الفصل التاسع

  • بعد اتفاق كوتاهيه.

  • أعمال إبراهيم باشا في البلدان التي فتحها.

***

بعد اتفاق كوتاهيه الذي أسميناه «هدنة للحرب وفاتحة للمشاكل السياسية»، عاد إبراهيم باشا إلى أنطاكية، واتخذها مركزًا له يشرف منه على بلاد الأناضول لِيَرْقُب حركات الترك؛ لأنه كان واثقًا من إقدام الباب العالي على الدسائس، وعلى استعادة قوته لسَلْبِ محمد علي وإبراهيم ما أعطاه مُكْرَهًا.

ولولا سياسة أوروبا ضد مصر خوفًا من أن تُؤَلَّف الإمبراطورية المصرية فتُحْرَم أوروبا مغانم الاستعمار بالشرق، لَكَان حكم الناموس الطبيعي في نظر علماء أوروبا ذاتهم أن تَخْلُف مصر في ذاك الحين تركيا، وأن تقوم في العالم الإسلامي مقامهم. فأوروبا ساعدت تركيا للحيلولة دون حكم الناموس الطبيعي أن يسير سيره. وإليك نص الحديث الذي ألقاه ملك فرنسا لويس فيليب إلى الدكتور كلوت بك مفتش صحة الجيوش المصرية في مقابلته له في ٢٨ نوفمبر ١٨٣٢. قال كلوت بك في مذكراته عن ذلك الحديث:

بعد محادثة خاصة بشئون مصر انتقل الملك إلى الكلام في الحرب الناشبة بين إبراهيم باشا والباب العالي، فقال: «إنه كان يعتقد مع فولني — المؤرخ والجغرافي الشهير — أن الثورة التي تهدد وجود تركيا لا مندوحة عن اشتعالها في مصر التي هي الطريق الطبيعي إلى إستامبول. فمحمد علي لم يكن إذن إلا الأداة في قبضة الحوادث الطبيعية المتوقعة والتي لم تكن عنها مندوحة.» إلى قوله: «ولما ساح الدوق دورليان في أميركا، قابل هذا الباحث المدقق فولني وحدثه في ذلك. وكان الفرنساويون يحتلون يومئذ مصر، فأعرب له فولني عن هذا الرأي بيقين قوي؛ لأن مصر هي البلد الوحيد الذي احْتَكَّ بالمدنية الأوروبية الحديثة دون بلاد الشرق، وهي البلد الوحيد القادر على أن يستمد من المدينة الحديثة قوة تزلزل عرش إستامبول. ولسوف تعمل مصر كل شيء لهضم هذه المدنية الأوروبية الحديثة.» ثم قال الملك: «فليس إذن غريبًا أن نرى اليوم ما هو واقع بين مصر وتركيا، ولا مندوحة عن الوصول إلى النهاية بعد أربع أو خمس سنين على الأقل. وإذا لم يكن ذلك، فالنهاية لا يشك فيها أحدٌ؛ لأن الهيئتين السياسية والدينية اللتين كانتا دعامة عرش إستامبول قد فسدتا، والقوة العسكرية التي كانت تسند العرش والمنبر معًا قد تضعضعت. وهذه روسيا تتقدم في عشر سنين خطوة نحو البوسفور، وكل خطوة تخطوها لا تقل عن ٥٠ مرحلة، فيوم استقلال الولايات البعيدة عن إستامبول قد دنا. وحقيقة الواقع أن مصلحة الدول تقضي عليها بإبقاء تركيا، ولكنها في النهاية ستحل لأنها فقدت الدين والدنيا معًا، ومصر في مركز مادي وأدبي وفي حال تقضي بخروجها من تحت النير التركي، إما آجلًا وإما عاجلًا. وعندما تحرر ضفاف النيل لا تلبث ضفاف الفرات أن تحذو حذوها وتؤلف التنتان بعد ذلك؛ المركز الذي تقوم فيه الخلافة الجديدة، وقد جددت شبابها بعلوم أوروبا وقوتها.»

وقبل أن نتبسط في أعمال إبراهيم باشا في سوريا مع رقابته تدبيرات تركيا في الأناضول، ننظر إلى معاملة جيشه للأهالي. فقد بسطها سليمان باشا الفرنساوي رئيس أركان حرب إبراهيم بكتابه إلى البارون دي فارين وكيل السفارة الفرنساوية في إستامبول، وكان قد كتب البارون إليه يستحلفه بأمم فرنسا قبل اتفاق كوتاهيه في أن يقنع إبراهيم باشا بإيقاف الزحف، فرد عليه في ١٧ يناير سنة ١٩٣٣ يقول:

لقد أصبت في حكمك عليَّ؛ فإني أحب فرنسا وأُجِلُّها، فلا أسمع مرة اسم وَطَنِنا الجميل دون أن أحس في طيات نفسي بهزات ذكراه المجيدة. وقد تكلمت في موضوع كتابك مع الأمير القائد العام، والظاهر أنه لا يستطيع أن يتحمل تَبِعة إيقاف الزحف بمحض إرادته، والذي كتبه إليك هو كل ما يستطيعه (وكان إبراهيم باشا قد رد على البارون دي فارين الذي طلب منه إيقاف الزحف — لأن الباب العالي قد أوفد إلى الإسكندرية خليل باشا — بأن ذلك فوق حدود سلطته ومخالف للأوامر التي تلقاها، وأنه قائد عام فقط ومهمته الأعمال العسكرية).

فالأمير يود الوصول إلى الصلح من صميم فؤاده، وقد أمَضَّه أن يرى وقوع هذه الحروب، ويَسُرُّه أن يرى الأمة مُتحدة بإخلاص وسائرة في طريق المدنية التي عمل والده للوصول إليها كثيرًا جدًّا.

ولم أستطع أن أكلم الأمير عن العبارات التي يَفُوه بها الباب العالي بشأنه، لعلمي أنه لا يعبأ بهذه الصيغ البالية من صيغ الاستبداد العتيق؛ لأن الأمير يحب الحرية ويضحي حياته وثروته في سبيل الوصول إلى أن تُحْكَم بلاده بأحكام القوانين التي تنظم بلادنا الجميلة فرنسا.

وهل تظن أن القائد العام يرضى أن يدل الشعب على مصالحته مع الباب العالي بمظاهرات خلابة كاذبة؟ فأنا أؤكد لك أن هذا إذا وقع لا يكون له أقل تأثير في الولايات؛ لأن جميع سكان الولايات في قنوط ويأس شديدين من أعمال الجيش التركي الذي لا نظام له ولا قانون، فهو ينهب ويحرق ويقتل … إلخ.

أما جيشنا فهو على عكس ذلك؛ لأنه خاضع لنظام صارم كنظام جيش فرنسا، فهو يدفع ثمن كل شيء يأخذه نقدًا، وهو يحترم كل الاحترام أموال الناس وأملاكهم، وهو قد نال بين الأهالي سمعة حسنة يعد من الخطل إضاعتها بإبلاغهم أنهم باقون تحت النير التركي … إلخ.

هذا ما كان يعمله جيش إبراهيم في البلاد التي اجتازها، ولأجل هذا أحبَّه الأهالي؛ لأنهم قابلوا بين مَسْلَكِه ومسلك خصمه. وكان إبراهيم ينشِّط الزراعة ويشجِّع الأعمال الصالحة. والآن ننظر إلى الإصلاحات التي أجراها إبراهيم في إدارة البلاد، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن. فقد ذكر كلوت بك أن جيشه الذي كان عدده ٨٥ ألفًا وزَّعَهُ على ١٧ معسكرًا، وأوقف أكثره على حدود تركيا، ولم يبقَ معه سوى ١١٥٢ جنديًّا؛ فجعل حامية أدنه ٦٤٧٩ جنديًّا، وأنطاكية ٢١٣١ جنديًّا، وحلب ١٣١٣٠ جنديًّا، وحماه ٤٢٩٧، ودمشق ٣٤٨٩، ومرعش ٥٢٣٨ … إلخ.

أما التنظيم الإداري فإنه جعل القاهرة السلطة العليا. وكان إبراهيم جامعًا بين القيادة العليا للجيوش والحكم العام لسوريا وكيليكيا، وضم فلسطين إلى ولاية دمشق، وجعل واليها شريف بك الذي كان قبل ذلك حاكمًا لسوريا كلها، وجعل مُتسلمًا لعكا الشيخ حسين عبد الهادي من أعيان نابلس، وولى سليمان باشا الفرنساوي ولاية صيدَا لِصِلَتها ببيروت وصِلة بيروت بالتُّجار الأوروبيين، وإسماعيل بك من أولاد عمه ولاية حلب، وأحمد منكلي باشا ولاية أدنه … إلخ. وعين يوحنا البحري مديرًا لحسابات الولايات كلها، وألَّف في كل مدينة عدد سكانها عشرون ألفًا فما فوق ديوانًا للمشورة يُنتخب أعضاؤه من أعيان المدينة وتجارها، ويمثلون جميع المذاهب، وسَنَّ لهم نظامًا للعمل دقيقًا، وجعل قراراتهم نافذة، إلا إذا هي استُؤْنِفت إلى المجلس الأعلى؛ إما في دمشق أو عكا، ويجوز تمييزها بعد الاستئناف إلى القاهرة.

وأبطل الإقطاعات في أنحاء البلاد.

وكان إبراهيم باشا في أول الأمر شديد الوطأة على الموظفين الذين يَحِيدون عن جادة العدالة.

واتبع في تنظيم القضاء طريقة فرنسا، ولكنه أبقى سلطة القاضي الشرعي في الشئون الدينية والشخصية؛ فكان قاضي المدينة ينظر في القضايا الجزئية والمعاملات التجارية ويسجل العقود، وكانت القضايا الكبيرة تُحال إلى المحاكم العليا وهي مؤلفة من قاضيين أو أكثر، وكانت الأحكام تُستأنف إلى قاضي القضاة. أما اختصاص المشورة، فكان النظر في الأموال الأميرية وقضايا ملكية الأراضي وإعطاء المقاولات والالتزامات، ووَضْع النظم للمالية والجمارك وسواها.

ويقول المسيو لاني ترجمان قونصلاتو النمسا في مصر: إن مركز إبراهيم في داخل البلاد كان النجاح مضمونًا له؛ فهو فضلًا عما كان له من السلطة والهيبة قد تمكن من أن يَضُم إلى جانبه الأُسر صاحبات النفوذ في البلاد، والتي كانت قبل عهده مهضومة الجانب بأن قُدِّم عليها خُصومُها.

أضرب مثلًا لذلك أسرة عبد الهادي في جنوب سوريا؛ فقد كان لها النفوذ الكبير على تلك البلاد الكثيرة الاضطراب، فأنزلت من مقامها ورفعت فوقها أسر أخرى من نابلس، إلى أن جاء الحكم المصري فصارت مدينة باستعادة منزلتها إلى إبراهيم باشا. وحديثًا عندما مات الشيخ حسين مدير إيالة صيدَا، عَيَّنَ إبراهيم باشا أخاه محمودًا خَلَفًا له، ورَقَّى ابنه صالحًا إلى رتبة أميرالاي في الحرس، وأسدى إلى جميع أفراد هذه الأُسر المناصب والرتب، حتى صارت مخلصة للحكومة المصرية.

وتَركت الحكومة المصرية لِحَلِيفها الأمير بشير الشهابي استقلالَه في إدارة لبنان. ولبنان ظلَّ في كل وقت — بفضل طبيعته الجِبلية، وحَزْمِ سكانه، وشدة مراسهم — ملجأً للحرية المضطهدة وحامي الاستقلال، فهو في سوريا مثل بيمونتي في إيطاليا.

فالأمير فخر الدين المعني (١٥٨٥–١٦٣٥) كان قبل الأمير بشير أول من أوجد وحدة حكم لبنان الكبير، وأنقذه بالحيلة واللين والدهاء من حكم الباب العالي باستناده إلى أوروبا.

أما الأمير بشير، فإنه وجه نظره إلى مصر أمِّ المدنية ومَهْدِ النهضة الحديثة في الشرق. ا.ﻫ.

ولقد ذكرنا في فصل سابق تأليف ديوان المشورة في دمشق من ٢٢ عضوًا يمثلون جميع المذاهب، أما ديوان مدينة بيروت فكان مُؤَلَّفًا من ١٢ عضوًا مراعاة لعدد السكان، وهم ستة من المسلمين: عبد الفتاح حمادة ناظر الديوان، وعمر بك بيهم، وأحمد العريس، وحسن البربير، وأمين رمضان، وأحمد جلول. وستة من المسيحيين وهم: جبرائيل حمصي، وبشارة نصر الله، وإلياس منسي، وناصيف مطر، ويوسف عيروط، وموسى بسترس.

وكان لكل مدينة مُتسلم يتولى إدارتها ويقوم بأعمال قاضي الصلح والمجلس البلدي، ثم مباشر يتولى وظيفة مدير المال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤