المرحوم

مسرحية في خمسة مشاهد

الشخصيات

  • الأرملة.

  • الخادمة.

  • الفيلسوف (ممدَّد في تابوته).

  • الحارس.

  • حارس آخر.

تقديم

(تقوم هذه المسرحية على حكايةٍ صغيرة ورَدَت في الفصل الثالث من رواية «ساتيريكون» للكاتب الروماني بترونيوس (أجبره نيرون على الانتحار سنة ٦٦ ميلادية). وكنتُ قد قرأتها لأول مرة في كتابٍ يضم مجموعة من الحكايات والقصص اليونانية والرومانية القديمة التي اختارها الأستاذ هورست جاسه (سلسلة كتب ديتريش، ليبزج، ١٩٦٩م) ووضَعتُ لها تخطيطًا مسرحيًّا بَقِي مع غيره من المشروعات التي قُضي عليها أن تُكفَّن في الصدر والأدراج، ثم أُتيح لي الاطلاع على مسرحية «أكثر من عنقاء» للشاعر المسرحي الإنجليزي «كريستوفر فراي» التي تتناول الموضوع نفسه تناولًا حسيًّا مرحًا شديد العذوبة والصفاء، فذكَّرَتْني بالمشروع القديم. وربما تَسرَّبَت إليه منها بعض الصور والمشاعر، على الرغم من الاختلاف الكبير بين الصياغتَين.

أما «الإليزيوم» و«هاديس» فترمُز بهما الأساطير اليونانية القديمة إلى نعيم المخلَّدين من الأبطال والأتقياء العادلين، وإلى ملك العالم السفلي أو عالم الظلال السفلي نفسه. وأما خارون فهو الملَّاح الذي ينقل في قاربه أرواح الموتى إلى النعيم أو الجحيم.)

المشهد الأول

(ضريح بالقرب من مدينة أفيسوس. تبدو من فتحة بابه ونافذته أرملةٌ جميلة مُنحنِية على جثمان زوجها، وشَعرها الأسود الطويل مُنسدِلٌ على التابوت. الضريح مبني في شِبْهِ نفقٍ سُفلي على اليمين، أمام بابِه سلالمُ دَرَجٍ يفضي إلى أعلى في مستوى سطح الأرض، حيث نرى إلى اليسار مساحةً نُصبَت فيها ستة صُلبانٍ عُلِّقَت عليها جُثثُ رجالٍ ستة، ويظهر بين الحين والحين حارسٌ يقطع الساحة جيئةً وذهابًا. من الضريح تنسرب أشعةُ ضوءٍ خافت يرسله مصباحٌ زيتي مُثبَّت على جداره من الداخل، أما الساحة فشبه معتمةٍ إلا من انعكاسات النجوم البعيدة في سماءِ يومٍ من أيام الصيف الحار. نرى الخادمة واقفةً أمام الدرَج، تُطل برأسها حينًا من حافة السور الواطئ المحيط بالضريح، وحينًا آخر من فتحة الباب على الأرملة التي غلَبها النوم. تَتنهَّد بصوتٍ عالٍ، ويبدو على حركاتها الحَيْرة والقُنوط.)

الخادمة : لا، لا، يجب أن أبكي! لا بد أن أبكي! أيتها الدموع الملعونة! لماذا تهربين حين أطلبك، وتفاجئينني دون أن أدعوك؟ لماذا تمتنعين وكلُّ شيء يدعو إلى البكاء؟ هل جئتُ هنا إلا لأبكي معها؟ ألَمْ أُقسم لسيدتي أن أموت معها؟ فكيف أراها تغرق في بحر دموعها بينما أقف أنا على الشاطئ؟ لأفكر قليلًا. لماذا يجب أن أبكي؟ هل هذا شيءٌ يحتاج لتفكير؟ لا، لا، اذهب أيها الفكر، لا تكن سدًّا يُوقِف نهر دموعي. أبكي بالطبع على سيدي، الرجل الحكيم الذي تركنا منذ ثلاثة أيام؛ أبكي الفضيلة نفسها، صمته ووحدته وإشاراته الطيبة لي، مجده وشُهرته على كل لسانٍ في المدينة. (تحاول أن تبكي) تبًّا لي. ولكن الدموع لا تريد أن تأتي. إذن فلْأَبكِ سيدتي، حبيبة أفروديت الجميلة التي تقتل جمالها بيدَيها، عروس البحر الفاتنة التي تَذْوي على الرمال وتنعَى حظها. ها هي آلهة النوم تضعها على صدرها بعد أن مزَّقَت خدودها، وجَرحَت عينَيها من البكاء. ومع ذلك فلَمْ تسقطي أيتها الدموع الجاحدة وأنا أُعزِّيها وأحاول أن أُصبِّرها. لم تسقط قطرةٌ واحدة منكِ حين كان ينبغي أن تنهمري كالمطر في ليلةٍ عاصفة. وا خَجَلي منكِ! وا خيبةَ أملي فيكِ! كيف يسمح لي خارون بركوب قاربه بعيونٍ لم تُندِّها الدموع؟ كيف يكون نهر الموت إن لم يكن من دموعنا؟ إذن فلْأُجرِّب أن أبكي على زوجي. نعم، نعم، أنا أيضًا كان لي زوج، وكم أشتاق إلى الوغد! لكنه خانَني وغدر بي. لا، لا، إنه لا يستحق دمعةً واحدة، آه! بل إن ذكراه تكاد تُضحِكني. لا بد أن أبكي لأنني لا أستطيع أن أبكي، حتى عندما رأيتُهم يبكون لم تسقُط قطرةٌ على خَدِّي، لم أُحِسَّ ملمسها على يدي. انصرفوا وهم يبكون، رجال المدينة ونساؤها الطيبون، بَكَوا عليكَ يا سيدي وقطَّعوا أوتار القلوب، ولكنني صَرفتُهم ووقفتُ أُودِّعُهم كأنني تمثالٌ من الحجر. آه يا سيدتي الجميلة! يا سيدتي الحزينة! (تُطل عليها فتجدها لا تزال مستسلمةً للنوم) ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ لا تأكلين ولا تشربين، نذَرتِ الصوم والعطش وفشِلَت كل محاولاتي معكِ. ربما لو أكلتِ وشربتِ كأسًا واحدة، ربما أبكي عندئذٍ كما أريد وأكثر مما أريد. ربما ربما، ولكن من أين وقد حرَّمَتْ عليَّ أن أُحضر معي الزاد والماء؟ ثم أنني أقسمتُ أن أشاركها كل شيء. فكيف يا عينَيَّ لا تشاركان عينَيْها؟ ها هي ذي تُحرِّك رأسها الجميل، وشُعلة المصباح تُحرِّك رأسها النحيل أيضًا، تريد أن تنطفئ كما تنطفئ حياتها وحياتي، فلأدخل إليها سريعًا وأسقيها قطراتٍ من الزيت، حتى المصباح لا يمكنه الصمود للعطش والجوع.
(تفتح الباب وتدخل. تتحرك سيدتها قليلًا ثم تسكن. الخادمة تضع الزيت في المصباح وتتأملها!) آه يا سيدتي! عندما أتصوَّر جسدَكِ ممدَّدًا بجانبه كالوردة الجميلة الذابلة، وأنا أيضًا بجانبك كشجرة البلُّوط اليابسة، والظلام من حولنا بعد أن ينطفئ المصباح. لا، لا، سيضيء مصباحُ جسدكِ هذا الضريح، ستَرفُّ حوله فراشات الطهر والوفاء وترقص حوله وتدور كالباخيات في سكرة الحب والنشوة. وأنت يا سيدي المسكين (تقترب منه وتتأمله) دائمًا صامتٌ ووحيد. سترقبنا كما كنتَ تفعل في حياتكِ وتُوصِد عليك أبواب حكمتك. هل يرضيك أن تموت من أجلك؟ هل يسرك أن أموت أنا أيضًا؟ أرأيتها وهي تشُقَّ صدرها وتُدمي وجهها وتنثر التراب على شعرها؟ آه! لماذا أُكلِّمكَ وأنت كما كنتَ دائمًا صامت ووحيد؟

(تتحرك الأرملة ثم تهتف.)

الأرملة : دَعْني، دَعْني.
الخادمة (تسرع إليها) : سيدتي، هل صحوتِ؟
الأرملة : قلتُ لكَ دَعْني، دَعْني.
الخادمة : أنا بجانبكِ يا سيدتي، أنا …
الأرملة : مَن؟ (تفتح عينَيْها.)
الخادمة : لم تُنادي عليَّ. لقد ناديتِ عليه، ناديتِ رجلًا.
الأرملة : رجل؟ أية رجل؟ كيف يدخل رجل إلى هنا!
الخادمة : رجل يدخل إلى هنا؟
الأرملة : ألَمْ أُحرِّم عليكِ هذا؟ ألم أُحذِّركِ من أفروديت؟
الخادمة : وما شأنُهم بنا؟ ونحن هنا في ضَريحٍ يا سيدتي.
الأرملة : نعم نعم لم يبقَ إلا أن نتأهب للموت. لقد ودَّعنا الحياة والنور والأمل، ودَّعنا الرجالَ وكلَّ ما يُذكِّرنا بهم.
الخادمة : ولكنكِ ناديتهِ، ناديتِ رجلًا.
الأرملة : لا، لا، لم يكن رجلًا.
الخادمة : وماذا كان؟ تذَّكَري يا سيدتي.
الأرملة : كان نسرًا.
الخادمة : كان نسرًا وأنتِ الحمامة. فهمتُ.
الأرملة : لم تفهمي شيئًا. هل رأيتِ حُلمي؟ هل كنتِ معي؟
الخادمة : كنتُ معك طولَ الوقت. ولكني لم أرَ حُلمكِ. دعيني الآن أرَهُ.
الأرملة : لماذا تُذكِّرينَني به؟ الحمدُ لزيوس أنه كان حُلمًا.
الخادمة : ومن يدري؟ ربما كان زيوس نفسه.
الأرملة : رب الأرباب؟ ولماذا يهبط من عَلْيائه ويحملني معه؟
الخادمة : هذا ما يفعله دائمًا. أرملةٌ جميلة مثلكِ. هل يمكنُ أن يغفُل عن هذا الصيد؟
الأرملة : النسور لا تصيد الجثث. إنني أنتظر من يدفنني بجانبه. آه يا زوجي!
الخادمة (ضاحكة) : الزوج نام إلى الأبد. والأرملة الجميلة …
الأرملة : قلتُ لكِ لستُ أرملة ولستُ جميلة. ثم كيف تضحكين في هذا المكان؟
الخادمة : معذرةً يا سيدتي، كان يجب أن أبكي. (تَشهَق وتُحاول أن تبكي فلا تسقط دمعة. الأرملة تبتسم رغمًا عنها) إنه الحُلم يا سيدتي.
الأرملة : لا بأس. كان حُلمًا عجيبًا.
الخادمة : هل اختطفَكِ يا سيدتي؟
الأرملة (تُغالِب الضحك) : حاوَلَ فلم يستطع. انقض عليَّ. كنتُ بسَفحِ الجبل وحولي الغربان والبوم، تتشمَّمني وتقفِز على جسدي. وإذا به ينقضُّ عليَّ فجأة. لم أُفِق إلا على عينَيه الكبيرتَين الواسعتَين تُحدِّقان فيَّ، وجناحَيه الهائلَين يُرفرِفان فوقي كالظل المخيف. وقبل أن أصرخ حملَني وطار إلى أعلى (صَرختُ غاضبة) لا أُريد أن أُحلِّق إلى أعلى، دَعْني هنا في السفح، هنا مكاني مع زوجي، مع البوم والديدان والغربان، لم أعُد أصلح للسماء ولا للقمم والنور، دَعْني، دَعْني، دَعْني.
الخادمة : وسمعتُ صُراخَكِ يا سيدتي.
الأرملة : سَمعتِني؟
الخادمة : نعم.
الأرملة : هل يمكن أن يكون هو زيوس؟
الخادمة : أو إلهٌ غيره، رآكِ فأشفَق عليكِ واختطفَكِ.
الأرملة : ولكنه كان حُلمًا، وأنا الآن بجانب زوجي.
الخادمة : سيدي المسكين لا يزال كما هو، لم يتحرَّك لينتشلَكِ.
الأرملة : ماذا تقولين؟ كيف يتحرك وهو ميت؟ ألم أجئ إلى هنا لأموت معه؟
الخادمة : وأنا أيضًا لأموتَ معكِ.
الأرملة : لم أطلب منكِ هذا. أنتِ التي صمَّمتِ.
الخادمة : وأقسمتُ ألا أترككِ.
الأرملة : يمكنكِ أن تذهبي. إني آمُركِ. اذهبي.
الخادمة : إلى أين؟ ليس لي أحدٌ غيركِ. أقسمتُ أن أعيش معكِ أو أموت معكِ.
الأرملة : ولماذا أحملُ ذنبكِ على رأسي؟ لماذا أحملُه معي إلى قبري؟ إني أموت من أجل زوجي.
الخادمة : وأنا من أجلكِ ومن أجل زوجكِ.
الأرملة : ولا أحد سوانا؟
الخادمة (ضاحكة) : معذرة، ولكنه لا يستحق، عاش وغدًا ومات كالأوغاد. لن يُصدِّق أحد أنني دفنتُ نفسي حزنًا عليه. أما أنتِ فالمدينة كلها تعرفكِ وتفتخر بكِ.
الأرملة : وماذا يقولون عني؟
الخادمة : يقولون؟ إنهم يبكون يا سيدتي. ليتكِ رأيتِهم وهم يئنُّون ويتأوَّهون حزنًا عليكِ. ليتكِ سمعتِهم وهم يُردِّدون اسمكِ كما يُردِّدون الصلاة في المعبد. هذه الأرملة الطاهرة، تمثال الوفاء ومثال العفاف. لقد سَمعتُ النسوة وهي تطلب من أعضاء مجلس المدينة أن يُقيموا لك تمثالًا في وسط المدينة؛ حتى يمر عليه أزواجهم الجاحدون فيتعلَّموا. أتعرفين ماذا خطر ببالي؟ تذكرتُ زوجي وقلتُ لنفسي: ليتكَ كنتَ حيًّا لتتعلم!
الأرملة : هل كنتِ تأتين معي لو كان حيًّا؟
الخادمة : بالطبع يا سيدتي، كنتُ سأجد سببًا كافيًا لأدفنَ نفسي حيةً.
الأرملة : من شدة غَيْرتكِ عليه. أما الآن فمن شدةِ شوقكِ إليه.
الخادمة : أنت تُسيئين الظن بي يا سيدتي.
الأرملة : ألا تشتاقين للقائه هناك؟
الخادمة : وهل يمكن أن ألقاه هناك؟ إن روح سيدي تُرفرِف الآن فوق أشجار الإليزيوم. أما الوغد فلا بُد أن روحه الشقية تَهوِي في قاع هاديس.
الأرملة : سنعرف قريبًا أين هو، لا، لا، سأعرف أنا وحدي.
الخادمة : اطمئني. إنني أعرف من الآن. لا حاجة بي للبحثِ عنه هناك.
الأرملة : هكذا رجعتِ لعقلكِ. كانت صراحتُكِ دائمًا تُعجبني. إنني أموت من أجل زوجي وحبيبي. أما أنتِ، فلأيِّ شيء؟
الخادمة : لأجلكِ ولأجلِه أيضًا يا سيدتي. هل تَتصوَّرين أن أتركَكِ وحدَكِ؟ وإلى أين أذهبُ بعدَكِ؟
الأرملة : وما ذنبُكِ أنتِ؟
الخادمة : ذنبي أنني أُحبُّكِ أيضًا. قلتُ لكِ لن أترككِ وحدَكِ.
الأرملة : آه!
الخادمة : سيدتي!
الأرملة : آه آه!
الخادمة : ماذا بكِ؟
الأرملة : بدأتِ الرحلةُ يا عزيزتي. سألقاه هناك. إنه يشير إليَّ.
الخادمة (تنهض وتنظر للميت) : إنه لم يتحرك يا سيدتي، ما زال كما هو، لا يتحرك ولا يتكلم.
الأرملة : بل يدعوني إليه. انظري ابتسامته.
الخادمة : لم أَرَها أبدًا يا سيدتي، وجهه صارمٌ كما كان، جبهته عابسة كما هي.
الأرملة : إنها الحكمة يا ساذجة. ألا ترين كيف يتزاحمون حوله؟
الخادمة : من يا سيدتي؟
الأرملة : الأرواح، الأشباح والظلال تتسابق نحوه.
الخادمة : أنا لا أرى إلا ظلال المصباح يا سيدتي، تتثاءب حوله كما كانت تفعل، سيدتي.
الأرملة : أُحِسُّ أن قدميَّ لا تحملاني، الزحام شديد.
الخادمة : إنه الضعف يا سيدتي، الصوم والعطش هما السبب، لا بد أن تأكلي شيئًا.
الأرملة : ماذا قلتِ؟ آكُل؟!
الخادمة : إذًا فاشربي يا سيدتي. إنكِ لم تعاهديه على العطش أيضًا.
الأرملة : وتقولينَ هذا يا خائنة؟ هل أخفيتِ الطعام والشراب من ورائي؟
الخادمة : أنا يا سيدتي؟ إنني أموتُ مثلكِ من الجوع والعطش. عليكِ أن تأكلي شيئًا يُقوِّيكِ على الرحلة.
الأرملة : وتُكرِّرينها يا خائنة؟
الخادمة : جرعة ماءٍ واحدة، لا يمكن أن أترككِ على هذه الحال. لا أستطيع أن أواصل الرحلة معكِ.
الأرملة : وماذا يقول الناس عني؟ ماذا تقولُ المدينة؟ الطاهرة تراجعَت بعدَ أول خطوة؟ عَجزَت عن تقديمِ أوَّلِ تضحية؟
الخادمة : لن يقول أحد شيئًا، لن يرانا إنسان. إنهم يتصورون أننا متنا وانتهى الأمر.
الأرملة : بينما نبحث عن الطعام والماء.
الخادمة : لن تبحثي عن شيء، سأذهب أنا وأعود.
الأرملة : بل تذهبين ولا تعودي أبدًا (تئن).
الخادمة : بل سأعود. قل لها يا سيدي، لا تتخلَّ عنها.
الأرملة : تعلمين أنه سكت إلى الأبد.
الخادمة : ما دُمتِ تعلمين هذا، فلماذا تدفنين نفسك حية؟
الأرملة (تبكي) : وتسألين لماذا؟
الخادمة : لو كان حيًّا لدعاك للحياة.
الأرملة (تبكي) : وعَدتُه أن أذهب معه.
الخادمة : وتُضحِّين بحياتكِ قبل اليوم المحتوم؟ ستذهبين يومًا ما، سنذهب جميعًا.
الأرملة : قلتُ لكِ اذهبي. دعيني لدموعي.
الخادمة : لن أذهب ولن أدعك. إلى متى أقول لك هذا؟ معذرة يا سيدتي (تركع عند قدمَيها وتضع يدَيها على ركبتَيها) أتظنين أن دموعكِ تهمُّ تراب القبر؟ هل تهمُّ روح المرحوم؟
الأرملة : ولكنه يراني. ينتظرني هناك ويشير إليَّ.
الخادمة : ويبتسم أيضًا، يبتسم كما لم يفعل طول حياته؛ لأنكِ ما زلتِ تحت الشمس، لأنك تستطيعين أن تستمتعي بالنور وتخرجي للحياة.
الأرملة : أَخرُج؟ بعد أن دخلتُ بقدمي إلى عالم الظلال؟
الخادمة : لمْ تدخُليه بعد. قدمُكِ لا تقوى على حملكِ. قدمي أيضًا لا تقوى على حملي.
الأرملة : ولكنها ستقوى على أن تُخرجكِ من هنا. هيا اذهبي واتركيني.

(يُسمَع صوتٌ بالخارج.)

الخادمة : ما هذا؟
الأرملة : قلتُ لك اذهبي واتركيني.
الخادمة : سأذهب. ولكني لن أترككِ، سَمعتِ؟
الأرملة : لم أسمع شيئًا.
الخادمة : إنه صوت أقدام، لا بُد أن أحدًا …
الأرملة : لا أحد هناك، لا أحد سوى الموت القادم.
الخادمة : أُذني لا تكذبني. أكاد أراها وأشمها أيضًا. إنها أقدام رجل!
الأرملة : لا مكان هنا إلا لرجلٍ واحد. أخرجي إذا شئتِ ولا تعودي (يُسمَع صوتُ أقدامٍ تُسرِع صاعدةً على الدَّرَج).
الخادمة : قلتُ لكِ أقدامُ رجل.
الأرملة : وأنا قلتُ لكِ اخرجي.
الخادمة : حالًا، حالًا، سأخرج وأعود، لا بد أن نعود!

(تفتَح الباب وتَخرجُ مسرعة.)

المشهد الثاني

(الخادمة تصعَد الدرَج مسرعة، الحارس واقف أمام الجثث المصلوبة، يقوم بنوبته ولا يلتفت إليها، تتقدم منه غاضبة.)

الخادمة : أنتَ! أنتَ!
الحارس : ما هذا؟ من أنتِ؟
الخادمة : سمعتُ خطواتكَ على الدرَج. لا تنكر. أنا التي تسألكَ.
الحارس : بل عليَّ أن أسألكِ أنتِ: ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟
الخادمة : لا تحاول أن تهزأ بي. ألم تتلصص علينا الآن؟ كان ظني في محله.
الحارس : وماذا ظنَنتِ؟
الخادمة : قلتُ لسيدتي: أقدامُ رجل. وها هو يقف أمامي ويدَّعي الجهل والخبَل. كأنه لم يَرَنا ولم يسمعنا.
الحارس : رأيتُ، نعم، ولكن ليس بما فيه الكفاية. وسمعتُ الأنين الذي جذب قلبي.
الخادمة : أم جذب قدمَيكَ؟ ألا يمكن أن تتركوا الناس تموت في هدوء؟
الحارس : أهذا ما تفعلانه هنا؟
الخادمة : لا شأنَ لكَ بما نفعل. ماذا تفعل أنتَ؟
الحارس : كما ترينَ. أحرسُ هذه الجثث من اللصوص.
الخادمة : لصٌّ يحرس لصوصًا. لا يكفيه هذا بل يتلصص أيضًا على الغرباء المساكين.
الحارس : إنني حارسٌ ولستُ لصًّا. ألا ترينَ هذه الجثث؟
الخادمة : وهل تحتاج إلى حراسة؟ إنها لن تهرب على كل حال. من يسرق جثةً عفنة؟
الحارس : اللصوص. الكل هنا لصوصٌ يسرقون لصوصًا؛ ولهذا عيَّنوني لحراستها.
الخادمة : شابٌّ مثلك يحرس الموتى؟ ألم يجدوا سواكَ؟ ألم تجد عملًا آخر؟
الحارس : إنها قصةٌ طويلة، لا أظن أنكَ جئتَ في هذا الوقت من الليل لأحكيها لكَ.
قصةٌ طويلة يا عزيزتي.
الخادمة : ومُتكررة أيضًا، لا بُد أنكَ غدرتَ بهم؟
الحارس : أما زلتِ تتصوَّرين أنني لص؟
الخادمة : لا تكتفي بسرقة الجثث وتسرق أسرار الناس.
الحارس : قلتُ لكِ إنني حارس، ثم إن هؤلاء …
الخادمة : لصوص بالطبع.
الحارس : لا، ليسوا لصوصًا، انظري إليهم. إنهم إخوتي ورفاقي، إخوتي ورفاقي (يُخفِي رأسه بين يدَيه).
الخادمة : لقد صدَق ظني. والآن تبكي لأنكَ خُنتَهم.
الحارس : كيف ستفهمين هذا؟ هو الذي خاننا.
الخادمة : هو؟ من؟
الحارس : ومن غيره؟ الطاغية بالطبع. المستبد الذي داس على جثة المدينة، وأنا الذي ثُرتُ عليه مع رفاقي أُصبِح حارسًا على جثثهم (يبكي).
الخادمة : لا تبكِ يا رجل. دعهم فلن يهربوا.
الحارس : لو هرب واحدٌ منهم فسيُعلِّقونني مكانه.
الخادمة : قلتُ لكَ لن يهرب أحد. إنهم ساكنون كالتماثيل في قاع البحر. أليس كذلك أيها الطيبون؟
الحارس : قلتُ لكِ إنها قصةٌ طويلة. لو عرفتهم قبل أن يُقتلوا لأحببتهم.
الخادمة : يظهر أن السماء لا تمطر في هذه الليلة إلا جثث الموتى والقتلة.
الحارس : قلتُ لكِ المقتولين. إنهم يُسمُّونها جريمةً سياسية.
الخادمة : لا أحب الجريمة ولا السياسة. أعطهم ظهركَ وانظر للسماء. ألا تستحق النجوم أن تنظر إليها في ليلةٍ كهذه؟
الحارس : النجوم؟ إنها هي الأخرى جثثٌ محترقة، انظري إليها، إنها تحرسهم وتحرسني.
الخادمة : إذن لا تنظر إليها. دَعْ كل الجثث واسمعني.
الحارس : لا أستطيع. قلتُ لك سأُعلَّق مكانها. إن عقابه صارم وقاسٍ (يشرب من زجاجةٍ في يده).
الخادمة : ودَعْكَ من هذه أيضًا.
الحارس : الحر شديد يكاد يخنقني، هل لكِ في جرعة؟
الخادمة : ليتني أستطيع.
الحارس : ولماذا لا تستطيعين؟
الخادمة : أقسمتُ ألا أبُلِّل فمي بقطرةٍ واحدة، ثم إن سيدتي أَقسمَت أيضًا.
الحارس : أهي التي في الضريح؟
الخادمة : نعم هي. أقسمَت أن تموت جوعًا وعطشًا.
الحارس : كيف تتركينها لتُثرثري؟ لماذا لم تقولي من البداية؟
الخادمة : لقد قلتُ إنها أقسمَت أن تصوم عن الأكل والشرب، حتى النوم أرادت أن تصوم عنه لولا أن غلبَها في النهاية فاستسلَمَت له. إنني أقسَمتُ معها أيضًا.
الحارس (يشرب) : ولماذا؟ لماذا تفعلان هذا؟
الخادمة : بعد أن مات زوجها لم تجد معنًى للحياة بعده.
الحارس : زوجها؟
الخادمة : نعم، المدينة كلها تتحدث عنه وعنها، مات من ثلاثة أيام، ألم تسمع عنه؟
الحارس : أنا هنا لا أسمع ولا أرى، ومن يكون زوجها؟
الخادمة : من يكون؟ من يكون؟
الحارس : ماذا كان يفعل؟
الخادمة : لم يكن يفعل شيئًا، كان يفكر، بالنهار والليل يفكر، أحيانًا يرفع صوته ويطلب كتبًا أو أوراقًا، لا أعرف إلا إنه كان يفكر، تذكَّرتُ، كانوا يُسمُّونه الفيلسوف.
الحارس : الرواقي؟ تذكَّرتُ أنا أيضًا.
الخادمة : لا أعرف. كل ما أعرفه أن سيدي مات منذ ثلاثة أيام.
الحارس : أخيرًا، هذا الأخرس الأبكم.
الخادمة : لا تقل هذا عنه، سيدي لم يفعل شيئًا يستحق هذا.
الحارس : حقًّا، لم يفعل شيئًا، وهذه أرملته؟
الخادمة : أرملته الوحيدة المسكينة، تركها كالقطة الصغيرة تموء وسط القبور.
الحارس : وتموت جوعًا وعطشًا، هيا أيتها الجاحدة.
الخادمة : إلى أين؟ لو رأت ظِلَّ رجلٍ لتحوَّلَت إلى قطةٍ متوحشة.
الحارس : هذه التي تُحتضَر من الجوع والعطش؟ إن كانت قطة فأنت نمرةٌ مفترسة.
الخادمة : أنا؟ وماذا أفعل؟
الحارس : نذهب إليها الآن.
الخادمة : وتراني مع رجل؟ لن تغفر لي هذا أبدًا.
الحارس : المهم أن ننتشلها من الغرق.
الخادمة : ليتكَ تفعل هذا، قل لها أنتَ خارون نفسه، جئتَ تصحبها إلى هناك، جئتَ ومعك القارب.
الحارس : فهمتُ فهمتُ، ومعي طعام وشرابٌ كافٍ، هيا، هيا.

(يهبطان الدرَج سريعًا، يقفان على باب الضريح.)

الخادمة : انتظر.
الحارس : هل بقي وقتٌ للانتظار؟
الخادمة : المسكينة عادت للنوم.
الحارس : أو سقطَت فيه بلا وعي.
الخادمة : ننتظر قليلًا حتى تُفيق، أنا أيضًا أسقط على الأرض.

(تجلس.)

الحارس : خذي هذه الجرعة، لا وقت نُضيعُه.
الخادمة : لا أستطيع.
الحارس : قلت لك اشربي، إنه الجوع والظمأ، ألا ترين كيف غابت عن كل شيء؟
الخادمة : لا أستطيع أن أشرب قبل سيدتي.
الحارس : هي أيضًا شاحبة الوجه، أراه على ضوء المصباح كنجمٍ ينطفئ على البعد، سيدتي الرائعة، سيدة الحزن الجميل والألم المعبود، وجهك هذا أم وردة الفجر المُحتضَرة؟ جسدك أم شلال ضياء ينثر بلَّوْره في الظلام؟ هل يمكن أن تذبلي ومعي ندى الخمر؟ هل أترك نهركِ تطويه الرمال ومعي القارب والماء؟ أفيقي يا عروس البحر! أمواج الحياة تُناديكِ وتتشهَّى لمسة جسدك، أفيقي واضربي الأرض بخُطاكِ وارقصي مع الجدي المرح، نعم إنني أستطيع أن أرقص وأضحك وأغني على الرغم من الجثث المعلقة، قومي يا شمسي الصغيرة لتراكِ الشمس في الصباح، لم تُخلق الأرض لتكون قبرًا لكِ بل لترقصي عليها كالشعلة الضاحكة، أفيقي! أفيقي! جاء خارون ومعه قارب النجاة (يهمُّ بالدخول فتوقفه الخادمة).
الخادمة : مهلًا مهلًا، أليس لي مكان في القارب؟
الحارس : ولكِ جرعةٌ من الزجاجة (يقدم لها الزجاجة).
الخادمة : لن أشرب قبلها.
الحارس : جرعة في صِحَّتها.
الخادمة : هي أولًا، ليتها تقبل منك.
الحارس : ستقبل وتشرب، هل تراهنين؟
الخادمة : وستلعنُني وتطردُني.
الحارس : هل تراهنين؟
الخادمة : ليس عندي ما أُقدِّمه.
الحارس : أما أنا فأُقدِّم الأمل والمصير، أُقدِّم الحياة، ألا تشربين نَخْب الحياة؟
الخادمة : قلتُ لكَ لن أذوق جرعةً قبلها.
الحارس : صوتُكِ يقول إن فمكِ كالصحراء، دعيني أَسقِه.
الخادمة : كالصحراء أو كالجحيم، هيَّا لا تُضِعِ الوقت.
الحارس : أما أنا فأسقي النهر المُتدفِّق للصحراء أو الجحيم.

(يشرب.)

الخادمة : هيَّا، هيَّا.
الحارس : هيا (يدخُلان).

المشهد الثالث

(في داخل الضريح، الحارس والخادمة والأرملة، تتقدَّم الخادمة على أطراف قدمَيها يتبعها الحارس مبهوتًا.)

الخادمة (تنادي) : سيدتي! سيدتي!
الحارس : دعيها نائمة، يمكننا أن ننتظر (يتلفَّت حوله).
الخادمة : ننتظر حتى تغرق؟ ألست خارون؟
الحارس : ماذا؟ نعم، نعم (يتجه نحو التابوت ويُطِل على الميت).
الخادمة (همسًا) : ألم تَرَه قبل هذا؟ نفس الصمت والسكون، كوكب يسبح في فلكه، بعيد ومُكتفٍ بذاتِه.
الخادمة : حقًّا حقًّا، بعيد ومكتفٍ بذاته.
الخادمة : سيدتي هي التي تقول هذا.
الحارس (يتأمل النائمة) : بالطبع، لا يمكن أن تقول غير هذا.
الخادمة : وتقول أيضًا: الربة أثينا أعطته الحكمة، والرب أبولُّو أعطاه العقل.
الحارس : ووجهه؟ من أعطاه وجه البومة؟
الخادمة : تبًّا لكَ، لو كان حيًّا لَمَا جرُؤْتَ على هذا.
الحارس : لو كان حيًّا.
الخادمة : لوقفتَ أمامه كالعابدِ أمام تمثال الإله.
الحارس : وكسرتُ التمثال نفسه (الأرملة تُحرِّك رأسها وتئن).
الخادمة : ما هذا الهُراء؟ تُثرثر وسيدتي تُحتضَر، سيدتي! سيدتي!
الأرملة : من؟ من يدعوني؟
الخادمة : جاء يا سيدتي، جاء ومعه القارب والمجذاف.
الأرملة (مفزوعة) : النسر؟
الخادمة : لا تخافي، لن يُحلِّق إلى أعلى، سيسبح فوق النهر.
الأرملة (تفتح عينَيها) : من هذا؟ ماذا أري؟
الخادمة : إنه هو يا سيدتي، خارون بنفسه.
الأرملة (تتأمله) : كاذبة، ألم أقل لكِ اذهبي؟
الخادمة : وقلتُ لك لن أذهب، لن أترككِ وحدكِ وسأعود إليكِ.
الأرملة : تعودين ومعك رجل؟
الخادمة : هذا؟ ليس رجلًا. إنه خارون.
الحارس (الذي ظل يتأملها كالعابد) : ومعي الطعام والماء، لا بد منه قبل الرحلة.
الأرملة : ويريدني أن آكل وأشرب؟ ألا يكفي أنه رجل وأنه تسلَّل إلى مخدع امرأة تريد أن تكون وحيدة مع زوجها؟ اذهب أيها الغريب، لا مكان لك هنا، ألا ترى بنفسكَ؟ ألا تراه؟
الحارس : وأراكِ يا سيدتي. لم أتحمل أن تكوني وحدكِ.
الأرملة : لستُ وحدي، لا أريد حارسًا عليَّ.
الحارس : كلانا يقوم بالحراسة، أنت تحرسين جثةً واحدة وأنا …
الخادمة : يحرس ستة يا سيدتي.
الأرملة : زوجي ليس جثة، إنه حي، أكثر حياةً منكِ (للخادمة) أتكذبينَ عليَّ؟
الخادمة : لم أكذب يا سيدتي، لقد رأيتها بنفسي، لصوصٌ مساكينُ معلَّقون من أقدامهم في الليل والبرد.
الأرملة : خارون ويحرس الجثث؟
الحارس : أوامر الآلهة يا سيدتي، وقد أمَرتْه من الليلة أن يحرس الأرواح أيضًا، وها هو أمامكِ لينقل روحكِ الجميلةَ جمالَ جسدكِ.
الخادمة : إنه قويٌّ وشابٌّ يا سيدتي، ثقي به وسوف يحملك إلى هناك.
الأرملة : يظهر أنك مغرور بقُوَّتكَ وشبابكَ. وجُثثكَ المعلَّقة في الليل والبرد والريح؟ هل تتركها لتذهب معي؟
الحارس : أَتركُها؟ لا أستطيع، لا أستطيع.
الخادمة : اطمئن، لن تستطيع أن تهرب.
الحارس : تعرفين الجزاء الذي ينتظرني لو سرقها أحد.
الأرملة (ضاحكة) : يَسرِقون جُثة؟
الحارس : ويُعلِّقونني مكانها، لا بُد أن أطمئن عليها.

(يتجه فزعًا نحو الباب.)

الأرملة : الآن عرفتُ كم أنتَ قويٌّ وشابٌّ (للخادمة) اذهبي أنتِ، انظُري وطَمئِنيه.
الخادمة : والرحلة يا سيدتي؟ رحلتكِ إلى العالم السفلي. ألا تأخذاني معكما؟
الحارس : انتظري، سأذهب بنفسي.
الخادمة : بل ابقَ أيها الشاب، أُريد أن أقول يا خارون، لستُ بحاجة للذهاب معكما، إذا رأيتما كلب الجحيم المسعور فاعرفا أنه هو …
الحارس : من؟
الأرملة (ضاحكة) : زوجها بالطبع.
الخادمة (وهي تنصرف) : خانني في الدنيا ولا بد أنه يخونني في الآخرة، المصلوبون أَوْلى منه.
الحارس : افتحي عينَيكِ جيدًا، حذارِ أن تُغمضِيهما.
الخادمة : أعرف أعرف، حتى لا تجد نفسك مكانهم، لا تنسَ أن تُسلِّم على الكلب المسعور (تنصرف، يتضاحكان ثم تخيم الكآبة فجأة على وجه الأرملة، تنظر إلى الحارس المدلَّه بإعجابٍ خفي).
الأرملة : هل استعد خارون؟
الحارس (منتبهًا) : بالطبع يا سيدتي. وهل جئت إلا لهذا؟

(يتجه مرتبكًا ناحية الزوج الراقد في التابوت وكأنه يُريد أن يحمله على ظهره.)

الأرملة : ماذا تفعل؟ أتريد أن تحمله على ظهرك؟
الحارس : ولِمَ لا؟ ما دُمتِ تريدين هذا.
الأرملة : أنا أريد هذا؟ الآن فهمتُ.
الحارس : ماذا فهمتِ؟
الأرملة : أنك خارون مبتدئ، هل نَسِيتَ أنه ينقل الأرواح؟
الحارس : ألم تنتقل روحه بالفعل إلى هناك؟
الأرملة : وتسألني أنا؟
الحارس : بالطبع، بالطبع، إنه هناك، في هاديس.
الأرملة : بل مع الخالدين المنعمين.
الحارس : هاديس أو الإليزيوم، لا يهم أنه هناك، هيا نذهب إليه، أيها الحكيم! أيها الحكيم (يمُد ذراعه نحوها، تمُد يدها مترددة، يقبض عليها بشدة).
الحارس : أولًا لا بد أن تهبطي القارب، هيا، لا تخافي.

(الأرملة ترتعش يدها في يده، تترنَّح وتكاد تسقط، يضمُّها إليه بشدة.)

الحارس : امسكي ذراعي بقوة، لا بد أنها الريح.
الأرملة : دَعْني (تستسلم له).
الحارس : نعم نعم، نسيتُ أنك منهوكة من الصوم والعطش (يبحث عن حزمة الطعام والزجاجة ويُقدِّمهما مرتبكًا).
الأرملة : ونسيتَ أنني أقسمتُ على الصوم حتى الموت؟
الحارس (مرتبكًا) : هذا ما قالَتْه الخادمة، ولكن لا يُمكنكِ أن تقطعي هذه الرحلةَ الطويلة.
الأرملة : بل لا بُد أن أقطعها.
الحارس : أتوسَّلُ إليكِ.
الأرملة : لقد عاهدتُه ولن أتراجع عن عهدي.
الحارس (يشرب) : تذكَّري وعورة الطريق، الأرواح الشرسة والوحوش الكاسرة، جرعة واحدة.
الأرملة : لقد متُّ وانتهى الأمر، إنها لن ترُدَّ الحياة إليَّ.
الحارس : ولن ترُدَّكِ للحياة، لا تخافي، جرعة واحدة.
الأرملة : واحدة فقط.
الحارس : نعم نعم، كما يقولون: جرعة للطريق (يناولها، تشربُ).
الأرملة : والطريق وعرة.
الحارس : هاتِ يدكِ (تُناوله يدها، يلفُّها حول خصره فلا تمانع) أَفسِحي مكانًا أيتها الأرواح اللزجة! ابتعدي أيتها الأشباح المتطفِّلة! يا لهذا الزحام! أين نراه؟ من يدلنا عليه؟
الأرملة (كأنها ترافقه وتبحث عنه) : لا بُد أن نجده، سنجده حتمًا، إنه أشهر من أن يضيع في الزحام.
الحارس : نعم نعم، الحكيم الصامت الوحيد، لا بد أنه وحيد هناك.
الأرملة : نادِ عليه، نادِي.
الحارس : يا سكان هاديس.
الأرملة : قلتُ لكَ الإليزيوم.
الحارس : أيها الخالدون، من رأى منكم حكيم الرومان العظيم؟ من يعرف الرواقي المشهور؟ أيتها الأرواح، أيتها الظلال والأشباح، حكيمٌ على رأسه تاج المجد والفخار، على جبينه إكليل الغار، الإكليل الذي وضعه عليه الطاغيةُ بنفسه.
الأرملة : ليس هذا صحيحًا، زوجي رفض هذا الإكليل من يده.
الحارس : حقًّا؟ إذًا فهي إشاعةٌ كاذبة.
الأرملة : بالطبع كاذبة، ما زلتُ أتذكَّر ما قاله بالحرف الواحد للرسول الذي جاءه من القيصر.
الحارس : ماذا قال؟
الأرملة : قل لسيدكَ: لن أسمح له أن يصنع من دمي وردةً يُزيِّن بها صدره.
الحارس : ولم يفعل شيئًا؟
الأرملة : من؟ لا أفهم ماذا تعني، زوجي كان يميل إلى الصمت.
الحارس : هذه هي المصيبة.
الأرملة : إنه مفكر، عَملُه أن يفكر.
الحارس : مصيبةٌ أخرى، يفكر ولا يعمل، يتأمل ويملأ الكتب كلامًا.
الأرملة : يملؤها حكمة، حكمة لا يفهمها حارسُ جُثثٍ مثلك.
الحارس : تقصدين خارون؟
الأرملة : خارون الفاشل، يقطع الرحلة قبل أن يبدأها.
الحارس : بل لا بُد أن نستمر فيها، لا بُد من البحث عن الحارس الآخر.
الأرملة : من تقصد؟
الحارس : ألم يكن يحرس الجثث أيضًا؟ (ينادي فجأة) ابتعدي أيتها الأرواح اللعينة! يا هاديس!! ساعدنا يا زوج برسيفونة المخيفة! أنتَ يا أقسى القضاة وأعدلهم! يا من تجلس وسط النيران على عرشكَ وفي يدكَ الصولجان! يا من تحاكم أرواح الموتى هل حاكمته؟ يا ملك الموت وملك الحياة ساعدنا في العثور عليه! هل هو ميتٌ في مملكة الموت كما كان ميتًا في مملكة الحياة؟
الأرملة : جاوزتَ الحد، توقَّف.
الحارس : لا بُد أن نستمر، لا بُد أن نعثر عليه، انظري، ها هو ذا، صامت ووحيد، يقف بعيدًا عن كل الأرواح، تمامًا كما هو الآن في تابوت حكمته، أنتَ أيها الشيخ! تكلم! تكلم!
الأرملة : اصمت أنتَ ولا تتكلم.
الحارس : لا بُد أن يتكلم، لا بد أن يُقدِّم الحساب.
الأرملة : هل تُحاكِمه أيضًا؟!
الحارس : ويحاكمه الموتى الأحياء، تحاكمه المدينة الميتة.
انظري! (يشير بذراعَيه إلى المدينة في الخلفية) ألا ترين! هنا أيضًا أشباح وظلال، ملايين الموتى يمص دماءهم الذئاب، ملايين الفقراء تطاردهم الكلاب، كلاب تغشُّ وتُخادِع وتحتال، تُنشِد أغنية الولاء لحذاء القيصر، والضفادع والصراصير والهوام، كلها تدوس على جثة المدينة، انظري، هناك أيضًا يجلس الحكيم، يُنكِّس أعلام الفكر المشلول، يتأمل ولا يحرك ساكنًا، يتفرج ويبحث عن الحقيقة.
الأرملة : أجل! كان يبحث عن الحقيقة.
الحارس : قلتِها بنفسكِ! يبحث عنها، الحقيقة تُصنَع أيتها الجميلة (يشدُّها إليه).
الأرملة : ما هذا؟ دَعْني.
الحارس : وهذه الحقيقة؟ هل أحسستِ بها؟ (يحاول أن يضُمَّها إليه) هل شَعرتِ بدفئها وحنانها وجمالها؟ أيها الميت على الأرض وفي هاديس.
الأرملة : لقد أخطأتَ الطريق، قلتُ لكَ الإليزيوم.
الحارس (مُستَمِرًّا) : أنتِ أيتها البومة الخرساء، عِشتِ الموتَ ومتِّ الحياة.
الأرملة : اسكت! اسكت! لقد عاشَها أكثر منك، أكثر وأعمق من أي إنسان، اسكُت يا حارس الجثث.
الحارس : ألم أقُل إننا شَبيهان؟ أنا أحرُسُ الموتى مثله، ولكنني أحرس موتى لم أقتلهم، إنما قتلَهم الطاغية، أما أنتِ فتَحرُسين جثةَ رجلٍ قتلَكِ.
الأرملة : أنتَ لا تفهم، لقد كان يُحبني، طالما أطرى جمالي.
الحارس : أطراه؟ نعم، بالكلمات، لا شيء إلا الكلمات، تركَكِ تطفين عليها كما يطفو الغريق على الأخشاب الباقية من سفينةٍ غارقة، أما هذا النهر المُلتهِب فلم يعرفه، لم يُحبَّه (يضمُّها بشدَّة).
الأرملة : أنتَ تَكذِب، تَكذِب، لقد أحبَّني كما أحببتُه.
الحارس : وتَركَ العطر نائمًا في هذه الوردة (يُحاول أن يُقبِّلها فتبتعد عنه صارخة) وها هي تذبُل، تذبُل.
الأرملة (وهي تبكي على التابوت) : ليتني ما سَمحتُ لك بالدخول.
الحارس (مرتبكًا) : معذرةً يا سيدتي، معذرة.
الأرملة : الذنب ذنبي.
الحارس : جاوزتُ الحد كما قلتِ.
الأرملة : وظلمتَه أيضًا. إنكَ لا تعرف شيئًا عنه ولا عني. لقد عرفتُ السعادة بجانبه.
الحارس (ذاهلًا) : السعادة؟
الأرملة : انظُر إليه، الفضيلةُ نفسها لا يمكن أن تكون أجمل من هذا، الاستقامة والترفُّع فوق هذا العالم، الكبرياء في صورة إنسان.
الحارس : هل قلتِ إنسان؟!
الأرملة : إنسانٌ وحكيم، كنتُ أدور في فلكه ولا أقترب منه، أرفُّ في نوره ولا أحترق.
الحارس : نعم، ولا تحترقين.
الأرملة : ما زلتُ أسمع رنين كلماته حتى الآن.
الحارس : كلماته؟ نعم نعم.
الأرملة : يا زوجتي الصغيرة، السعادة أن تعيشي في وِفاقٍ مع الطبيعة، أنتِ جزء من الكل الواحد الحي، أنتِ جزء من اﻟ…
الحارس : اللوجوس، هكذا يُسمُّونه.
الأرملة : أجل! أجل! نسيتُ هذا، يظهر أنكَ تفهم هذه الأمور.
الحارس : لقد قرأتُهم جميعًا.
الأرملة (تترك التابوت وتتجه نحوه) : قرأتَهم جميعًا؟!
الحارس : وألقيتُهُم في النار.
الأرملة : أَحرَقتَ كُتبَهم؟
الحارس : وذهَبتُ إلى الغابة.
الأرملة : شابٌّ مثلك يترك المدينة ودُورَ العلم ويذهب للغابة؟
الحارس : نعم؛ لكي أعيش، أنا ورفاقي الستة قرَّرنا أن نعيش.
الأرملة (تقترب منه) : رفاقكَ الستة؟ تقصِد الذين تَحرسُ جُثثهم.

(الحارس يصمت.)

الحارس : كل شيءٍ قد انتهى كما تَرينَ.
الأرملة (تقترب منه وتمُد يدَها وتُجفِّف خدَّيه، يمُد ذراعَيه ويهمُّ بضمها إليه ثم يتردَّد ويسقُطان بجانبه) : قل لي: من أنتَ؟
الحارس : ومن أنتِ؟
الأرملة : ألم تقُل إننا شبيهان؟
الحارس : الآن، نعم، ولكنني كنتُ شيئًا آخر. عندما رأيتُكِ أيقنتُ أنني سأكون شيئًا آخر.
الأرملة : حدِّثني أولًا عما كنتَه.
الحارس : آه! وهل تُصدِّقين؟
الأرملة : إن لم تعُد للكذِب. ماذا كُنتَ؟
الحارس : كنتُ وما زلتُ. ثائرٌ فاشل وشاعرٌ فاشل وعاشق …
الأرملة : شديد الفشل. صدَقتَ في هذا، ثم ماذا؟
الحارس : الباقي تعرفينه. إنهم معلَّقون هناك.
الأرملة : في البَرد والريح، ولكنني لم أَرَهُم.
الحارس : وأنا كِدتُ أنساهم. لا بد أن أذهب.
الأرملة : قبل أن تُحدِّثني عنهم؟
الحارس : لا بُد أن أَطمئِن أولًا عليهم.
الأرملة : نعم، نعم. وأَطمئِن عليك.
الحارس : أخشى أن تكون الخادمة … ولكنني لا أتصور هذا، لا بُد أن أذهب.
الأرملة : أَسرِع أَسرِع.
الحارس : وأعود؟
الأرملة : نعم، نعم، عُد، يا حبيبي (تُودِّعه إلى الباب. يَقفِز السلالم بسرعة).

المشهد الرابع

(الخادمة تندفع مذعورة نحو الضريح، في الخلفية يَتخبِّط الحارس في الساحة مُشرعًا سيفه، تبدو ظلال الجثث وقد نقَص عددها واحدة.)

الخادمة : النجدة يا سيدتي! النجدة.
الأرملة (التي كانت تتجمل وتتزين) : ما هذا؟ ماذا بكَ؟
الخادمة : الوحشُ الكاسر، أنقذيني منه.
الأرملة (تُواصِل زينتها) : وحش؟ أين رأيتِه؟
الخادمة : الحارس يا سيدتي.
الأرملة : خارون الفاشل؟ ماذا فعل أيضًا؟
الخادمة (تركع عند قدمَيها) : أرجوكِ يا سيدتي، كاد أن يقتلني.
الأرملة : يقتُلكِ؟ هل ينقلُ الأرواح أم يقتُلها؟
الخادمة : بحق زيوس، أَسرِعي وإلا حدثَت جريمة. إن لم يقتُلني فسوف يقتُل نفسه. إنه يقطع الساحة كالمجنون وسَيفُه في يده.
الأرملة (تتركُ زينتَها) : وهل أفهم السبب؟ لا بد أنكِ السبب.
الخادمة (تبكي) : نعم أنا. لا لا، بل هو، أقصد هي.
الأرملة : تكلَّمي أيتها العَنزَة الغبية.
الخادمة : صَدقتِ، عَنزةٌ غبية، وهي المسئولة عن كل ما جرى.
الأرملة : قلتُ تَكلَّمي. هو أم هي؟
الخادمة : الكلبُ المفترس يا سيدتي، جرى ورائي وكاد يغرز أنيابه في لحمي، وأَفقتُ من النوم.
الأرملة : إذن فقد نمتِ، ألَمْ أُحذِّركِ أن تُغمِضي عينَيكِ؟
الخادمة : هو المسئول، ألحَّ عليَّ بالشرب، جرعة واحدة وحق زيوس، لكنها أثقلَت جُفوني.
الأرملة : وجرى الكلبُ المفترسُ وراءك.
الخادمة : بل جرَّد سيفه وهجَم عليَّ، أخذ يلطم وجهه ويشدُّ شعره ويبكي ويستغيث، ثم هجَم عليَّ بسيف يلمع كزيوس نفسه فجَريتُ إليكِ.
الأرملة : ألم أُحذِّركِ؟ لا بد أن اللصوص سرقوا الجثث.
الخادمة : واحدة فقط يا سيدتي، لا بد أنهم غافَلوني وسرقوها، وهو الآن يَصرُخ ويتوعد من أجل جثةٍ واحدة.
الأرملة : لأنهم سيُعلِّقونه مكانها.
الخادمة : هذا ما يقوله. إن لم تدركيه قتلَني أو قتل نفسه.
الأرملة : يقتُل نفسه؟!
الخادمة : الذنبُ ذنبي، لو كنتُ اختفيتُ كما أَمرتِني ما حدَث شيء، سيدتي.
الأرملة (عند الباب) : كفَى ثرثرة. ابتعدِي عن الباب.
الخادمة : دعيه يقتلني. دعيه يُعلِّقني في مكانها. إنني على استعداد يا سيدتي، سأتمدَّد هنا بجانب سيدي وأَنتظِر طعنته.
الأرملة (وهي تَفتَح الباب وتَقفِز الدرَّجَ) : ليتكِ تصلُحين لشيء.
الخادمة (وهي تُطل عليها من الباب ثم تندفع وراءها) : لا أصلُح لشيء؟ كان دائمًا يقول لي هذا، ومع ذلك اشتقتُ إليه، وحين رآني حاول أن يَعَضَّني فجريتُ. أيها الوغد! أيها الكلب المفترس! ألم تكتفِ بما فعلتَه في الدنيا؟ وماذا تفعل الآن؟ ماذا تفعل الآن؟
الأرملة (ترى الحارس واقفًا كالتمثال أمام المصلوبين الخمسة. سيفه مُشرَعٌ في يده وعلى وجهه أمارات اليأس والجنون) : خارون!
الحارس : لا تَقتَربي مني.
الأرملة (تَتقدَّم نحوه) : هاتِ هذا السيف. هل أصبَح حارسُ الأرواح قاتلًا؟
الحارس : قاتلٌ ومقتول: لا مفر من قتل نفسي.
الأرملة : وجبانٌ أيضًا؟
الحارس : شجاعتي الآن في قتل نفسي.
الأرملة : هاتِ السيفَ.
الحارس : قلتُ لكِ لا مفر، ستَرينَه الآن ينغرز في صدري، أم تُفضِّلين أن تريني معلقًا بجانبهم؟
الأرملة : لن أسمح بهذا. قلتُ لك هاتِ السيف.
الحارس : سيُعلِّقونني مكانها. أنتِ لا تعرفين عقابهم. الأفضل أن أقتُل نفسي بيدي.
الأرملة : وتقتُلني مَعَك؟
الحارس : ليتني أموت بيدك. هذا هو السيف، ادفعيه بكل قوَّتكِ في صدري، خذي، ضربة واحدة تريحني.

(يُسلِّمها السيف.)

الخادمة (تظهر من وراء سيدتها) : سَلِمَت يداكِ يا سيدتي.
الحارس : أيتها الملعونة! (يجري وراءها.)
الخادمة (تجري) : سيدتي، سيدتي، اقتُليني إذا كان هذا يُريحُه.
الحارس : لن يُريحَني أن تَبتلعَكِ كِلابُ هاديس بأَجمعِها.
الخادمة : كلبٌ واحد يا سيدي، الذنب ذنبه، ليته ابتلَعني ولم أصحُ من النوم.
الأرملة : لو كنتِ اختفيتِ من البداية.
الخادمة : سأختفي حالًا يا سيدتي، دعي السيف يحل المشكلة.
الأرملة : وهل يحلُّها يا غبية؟
الخادمة : بالطبع يا سيدتي، يمكن أن أُعَلَّق في المكان الخالي.
الأرملة (ضاحكة) : ما رأيك في هذا الحل؟
الحارس : امرأة مكان رجل؟ هل تظنين أن هذا يرحمني من العقاب؟ اختفي أيتها الملعونة.
الأرملة : نعم اختَفِي الآنَ من وجهه (لنفسها) تُعلَّق في مكانه؟ حقًّا حقًّا.
الخادمة : ماذا قلتِ يا سيدتي؟
الأرملة : قلتُ اذهبي الآن. اذهبي بلا عودة.
الخادمة : أذهب؟ قبل أن تقتُليني يا سيدتي؟
الأرملة : قلتُ اذهبي. لن أقتلكِ ولن أحتاج إليكِ.
الخادمة : إذن فعلِّقيني حية، افعلي بي ما شئتِ.
الأرملة : قلتُ اذهبي بعيدًا عني.
الحارس (يجري وراءها) : ألا تُريدين أن تختفي.
الخادمة (وهي تنصرف مذعورة) : لا أحد يُريدني، حتى الموت لا يُريدني. سأذهب، سأذهب. (الحارس والأرملة يضحكان ثم يسكتان فجأة، الأرملة تتأمل الجثث المعلَّقة لحظاتٍ ثم تُخاطِب الحارس.)
الأرملة : إنهم صامتون، والليل من حولهم صامت، حتى النجوم الساهرة فوقهم لا تُريد أن تتكلم، من ينظر إليهم لا يحسبهم لصوصًا، بل حكماء يُفكِّرون في الحياة والموت.
الحارس : إنهم ليسوا لصوصًا.
الأرملة : أكنتَ تعرفهم؟
الحارس : قلتُ لكِ هم رفاقي، عشنا سنين في الغابة والجبل، دبَّرنا الثورة وفشِلنا، وها أنا أُصبح حارسًا على جثثهم، هذا هو عقاب الطاغية، أليس من المحزن أن يفشل الإنسان إلى هذا الحد؟
الأرملة (تجلس على مقعدٍ حجري باسترخاء) : لم تفشل في كل شيء. تعالَ حدِّثني عنهم.
الحارس : عن أي شيء أُحدِّثكِ؟ عن صلبهم أمام عيني؟ عن فرحة الطاغية وشماتته؟ عن حَظِّي الذي أوقعني في يده ليجعلني حارسًا عليهم؟ بعد قليل ستَرينَني مُعلَّقًا بجانبهم.
الأرملة : قلتُ لم أسمح بهذا. لن يسرقوا مني حبيبَين في يومٍ واحد.
الحارس : وماذا يُمكِنكِ أن تفعلي؟ هل ستسرقين جثتي كما فعل أقاربُ رفيقي ليُواروه التراب؟
الأرملة : بل سأَسرِقك حيًّا لا ميتًا.
الحارس : فات الوقت. بعد لحظات يأتي حارسٌ آخر ليتسلَّم نَوْبته. إن لم تُسرعي بطعن هذا السيف في صدري فسَيتولَّى هو ذلك. هاتي السيف.
الأرملة : خذه بشرطٍ واحد، أن تقتُلني أولًا.
الحارس : وما ذَنبُكِ أنتِ؟
الأرملة : ألم تعرفه بعدُ؟
الحارس : أعرف أنني لا بد أن أُعاقِب نفسي.
الأرملة : ولماذا تُعاقِبها؟
الحارس : لأنها أحبَّت أكثر مما ينبغي، لأنها رَكبَت معك في قاربٍ يغرق.
الأرملة : أنا التي كنتُ أغرق، وقد جئتَ لتُنقذني.
الحارس : وها هي الموجة التي سبحتُ عليها تُغرقني، لا لا، لا أريد أن تغرقي معي، يجب أن تبقَى عروس البحر.
الأرملة : لتَغرقَ وحدها؟
الحارس : لتَسبَح على موجةٍ أخرى. إن بوزيدون القاسي يريد أن أموت وحيدًا على الشاطئ.
الأرملة : وتَتركُني يا خارون؟
الحارس : أتركُكِ للحياة، لنور الشمس. لقد عَبَرتُ بكِ البحر المُعتِم وعليَّ الآن أن أُغرق نفسي قبل أن يُغرقني الطاغية.
الأرملة : ألم تُفكِّر فيَّ؟
الحارس : أكثر مما أستحق. أكثر مما يجب. وها هي الآلهة تعاقبني وتُصدِر حكمها عليَّ. يا خارون الفاشل، دع القارب والمجذاف، أبحرتَ أبعد مما ينبغي، حَلمتَ بالشواطئ التي لن تزورها، خدَعتَ عروس البحر فدعها لربانٍ أقدر منك.
الأرملة : عروس البحر ما زالت بجانبك.
الحارس : بعد قليلٍ تراني مُعلَّقًا هناك.
الأرملة : قلتُ لكَ لن أسمح بهذا.
الحارس : أتسمعين الأجراس؟
الأرملة : لتدُقَّ كما تشاء، لن يأخذوك مني.
الحارس : لحظات ويأتي الحارس الآخر.
الأرملة : لن يأخذك مني، لن تموت وأنا حية.
الحارس : أَسرِعي وسدِّدي الطعنة، يكفيني أن أموت على صدرك.
الأرملة : بل ستعيش وأُدفئكَ بصدري.
الحارس : إذن فأعطيني السيف.
الأرملة : أُعطيك شيئًا آخر (تمد شفتَيها إليه فيُبعِد وجهه).
الحارس : اطبعيها على جبين رجلٍ آخر.
الأرملة : ترفُضُها؟
الحارس : لا أستحِقُّها، هاتي السيف!
الأرملة : هل تَقبَل شيئًا آخر؟
الحارس : لا شيء الآن سوى السيف، لا شيء سواه.
الأرملة : بل شيءٌ آخر.
الحارس : إذن فهاتِهِ. لا تُضيِّعي الوقت.
الأرملة : لا أستطيع وحدي، لا بد أن تحمله معي.
الأرملة : لغزٌ هذا أم حل؟
الأرملة : اقترِب مني.
الحارس : قلتُ لكِ لا أستحق.
الأرملة : طلبتُ أُذنكَ!

(يمُد أُذنَه لها، تَهمِس فيها فيصيح مُستنكِرًا.)

الحارس : المرحوم!
الأرملة : هو نفسه!
الحارس : مستحيل. لا يمكن أن تكون هذه فكرتكِ! لا يمكن أن أتصوَّرها منكِ!
الأرملة : إنها من الخادمة.
الحارس : هذه الملعونة؟
الأرملة : انتظر. ألا تذكُر أنها عرضَت عليكَ أن تُعلِّقها هناك. سَمِعتُها فأضاءت الفكرة في عقلي كالبرق.
الحارس : أتفعلين هذا وأنت تُحبِّينه؟
الأرملة : أفعَله لأني أُحِبُّه.
الحارس : وترضَينَ أن يُعلَّق مع اللصوص؟
الأرملة : أرضى لأنني أُحبُّك، ثم إنهم ثُوَّار لا لصوص. لقد أحببتُه وأحبَّني في حياته. وهو في موته يُثبِت أنه لا يزال يُحبني.
الحارس : وسُمعتُكِ في المدينة؟
الأرملة : سنتركُ المدينة.
الحارس : وتذهبين معي إلى الغابة؟
الأرملة : وتجعلني كوخكَ وحطبكَ.
الحارس : بل ناري التي استدفئ بها.
الأرملة : حبيبي.
الحارس : حبيبتي. (يتعانقان لحظة. تنتزع نفسها منه وتقف وهي تقول):
الأرملة : أجراسُ الليل تدُق. هيا يا خارون العجوز!
الحارس : هيَّا يا عروسي.
الأرملة : ماذا تفعل؟
الحارس : أُعِد القارب.
الأرملة : أخشى أن يَغرَق من ثقل الحمل.
الحارس : سأحمِلُه على ظهري.
الأرملة : سنَحمِله معًا، هيا، هيا.

المشهد الخامس

(نفس المنظر، الساحة على ضوء النجوم البعيدة. ظلال المصلوبين الستة تمتد على الأرض، الخادمة تدخُل على أطراف قدمَيها وهي تتلفَّت يَمنةً ويَسْرة.)

الخادمة : أمراني أن أذهب، لعناني وطرداني كأني كلبة من هاديس. لتغفر لكما الآلهة، لتُبارككما الآلهة. لكني أرجع مرة أخرى، وإلى أين أذهب؟ بحقِّك يا رب الأرباب، إلى أين أذهب؟ هل لي أحدٌ غيركِ يا سيدتي؟ هل لي أحدٌ غيركَ يا سيدي؟ وماذا أفعل في المدينة؟ لا أحد يعرفني؟ لا أحد يسأل عني. ولو رأتني جارة أو جار عجوز فسوف يهتفون هذه هي خادمة الطاهرة العفيفة، أقسمَت على نفسها أن تموت معها حزنًا على السيد، ما بالها تمشي في المدينة؟ هل هي شبحٌ هرب من هاديس؟ لا لا؛ لهذا لم أذهب للمدينة. لم أُرِ وجهي العجوز لأحد؛ لهذا لن أذهب إلى هناك. لن يرى أحد وجهي، سيدتي، سيدتي، لا أحد يجيب، والمصباح الزيتي قد انطفأ في الضريح، أين ذهب الحارس؟ أيها الحارس! أيها الحارس! أيمكن أن يكون قد اختفى؟ أيمكن أن يلقى عقابه بهذه السرعة؟ وهؤلاء اللصوص المساكين، لقد زادوا واحدًا، أيمكن أن يكون قد صلب نفسه مكان اللص الذي سرقوه؟ ويلك يا زوجي الوغد! أكان من الضروري أن تزورني في الحلم؟ لن أسامحكَ أبدًا. سترى كيف أشدُّكَ من أُذنَيكَ وأجلد ظهركَ عندما أراك، لا تتعجل! سنلتقي حتمًا، وإلى أين أذهب؟ إلى أين أذهب؟ (تتجه نحو الجثث المعلقة وتعدُّها) ستة، لا بد أنهم زادوا عما تركتهم. أيها الحارس المسكين، لا بد أنكَ قد فعلتَها قبل أن يحاكموك. لا بد أنك سدَّدتَ السيف إلى صدرك. يا للشباب المتهور! أتكون سيدتي قد علَّقتكَ مكانه؟ وأين هي الأخرى؟ (تقترب من المصلوبين وتتأملهم واحدًا واحدًا) مساكين. مساكين، صامتون كما تركتهم. وعندما تطلع الشمس ستُفزِع نومَهم الصقور والجوارح والكلاب والذئاب. ويلي! من هذا؟ من هذا؟ سيدي المرحوم؟ سيدي المسكين؟ نعم نعم. هو نفسه. جسده، وجهه. شعره، هذا أنفه الطويل أيضًا، وعيناه الصابرتان الراضيتان، سيدي نفسه، سيدي المسكين نفسه، مُعلَّق من قدمَيه. لا ليس هذا رداءه الذي دُفن فيه، وقميصه الأبيض الناصع، أين ذهب؟ من أين له بهذه الخرق؟ رحمتك يا رب الأرباب؟ كيف ترضى بهذا؟ أيمكن أن تُمرِّغ رأس النسر في التراب بعد أن سكنَت القمم؟ ويلي! ويلي! ماذا فعلوا بك يا سيدي؟ ماذا فعلوا بكَ يا سيدي؟ (تبكي، يظهر الحارس في الجانب الآخر من الساحة، يتجه إليها.)
الحارس : ما هذا؟ من أنتِ؟
الخادمة : من أنا؟
الحارس : ماذا تفعلين هنا؟
الخادمة : وأنتَ! من أنتَ؟ لماذا تسألُني؟
الحارس : عجوزٌ مُخرِّفة. أنا الحارس بالطبع.
الخادمة : احرُس كما تشاء ودَعْني لحالي. وهل هؤلاء يحتاجون إلى حراسة؟
الحارس : ولماذا تَرينَني هنا إذن؟ بالطبع يحتاجون لحُراس. والحُراس إلى حُراس. هل أنتِ قريبةُ أحدٍ منهم؟
الخادمة : هؤلاء اللصوص؟
الحارس : من يدري؟ ربما كنتِ تُفكِّرين في سرقة واحدٍ منهم.
الخادمة : أنا؟ لآكله أم أستند عليه في شيخوختي؟
الحارس : سنعرف الآن. ربما كنتِ عابرةَ سبيل. يا زميل! أنتَ!
الخادمة : ناديتُ فلم يُجب أحد.
الحارس : ناديتِ أم فعلتِ شيئًا آخر؟
الخادمة : وماذا تفعل عجوزٌ مثلي؟
الحارس : من يدري ما يفعله الناس في هذه الأيام؟ انتظري حتى أبحث عنه، قفي هنا ولا تتحركي.
الخادمة : وأين أذهب يا ولدي؟
الحارس : يا حارس! أنتَ! أنتَ!
الخادمة : لن يرُدَّ أحد. تَسلَّمْ أمواتكَ ولا تُتعِبْ نفسكَ.
الحارس : ما شأنُكِ بهذا؟ قفي حتى نتحقق منكِ (ينادي وينصرف).
الخادمة : ها أنا أجلس أيضًا. وإلى أين أذهب؟ (تقترب من جثة سيدها) سيدي، سيدي، هل ذهبوا جميعًا وتركوك؟ والموت في كل مكان. والمدينة البعيدة ميتة. ماذا خَبَّأ القدَر لكَ؟ ماذا يُخبِّئ لنا؟ يا سيدي الطيب المسكين، ماذا فعلوا بكَ؟ ماذا فعلوا بك؟
الحارس (يُسمع صوته من بعيد) : يا حارس، يا حارس.
الخادمة : سيدي، سيدي.

(تبكي. يشتد بكاؤها قبل أن تُنزَل الستار.)

١٩٨٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤