك — الذي يحمل إليه الفرمان — في غير العاصمة.

وهذا هو نص الفرمان السلطاني الصادر في ٦ مايو إلى الوزراء والميرميران والمللا والقضاة ونواب الشرع والمتسلمين والكبراء والأعيان والوجوه والموظفين في أنحاء بلاد الأناضول:

إن تأكيد الأمانة والإخلاص الذي قدمه في العهد الأخير والي مصر محمد علي باشا وولدُه إبراهيم باشا، قد لقي الحظوة لدينا، فنُوَجِّه إليهم رضانا العالي الشاهاني، وأثبت في ولاية كريد ومصر محمد علي باشا. ونظرًا لالتماسه الخاص، وَلَّيْتُه مقاطعات دمشق، وطرابلس الشام، وصيدَا، وصفد، وحلب، وإقليمي القدس ونابلس، وحراسة الحج، وقيادة الحردة. ونال ابنه من جديد من عطفنا الشاهاني لقب شيخ الحرم المكي، وولاية جده. وفوق هذا قد أجبتُ مُلتمسه بشأن إدارة مقاطعة أدنه التي يديرها إدارة الجفالك الشاهانية، وذلك بلقب مُحَصِّل.

وإني لِمَا طُبعت عليه من الإنصاف والشفقة والحلم، أُصْدِر أمري هذا لجميع مَن في بلاد الأناضول بألا يُحاسِبوا أحدًا من السكان والأعيان عن الماضي، وأن ينسوا جميع الحوادث التي وقعت. وأنتم جميعًا تُبلغون من في دائرتكم عفوي، وتبذلون جهدكم لِتَطْمين الخواطر من هذا الوجه، وتعملون كلَّ ما باستطاعتكم لرفع الأدعية لشخصنا الشاهاني من كافة الشعب الذي هو أمانة من الله في يدنا.

ولأجل إعلامكم أصدرنا فرماننا هذا طبقًا لخطي الشريف، فأَبْلِغوا إرادتي السامية لكل من عندكم، وطَمِّنوا الأهالي وحثُّوهم على الدعاء لي، وابذلوا الجهد لتنفيذ إرادتي دون أن تسمحوا لأحد بإهانة أحد ومخالفة مقاصدي السامية.

وهذا كتاب إبراهيم باشا إلى جلالة السلطان محمود في ١١ مايو من معسكر كوتاهيه بعد البسملة:

الحمد لله القوي الجبار، والذي تتعالى قوته عن كل شبيه ومثيل، أسأله وهو خير مسئول أن يُنعم بالغبطة التي لا تنهى، وبالسعادة التي لا تزول، على صاحب العظمة السامية والحلم المتناهي والجلالة، مولانا القدير العظيم الشأن الذي غَمَرَتْنا وغمرتِ العالمين مَبرَّاتُه وإحساناته. وأسأله بَسْطَ ظِله الوارف الذي يَستظل به سائر العباد على عبده هذا، سائلًا الله إجابة دعائي بجاه المصطفى سيد الرسل والأنبياء.

أما بعد، فقد تفضلتْ نعمة الجلالة الشاهانية بأن مَنَحَتْ هذا الخادم المطيع لقبَ مُحصل حكومة أدنه، وشملت شمسُ أنظاره هذا العبدَ الذي غمرته النعمة، فردتْ إليه الحياة حتى تتصاعد مع أنفاسه الدعوات بطول حياته وبدوام سلطانه. وإني ما بقيتُ حيًّا لَأكون وقفًا على خدمته، ولتمسكي بواجب الإخلاص الذي لا يعتريه أقل فتور، أسأل الله وحده أن يمد بعونه وحوله عبدَ عظمتكم الذي لا أمنية له إلا أن يقف حياته على شرف خدمتها في كل ما ينطبق على مشيئتها السامية.

وإذا تعالى إلى مسامع عظمتها رفع هذه العريضة إلى مواطئ عرشها السامي، لشكرها على حلمها وإنعامها الذي لا حد له، يتنازل مولاي وولي نعمتي ونعمة العالمين جميعًا، فيأمر بما يروق له. وله على كل حال أن يأمر ويشمل هذا الخادم الأمين بتعطفاته التي لا حد لها.

وكتب إبراهيم إلى الصدر الأعظم كتابًا قال فيه إنه تلقى الفرمان الذي حمله إليه مفتش الذخائر الحربية، فدَلَّهُ ذلك على أن الالتماس الذي رفعه على يد قاصيجي أفندي قد تفضلتْ جلالتُه بقبوله، فأَوْلَتْهُ مهمة محصل حكومة أدنه. إلى قوله: «إنه حال وصول الفرمان وتلقي ما أبلغ إليه شفويًّا، أمر الجنود بأن تسافر من مرابطها، وأنه سيسرع بالذهاب إلى أدنه دون الوقوف في الطريق.»

وكتب مثل هذا إلى أحمد باشا أحد كبار المقربين من السلطان.

كان عدد الجيش التركي عند توقيع اتفاق كوتاهيه الذي جعل حدود حكم محمد علي جبال طوروس ٣٦١٩٧ جنديًّا، منها ١١٢٦٠ جنديًّا هم حرس السلطان من فرسان ومشاة، والباقون موزعون على ٢٠ محطة ومعسكر. وسلاح هذا الجيش ثماني بطاريات من المدافع.

بينما جيش الباشاوات الثمانية الذي هزمه إبراهيم باشا في معركة حمص في ٨ يوليو ١٨٣٢ كان ٨٠ ألفًا، وجيش حسين باشا الذي هزمه في معركة بيلان في ٢٩ يوليو ٦٠ ألفًا. وكذلك كان عدد جيش محمد رشيد باشا الذي هزمه إبراهيم في قونيه في ٢١ ديسمبر ١٨٣٢ وهو الجيش التركي الثالث والأخير.

أما الجيش المصري، فكان مجموع عدده في شهر مارس سنة ١٨٣٢ مع فرسان العرب المصريين وهم ثمانية آلاف — أي بعد اتفاق كوتاهيه — ١٩٣٩٣٢ ضابطًا وجنديًّا وبحريًّا وبريًّا، وهم مُوزعون على الوجه الآتي:
  • ١٦٧٨٥ في البحرية الحربية.

  • ١٣٢٢٣ في بلاد الحجاز.

  • ٥٣٥١١ في قلاع القاهرة والأقاليم.

  • ٩١٦٣ في كريد.

  • ٧٤٦٠ في بلاد النوبة والسودان.

  • ٨٢٩٤٤ في معسكرات الميدان.

  • ٨٣٥٨ جنود عمال بدار الصناعة وملحقاتها.

  • ١٥٢٦ أركان حرب مدرسة قصر العيني.

  • ١٢٥٠ أركان حرب مدرسة البحرية بالإسكندرية.

  • ٣٠٠ ياوران وحرس.

  • ٤١٢ أساتذة وتراجمة وطلبة.

ففي ١٤ مايو انتهى القتال والعداء، ولولا تألب الدول بقواتها بعد ذلك على مصر، لعُرِف هذا اليوم بأنه أعظم يوم في تاريخ مصر الحديث، ولكان يوم تأليف الإمبراطورية العربية من جبال طوروس، إلى بحر الهند، فخط الاستواء. ولكي يقف القارئ المصري على بطولة إبراهيم، ننقل عن المسيو دوين شهادة أحد مارشالية فرنسا في حروبه، قال:

إن حملة ١٨٣٢ تشرِّف إبراهيم وتُعلي شأنه. ويقيني أن المُلِمِّين بالشئون العسكرية والخبيرين بها يعترفون معي بأن تلك الحملة لا يتناولها أقل انتقاد، وأن قيادتها بُنيت على أسلوب حكيم وقاعدة متينة وهمة عالية. والنقد الوحيد هو أنه في المعارك الثلاث الكبرى بينه وبين التُّرك استَخْدَم منذ بدء القتال صفوفَه الثانية وجيوشَه الاحتياطية، ولكن يدفع هذا اللوم عنه ويجعله في جانبه يقينُه برداءة نظام الجيوش التركية.

وقد وُفِّق إبراهيم في الحوادث المفاجئة، كما وُفق بكفاءة سليمان بك (الكولونيل سيف) صاحب الدراية العالية في تسيير الجيوش. ا.ﻫ.

لم يضع اتفاق كوتاهيه حدًّا للمشاكل بين محمد علي والباب العالي، بل كان هذا الاتفاق في وقت واحد هدنة حربية وفاتحة مشاكل جديدة أولها: الحدود، وقد أثارها إرسال إبراهيم باشا جنوده إلى أورفا — الرها — لصَدِّ غارات البدو من الصحراء على البلاد العامرة، وثانيها: الإتاوة التي يدفعها محمد علي عن البلاد التي ضم حكمها إلى حكم مصر. وقبل أن نتبسط في وجوه الخلاف نعود إلى الأصل؛ أي إلى الإتاوة التي كان يدفعها محمد علي ذاته عن مصر.

ففي سنة ١٨٠٦ صدر الفرمان السلطاني بتعيين محمد علي واليًا على مصر، إجابةً لطلب علماء مصر وأعيانها، وتَعهَّد محمد علي يومئذ بأن يدفع للباب العالي مبلغَ أربعة آلاف كيس في السنة — والكيس ٥٠٠ قرش — أي إنه تعهد بدفع عشرين ألف جنيه. ولكن الولاية كانت تُسمى في ذاك الحين ولاية القاهرة، وولاية القاهرة كانت تشمل الوجه البحري ومصر الوسطى فقط؛ لأن صعيد مصر كان مقسمًا أقسامًا عديدة، وكل قسم يتولى حكمَه مملوكٌ من المماليك. وكانت الإسكندرية والشطر الأكبر من مديرية البحيرة ولايةً مستقلة، يُعَيِّن لها الباب العالي واليها من إستامبول. فلما طَرَد محمد علي الإنكليز من رشيد والإسكندرية في سنة ١٨٠٧، رضي الباب العالي أن يضم إلى ولاية القاهرة — أي إلى ولاية محمد علي — ولاية الإسكندرية. ولم يكن دَخْل ولاية محمد علي سوى ١٧٥ ألف جنيه، ولكنه صمم على توحيد حكم البلاد كلها سياسيًّا وماليًّا، فتخلص من المماليك في سنة ١٨١١، ونال فرمان ولاية الصعيد، وزاد الإتاوة التي يدفعها للباب العالي عن مصر كلها إلى ١٢ ألف كيس؛ أي إلى ستين ألف جنيه. وهكذا كَوَّنَ محمد علي مصر، وهكذا جعلها تحت حكم واحد.

ولما رأى الباب العالي نمو ثروة مصر بفضل أعمال محمد علي وإصلاحاته، طلب في سنة ١٨١٤ إبان حرب الوهابيين وفي سنة ١٨٢٤ إبان حرب المورة، زيادة الإتاوة، مع أن مصر تحملت النفقات لتوطيد حكم السلطان في بلاد العرب والبلقان، حتى قالوا إن حملة المورة وحدها كَلَّفَتْ محمد علي عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف رجل فوق نفقات الأسطول ورجاله. كذلك قُلْ عن كريد التي أخمد محمد علي ثورتها، ثم تولى منذ ١٨٣٠ حكمها والإنفاق على حاميتها، وهي من ٨ آلاف إلى ٩ آلاف مقاتل.

فلما عقد اتفاق كوتاهيه أرسل الباب العالي إلى مصر مندوبه أدهم أفندي ليتفق مع محمد علي. فقَبِلَ محمد علي أن يدفع للباب العالي ٣٢ ألف كيس في السنة، ابتداء من مايو ١٨٣٤، فاستصغر الباب العالي المبلغ وقال إنه لا يتفق مع دخل مصر وسوريا وجزيرة كريد. فأجاب محمد علي أنه متنازل عن جزيرة كريد، فأخذ الباب العالي بهذا القول، ولكن فرنسا وإنكلترا وروسيا أقنعته بألا يتمسك بعرض محمد علي، وبأن يدع كل شيء على حاله.

وكانت مالية محمد علي مرهقة في ذاك الحين لكثرة المال الذي أنفقه على حملة روسيا، فقد أنفق عليها مليونًا ونصف المليون جنيه. وكانت ميزانية مصر في سنة ١٨٣٣ في عجز كبير، فهبطت إلى ٨٢٥ ألف جنيه. وفي ١٤ مايو تم الاتفاق بين أدهم أفندي ومحمد علي على أن يقبل محمد علي أن يدفع عن مصر ما تَعَهَّد بدفعه، وعلى أن يدفع عن ولايات سوريا وكريد ما كانت تدفعه قبل أن يتولى حكمها، وهو:
  • ٢٠٠٠ كيس عن كريد.

  • ١٨٠٠٠ كيس عن سوريا وأدنه.

وأن يكون مجموع الإتاوة التي تدفعها حكومة مصر عن البلاد التي تحكمها ٣٣ ألف كيس أو ١٦٠ ألف جنيه. ولكن هذا الاتفاق لم يُرضِ الباب العالي الذي كان يطلب ٩٠ ألف كيس أو ٥٠٠ ألف جنيه مقابل الإتاوات التي تأخرت إبان الحروب. ولأجل تسوية الحساب على هذه القاعدة أرسل الباب العالي إلى الإسكندرية الدفتردار، فوصل إليها في ٣٠ يوليو، وكان محمد علي غائبًا في زيارة كريد.

وقد غادر الإسكندرية في ٢٧ يوليو، فوصل إلى تلك الجزيرة في ٣ أغسطس. وبعد المفاوضات الطويلة تم الاتفاق في شهر أكتوبر على أن يدفع محمد علي للباب العالي ٣٢ ألف كيس، وعلى أن يسحب إبراهيم باشا جنوده من أودفا.

وكان الباب العالي قد أَبْرَم مع روسيا معاهدة، بل محالفة، تجعل تركيا تحت حماية القيصر، فبعد هذه المعاهدة أراد الباب العالي نَكْثَ عهده وإلغاء اتفاق كوتاهيه، ولكن اللورد بونسوبي قاوم هذا الرأي ليظل مستندًا على مصر لتقوية نفوذه في الآستانة، فأبلغ الباب العالي «أن محمد علي يدفع الآن للباب العالي أكبر مبلغ يصل إليه من جميع ولاياته، وأن من مصلحة السلطان الآن أن يستبقي مودة هذا الوالي، وأن ولاية محمد علي تنتهي بانتهاء حياته، وأن من مصلحة هذا الوالي ألا يدع سلطة روسيا تبسط على إستامبول. وقد لا يكون الوقت الذي يحتاج فيه السلطان إلى جميع قوات السلطنة بعيدًا لِيَصُون استقلاله من روسيا. فمن حسن السياسة أن يربح السلطان مودة محمد علي له سواء كان بالإنعامات أو بسواها استبقاءً لثقته.»

ولما قَدَّمَ ترجمان السفارة الإنكليزية هذه النصائح في ٢٩ مايو لريس أفندي قال له هذا: «أنا أعلم أن فرنسا وإنكلترا هما صديقتا الباب العالي وأنا أبوح لك بأني لا أفهم كيف صار عدونا القديم روسيا صديقنا المخلص لنا اليوم.»

وأما محمد علي، فإنه لا يكون في حجر السلطان إلا الثعبان الذي يدفأ في هذا الحجر.

وهذا القول يدل على الدسائس التي أخذ الباب العالي يَدُسُّها لمحمد علي في بلاد سوريا وعلى جدهِ في استعادة قوته. ولكن فكرة الإمبراطورية العربية كانت متأصلة في نفوس العرب وفي نفس إبراهيم، حتى كتب الكولونيل تايور قنصل إنكلترا في بغداد إلى الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في الإسكندرية في ٦ نوفمبر ١٨٣٣ من بغداد يقول: «إن هذه الولاية هي الآن في أشد حالات البؤس والضيق تحت حكم علي باشا الذي كان قبل مجيئه إلى بغداد واليًا على حلب. وأنظار الشعب العربي متجهة في هذه المحبة نحو إبراهيم.» والحقيقة أن سياسة إبراهيم منذ الساعة الأولى كانت غير سياسة محمد علي، حتى كتب بروكس أوستن إلى الكونت مترنيخ في ١٦ يوليو ١٨٣٣ يقول:

إن أسبابًا عديدة تُثبت أن فكرة تأليف الإمبراطورية العربية لا تزال حية ولا تزال موجودة، ولكني أرى إلى جانب العقل المدبر عقل محمد علي، المطامع الواسعة والهمة العالية في صدر ولده وخليفته. فإبراهيم ابن هذا العصر، وقد تربى تربية عصرية عالية، وتنزه عقلُه عن الانطباع على الخضوع للسلطان بحكم المبادئ الدينية. وإني لأرى — إلى جانب ضعف الباب العالي وهزاله — جيشًا عربيًّا قويًّا مُمَرَّنًا على أحدث مبادئ القتال، وأرى أسطولًا قويًّا، وكلا الجيش والأسطول يسهل مضاعفتهما. أضف إلى هذا كله يقظة الروح العربية بعد سباتها، فمحمد علي يتمتع بحسن السمعة والصيت الحسن في جميع الأقطار العربية.

والظاهر أن مندوب النمسا استَند إلى تقرير قُدم إلى محمد علي قبل ذلك، وهذا التقرير وُجد في سجلات وزارة خارجية إنكلترا، وهو بنصه:

إن أصدق ترتيب وأفضل تنظيم هو أن تُؤَلَّف المملكة العربية من مصر وبلاد النوبة وسنار ودارفور وكردوفان في إفريقية، ومن البلاد العربية كلها حتى الخليج الفارسي، ومن الشاطئ الشرقي لنهر الفرات، مع دخول سوريا كلها في هذه المنطقة.

فإذا تم ذلك يحييكم العالم العربي، كما يحيي الثائر للخلافة الإسلامية وللخلفاء الراشدين، وكما يحيي الرجل الذي أرسله الله لإنقاذ الإسلام، وكل عربي ينظر إليه اليوم كمتجه أمانيه وآماله.

وهذه الروح الدينية والسياسية قد تحولت كل التحول عن الإنسانية إليكم. وهذا شريف مكة هو أول المعجبين بقوتكم وعظمتكم، والرأي العام يرافقكم ويؤيدكم بأصدق أمانيه ودعائه، ولا ريب ولا شك في أفضلية وسائلكم على ما عند الباب العالي.

ولبلوغ الغرض يجب النداء بمفاوضة أعيان بغداد وزعماء الشعب على الشاطئ الشرقي من الفرات والإنكليز، لا يعارضون بالتقرب من الأئمة في الخليج الفارسي، وتستطيع سعادتكم بتوطيد نفوذكم هناك في حماية التجارة والصناعة والدين، ونحن نثق بقرب حلول نكبة في إستامبول، فإنكلترا وفرنسا لا تستطيعان الحيلولة دون ذلك، والنمسا وروسيا لا تريدان هذه الحيلولة.

ومن أجل ذلك تكون خطةُ سُموكم الدفاعَ، فتَدَعُ تركيا أوروبا وشأنَها، وما هو واقع وراء جبال طوروس لما تقرره أوروبا.

ومما لا شك فيه ولا ريب الآن أن الباب العالي يحاول أن يستعيد سوريا؛ لذلك كان مُحَتَّمًا عليكم العمل السريع.

وجيشكم في الشام تَنْقُصه الآن مُعدات الدفاع، فهو محتاج إلى ٢٠ بطارية، وفرقتين من المهندسين، و٣٠٠ مستشفى، وعدد من الأطباء كافٍ، وأن يكون عدد الجيش العامل ١٣٠ ألفًا ما عدا العربان المتطوعين. والواجب التمسك بصداقة رشيد باشا والولاة الآخرين. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤