عن باكُون

عصر الرشد

نشأ فرنسيس باكون في إبان عصر الرشد، بعد تمهيد غير قصير في طريق اليقظة والاستطلاع والكشف والتجربة.

ونسميه عصر الرشد؛ لأن العصور التي قبله كانت عصورًا قاصرة يفكر فيها العقل البشري بهيمنة من الوحي المسيطر عليه، ولا يجرؤ على التفكير لنفسه والاستقلال برأيه وعمله.

فلما نشأ باكون كانت القارة الأوروبية قد مضت شوطًا بعيدًا في التفكير المستقل والبحث الطريف والاستطلاع الذي لا يحجم عن مسلك من المسالك في عالم المجهول أيًّا كان وحيثما كان: في السماء أو في الأرض، وفي أعماق الفكر، أو في أغوار الضمير.

كان كوبرنيكوس وجاليليو قد عرفا سر الشمس، ووضعا الأرض في مكانها من السماء أو من المنظومة الشمسية.

وكان كولمبس قد كشف الأرض لنفسها، وجمع بين شطريها بعد طول افتراق وانفصال.

وكانت النهضة قد عمت القارة الأوروبية بين شرقها وغربها، وهجمت عليها هجوم الجيش المحاصر من جميع منافذها: فمن الشرق جاءها الرهبان بعد فتح القسطنطينية يحملون كتب الإغريق وكتب العرب وسائر الكتب التي اجتمعت لطلاب المعرفة من نساك الأديرة في العصور الطويلة، ومن الجنوب جاءتها فلول الصليبيين تنقل عن الشرق كل ما اقتبسته من صناعاته ومصنوعاته، ومن الغرب سرت فيها بقايا الحضارة الأندلسية، بعد أن تفرق مريدوها وتلاميذها في الأقطار الأوروبية، ومنهم قسيسون ورهبان، ومرتابون في العقائد والأديان.

وعكف الإنسان على أغوار ضميره ينقب فيها، ويكشف عن خوافيها … فاستنقذ ضميره من سلطان الجمود الديني، ونهج له نهجًا في محاسبة نفسه وانتظار الحساب من ربه يخالف ما درج عليه الأولون مئات السنين، وتلك هي الحركة المعروفة باسم الإصلاح، وما تفرع عليها من المذاهب والنظم والأخلاق.

فهو كما أسلفنا كشف شامل لأجواز السماء وأرجاء الأرض، وفجاج الفكر ودخائل الضمير.

وهو عصر الرشد الذي يرى فيه الإنسان بعينيه بعد أن رأى طويلًا بعيني أبويه، وهما مغلقتان لا تبصران.

وكان للبلاد الإنجليزية شأن في ذلك العصر غير سائر الشئون.

لأن الطرق العالمية تحولت من الشرق إلى الغرب، وانكشفت للملاحين شواطئ أفريقية الغربية، وما هو أبعد منها غربًا في القارة الأمريكية، فأصبحت الجزر البريطانية وهي محور الحركة الدائمة بين أوروبا وأمريكا وأفريقية، وسائر أقطار المعمورة، وانفردت هذه الجزر بالإشراف على جميع هذه الأنحاء بعد انتصار الإنجليز على الأسبان في المعارك البحرية المشهورة، فجاشت هنالك الخواطر وتحفزت الهمم ونشطت بواعث الكشف والاستطلاع في شتى نواحيه، ولاح على العالم كله بين سمائه، وأرضه، وبحره، وبره، وضميره، وفكره كأنه خلق جديد.

وإنه يومئذ لخلق جديد بغير مراء.

لأن العالم الذي يراه الرجل الرشيد غير العالم الذي يراه الطفل القاصر، والعالم الذي تراه العينان معصوبتين غير العالم الذي تريانه مفتوحتين بصيرتين.

كان الإنسان لا يختبر شيئًا لنفسه إلا بإذن من وليه، وهو بين أمين جاهل أو عاقل غير أمين، فأصبح جريئًا على الاختبار الميسر له لا يقف به عند شأن من شئون عقله، ولا جسده، ولا عمل من أعمال دنياه أو أعمال دينه.

وكان كل شيء حرامًا عليه حتى يقال له: إنه حلال، فأصبح كل شيء حلالًا له حتى يتبين له أنه حرام.

ومن خصائص الآداب والفنون أنها تعرض هذه الأحوال عرضًا لا شبهة فيه؛ لأنه يصدر من طوايا النفس عفوًا بلا روية ولا اصطناع، فإذا أخطأ التاريخ أو ضلت الأفكار، فلا خوف على الآداب والفنون في هذا المجال من خطأ أو ضلال.

وآداب اللغة الإنجليزية في ذلك العصر — عصر الرشد — أصدق مرآة لأحوال النفوس والأفكار في جيل باكون الرجل، وجيل باكون الفيلسوف.

فهو القائل: إن المعرفة قوة، وإني «أحسب أن ميداني يتناول المعرفة كلها على أنواعها».

وهذا الذي قاله الفيلسوف قصدًا قد جاء من طريق الإلهام الشعري أو الأدبي على لسان كل شاعر أو كاتب أو أديب تمخض عنه ذلك العصر العجيب.

فشكسبير في رواياته وقصائده لا يدع سريرة من سرائر النفس البشرية إلا غاص فيها وترجم عنها، ولا يدع صفحة من صفحات الكون إلا نظر في مرآتها، وبسط مثال النفس البشرية عليها، ومن كلامه على لسان هَمْلِت في فضائل العقل وأغوار الضمير:

إن الإنسان قطعة من الخلق ما أعجبها! ما أنبله في الفكر! وما أوسع آفاقه في الملكات والمواهب والكيان والحركة! وما أمضاه وأحقه بالإعجاب في العمل، وما أشبهه بالملك في القريحة! ما أقربه إلى صورة الأرباب! إنه لجمال الدنيا والقدوة المثلى في عالم الأحياء!

وقد أصاب النقاد الذين خصوا الشاعر مارلو “Marlowe” بالتنويه في تعبيره عن ذلك العصر الطامح إلى القوة والبسطة في كل شعبة من شعب الحياة؛ لأنه في الواقع قد تناول جوانب القوة الإنسانية جميعًا، فوزعها جانبًا جانبًا على رواياته الثلاث، وهي تيمور وفوست واليهودي من مالطة.

فالقوة في تيمور هي قوة الملك والسلطان، حيث يقول بلغة الوثنية: «إن الأرباب في السماء ليس لها من المجد ما للملك على الأرض، وليس من حظها في عليين أن تنعم بمسرات الملوك على هذه الغبراء، إنهم يلبسون التاج المرصع باللؤلؤ والنضار، الذي تناط به الحياة والموت، وإنهم ليسألون ويأخذون، وإنهم ليأمرون ويطاعون!»

والقوة في فوست هي قوة السيطرة على عناصر الطبيعة بالسحر، والمعرفة، ومحالفة الشيطان، وهو القائل: «أية دنيا من الغنم والمسرة، ومن القوة والشرف والعظمة، موعودة للباحث العليم! كل هذا الذي يتحرك بين القطبين الساكنين سيصبح رهينًا بأمري، وإنما يطاع العواهل والملوك في دولهم وأقطارهم ولا قبل لهم فيها بإرسال الريح أو شق السحاب، ولكن السلطان الذي يملكه الحاذق بهذه الفنون ينبسط إلى حيث يمتد عقل الإنسان.»

والقوة في اليهودي من مالطة هي قوة الرجل الذي يفعل الأعاجيب بماله، ويقبض على أعنة الحوادث برشوة نضاره وجوهره ولجينه، وما من قوة تتاح للمخلوق الآدمي في هذه الدنيا وراء هذه القوى الثلاث: قوة الملك وقوة المعرفة وقوة المال، اللهم إلا قوة الجمال وليس هو بالذي ينال بالسعي والتحصيل.

وظاهر من هذا وأشباهه أن العقل البشري لم ينطلق من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليطلب المعرفة في الأوراق أو يستحيل إلى دودة من ديدان الكتب، كما يكني الأوروبيون عن طلاب المعرفة، الذين يعتزلون الحياة ويعيشون ويموتون بين الشروح والمتون.

كلا! إنما انطلق العقل البشري من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليقبل على كل مجهول وينعم بكل متعة، وينهل ويعل من كل مورد، ويفكر ليعيش ويعيش ليفكر على السواء.

فكان معيبًا على الباحث الدارس في ذلك العصر أن يغشى المجامع، ولا يشارك الناس في الرقص والعزف والغناء وسائر ما يتعاطاه الخاصة والعامة من الملاهي والأسمار، وفي الثالوث الروائي المعروف بالعودة من برناسس The Return form Parnasus، الذي صنفه أدباء كامبردج يصفون العالم القح بأنه ذلك المخلوق «… الذي له ملكة خاصة في السعال، ورخصة في البصاق … أو الذي يوصف نفيًا بأنه ذلك المخلوق الذي «لا» يحسن الخطو و«لا» الأكل النظيف و«لا» ركوب الجياد، ولا تحية المرأة وهو ناظر إلى عينيها».

وتحدث توماس مورلي في كتابه «مقدمة الموسيقى العملية» عن عالم يذكر كيف دعوه في بعض المحافل إلى مشاركتهم في الغناء، فأنكروا منه أن يعتذر بالجهل وعدُّوها منه قلة أدب! وتساءلوا: أين يا ترى تربى هذا المخلوق؟

ولعل الشاعر سبنسر قد وصف النموذج الأدبي قبيل ذلك حين وصف سير فيليب سدني Sidney، فقال: «إنه لخفيف في الصراع سريع في العدو، سديد في الرماية، قوي في السباحة، حسن العدة للضرب والقذف والوثب والرفع، وكل ما يزاوله الرعاة من رياضة ولعب».

•••

ولقد كانت هذه النزعات الحية تتمثل في الشعائر العامة والعادات الشعبية، كما تتمثل في الشعر والآثار الأدبية.

فمن العادات التي كانت شائعة في بيئة الفقهاء والأدباء عادة البلاط الأدبي، الذي كانوا يعقدونه بعلم من الحكومة ومساهمة منها في بعض الأحيان، فينصبون لهم أميرًا يمنحونه لقب الإمارة، ويقضون برئاسته بضعة أسابيع في محاكاة البلاط ومراسمه وعرض فكاهاته وأضاحيكه، ويطوفون المدينة في موكب حافل يرحب به عمدتها، ويدعوه إلى وليمة فاخرة يشهدها العلية، ورجال الحاشية الملكية ونساؤها، وهي عادة مقتبسة من المغرب العربي، ولا تزال لها بقية مشهودة في موكب سلطان الطلبة، الذي يؤلفه الطلبة بالبلاد المراكشية بموافقة السلطان وتشجيعه، ويظهر أن العادة من نشأتها الأولى عربية مغربية وصلت إلى الإنجليز وغيرهم من هذا الطريق، واسم هذه المواكب في اللغات الأوروبية عربي بلفظه ومعناه؛ لأن كلمة مسكراد masquerade التي تدل عليه مأخوذة من كلمة مسخرة أو مسخرات، وهي تتناول مظاهر الحكاية والسخرية، ومحافل البسط والقصف وما إليها.

ويقضي هذا البلاط الملفق بتنصيب بعض النبلاء، وحملة الألقاب، ولكنه يشترط فيمن يستحق ألقابه أن يطلع على جميع المؤلفات المشهورة، ويتردد على المسرح ويحسن نظم المقطوعات الشعرية، التي تستخدم للتحية أو الفكاهة في المجالس العامة، ثم يشترط في هذا النبيل الأديب أن يكون على رضى العصر من صفات الأدب والكياسة، فلا يكتفي منها بالعلم والاطلاع دون الكياسة الاجتماعية والخبرة بآداب الخطاب والسلوك والإشراف على المآدب والمراقص، وسهرات السمر والغناء، وعليه — من واجباته المختلفة — أن يتصدر إحدى الولائم، ويدير فيها الحديث، ويتكفل بتحية المدعوين والمدعوات.

ومن دأب العصور التي تشيع فيها هذه النزعات الحية أن تتبرم بتعليم المدارس والجامعات، ولا ترى فيه الكفاية لتنشئة الرجل المهذب والعامل الناجح في مطالب الحياة؛ لأنهم ينشدون الملكات التي ترشحهم لارتقاء المناصب الرفيعة، وتحصيل الثراء والعتاد ومزاولة الأعمال، ومداورة الفرص واجتناء اللذات، ولم يكن تعليم تلك العصور كفيلًا بشيء من هذا؛ لأنه مقصور على حشو الأذهان بالنصوص والشروح، وتخريج علماء العزلة وحفاظ الدفاتر والأوراق.

وقد ينظر العالم من هؤلاء إلى رجل قليل النصيب من العلم المدرسي، ولكنه مزاول مداور حُوَّل قُلَّب ببداهة الحياة وتجارب الأيام، فيراه خيرًا منه وأوفر نصيبًا من مطالب الحياة في تلك الأيام، وفي سائر الأيام، فيداخله الشك في العلم الذي تعلمه أو يغتر به غرورًا لا يجديه في غير السلوى والعزاء.

ولهذا ساء ظن الأذكياء بالعلوم التي كانت تدرسها الجامعات في ذلك الحين، وتحدث بذلك طلاب الجامعات قبل سواهم كما جاء في رواية الحج إلى پارنساس التي أنشأها أدباء جامعة كمبردج، وكنوا فيها عن جامعتهم باسم پارنساس القديم، وهو الجبل اليوناني المقدس الذي كانوا يزعمون أن أبولون رب الفنون، يأوي إليه مع عرائس الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل.

ففي تلك الرواية شابان يقبلان على الپارنساس طمعًا في المجد والجاه، فيلقاهما أستاذ معوز ناقم على العلم والتعليم، فيثنيهما عن هذه النية الخادعة، ويقول لهما: إن رب الفنون أپولون قد أفلس من الذهب والفضة إلا ذهب الكلام الموشى، وفضة الروائع الناصعة، وأما الذهب النفيس والفضة الغالية، فهما من نصيب النساجين وبائعي الحلل والأحذية وسماسرة الأسواق، وإن هوبسون — ساعي كامبردج المعروف — يجمع من المال في ذيول اثنتي عشرة جارية ما يعز على الأستاذ أن يجمعه من مائتي كتاب.

ولم يبالغ أستاذ الرواية في وصف بؤس العلماء وقلة جدواهم من أدب الكتب والدفاتر، فإن المسرحية — وهي عمل نافع في السوق — كانت تباع يومئذ بعشرة جنيهات أو دون ذلك، وكان قصارى ما يطمع فيه الكاتب المسرحي من المورد السنوي، لا يتجاوز الستين أو السبعين من الجنيهات، ولولا الهبات التي كانت تصل إلى الشعراء والأدباء من حماة الآداب ونصرائها لهجروا هذه الصناعة، أو عاشوا في لجة ذلك الرخاء عيشة العظماء والمترفين.

•••

ليس أقرب إلى العقل البشري في عصر كهذا من التوجه إلى علم جديد غير علم العزلة وديدان الأوراق، وهو العلم المفيد الذي يمتزج بالمعيشة، ويعين الأفراد والأمم على الحياة، وهذا هو لباب الفلسفة الباكونية، ولباب العصر كله بعلمه وعمله وأخلاقه ومساعيه.

وكانت في العصر بواعث أخرى أعانت طلاب العلوم والمعارف على الطموح إلى المجد الدنيوي، والتطلع إلى المناصب العليا والخوض بعلومهم ومعارفهم في غمار الحياة:

منها أن مناصب الدولة العليا كانت قبل ذلك وقفًا على كبار رجال الدين، أو كبار رجال السيف من النبلاء ووُرَّاث الألقاب، فلما تحولت البلاد الإنجليزية عن سلطان الكنيسة البابوية خلا مكان الكهان والكرادلة في تلك المناصب، واتسع فيها الأمل لرجال المعرفة والذكاء.

وكانت المجالس النيابية قد أخذت في محاسبة الملوك على الضرائب، ونفقات الخزانة وحقوق الامتياز المشروعة أو غير المشروعة، فاحتاجت الحكومة إلى وزراء من رجال الفقه والمال، وقادة المجالس النيابية، وخلا كذلك مكان الأكثرين ممن كانوا يرتقون إلى كراسي الوزارة من طريق الوظائف العسكرية دون سواها.

وعمت فتنة الذهب والكسب السريع بعد فتح الطريق إلى الهند من المغرب، وبعد الهجرة إلى القارة الأمريكية، فتهافت الناس على الثراء، وأصبحت القناعة عارًا على القانعين واسمًا آخر من أسماء الكسل والعجز وسقوط الهمة، فكان الطموح والاستطلاع سمة العصر كله، وكان العلم المنشود يومئذ بابًا من أبواب الطموح والاستطلاع.

•••

وتنبه العصر — بطبيعة ما أشرج عليه من الطموح والاستطلاع — إلى أسلوب من أساليب العلم والتثقيف هو بلا ريب من أنفع الأساليب لتوسيع النظر، وترويض العقل على حسن المقابلة بين الأمور، والنفاذ إلى دخائل العادات والشعائر القومية، ونعني به السياحة، وهي أشبه أساليب التعليم والتهذيب بعصر الحركة والكشف، واستقصاء النظر في الأرض والسماء.

فكانت الرحلة إلى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وهولندة وغيرها من الأقطار الأوروبية، وبعض الأقطار الشرقية فرضًا على كل فتى مستطيع من أبناء العلية وذوي اليسار؛ وشجعتها الحكومة لأنها كانت في أوائل عصر التوسع والاتصال بالأقطار الأجنبية، فكانت تعول أكبر التعويل على أخبار أولئك السائحين، وهم عائدون إلى بلادهم من تلك الأقطار، وكثيرًا ما رشحتهم للسفارة ومناصب السلك السياسي بما تتوسم فيهم من سداد الملاحظة وسرعة الخاطر وصدق الغيرة الوطنية في مشاهداتهم الخارجية.

وكان أبناء الأمة الإنجليزية يكبرون أولئك السائحين، ويتهمونهم بالترفع والحذلقة في نقد عادات البلاد، وتكلف المعيشة على غير السنن التي ألفوها من قديم. وهو اتهام لا يخلو من الإكبار، أو من الاعتراف بما للسياحة من قدرة على تحسين العادات، وإقناع السائحين بارتفاعهم عن البيئة، التي درجوا عليها قبل التنقل في مختلف الأقطار.

هذه وأمثالها هي أساليب العصر في التعليم ومباشرة الحياة؛ لأنه كما أسلفنا عصر طموح واستطلاع، ولكنها في الواقع لم تكن لتروج في عصر من العصور ما لم تكن فيها موافقة لخلائق السكان، ومجاراة لنزعاتهم الحية التي فرضتها عليهم طبيعة المكان، فلم يعرف عن سكان الجزر البريطانية قط في عصر من العصور، أنهم جنحوا إلى المعيشة الراكدة، وتعلقوا بالمعارف النظرية والدراسات الكلامية التي تنعزل بصاحبها عن معترك الحياة، ولكنهم نشئوا على الملاحة والصيد واللعب في المروج الفيح، والمرانة على الفروسية وفنون الرياضة، والتأهب لبرد الشتاء بحرارة العمل وحركة الأعضاء، وهيأتهم هذه النشأة لتلبية مطالب العصر، الذي وسم قبل سائر العصور بسمة الطموح والاستطلاع.

•••

وكل أولئك لم يكن ليغني شيئًا لو لم يكن طموح الفكر منطلقًا إلى مراميه بغير عائق من حجْر ذوي السلطان، سواء كانوا من رجال الحكم أو من رجال الكنيسة.

وقد انطلق طموح الفكر إلى مراميه في ذلك العصر بغير عائق من هذا السلطان أو ذاك؛ لأن الكنيسة كانت مشغولة بالدفاع عن وجودها فترة طويلة، ولم تزل في هذا الشاغل حتى تغلب عليها سلطان التاج، والحكومة النيابية، فاستكانت في حدودها إلى حين، وشاء عصر الطموح أن تتجرد الكنيسة من الرجال الأشداء، الذين يبسطون مشيئتهم بقوة العارضة ومضاء العزيمة وسعة الحيلة، ولو لم يكن لهم سلطان من الوظيفة أو الصفة الدينية؛ لأن معيشة الكنيسة الوادعة وأجورها القانعة لم تكن في ذلك العصر مما يغري أمثال أولئك الرجال الأقوياء بالركون إليها والبقاء فيها، فمن بقي في الكنيسة يومئذ فهو غير ذي طموح وغير ذي عزيمة، ومن كان كذلك لم يخش منه الحجر على حرية الفكر، ولا الوقوف في وجه التيار وهو في أوائله جارف عنيف.

أما سلطان الحكومة فقد كانت له رقابة على الكتب والمطبوعات، ولكنها لم تكن من الصرامة والضيق بحيث تحول بين الكتاب وإظهار ما يكتبون، وقلَّما كانت الحكومة تلتفت إلى حملات الكتاب حتى تكون قد صدرت من المطبعة، وتداولتها الأيدي ولغط بها الناس، وكان لها الأثر المحذور الذي يستوجب الالتفات. فإذا صدر الكتاب من المطبعة مشحونًا بما شاء صاحبه من التنديد والتشهير، ولم يلغط به أحد ولا ثارت حوله الضجة المحذورة، فكثيرًا ما تغفل عنه الحكومة أو تتغافل عنه، ثم تهمل التأليف والمؤلف كما أهملتهما جمهرة القراء.

•••

على أنه كان عصرًا من عصور التاريخ يسري عليه ما يسري على جميع العصور، فما من عصر من العصور في تاريخ الإنسان خلا كل الخلو من بعض عوامل الضعف والنكسة، أو بعض عوامل التهيؤ للانتقال والتبديل.

ولم يكتب لعصر باكون شذوذ عن هذه القاعدة التي لا شذوذ فيها، فقد كمنت فيه عوامل شتى للتبدل والانتقال، وجاء بعضها من القوة والطموح، كما جاء بعضها من النكسة والجمود.

فازداد سلطان التاج بعد الغلبة على الكنيسة، والغلبة على نظراء الدولة من الأمم الأجنبية، وخيل إلى أنصار الحكم المطلق أنهم قادرون على إطلاق ما تقيد منه، وتوسيع ما ضاق من حدوده، فجمعوا إليهم الأنصار وأكثروا لهم الرشى والهبات، وكلفهم ذلك طلب المال وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وليس إلى كسب الأنصار في عصر كذلك العصر من سبيل بغير العطاء الجزيل، وليس لهذا الإرهاق من مغبة غير النقمة فالثورة والانتقاض.

وكان قمع الكنيسة على كره من الأتقياء المتنطسين، وهم غير قليلين في البلاد الإنجليزية، ولعلهم كانوا يطيقون هذا القمع لو حسنت الأخلاق الدينية، وروعيت الآداب المسيحية، ولكنهم نظروا فيما حولهم فأنكروا الترف والبذخ، والتهافت على المتعة والمغالاة بالحطام والإباحة في مغامسة اللذات، فقرنوا بين ذلك وبين قمع الكنيسة، وحسبوا أن الأمر محتاج في تقويمه إلى حماسة دينية، وتنطس شديد في التحريم والتحليل، فجاءت ثورة المتطهرين مشفوعة بثورة المتمردين على المستبدين.

وجاء الطموح والفتوح بنظام جديد في توزيع الثروة، فاختل النظام القديم وتصدعت أركان البناء العريق، وكل اختلال فلا مناص فيه من شكاية وقلق واستياء.

وغلا الناس في الطموح فعرض لهم ما يعرض لكل غلو في الرجاء من خيبة وصدمة، واتهام للواقع وطلب للتبدل.

فكان الطموح في عنفوانه، وكانت هذه العوامل الكامنة في بدايتها، ولكنها لم تحتجب عن بديهة الشعر والحكمة في زمانها، فتراءت في وساوس هَمْلت ونقمة تيمون، ويأس لير كما تخيلها شكسبير، وتراءت في تلميح باكون إلى القلاقل والثورات خلال مقالاته، وفي أطواء صفحاته التاريخية.

وجملة ما يقال عنه أنه كان عصرًا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج باكون؛ لأننا نلمس مراجع العصر في أخلاقه كما نلمسها في أفكاره وكتبه، فهو عصر يصدف عن علم النظر والعزلة، ويقبل على علم المزاولة والقوة، ويأنف من التسليم بكل شيء، ويتشوف إلى تجربة كل شيء والتذوق من كل شيء، ويركب كل مركب في سبيل الكشف والاستطلاع، ويستسهل كل عسير في سبيل المال والمتاع، وكذلك كان باكون الذي جرب العلم والحياة، واستباح في سبيل المال والمنصب ما لا يباح.

نشأة باكون

كان عصر الرشد — عصر باكون — عاملًا مهمًّا في توجيه سيرته وإخراج فلسفته، ولكنه لم يكن بالعامل الوحيد في هذا ولا ذاك، بل أعانه على الأقل عاملان آخران: بنيته وبيته …

فلم يكن الرجل قط من أصحاب الخلق الوثيق والبنيان الركين، سواء في صباه أو بعد صباه، ولم يتفق له ما اتفق لكثيرين غيره من تصحيح بنيتهم بعد الشعور بالهزال، أو التوعك في إبان الشباب.

وكانت أمه تحذر أخاه الأكبر — أنتوني — أن يحذو في معيشته حذو أخيه الأصغر، وتوصيه أن يذهب إلى الصلاة مرتين كل يوم، ولا يقتدي بأخيه الذي يهمل هذا الجانب ولا يقوم بفرائضه، وتقول: إنها تحسب ضعف الهضم عنده آتيًا من اختلال مواعيده واضطراب عاداته، وذهابه مبكرًا إلى الفراش ثم سهره على التفكير والقراءة، ثم بقائه في فراشه طويلًا بعد تيقظ الناس في الصباح.

وإذا ضعفت البنية واشتد الطموح، وتفوق الذكاء فالطريق مرسوم: طريق الظهور في ميدان الفكر الهادئ، والحيلة الوادعة، والمناصب السلسة المؤاتية، لا طريق المغامرات العنيفة، والشهوات الجامحة والصراع المرهوب.

ويبدو من سيرة باكون أن ضعف بنيته قد تناول شهوات جسده، فملكها ولم تملكه، وعاش حياته كلها ولم تغلبه قط نزوة من نزوات الشباب، أو دسيسة من دسائس الهوى في الكهولة والشيخوخة، وتوجه به عصر المتاع بالحياة إلى ناحية من نواحي هذا المتاع لا يعوقها ضعف البنية، وهي ناحية الوجاهة والبذخ والرئاسة المرموقة بالأنظار. وربما كان مصيبًا حين وصف نفسه في أوائل شبابه، فقال من خطابه إلى رئيس الوزراء: «إنني أعترف بأنني على قدر اتساع مطامعي الفكرية تعتدل بي مطامعي المدنية.» ويقصد بها ما نسميه اليوم بالمطامع السياسية والمظاهر الاجتماعية.

أما العامل الآخر وهو بيته فأثره في حياته كبير طويل الأمد، سواء بالوراثة أو بالتلقين والاختبار.

ولد بلندن في أوائل سنة ١٥٦١، في بيت من بيوت الرئاسة من جانبي أبيه وأمه، فكان أبوه السير نيقولاس باكون حامل أختام الملكة في عهد اليصابات، وكانت أمه بنت السير أنتوني كوك الذي كان مربيًا لإدوارد السادس، وركنًا من أركان الإصلاح الديني في زمانه، وكانت سيدة مثقفة تحسن اللاتينية واليونانية، وتتشيع لمذهب كلڨن وتغلو في التشبث بآراء المتطهرين والمتنطسين، الذين يمقتون التيسير والسماحة في مسائل الدين.

فكان تأثير هذه النشأة الدينية مزدوجًا في سيرة باكون وتفكيره: بعضه في اتجاه بيته وبعضه مناقض لهذا الاتجاه.

فالبحث في مسائل الدين وحقائق الإيمان، وأصول الجزاء والثواب كانت بابًا مطروقًا — بطبيعة الحال — في ذلك البيت خلال تلك الفترة، التي كثرت فيها المنازعات بين النحل والمذاهب الدينية، فنشأ باكون في صباه معوَّد الذهن على البحث في هذه الأمور وما يتصل بها ويجري في مجراها.

وكان الغلو في التنطس بقية من بقايا عصر مضى، لا تطرد مع النزعة الغالبة في عصر الطموح والاستطلاع والتهافت على المال والمتاع، فلم يكن لهذا التنطس البيتي ثبات في وجه العصر وجمحاته ودواعيه، ولعله كان من شأنه أن يضاعف الاندفاع مع العصر في كل ما يقتضيه من غواية، وكل ما تتسع له القدرة والمزاج من مجاراة.

وكتب على باكون أن يتلقى أثرًا آخر من بيته وذوي قرباه، يخيل إلينا أنه أبلغ الآثار المكسوبة في توجيه أخلاقه، وإبراز كوامنه وتغليب أطوار مزاجه، فإنه لقي العقبة الكبرى، بل العقبات الكبار جميعًا من ذوي قرباه، فكانت الوزارة في أيديهم والبلاط رهنًا بمشورتهم، أو غير معرض عن توسلهم ورجائهم، وكان للناشئ باكون أن يطمع بحق في معاونتهم وكلاءتهم، ويصعد إلى أرفع المراتب بأعينهم وعلى أيديهم، ولكنهم صدموه في آماله ولم يزالوا يصدمونه من عنفوان صباه إلى أن شارف الكهولة، وبلغ من مناوأتهم إياه أنهم كانوا لا يساعدونه، ولا يتركون غيرهم يساعده بما يستطيع، فوقفوا له بالمرصاد كأنهم ألد الأعداء، وشوهوا عقيدته في الناس، وفي استقامة الأخلاق من حيث يشعر ولا يشعر، ومن حيث يشعرون ولا يشعرون.

أرسل فرنسيس إلى كامبردج وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يتردد على أبيه في البلاط، فكانت الملكة تداعبه كلما رأته وتدعوه باسم «حامل أختامها الصغير»، فكان ذلك مما يملي له في الثقة بالارتقاء إلى أرفع المناصب يوم يحين أوانها، وقد لاح له في بادئ الأمر أنه جد قريب.

ففي السادسة عشرة ترقى في سلك طلاب العلم إلى طبقة الراشدين أو الأقدمين، كما كانوا يسمونهم في ذلك الحين، وفتح له أول باب من أبواب المناصب، أو أبواب العلم السياسي الذي يتزودون به يومئذ لتلك المناصب، فذهب إلى باريس في صحبة السير أمياس پوليت Amyas paulet سفير إنجلترا لدى البلاط الفرنسي، وتنقل بين المدن الفرنسية تنقل الدارس المستفيد، ومضت عليه قرابة ثلاث سنوات وهو يتهيأ ويتحفز للترقي في مناصب الدولة بمعونة أبيه، ولكنه فوجئ بموته وهو على أشد ما يكون ثقة بمعونته وحاجة إلى الاعتماد عليه، فمات أبوه سنة ١٥٧٩ وهو في الثامنة عشرة من عمره، وعوجل بالموت قبل أن ينجز لولده ما كان يفكر فيه من أمر توظيفه وأمر ميراثه، فقد كان في نيته أن يوصي له بضيعة تغنيه أو تكفيه، وتتيح له أن يظهر بين أقرانه بالمظهر الذي يرضيه. فأصبح فرنسيس بعد موته خلوًا من الوظيفة المأمولة وخلوًا من الميراث الموعود، إلا القليل الذي يقع من نصيب الولد الثاني في بلاد الإنجليز.
وكان اللورد برجلي Burghly رئيس الوزراء من أقرب ذويه، فألقى اعتماده عليه ووثق من أخذه بيده في مراتب الدولة مرتبة بعد مرتبة ومقامًا فوق مقام، ولكنه لم يلبث أن تطامن في رجائه وكفكف من غلوائه، وعلم أنه الطريق الموصد العسير، وليس كما كان يحسبه بالطريق الممهد اليسير.

وأعاد الرجاء كرة بعد كرة، وأفضى إلى قريبه بغاية ما يرجوه لو شاء أن يصغي إليه، وهو منصب معتدل المورد يعينه على الدرس ويكفيه لنفقة أمثاله، فوعده بوظيفة كاتب المجلس الخاص بعد خلوها، وهي قلما تخلو مرة في كل عشرين سنة!

ويحار المؤرخون في تعليل هذا العداء العجيب الذي لا يعرف له سبب، ولم ينقل من كلام باكون ولا كلام أقربائه ما يفسره ويبطل الحيرة فيه، فالذين يحسنون الظن باللورد برجلي يردونه إلى شكه في ولاء فرنسيس واعتقاده — من لمحات أخلاقه في صباه — أنه ليس بالولي الذي يركن إليه ويؤتمن على صنيعة، ويضاف إلى ذلك سوء ظن الساسة بأصحاب الأقلام، وعشاق الكتب والدروس، ونظرتهم إليهم — فطرة — تلك النظرة التي تمتزج فيها السخرية بالارتياب.

والذين يسيئون الظن برئيس الوزارة يعزون عداءه المستور لقريبه الناشئ إلى خوفه من منافسته لولده روبرت، وهو من أقران فرنسيس في السن والدراسة، ولا يخفى على الوالد الفطن فرق ما بينه وبين فرنسيس في الذكاء، والحيلة، وذرائع الوصول.

وأيًّا كان سر هذا العداء فقد علم الحكيم الصغير بعد قليل أن المساعدة الثانوية هي قصارى ما يرجوه من أقربائه، ووزراء زمانه، فهم لا يضنون عليه بالمساعدة في أعمال المحاماة، أو الانتخاب لمجلس النواب أو بسداد ديونه إذا أحرجه الدائنون، وقد أحرجوه مرتين، وساقوه إلى السجن في هاتين المرتين، فوفى روبرت دينه في المرة الثانية وقسطه عليه.

أما المناصب التي ترجى وتخشى فقد صدوه عنها، وصدوا من يعينه عليها من كبراء الدولة، ولجوا في الحيلولة بينه وبينها حتى جرت بينهم وبين أنصاره في سبيلها ملاحاة عنيفة قلما تجري بين الكبراء.

ففي سنة ١٥٨٤ دخل مجلس النواب عن مالكومب رجيس Malcombe Regis، وعاد فدخله مرة ثانية نائبًا عن ليفربول سنة ١٥٨٨، وهي سنة انتصار الإنجليز على الأسبان في معركة «الأرمادا» المشهورة.

وتيسرت له وظيفة «محام مستشار» لا مرتب لها ولا عمل في الحكومة، ولكنها من وظائف الشرف التي يستعين الوزراء بأصحابها في تحضير بعض التهم أو ترتيب بعض القضايا أو مناقشة بعض الخصوم.

وفي سنة ١٥٩٣ خلت وظيفة النائب العام، فظن باكون أن أقرباءه لا يحولون بينه وبينها في هذه المرة، بعد أن تمرس بالنيابة والمحاماة، وشئون القضاء برهة تحسب لمثله في ذكائه ووفرة محصوله.

فإذا هم وقوف له بالمرصاد.

وكان يؤيده في طلب هذه الوظيفة لورد إسكس Essex الفارس النبيل الجميل صديق الملكة المشهور، وصديق العلماء والأدباء.

فاشتدت الملاحاة بينه وبين رئيس الوزراء وابنه روبرت سسل في ترشيح باكون لتلك الوظيفة، وغضب إسكس حين اعتذر روبرت سسل بشباب باكون، وحاجة الوظيفة المطلوبة إلى السن والدربة، فقال مجبهًا له: إنك مثله في السن، وأنت تشغل من مناصب الدولة منصبًا أرفع وأحوج إلى السن والدربة من منصب النائب العام.

وقيل غير مرة للورد إسكس، وهو يلح في ترشيح باكون لذلك المنصب: إنهم يدخرون له وكالة النائب العام، فهي حسبه في الثانية والثلاثين من عمره وفي بداية ارتقائه لسلم المناصب الكبيرة، وخيل إلى اللورد إسكس هنيهة أنهم جادون فيما يعدون، ولكنه ما لبث أن علم أنهم وعدوا بما ليس في اليد؛ لأن الوكالة قد كانت مشغولة في ذلك الحين، فلما خلت بعد قليل إذا هم يضنون على صديقه بوظيفة الوكيل، كما ضنوا من قبل بوظيفة الرئيس!

وقد كان اللورد إسكس رجلًا ذكيًّا كريمًا شريف الخصال شجاعًا مفرطًا في الشجاعة محبوبًا في الجيش والأمة، وسيم الطلعة يفتن النساء بوسامته ونخوته، وعلو صيته، ولم يكن يعاب في أخلاقه إلا بفرط الشجاعة والخيلاء، وقلة الدهاء في عصر لا تصان فيه حوزة بغير الدهاء، وكانت الملكة اليصابات تعجب بشجاعته وجماله، ولكنها لا تركن إلى رأيه وتدبيره، ولعلها كانت تستريح إلى مخالفته في بعض المطالب معاندة له أو تدللًا عليه؛ لتكف من تيهه وتذكره بقيمة الزلفى لديها، وتذكي الغيرة بينه وبين منافسيه، وتجعل رجحانه عليهم أبدًا في يديها، فتملكه على الدوام بهذا الزمام، وكانت في نفسها موجدة على صاحبه باكون لكلمات قالها بمجلس النواب جاوز بها حدود الصراحة التي ترضاها في مناقشة حقوق الملكة، وحقوق المجالس النيابية، وهي ولا ريب كانت تدخر وظائف الأبناء لمرضاة الآباء والأسر الكبيرة، التي ينتمون إليها، فإذا كانت أسرة باكون ترضى بتأخيره ولا ترضى بتقديمه، فهي إذن في حل من تحويل الوظيفة عنه إلى الرجل الذي ترشحه أسرته وترشحه أسرة باكون على السواء، فتغنم بذلك موظفًا كفؤًا ورضى أسرتين، ولا تخسر إلا رضى باكون وهو مأمون العداوة مرجو الخدمة في كل حين.

وكذلك انقضى العام في المنافسة على الترشيح بغير جدوى، ثم انتهت هذه المنافسة الطويلة بتعيين «إدوارد كوك» للوظيفة المطلوبة بتزكية رئيس الوزراء ورهطه، وجماعة من ذوي النفوذ، وخرج باكون من هذه المنافسة الطويلة بشيء واحد لا يحسد عليه، وهو عداوة كوك وسوء نيته من نحوه مدى الحياة، وقد جرَّت عليه هذه العداوة مصائب كثيرة، منها النكبة الأخيرة التي قضت عليه.

ثم فاتته وظيفة الوكيل كما فاتته وظيفة الرئيس، وكان كوك أشد معارضيه في هذه المرة كراهة له، وتوجسًا من وكيل كان ينافسه على الرئاسة، ولا يرجى منه الإخلاص في المعاونة، وساعده اللورد إسكس هنا ما استطاع كما ساعده ما استطاع في المنافسة الأولى، فلما أخفق هنا كما أخفق هناك خجل أن يعده مرتين ولا ينجز له وعده، وأنف أن يعجز عن تعيينه وعن تعويضه … فوهب له ضيعة حسنة تسوم بألف وثمانمائة جنيه، وتغل للمنتفع بها ريعًا لا يستخف به في ذلك الزمان.

وانقضى عهد الملكة اليصابات التي كانت تدعوه بحامل أختامها الصغير، وليس له نصيب في عهدها من الوظائف العامة، التي كان يحلم بها، ويتمناها كما كان يحلم بها ويتمناها كل فتى من نظرائه في عصره، اللهم إلا تلك الوظيفة الاستشارية المهملة في عالم المحاماة بغير مرتب مقدور، ولا عمل معروف. وليتهم مع هذا قد حرموه هذه الوظيفة كما حرموه غيرها، إذن لسلم تاريخه من أقبح وصمة خلقية حسبت عليه.

ذلك أن اللورد إسكس نصيره ووليه قد ساءت مكانته عند الملكة في هذه الفترة، وتمكن أعداؤه ومنافسوه في البلاط من الكيد له، وتكدير الصفاء الذي بين الملكة وبينه، فندبته لولاية أيرلندة في أحرج الأزمات التي مرت بتاريخ تلك البلاد، ولم تكن سياسة الأمم الثائرة من ملكات اللورد المغامر الجسور، فعصفت الفتنة بكل حيلة من حيله، وتعمد منافسوه في البلاط أن يشلوا يديه ويعرقلوا سعيه، ويقطعوا الصلة ما بينه وبين الملكة كلما حاول أن ينهي إليها أمرًا من الأمور.

وعاد اللورد محنقًا خائبًا إلى العاصمة تسبقه سمعة الفشل والغشم، وسوء التدبير وقلة الولاء، فخيل إليه أنه لا يزال بمكانته التي عهدها في قلب الملكة ونظرها، وأبى إلا أن يقسرها على إقصاء منافسيه عن البلاط، وعقابهم على الدس والتقصير في خدمة الدولة وتشجيع الفتنة، فلم تصغ الملكة إليه ولم تصفح عنه، ولا غضبت على منافسيه، فجن جنونه من الغضب، وعول على الثورة المسلحة لإكراه الملكة على ما يريده، ثم ثار وانهزم بعد مقاومة ليست بذات بال.

كانت ثورته بينة وكانت العقوبة عليها مقررة معروفة، ولكن الملأ الإنجليزي في ذلك العصر — على كثرة ما شهد من القضايا السياسية — لم يشهد قط من بينها قضية، كانت أعقد ولا أغرب ولا أشد اختلافًا بين بواطنها وظواهرها من هذه القضية.

فلم يكن أحد في البلاد الإنجليزية يريد للورد المحبوب أن يلقى جزاءه، الذي استحقه بحكم القانون والشريعة الموروثة، بعد استثناء أعدائه ومنافسيه.

كانت الملكة صاحبة القسم الأوفى والحق الأكبر في القصاص؛ لأنها هي صاحبة السلطان الذي اجترأ اللورد إسكس عليه، ولكنها مع هذا لم تكن تكره أن ينجو اللورد من عقابه بحجة من الحجج، التي تحفظ الصور والأشكال، فقصارى ما كانت تتقيه أن تظهر بالوهن والخطل في صفحها عن اللورد الثائر، وأن يجترئ أحد مثل اجترائه، ثم يفلت من الجزاء بغير علة راجحة من علل القانون أو السياسة، فأما إذا حوكم وجاءه العفو أو التخفيف من قضائه ومحاميه، ولم تكن هي المتهمة فيه بالوهن والخطل، فقد رضيت ورضي القانون والسياسة، وأراحت نفسها من ذلك الندم الذي كانت تخشاه وترهبه، وقيل: إنه غام على عقلها الحصيف بعد موت اللورد المحكوم عليه، فجعلها تفترش الأرض ليالي متواليات من برح الألم ولجاجة اليأس والتكفير.

وكان جمهور الشعب يأبى أن يدان اللورد الجميل المقدام، وإن كانت عقوبته مما لا تختلف فيه العلية والجماهير، ولكن أبطال الجماهير قلما يخسرون سمعتهم بينها بعمل من أعمال الإقدام.

وكان الجيش يحبه ويعجب به، ولا يسيء الظن بثورته وبذوات طبعه، ويعزوها إلى الحدة والمجازفة ولا يعزوها إلى الكنود والخيانة، ويتمنى لو نظر إليها قضاته بهذه العين، فسرحوه بريئًا أو التمسوا له تخفيف الجزاء.

وكان النائب العام إدوارد كوك — منافس باكون — يلمح هذه الطوايا الملكية والشعبية، فيقتصد كثيرًا أو قليلًا في تقرير التهمة، وتعزيز الأدلة وتضييق الخناق على الثائر المحبوب، ولا يزال يطاول في المحاكمة ويرخي الحبل ويفسح طريق النجاة، لعله ينتهي في خاتمة المطاف إلى مخرج يرضي الملكة، ويرضي الشعب والحق ولا يغضب القانون.

وهنا اتجهت الأفكار إلى باكون صديق «إسكس» الحميم!

فهل اتجهت الأفكار إليه لإنقاذ صديقه الحميم والدفاع عنه، وتفريج فسحة النجاة بين يديه؟

لا، بل لتأييد التهمة وشد الوثاق الذي أرخاه كوك، أو حسبوا من قبل أنه سيرخيه!

فعمد خصوم اللورد إسكس، إلى الرجل الوحيد الذي ينبغي له أن يتنحى عن هذا العمل كائنًا ما كان سر الدعوة إليه، فندبوه له وظفروا منه بقبوله بغير عناء.

ندبوا فرنسيس باكون لاتهام صديقه إسكس بالخيانة العظمى التي عقوبتها الموت، فأجاب!

ولم يحدث قط أن رجلًا من هيئة المحاماة الاستشارية ندب لمثل هذه المهمة في قضية من قضايا السياسة العليا، ولم يندب باكون بعد ذلك في قضية أخرى على كثرة القضايا السياسية، التي أعقبت هذه القضية المشئومة.

فلماذا ندبوه؟ ولماذا أجاب؟

ندبوه لأنهم علموا أن اللورد المتهم محبوب بين سواد الأمة، فإذا جاءت تهمته من بعض أصحابه المقربين، فذلك قمين أن يفت في أعضاد المتشيعين، ويريهم أن إدانة الرجل أمر متفق عليه بين الأنصار والخصوم، وفيه ما فيه من غصة للعدو اللدود الذي يتعقبونه بالكيد والإيلام إلى الرمق الأخير، فليس أغص للمخذول من أن يخذله أعوانه ومريدوه.

أما هو فقد أجاب الدعوة — على ما يظهر — لأنها الفرصة السانحة لتحقيق الطمع الذي عز عليه منذ سنين؛ ولأنه قد برم بالناس والعهود وغشيته غاشية من التجني على بني آدم، فخيل إليه أنهم في معونتهم ومناوأتهم سواء لا يخدمون إلا مآربهم ولباناتهم، ولا يرضون إلا غرورهم وكبرياءهم، وأن إسكس نفسه قد خدمه وأعانه غلبةً لخصومه؛ واعتزازًا بمكانه ولم يخدمه للبر به والحدب عليه.

ولا نستبعد أن يدخل في حساب باكون وهو يقبل الدعوة إلى اتهام إسكس أن الحكم عليه — بالغًا ما بلغ من الصرامة — متبوع بالعفو أو بالتخفيف لا محالة، لما يعلمه من عطف الملكة على اللورد المتهم؛ ورغبة الأمة في الصفح عنه.

وليس مما ينسى لباكون في هذا المقام أنه قد حاول جهده أن يصلح بين الملكة واللورد إسكس، بعد أوبته بالخيبة من البلاد الأيرلندية، وأن قد حاول جهده أن يثني اللورد عن عزيمة الثورة، حين هجست في نفسه هواجسها، وكاشف بها بعض المقربين إليه، فهذا وذاك مما يحسب لباكون من شفاعة المعذرة في تلك المعابة الموصومة التي تورط فيها لغير ضرورة حازبة، ولكنها معذرة لا ترحض عنه الوصمة ولا تبرئه من المذمة، وإن غناءها عنه لقليل كلما ذكر إلى جانبها ذلك اللدد الذي ظهر منه في محاسبة وليه ونصيره، وتلك الجهود التي بذلها في حصر التهمة، وإغلاق منافذ الرحمة، ومنها الكذب المتعمد فيما يعلم هو قبل غيره أنه كذب صراح.

ففي رسائل باكون التي كان يكتبها إلى اللورد إسكس كلام كثير عن مكائد الحساد، وفخاخ الأعداء الواقفين له بالمرصاد، وقد كانت هذه المكائد عذرًا يلتمسه المدافعون عن اللورد إسكس؛ لتهوين جريمة الثورة، وتمثيل التهمة في صورة العداء بين الأنداد والقرناء، فطفق باكون في اتهامه يسخر من دعوى الكيد والاستثارة، ويحسبها من المزاعم التي لا تقوم عليها بينة صادقة … حتى ضاق اللورد المتهم بهذه المكابرة التي لا موجب لها، وقاطعه قائلًا: إن مستر باكون في رسائله يدحض ما يقوله مستر باكون في اتهامه!

ثم زاد باكون على اللدد في الاتهام لددًا في تشويه السمعة بعد الممات، فأساء إلى اللورد المحكوم عليه في ذكراه كما أساء إليه في حياته، وأتبع موته ببيان مستفيض عن غلطاته ومثالبه، وما استحق به الجفوة من مليكته ثم القضاء عليه بالموت، وكان هذا البيان مطلوبًا لتهدئة الشعب الذي تلقى نفاذ الحكم في بطله المحبوب بالوجوم والإعراض عن البلاط وحاشيته أيما إعراض.

وقد عجب نقاد هذه القضية من نشاط باكون وبراعته القانونية، ومن هفوات كوك وغفلته عن المآخذ الظاهرة في تسيير الدعوى وتوجيه التهمة، ومن أسباب عجبهم أن باكون على فضله في العلم والأدب لم يكن ندًّا لكوك في أفانين المحاكم ومسائل القضاء! وإنما جاء العجب من المقابلة بين متسابقين يجري أحدهما ملء خطوه، ويظلع الآخر باختياره، ويحسب السبق بينهما على باكون، ولا يحسب على مسابقه القدير المتواني بمشيئته في هذا المضمار.

وشاءت المقادير أن ينقضي حكم اليصابات كما أسلفنا، وليس لباكون نصيب فيه من الوظائف أو الألقاب، ألعله حقد منها عليه لجده في اتهام الثائر المحبوب؟ يجوز. وإن لم يجز فالذي لا نشك فيه أن باكون قد عومل يومئذ معاملة البغيض المحقود عليه.

وكل ما أصابه من جزاء على جهوده المضنية في هذه القضية حصة من الأموال، التي جمعت من مصادرة أملاك الثائرين ووزعت على المشتركين في اتهامهم، وإنفاذ الأحكام فيهم، وبلغت هذه الحصة ألفًا ومائتي جنيه هي دون ما أخذه طواعية من اللورد القتيل، ولو بلغت أضعاف ذلك لما حسبت من الرزق المريء، ولا من الرزق الكريم.

لا بل أصابه من جزاء على تلك الجهود ظل كثيف من المعابة قد ران على سمعته، ولا يزال يرين عليها بعد ثلاثة قرون، وأغرى به من العداوات ما تجاوز السمعة إلى الضرر في المنصب والمال، فلم تخل نكبته الأخيرة من عقابيل هذا الخطأ الجسيم.

إن الناس لا يفهمون خيانة من الخيانات كما يفهمون الخيانة بين الأصدقاء، وربما دق عليهم فهم الخيانة الوطنية لالتباس الرأي فيها بالتفاصيل الفقهية التي لا يفقهونها، أو لانطوائها في غمرة الخصومات الحزبية والعصبيات المذهبية … بل يدق عليهم أحيانًا فهم الخيانة في العرض لما يحيط بها من الاستهواء القصصي، والعلاقات الشعرية أو المسرحية، التي تمتزج بأحاديث الغرام. أما خيانة الأصدقاء فهي من الخيانات المفهومة في كل بيئة وعلى كل حالة، وعند الإنجليز خاصة يكبرون كلمة الولاء حتى يقرنوها في ألفاظهم بالإيمان، ويقرنوا الكفر بمعنى من معاني «عدم الولاء» … فإن عجبت في أمر باكون، فاعجب لسقطات الذكاء كيف تزل بصاحبها هذه الزلة تحت بروق المطامع، التي هي شر من الظلام الدامس على السالكين فيه.

•••

وأقبل عهد جيمس الأول بشيء من الرجاء في استدراك ما فات على عهد الملكة اليصابات، وقد أوشك في بدايته أن يعصف بهذا الرجاء القليل، فيتصل العهدان بسلسلة من الحرمان والتسويف؛ لأن الملك جيمس كان يعطف على أسرة اللورد إسكس، ويرغب في إقالة عثرتها واستحياء نفوذها، ولم يكد يستوي على عرشه حتى أحس الناس منه هذه الرغبة، فانطلقت الألسنة من عقالها تثني على اللورد القتيل، وتقدح في أعدائه وأصدقائه المنقلبين عليه، ولكن الملك جيمس كان يسلك نفسه في زمرة العلماء والأدباء، ويحب أن يعطف عليهم عطف الزملاء على الزملاء، وكان باكون قد أثبت إلى جانب ذلك أنه رجل يعول عليه في ساحة القضاء وقاعة مجلس النواب، ويستفاد منه ما يساوي ثمن اللقب أو الوظيفة إذا التمس البلاط هذه الفائدة في يوم من الأيام، ولم يكد يبقى في زمرة المحامين أحد من طبقة باكون، لم ينعم عليه في مستهل العهد الجديد بلقب من ألقاب التشريف، ولم يقصر باكون في الطلب، ولا ترك لأحد من ذوي النفوذ مندوحة للرفض والاعتذار، فكتب إلى كل ذي طالع مرجوٍّ في العهد الجديد يعرض عليه خدمته وولاءه وصدق بلائه، وكتب إلى قريبه روبرت سسل فيمن كتب إليهم يسأله الوساطة في تشريفه بلقب من الألقاب أسوة بأقرانه وأصحابه، وتمهيدًا للزواج بفتاة ذات مال يصلح به شأنه، ولعلها في يسارها ومنزلتها لا ترضاه بغير لقب وبغير مال!

وقد أنعم عليه في سنة ١٦٠٣ بلقب فارس، فأصبح يدعى السير فرنسيس باكون، وتوالى الإنعام عليه بالألقاب حتى ارتقى إلى رتبة الفيكونت Viscount of st. Albans في سنة ١٦٢١.

وترقى في الوظائف كما ترقى في الألقاب، فتم تعيينه لوكالة النائب العام في سنة ١٦٠٧، ولمنصب النائب العام في سنة ١٦١٢، وارتفع في خلال ست سنوات إلى منصب قاضي القضاة، وهو أكبر المناصب القضائية في الدولة الإنجليزية.

وقد جوزي بهذه الألقاب وبهذه الترقيات على خدمته للبلاط، وتأييده لامتيازاته في مناقشات مجلس النواب، وعلى التوفيق بين المجلس والبلاط في أزمات النزاع حول حقوق العرش وحقوق الأمة، وإن كان توفيقًا من توفيقات المصالحة التي تقف عند الصيغ، ولا تتعداها إلى الجوهر واللباب.

لكنه في مناصب القضاء قد أباح لنفسه من التزلف للبلاط ما لم يكن يستبيحه وهو نائب عن الأمة، ولعله توسع في الزلفى وهو في مناصب القضاء؛ لأنه منفرد فيها عن الأصوات والآراء، وأحجم في زلفاه وهو نائب؛ لأنه مقيد بأصوات المئات من النواب بين معارضين أو مؤيدين.

ففي قضية «أوليفر سان جون» الذي أنكر على الملك حق فرض الخيرات والصدقات، وحكم عليه بالسجن من أجل هذا الإنكار كان باكون يتولى الاتهام والمطالبة بالعقاب!

وفي قضية القس بيشام الذي حوكم لأنه كتب موعظة مناقضة لامتيازات الملك، ولم يلقها ولا اهتم بنشرها — كان باكون يساوم القضاة؛ ليوعز إليهم بإدانة ذلك الشيخ المسكين على خلاف ما اعتقدوه.

هذه خطة يمضي عليها الرئيس المشهور زمنًا طويلًا، وهو آمن على منصبه من عقباها لو كان منيع الحوزة، أو كان في حصن حصين من الشبهات والأقاويل … لكن باكون لم يكن كذلك في أعمال القضاء! كانت حوله شبهات جمة، وكان حوله خصوم متربصون، وكان إسرافه الذي يتجاوز مورده المحدود أول وأقوى هذه الشبهات.

كان مورده المحدود دون الثلاثة الآلاف من الجنيهات، وكانت نفقاته تربى على خمسة أضعاف هذا المقدار؛ لأنه كان يقبل الهدايا والرشى على سنة القضاة في ذلك الزمان، وكان يغضي عن أتباعه ومرءوسيه؛ لأنهم يتوسطون في حمل الرشوة إليه.

واتفق غير مرة أنه أخذ الرشوة من طرفي الخصومة، فأغضب الخصم الذي لم يحكم له وإن لم يكن له حق في دعواه، فتألب عليه فريق من هؤلاء المدعين الموتورين، واستمدوا الجرأة في الاتهام من تحريض أعدائه وممالأتهم في جمع الأدلة، وتشجيع الشهود وإذكاء العيون والأرصاد.

وأبى البلاط أن يحميه؛ لأن التهم والشبهات استفاضت في البلاد، فتهيب حماته أن يستروه ويتعرضوا لسير التحقيق والمحاكمة؛ مخافة الاتهام بالتواطؤ والمشاركة أو الاعتراف بالافتيات على حقوق الأمة، وبذل الحماية لمن يسخرونهم في تلك السياسة.

فجرى التحقيق مجراه، وأسفرت المحاكمة عن ثلاث وعشرين تهمة اعترف بها باكون، غير التهم التي كان يعوزها الدليل القاطع والشهود المقبولون.

فلم يسع قضاته النبلاء إلا أن يحكموا عليه بأقسى ما في وسعهم من الأحكام، وضاعف في قسوة حكمهم أنهم كانوا على يقين من الإعفاء والمسامحة من جانب البلاط، فقضوا بتغريمه أربعين ألف جنيه وسجنه في البرج بإذن الملك، حتى يأمر بالإفراج عنه، وحرمانه الجلوس في دار النيابة وولاية الوظائف العامة في الدولة الإنجليزية، فأعفاه الملك من هذه الأحكام جميعًا إلا العزل وتحريم النيابة والولاية، وظل هذا الحكم نافذًا حتى قضى نحبه في سنة ١٦٢٦ بعد خمس سنوات.

قال باكون في الدفاع عن نفسه: «لقد كنت أعدل قاضٍ في الديار الإنجليزية منذ خمسين سنة، ولكنها رقابة البرلمان التي كانت أعدل رقابة عرفت قط في مدى مائتي سنة.»

وليس هذا القول في الواقع بغريب، فإن قضاة باكون أثبتوا عليه الرشوة، ولم يثبتوا عليه قط أنه حكم في قضية واحدة بما يخالف العدل والحقيقة، ومن أظرف الفكاهات أن يعتذر المعتذرون للقاضي الفيلسوف بأنه كان يحكم بالعدل؛ لأنه كان يقبل الهدايا من الطرفين، وكان قبول الهدايا سنة شائعة بين جميع القضاة في أيامه! ولكنه اعتذار يستحق أن يقال لفكاهته وطرافته، إن لم يكن للحق الذي فيه!

•••

ذلك موجز من سيرة باكون في نشأته المدنية، كما كان يسميها، أو نشأة المطامع والمناصب والألقاب، وتلحق بها نشأته البيتية بعد الزواج؛ لأنها لم تكن في الواقع إلا خطوة من خطوات هذا الطريق، ومظهرًا عنده من مظاهر البذخ والوجاهة الاجتماعية.

وتشاء المصادفات أن تتم المطابقة بين النشأتين: نشأة البيت ونشأة المجتمع، كما تتم المطابقة بين النموذج الصغير والصورة الكبيرة.

فكما خطب المنصب النافع كذلك خطب الفتاة النافعة، التي يرجو من البناء بها تيسير حاله ولو بعض التيسير، وكما توسط له اللورد إسكس في المنصب كذلك توسط له خطبة تلك الفتاة، وكتب إلى أهلها يقول: إنه لم يكن يشير على نفسه بغير ما أشار عليهم من قبول باكون لفتاتهم، لو كانت الخطيبة أخته أو قريبته أو كان ذا ولاية عليها … وكما أخفق إسكس في خطبة المنصب أخفق كذلك في خطبة الفتاة … وكما سبقه منافسه إدوارد كوك إلى منصب النائب العام، كذلك سبقه إلى قلب هذه الخطيبة، أو إلى عقلها فتركت باكون وآثرته عليه.

وينتهي هنا الوفاق بين النموذج والصورة، ويبدأ الاختلاف بينهما، فإن إدوارد كوك قد أسدى لمنافسه أجل مأثرة، وأراحه من أفدح مصاب كما قال اللورد ماكولي في رسالته القيمة عن الفيلسوف؛ لأنه حمل عنه البلاء الذي شقي به طول حياته، وكانت الجائزة التي استبق إليها الندان المتنافسان ربة جحيم في مسلاخ ربة بيت، وهي تلك اللادي هاتون التي خاب معها باكون خيبته السعيدة.

ثم تم بناؤه (في سنة ١٦٠٦) بأليس برنهام Alice Barnham بنت بعض الوجهاء، وذات حظ من المال والجمال، ولكنه لم يسعد بها كما تمنى، وإن لم يشق بها شقاء منافسه بنصيبه! وتبين من وصيته ما كان مفهومًا خلال حياته من قلق ضميره، وقلة اطمئنانه لهذا الزواج.

وكان يوم الزفاف معرضًا لصفات باكون، التي لازمته طول حياته في سيرته الاجتماعية، وهي البذخ والإسراف وحب الأبهة والعلو على الأقران في هذا المضمار، فذهب إلى الكنيسة هو وزوجته غارقين في حلل الحرير، وحلي الذهب والفضة والجواهر النفيسة، وعاش على هذه البزة وهذه الشارة بقية أيامه إلى أن قضى نحبه في نحو الخامسة والستين.

ولا يبدو من وصيته أنه كان على عسر في معيشته، وإن ركبته الديون آونة بعد آونة، وعده بعضهم من الفقراء بالقياس إلى منزلته ولقبه، فقد عاش في سعة ونافس الأمراء في حله وترحاله، وكتب وصيته قبل أشهر من وفاته وهو يذكر جياده المطهمة ومركباته الفاخرة، ويتكفل بكرسيين للمحاضرة في الجامعات، وبمائتي جنيه في السنة للإنفاق على المباحث الطبيعية.

ونحن نكتفي بالموجز المفيد من نشأته المدنية؛ لأنها ولا ريب هي الصفحة التي يستريح القارئ إلى الإسراع بطيها في سجل هذه الحياة الحافلة.

ومتى طويت هذه الصفحة، فليس في السجل كله إلا ما هو جدير بالنشر والإعجاب والتذكار، إذ ليس في السجل كله بعد ذلك إلا الأمانة، التي لا تعدلها أمانة في خدمة العلم، ونصح بني الإنسان، وليس بين حكماء الأرض من يعرض لنا في هذا الباب صفحة هي أنصع وأخلد من صفحة هذا الحكيم، الذي جمع الحكمة كلها في قلمه، وضيعها كلها في تصرفه وعيشه.

فكانت غيرته الصادقة في ميدان البحث والعلم على قدر تفريطه الخادع في ميدان الجاه والمال، وكان حبه للحق وهو يفكر ويكتب على قدر هوان الحق عليه وهو يعالج العيش، ويزاول مرافقه ومرافق الناس.

فمنذ الصبا الباكر نشأ هذا الرجل العجيب — أو الرجل المزدوج، كما قال بعض ناقديه — نشأة عالم أمين خلق لتمحيص الحقيقة العلمية دون سواها، حتى لتعجب كيف اتسعت هذه الطبيعة لتلك النقائض، التي لا تحيك بها إلا خلقة منعزلة عن العلوم والتفكير في العلوم.

•••

كان في العاشرة من عمره يفتح على الدنيا عيني عالم صغير، وانسل يومًا من بين رفقته اللاعبين إلى قبو في حقول سان جيمس يسمع منه صداه العجيب ويتقصاه، ويسأل عنه معناه، وشغل منذ الثانية عشرة بحيل الحواة والمشعوذين؛ لما فيها من المشابهة للسحر والعلم والصناعة في وقت واحد، ونفرت سليقته وهو دون السادسة عشرة من تعليم الجامعات، الذي كانوا يعزونه يومئذ إلى آراء أرسطو وهو من أكثرها براء، وفصل القول ولما يبلغ الثامنة عشرة في مشكلات أوروبا السياسية ذلك التفصيل الذي يُعيي عقول بعض الكهول ممن لم يرزقوا تلك الفطنة وذلك الإلهام، ولم يقنع وهو في الثلاثين بما دون تبديل الأسس العلمية والفلسفية جميعًا كما كانوا يستقرون عليها في تلك العصور، فطفق يفكر ويعيد التفكير في قسطاس شامل لجميع المعارف البشرية، التي كانت معروفة يومئذ، والتي كان يرجى أن تعرف بالقياس على ذلك القسطاس، وسماه ذلك الاسم الفخم الذي يشير إلى آفاقه ومراميه، وهو «البناء الأعظم للفلسفة الصادقة» … وظهر الجزء الأول منه (في سنة ١٦٠٥) باسم ترقية المعرفة أو التعليم، ثم وسعه وتممه وأضاف إليه، وأصدر منه نسخة لاتينية في سنة ١٦٢٣، وظهر الجزء الثاني من هذا السفر الضخم باسم القانون الجديد أو القياس الجديد Novum Organum وهو مرجع فلسفته الأكبر بين مراجعه الأخرى، ومنها شذرات لم تستوعب موضوعها؛ لأنها أكبر من أن يضطلع بها جهد رجل واحد في ذلك الزمان، الذي يصعب فيه التعاون العلمي الميسور في عصرنا الحديث، فقضى عليه أن يفارق «البناء الأعظم» وهو ناقص الشرفات والطباق، ولكنه على هذا كامل الدعائم والأركان.

وقد مات في ميدان العلم وهو يحمل سلاحه، ولا يبالي الحيطة التي تفرضها عليه بنيته الهزيلة في مثل سنه، فخرج في الشتاء؛ ليجرب وقاية الثلج للأجسام الحيوانية من العفونة في جسم دجاجة مذبوحة لساعتها، فسرت إليه قشعريرة لم تمهله غير أيام، ومات ميتة العالم وإن لم يعش عيشته على الدوام.

هذه النشأة — نشأة العالم — هي التي يكتب من أجلها عن فرنسيس باكون، ويغتفر من أجلها عيب الرجل في نشأته الأخرى: نشأة المطامع والمناصب والألقاب.

وحق له أن يودع الدنيا «وهو يترك اسمه وذكراه للألسنة الخيِّرة، وللأمم الغريبة وللأجيال القادمة».

وللألسنة الخيِّرة ولا جدال مقال طيب في ذكراه جدير أن يقال.

أخلاقه

يندر جدًّا أن يشتهر رجل أو يرتقي سلم المناصب الرفيعة، ثم لا يكون للعصر أثر في أخلاقه إن لم تكن أخلاقه كلها مشابهة لأخلاق عصره؛ لأن الشهرة أو ارتقاء المناصب تجاوب بين الرجل وأهل زمانه، وقلما يتأتى هذا التجاوب بغير مماثلة أو مقابلة بين الشيئين المتجاوبين.

وأثر العصر في أخلاق باكون واضح كل الوضوح؛ لأنه لم ينفرد فيه بداهة بحب الظهور، ولا بالتهافت على المال والحطام، ولم يعرف عنه شيء من ذلك إلا وقد عرف مثله عن قرنائه ونظرائه، ومن هم فوقه ومن هم دونه.

وحسبنا أن الثورة التي نشبت بعد زمانه بأقل من قرن واحد إنما نشبت لأن الملوك كانوا يفرطون في طلب المال، ويرهقون الرعية بالضرائب والإتاوات … فلم يكن إذن في ذلك العصر من يتعفف عن جمع المال والمجازفة بالعواقب في هذا السبيل، سيان في ذلك من رزقوه أو لم يرزقوه، وسيان في ذلك صاحب المكان الأول، وصاحب المكان الأخير.

وليس باكون بدعًا في هذه الخليقة، وإن جنت عليه الشهرة فحفظت نقائصه، ولم تحفظ نقائص المئات ممن يماثلونه في الأقدار والأخطار.

وربما كان للعصر أثر آخر في أخلاقه من جانب يخصه، ولا يعم نظراءه في المنصب والمكانة، فإنه قد كان ولا جدال أكبر أبناء أمته في ذلك العصر عقلًا، وأثبتهم نظرًا وأقدرهم على فهم مرامي القوام وأطوار الأقوام، فدعاه اليقين من صوابه في هذه الشئون إلى إسداء النصح طواعية لكل من يملك تصريفها، ويقبض على مقاليدها، فكتب نصائحه إلى الملكة اليصابات في سياسة الكنيسة والشعب والنواب، وكتب نصائحه إلى الملك جيمس في السياسة الأوروبية، والسياسة الداخلية، ومحض النصح للورد إسكس واللورد بكنجهام واللورد سالسبري في مسائلهم ومسائل الأمة، فكان من العجب أنهم أعرضوا عنه، وأصموا آذانهم عن نصحه، ولم يقبلوا منه إلا الملق والنفاق. ومن دأب هذه الصدمات في النفوس التي لا تقوى عليها أن تضعف عندها قيمة النصح والإخلاص، وتغريها بالغش ومجاراة الأهواء … ففي هذه على الأقل جدوى لمن يغش ويجاري أهواء الأعلياء، وأما النصح الخالص فقد يلوح لهم أنه لا جدوى فيه للناصح ولا للمنصوح، حيثما تعرض الأسماع وتجمع الأهواء.

ففي هذه الخلائق وما شاكلها كان عذر باكون ذنب عصره، أو كان عذره أن ذنوبه هي ذنوب مئات وألوف، ولم يكن تجنبها من اليسير عليه، وماذا تقول في عصر كان اسم مكيافلي فيه أشهر الأسماء بين حكماء السياسة، ومعلمي الأمراء والوزراء؟

لكن الأخلاق لا ترجع كلها إلى العصور، حتى ما كان منها سمة من سمات تلك العصور؛ لأن الإنسان يأخذ منها أو يدع على حسب طبعه الموروث أو الأصيل فيه، وقد ينبذها كلها ويثور عليها لفرط المناقضة بينه وبينها، كلما بلغت هذه المناقضة حدًّا يتعذر فيه التوفيق.

وباكون كان فيه جرثومة الخلق الذي أنماه العصر وأرسخ جذوره، وكان فيه مع هذا ضعف مقاومة، وقلة جلد وإشفاق من مأزق العراك والمجازفة، وكل أولئك مما يعجل به إلى الاستسلام، ويزين له سلوك السهول دون الوعور.

ونحسبه قد ورث هذه الطبيعة من أبيه؛ لأن أباه كان يتخذ له شعارًا لاتينيًّا يكتبه على باب بيته، فحواه أن الاعتدال أبقى، وكان يشفق في سياسته من المخاطر ولو كان من ورائها كبار المغانم، فلبث في منصبه نيفًا وعشرين سنة لاجتنابه المقاحم التي تزلزل الأقدام في ذلك العصر القلب، وذلك البلاط المحشو بالدسائس والمنافسات.

ويبدو لنا أن النوازع الحيوية كلها في طبيعة باكون لم تبلغ من القوة والامتلاء مبلغًا يدفعه إلى المقاومة والمجازفة في أي مطلب، وقد نرد إلى ذلك ولعه بالأبهة والمواكب والأزياء، وكل ما يلفت الأنظار، فالغالب في هذا الولع أنه يشغل في النفس مكان اللذات الحيوية والشهوات العارمة، على سبيل التعويض في الشعور، فإذا فاته سرور الشعور بنفسه أحب أن يعوضه بسرور من قبيله، وهو شعور الناس به واعتقادهم فيه الغبطة والاستمتاع.

ويعزز عندنا هذا الظن أنه لم تذكر له علاقة بالنساء على شيوع العلاقات الغرامية في زمانه، ولم تكن له سعادة بالزواج ولا بالذرية، ولم يشتهر عنه قط شغف بطعام أو شراب، فطلب المال عنده ضرورة لطلب المظاهر الخلابة، وطلب المظاهر الخلابة عنده ضرورة لتعويض الشعور باللذات والشهوات، وكل أولئك له حافز من عادات الزمن ومغرياته لا تسهل مقاومته على المستعد للمقاومة، فضلًا عمن يشفق منها ويتعمد اجتنابها.

فالجهد ثقيل على طبع باكون سواء في الخيرات أو في الشرور، وحب الإعفاء والمعافاة صارف له عن تكليف نفسه ما لا يطيق؛ ولهذا كان ينصح بالخير ثم ينصح بغيره إذا لم يقبلوه منه، وكان يؤثر السلم والمسالمة ولا يقابل النقمة بمثلها، ولم يكن في طبعه الضغن على مسيء وإن بالغ في الإساءة إليه، فلم يحقد على الملكة اليصابات بعد موتها مع حرمانها إياه وإصرارها على إنكار حقه وتقريب منافسيه، وكتب عنها أجمل ما يكتبه عنها مستفيد من حظوتها ورعايتها، وليس له نفع مرجو من هذه الكتابة في عهد خلفها، الذي كان لا يحبها ولا يستريح إلى الثناء عليها، وقد ندب للوصاية على تركته الأدبية رجلًا كان يرميه بالاحتيال ومخادعة الدائنين، وهو الأسقف وليامز عدوه في محنته وصديقه قبيل موته بأعوام قليلة، فليس من خلقه الإضرار المقصود ولو بأعدائه وثالبيه.

ويصعب أن يقال إنه كانت له شرور كبيرة من شرور الطبائع الجارمة والخلائق الضارية، وإنما كانت آفته كلها الطبع المغلوب لا الطبع الغلاب، أو كان يصدر في سيئاته كلها عن إشفاق وتوجس لا عن اقتحام وصولة، ولم تحص عليه سيئة واحدة تخرج عن هذا الطراز من السيئات.

فأشهر أخطائه المسجلة عليه هي حادثة إسكس، ومسألة الرشوة واتضاعه الشائن لاسترضاء بكنجهام.

وفي حادثة إسكس كان الباعث الأكبر له هو الإشفاق من إغضاب الأقوياء، واغتنام الفرصة لبلوغ الرجاء، ويساق له مساق العذر أنه يتقيد بخدمة صديقه وحده حين أحسن إليه هذا بالوصايا والهبات، بل صارحه بأن الوفاء له على سنة رجال القانون يقتضي العدل في الوفاء للدولة والتاج وأقطاب البلاد، فكتب له من بداية الأمر رسالة يقول فيها:

مولاي! إني أرى أنني أدين لك بالوفاء، وأضع يدي على أرض من هبة يديك، ولكن أتعلم يا مولاي كيف يجري عهد الوفاء في عرف القانون؟ إنه يكون أبدًا برعاية الولاء للتاج ونبلائه الآخرين، ومن ثم لا يسعني يا مولاي أن أكون لك أكثر مما كنت …

ثم يساق له بعد هذا مساق العذر أنه حذر صديقه من ولاية أيرلندة؛ لأنها تبعده من البلاط وتمهد لأعدائه سبيل الوقيعة بينه وبين الملكة في غيابه، ولا أمل له في إخضاع الأيرلنديين المتمردين؛ لأنه سيلقى منهم ما لقيه يوليوس قيصر من الغاليين والبريطان والجرمان … قيل: إنه نصح له بهذه النصيحة ثم أنس منه الرغبة الشديدة في الولاية، فأدركته طبيعة الإشفاق أن يفقد مودة الرجل وحسن ظنه، فعدل عن التحذير إلى الإغراء، وكتب له يقول: إنه لكفيل بتمدين هؤلاء المستوحشين، كما تمدن المستوحشون من قبل على أيدي قادة الرومان!

ومهما يكن من الشك في إزجاء النصيحة الأولى، فالذي لا شك فيه أن باكون سعى في الصلح بين الملكة وصديقه، ثم عالج ما استطاع أن يثنيه عن عزمه على حمل السلاح، وإكراه الملكة عنوة في ميدان القتال، ثم كان له أمل — بل كانت له ثقة — في عفو الملكة عن ذلك الصديق، لما ذاع وشاع بين الخاصة والعامة من إعجابها به وإعزازها إياه.

أما الرشوة فقد كانت شائعة بين قضاة زمانه، وكانت كالهدايا التي يتبادلها أصحاب المصالح المشتركة، وإن لم تكن مباحة في القانون، ويساق له مساق العذر كما قدمنا أنه كان يحكم بالعدل ولم يثبت عليه حكم واحد بالظلم مع ثبوت الرشوة عليه في نيف وعشرين قضية.

وأضعف ما يعاب به خنوعه المزري للورد بكنجهام، حين نمى إليه أنه غاضب عليه، فذهب إلى قصره يومين متواليين، ولبث طوال الوقت في حجرة الانتظار بين الخدم والأتباع، وارتضى لنفسه وهو شيخ وقور وموظف من أكبر موظفي الدولة، أن يخر على ركبتيه أمام الفتى المتعجرف؛ ليهوي على قدمه فيقبلها … ويقسم لا ينهض من مجثمه الذليل حتى يسمع من اللورد كلمة الغفران! وكل ذلك؛ لأن اللورد بكنجهام كان يبحث لأخيه عن زوجة غنية، فوقع اختياره على بنت إدوارد كوك منافس باكون القديم، ورضي الأب ونفرت الأم من هذا الزواج، فأعان باكون الأم على زوجها وأوعز إلى النائب العام أن يؤيد حقها، ثم اتصل به أن هذا القران «المالي» يهم اللورد بكنجهام أقرب المقربين إلى الملك جيمس وصاحب الكلمة النافذة في البلاط، فأسرع إلى الزوجة ينفض يديه من مساعدتها، ويبلغها أنه لا يستطيع شيئًا في قضيتها، وتراجع في قراره وأوعز إلى النائب العام بالتراجع في دعواه، ثم لم يكفه هذا التكفير عن خطئه، حتى أمعن في التذلل والخنوع ذلك الإمعان المهين.

ومن الإنصاف لباكون أن نذكر له فضله على أبناء عصره في أخلاقه الوطنية أو أخلاقه الدستورية، فإن الرجل لم يكن خاضعًا لآداب عصره، في كل شعبة من شعب الأخلاق، وكل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، وكان على قدر خضوعه لآداب العصر في مسائل البذخ والطمع رجلًا ممتازًا على الكثيرين من معاصريه في الآداب الوطنية، أو الآداب الدستورية كما نسميها في العصر الحاضر. فلم تمنعه مداورته الفطرية أن يتحرج أشد الحرج من المساس بحقوق المجلس النيابي في صميمها، وكل ما صنعه لمرضاة البلاط لم يتجاوز حدود المجاملة بالصيغ والعبارات، أو حدود المراسم والتحيات، فلما شرعت الملكة في طلب المزيد من الامتيازات والحقوق المالية على أثر المؤامرة الأسبانية التي كشفت في إسكوتلاندة كان باكون معارضًا لهذا الطلب، وكانت معارضته المفحمة سببًا لتراجع اللوردات في اللحظة الأخيرة، وظلت الملكة غاضبة عليه من أجل ذلك طوال حياتها، وإن أطعمته بالرضى بين حين وحين.

ولما حل جيمس أول مجلس نواب جرى انتخابه في زمانه، وأراد أن يكل تقدير الضرائب إلى لجنة عليا، يشترك فيها باكون وبعض زملائه، لم يتوان باكون عن النصح له بالتريث والعدول عن هذا الخاطر الوبيل، وقد يقال على الجملة: إنه أسدى إلى البلاط في مسائل الدستور نصائح شتى لعلها كانت مجدية في اتقاء الثورة، التي تراءت نذرها في ذلك العصر لو قوبلت بالإصغاء والقبول.

وقد عرف له الناخبون هذا الفضل، فأعادوا انتخابه في كل مجلس من دوائر كثيرة في المدن والأقاليم، وعرفه له النواب فمنحوه حقًّا تفرد به بين كبار الموظفين في زمانه، وذلك هو حق البقاء في المجلس مع قيامه بمنصب النائب العام، وتحريم ذلك على من يلي هذا المنصب بعده من النواب.

وعلى كل هذا كان زملاؤه النواب أحيانًا يجهلون ما يعلم، ويقصرون عن النظر إلى العواقب التي يلمحها من بعيد، فأحبطوا سعيه في التوحيد بين إنجلترة وإسكوتلاندة، على الرغم من ذلك الخطاب الطنان الذي ألقاه عليهم في أوائل سنة ١٦٠٧، واشترك النواب ورجال البلاط في إحباط سعيه للتوفيق بين العرش والأمة، وحسم مادة النزاع الدائم على الامتيازات والضرائب والإتاوات. وكان قد اقترح لحسم هذا النزاع أن ينزل الملك عن حقوقه الإقطاعية، وأن تخصص له الدولة من خزانتها مائتي ألف جنيه كل عام، وهذا هو الأساس الذي تم عليه الاتفاق والتوفيق بعد فوات الوقت ونزول القضاء، ولكنهم جهلوه واستخفوا به في حينه وأبوا إلا التورط في الجرائر، التي حاول أن يعفيهم منها وهم من حوله صمٌّ بكمٌ لا يفقهون.

ومن عجائب التناقض في أخلاق هذا «الفيلسوف» أن حماسته الوطنية، كانت تغلب حماسة ذوي الحق الأول فيها على الأقل في مسائل الفتوح والمطامع الخارجية. فكانت سياسته وطنية غالية يوم كان الملك جيمس يمضي على نهج السياسة العالمية، كلما طرأت له علاقة بالدول الأخرى، وسر ذلك أن باكون كان يعتقد — كما نرى في مقالاته — أن الدول لا تستقر لها سيادة بغير النزعة العسكرية، وأن ولاة الأمر مطالبون بإحياء هذه النزعة، والتحريض عليها، وإلا ركنت الأمم إلى السلم والدعة وشاع فيها الجبن والتفريط، وانتظرت ساعة الهزيمة والخضوع، وإن طال بها أمد الانتظار.

وإذا أشار مرة بالمسالمة والتحكيم، فإنما يشير بذلك أهبة للنزال والقتال، فاغتنم فرصة التمهيد للمصاهرة بين الأسرتين الإنجليزية والأسبانية، وبنى على ذلك خطة دولية رفعها إلى الملك لجمع الدول المسيحية إلى حلف عام، وتوحيد كلمتها على مرجع واحد للتحكيم، والتأهب بعد ذلك لمقاتلة الترك، وتجديد الحروب الصليبية، وكان من المعجبين بالترك؛ لأنهم أمة حرب يشبون ويشيبون في ميادين القتال، فكان يوصي بمناجزتهم وإحياء روح الشجاعة بمساجلتهم، كما يتصدى الأقران للأقران في ساحة الصراع.

ولا ينبغي أن يفهم مما تقدم أن حماسته الدينية أو المذهبية تضارع حماسته الوطنية أو القومية، فإنه في الواقع إنما أوصى بهذه الخطة؛ لأنها خطة وطنية تؤدي إلى سيادة قومه على القارة الأوروبية، وقيادتهم للدول الأخرى في سياستهم الخارجية، كما تؤدي إلى إحياء حافز الحرب في طباعهم، وهو عنده ضرورة من ضرورات السيادة والاستعلاء.

أما في الدين فقد كان أقرب إلى الفلسفة منها إلى الغيرة الحماسية، فكان على نشأته في أسرة من المتطهرين المتنطسين يميل إلى الاعتدال بين المذاهب، ويرى لكل مذهب محاسنه ومواضع نقصه، وكان إذا اشتد في محاربة مذهب منها، فإنما يشتد في ذلك لمحاربة السلطان الأجنبي والدسائس الخارجية، فحارب الأساقفة والكرادلة؛ لأنهم أتباع البابوية وأشياع الدولة الأسبانية، كأنه يعرف العداء في سبيل الوطن، ولا يعرف العداء في سبيل الدين.

وليس في هذا ولا ذاك عجب إذا رجعنا بهما إلى أسباب عصره، فإن حرية البحث التي غلبت على عقول المفكرين في عصر الرشد كانت تصد العقول عن مذهب التنطس، والغلو في تقديس النصوص، وتجنح بها إلى قبول المحاسبة في العقائد الموروثة وكف الحماسة عن تقييد الفكر والضمير، وبين هذه الحرية وبين الحماسة والغلواء حائل لا غرابة فيه.

أما عصر الغلبة والفتوح وارتياد البحار والأمصار، فهو عصر الفخر الوطني لطلاب الفخر في كل شيء، وهو عصر النعرة الوطنية ومجد الأفراد والأقوام، فلا يمنع الفيلسوف أن ينشد المجد لأمته، ويفخر مع الناس بفخر وطنه، وبخاصةٍ حين يكون المجد والفخر طلبة العلية والسواد، وبغية العلماء والجهلاء أجمعين.

ومفصل القول في أخلاق باكون أنه كان ابن عصره في كل ما ينحو به إلى الفخر والوجاهة والخيلاء، وكان مدينًا لعصره بهذه الغيرة الوطنية، وإن سبق المعاصرين فيها بالنظر الصائب والرأي الحصيف، وكان مدينًا له بحب الاستطلاع والهيام بالمجهول، وكلتا الخصلتين مما يحسب لعصره دينًا عليه.

ولكنه لم يكن باكون العظيم بهذا ولا بذاك، وإنما كان عظيمًا بالشيء الذي لا يستمده من العصر ولا يضارعه فيه جميع المعاصرين، وذاك هو العقل القدير وأمانة التفكير.

رسالة باكون

كل رسالة في عالم الفكر أو الروح، فهي رسالة توكيد وتقرير أو رسالة توسيع وتحويل، ويندر جدًّا أن نرى في عالم الفكر والروح رسالة ابتداء وابتداع لم يسبق لها تمهيد طويل.

ونزيد هذه الحقيقة توضيحًا، فنقول: إن الرسالات الفكرية أو الروحية تسبقها رسالات من قبيلها تتناول أطرافها ومبادئها، وتهيئ الأذهان لانتشارها والتوسع فيها، فكل رسالة كبيرة فهي بمثابة كتاب من أجزاء متعددة تترقى من البداية إلى النهاية جزءًا بعد جزء ودرجة بعد درجة، ولم يحدث قط أن رسالة فكرية أو روحية تعم الإنسانية ولدت فجأة، أو خلقت خلقًا بغير سابقة تمهد لها الطريق وتهيئ لها الأذهان.

ورسالة باكون ليست بدعًا بين جميع هذه الرسالات الفكرية.

فالذين يطلبون منه أن يقول شيئًا لم يقله أحد من قبله، أو يقتحم طريقًا لم يسبقه الرواد إلى سلوكه، إنما يطلبون منه أن يكون فردًا بغير مثيل في عالم الفكر والروح، أو يطلبون بدعة ليس لها في العالم نظير؛ لأنها بدعة الطفرة التي قيل بحق: إنها محال.

وتتلخص رسالة باكون في غرضين هما تحويل العلم إلى منفعة بني الإنسان، وإقامة العلم على أساس الاستقراء بعد قيامه زمنًا على أساس التقدير والقياس؛ لتفسير الطبيعة وتسخيرها بمطاوعة قوانينها، لا بفرض الأحكام السابقة عليها وجهلها تلك القوانين.

وكلا هذين الغرضين لم يبدعه باكون في زمانه كل الإبداع، بل جاء عمله في كل منهما بعد تمهيد وارتياد واستطراد.

فالانتفاع بالعلم في الحياة هو الخطوة الكبرى التي خطاها عصر النهضة كله يوم فرق بين اللاهوت والفلسفة، وبين علوم الآخرة وعلوم الدنيا، ويوم عرف الناس أن العلم كله لا يدور على ما بعد الموت، وأن علم السماء نفسه يعود بنا إلى الأرض؛ لنعرف منها ما لم نكن نعرفه ونحن على متنها وبين فجاجها … وذاك علم الفلك وأثره في هداية الناس إلى حقيقة الأرض، قد سبق عصر باكون رائدًا في طريق المعرفة الدنيوية، ورجح في منافعه بجهود رواد كثيرين.

فكان من آثار حقائق الفلك والجغرافية أن علم الناس بكرية الأرض، وخرج الرواد غربًا يطلبون الشرق السحيق، فكشفوا القارة الأمريكية، وكشفوا الطرق التي تقاربها وانتفعوا بالعلم السماوي أكبر المنافع الأرضية أو المنافع الدنيوية، وأصبحت علاقة المعرفة بالمعيشة، وعلاقة الفكر بمصلحة الجسد شيئًا محسوسًا يجري في الضمائر مجرى البداهة المحفوظة، وينتظر اللسان الذي يفهم عنه والداعية الذي يقرره في صيغة المذاهب والدراسات.

مما نرجحه نحن أن رسالة باكون بغرضيها معًا موصولة بهذه الواقعة العظمى في تاريخ الأرض والسماء.

فقد أسلفنا أن رسالته تشتمل على غرضين هما انتفاع الإنسان بالعلم، وإقامة العلم على أساس الاستقراء، بعد قيامه زمنًا على أساس القياس.

وقد كان مذهب أرسطو يخالف مذهب كوبر نيكوس في دوران الأرض، ومركزها من أفلاك السماء، فإذا كان دوران الأرض وشكلها «الكري» قد ثبت للعيان بالخبرة والاستقراء، فالخاطر الأول الذي يرد على الذهن أن القياس عرضة للخطأ، وأن اختبار الواقع هو أوجز طريق إلى العلم الصحيح.

وهذا هو ابتداء الثورة على تفكير أرسطو بالحق وبغير الحق على السواء، ونقول: «بغير الحق» لأن القياس في عرف أرسطو هو باب من أبواب المعرفة يحتاج إلى التكميل والإتقان، وليس هو المعرفة التي تطوى فيها جميع المعارف الإنسانية كما وهم بعض الجامدين من شراحه وتابعيه، وإن أرسطو نفسه لعلى استعداد لأن يقول مع باكون: «إن القياس فروض والفروض كلمات والكلمات رموز وخواطر، فإذا التبست الخواطر فالبناء الذي يقوم عليها مضطرب الأساس.»

نعم إن أرسطو لعلى استعداد لأن يقرر في هذا المعنى ما قرره باكون بنصه وحرفه، وقد قرر ما يماثله وهو يبني قواعد المنطق السليم، ويفرق فيه بين المنطق الأعوج والمنطق المستقيم، واعتمد على الاستقراء قبل اعتماده على القياس في مراقبة الأحياء وتمحيص الأخلاق، فكان واضع علم «البيولوجي»، وعلم «السيكولوجي» غير مدافع بين الأقدمين، ولم ينشأ بين المحدثين من أقام هذين العلمين على أساس أصح من أساسهما القديم.

ومهما يكن من أثر الكشف الأمريكي، أو مذاهب الفلك والجغرافية في الثورة على أرسطو، وأسلوب القياس، فالواقع أن خطوة باكون الطويلة في هذا السبيل، قد سبقتها خطوات قصار كان مقدورًا لها أن تنتهي إلى هذه النهاية في وقت من الأوقات.

وجاءت الخطوة الأولى من أرسطو قبل غيره، فإنه لم يجزم قط بكفاية التفسير الذي فسر به نظام الأفلاك، ولا بصواب التقسيم الذي اتخذه للمدارات العلوية، بل قال: إنه تقسيم يوافق المشاهدات في زمانه، وقد يهتدي العقل إلى تقسيم أوفق منه إذا انكشفت له مشاهدات أخرى، وكان أساتذة جامعة باريس في القرن الرابع عشر ينكرون آراء أرسطو في علم الفلك، كما ينكرون أصول الحركة التي بني عليها تقسيم الأفلاك والمدارات، وتقدمهم في ذلك بعض أساتذة أكسفورد، الذين تلقوا علوم العرب في المدارس الأندلسية، وقد قال البارون كارادي فو Baron Cara De Vaux في الفصل الذي عقده على تراث الإسلام في الرياضة والفلك: «إن هؤلاء العلماء كانت لهم عقول طليقة مولعة بالبحث عن الحقيقة، فلم يحجموا عن نقد بطليموس، وصرحوا مع ابن رشد بمناقضتهم لمذهب تداخل الأفلاك وتركزها، وإيثارها لما هو أبسط وأقرب إلى الطبيعة، وقرر البيروني آنفًا أن النظريات الفلكية كلها نسبية، وأنه في الوسع كما قال ارستراخس الساموسي وسليقس البابلي قبل كوبر نيكوس بألفي سنة، أو كما قرر بعض الهنود في زمن لا يبلغ هذا المبلغ من القدم، أن تنسب دورة النهار والليل إلى حركة الأرض حول محورها، وأن نجعلها تدور حول الشمس في الفضاء.»

•••

فمن المفروغ منه إذن أن باكون لم يكن أول من علم الناس منفعة العلم في خدمة الإنسان، ولا أول من أقامه على أساس التجربة والاستقراء، ولا يقدح ذلك في فضل رسالته؛ لأن أصحاب الرسالات الفكرية جميعًا يصدق عليهم ما يصدق عليه.

وحسبه فضلًا أنه عرف الحقائق التي عرفها غيره، ولكنه هو وحده قد اهتدى إلى الموضع الحري منها بالتوكيد والتقرير، وبشر بالفكرة التي يستدعيها الزمن الحاضر والزمن المستقبل من بعده، وكانت بحقٍّ طليعة الكشوف المتوالية في العلم الحديث.

ومما لا شك فيه أن باكون بالغ في تعزيز غرضيه، كما يبالغ أصحاب المذاهب جميعها في ترجيح مذاهبهم، وتغليبها على سواها.

فمن الناس اليوم من يتردد كثيرًا في القول مع باكون بأن المنفعة غاية المعرفة الإنسانية، وأن الأقيسة مضلة للعقل في تيه الفرض والتخمين.

ولكن توكيد هذين الغرضين في زمان باكون كان من ألزم الأمور؛ لأن الإفراط في إهمالهما كان مدعاة للإفراط في ذلك التوكيد، ويحتاج المرء لا جرم إلى رفع الصوت طويلًا حين يطول الإعراض وتصدف الأسماع.

وقد كان الناس يحتقرون الانتفاع بالعلم؛ لاعتقادهم أن الآخرة هي محور كل علم، وأن الزهد في الدنيا هو صبغة العلماء، ومنهم من يدين في ذلك بمذهب بعض الفلاسفة النساك، الذين لا ينظرون إلى الزهد من ناحيته الدينية، وعلى رأسهم فيلسوف المتقشفين فيثاغوراس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه على اشتغاله بالسفارة السياسية كان يرى أن حياة التأمل هي حياة السعادة والكمال، وأن أفضل الناس لا يكونون من أهل البيع والشراء، ولا من السابقين في المضمار والميدان، ولكنهم هم المفكرون والمتأملون … وعلى هذا القول يجيب باكون فيقول: إن الدنيا مسرح لا يملك الإنسان أن يتفرج عليه؛ لأنه هو اللاعب فيه، وإنما يقف منه موقف المتفرج ملائكةُ السماء.

فمن الزهد إلى مزج العلم بالدنيا مرحلة لا غنى فيها عن التوكيد والمبالغة، وهذه هي المرحلة التي كتب على باكون أن يتحول بالأجيال الإنسانية إليها، وأن يبالغ في النداء بها كما يبالغ كل مناد على الضالين في الطريق.

فجعل هجيراه أن يقرر غرضًا واحدًا للمعرفة الإنسانية، وهو تسخير الطبيعة وتوجيه قوانينها إلى مصالح الجماعات والأفراد، وكان يقول في شيء من السخر: إن المعرفة ليست بالقنبرة التي تعلو في طباق الجو لتهتف وتغني، ولا تصنع شيئًا غير الهتاف والغناء، ولكنها هي الصقر الذي يحلق في الجو ليرى موقع الفريسة، وينقض إلى الأرض بين حين وحين.

وقد أشار ببناء البيوت العلمية للبحث عن قوانين الطبيعة، وخصائص المادة في البر والبحر والهواء، وأغوار الأرض وأجساد الأحياء، ووصف في كتابه «طوبى الجديدة» أو أطلانطي الجديدة بيتًا من هذه البيوت سماه بيت سليمان، ويعتبره مؤرخو العلم قدوة لمعامل العصر الحديث المعنية بالتحليل والتطبيق، ومثالًا للمجامع أو الأكاديميات الحاضرة تحتذيه، ولا تتجاوز المقاصد التي رسمها في ذلك الكتاب.

وسبيل الوصول إلى ذلك عنده هو إحصاء المشاهدات العامة، والانتقال بها من طبقة إلى طبقة في التخصيص والتوحيد، حتى ننتهي بها إلى جامعة واحدة تجمعها فيما يسميه اﻟ form أي: النمط أو السنة أو النوع، وعنده أن هذه الأنواع معدودات لا تتجاوز العشرات، وهي كما يسميها أبجدية الطبيعة التي تنحصر فيها حروفها، وإن تعددت كلماتها حتى بلغت الألوف وعشرات الألوف.

ولا يرى باكون بداهةً أن إحصاء المشاهدات جميعًا مستطاع، أو لازم للوصول إلى تقرير النمط أو السنة أو النوع، فالاختيار هنا — على نظام من النظم المطردة — ضرورة لا محيص عنها للباحث عن حقائق العلوم من وراء المشاهدات، وإلا كان — على حد قوله — كمن يحاول أن يحوش الصيد في أرض فضاء بغير حدود، أو بغير حيز مسدود.

وطبقات الحصر والغربلة عند باكون تسمى بالجداول، وهي ثلاثة: الجدول الأول، وهو يشتمل على الأشياء التي بينها وجوه مشابهة في عوارض الظاهرة الطبيعية، التي يراد البحث عنها، والجدول الثاني وهو يشتمل على الاختلاف بين تلك الأشياء، والجدول الثالث وهو يشتمل على المقارنة بين درجات الاختلاف زيادة ونقصًا، وقوة وضعفًا؛ ليعرف الباحث من الزيادة في بعض العوارض والنقص في بعضها أين يتجه السبب الصحيح، وتكمن العلة الحقيقية، فإذا تساوى سببان في القوة والبروز، فسبيل باكون في هذه الحالة أن يرجع إلى ظاهرة أخرى لعله يصيب فيها أسبابًا مقابلة ترفع اللبس، وتدل على معالم الطريق؛ ولهذا يسميها أسباب المعالم؛ لأنها تقف على المفترق وتشير للسالك إلى مسلكه، حيث يلتبس عليه طريقان أو أكثر من طريقين.

وقد ضرب المثل بالحرارة في الجزء الثاني من كتاب القانون على طريقة المقارنة والاستثناء، فقال بعنوان: «المثل على الاستثناء والرفض من طبائع نموذج الحرارة».

  • (١)

    فيما يتعلق بأشعة الشمس تستثنى طبيعة العناصر (يريد العناصر الأربعة المعروفة عند الأقدمين).

  • (٢)

    فيما يتعلق بالنار الشائعة — ولا سيما النار الباطنية في جوف الأرض، وهي أبعد ما تكون وأشد تفرقًا عن الأجرام السماوية — تستثنى الأجرام السماوية.

  • (٣)

    فيما يتعلق بالسخونة التي تسري من مقاربة النار إلى جميع الأجسام على السواء — كالمعادن والخضر وجلود الحيوانات، والماء والزيت والهواء وغيرها — تستثنى الأنسجة الدقيقة، والتركيب المميز في الأجسام.

  • (٤)

    فيما يتعلق بالحديد الملتهب وغيره من المعادن، التي تعطي الأجسام الأخرى حرارة، ولا تفقد شيئًا من وزنها ومادتها — يستثنى الانتقال أو المزج من مادة جسم آخر فيه حرارة.

  • (٥)

    فيما يتعلق بالماء الغالي أو الهواء الحار أو يتعلق بالمعادن والأجسام الصلبة، التي تتلقى الحرارة ولكن إلى ما دون درجة الاتقاد والاحمرار، وتستثنى الإضاءة واللمعان.

  • (٦)

    فيما يتعلق بأشعة القمر وغيره من الأجرام العلوية عدا الشمس، تستثنى كذلك الإضاءة واللمعان.

  • (٧)

    بالمقارنة بين الحديد المتقد ولهيب روح الخمر، حيث يظهر أن الحديد أكثر حرارة وأقل لمعانًا، وأن روح الخمر أقل حرارة وأكثر لمعانًا — تستثنى كذلك الإضاءة واللمعان.

  • (٨)

    فيما يتعلق بالذهب المتقد والمعادن الأخرى، التي اختصت بأعظم مقدار من الكثافة على الجملة تستثنى الخفة.

  • (٩)

    فيما يتعلق بالهواء الذي يُحَسُّ أحيانًا باردًا مع خفته، وقلة كثافته تستثنى كذلك الخفة.

  • (١٠)

    فيما يتعلق بالحديد المتقد الذي لا يتضخم حجمه، ويظل في حدوده الأولى تستثنى حركة الجسم الموضعية أو الامتدادية في الجملة.

  • (١١)

    وكذلك تستثنى حركة الجسم الموضعية أو الامتدادية فيما يتعلق بالهواء المحفوظ في الأوعية الزجاجية، حيث يتمدد ولا ترتفع درجة الحرارة فيه.

  • (١٢)

    فيما يتعلق بسهولة إحماء الأجسام بغير تلف أو تغير ملحوظ، تستثنى طبيعة التلف أو الاتصال العنيف بطبيعة أخرى.

  • (١٣)

    فيما يتعلق بالاتفاق والتطابق بين الآثار المتشابهة، التي تؤثرها الحرارة أو البرودة، تستثنى حركة الجسم في الجملة سواء كانت امتدادية أو انقباضية.

  • (١٤)

    فيما يتعلق بالحرارة التي تتولد من تماس الأجسام، تستثنى الطبيعة الأساسية أو الأصلية، وأعني بالطبيعة الأساسية أو الأصلية تلك التي توجد في الأشياء مستقرة فيها، ولا تنتقل إليها من طبيعة غريبة عنها.

وهناك طبائع أخرى غير ما تقدم؛ لأن هذه الجداول إنما قصد بها التمثيل، ولم يقصد بها الحصر والاستيفاء.

وجميع هذه الطبائع التي ذكرت فيما تقدم ليس لها نمط الحرارة، ويتحرر الإنسان منها جميعًا في تجارب البحث عنها …

•••

ذلك مثال لأسلوب باكون في المضاهاة والمقابلة بين العوارض المثبتة، والنافية لإقصاء الأسباب الوهمية، والنفاذ إلى الأسباب الصحيحة التي تعلل بها كل ظاهرة طبيعية.

وهي خطوة تسبقها في رأيه خطوة لازمة لإعداد الذهن، وإبرائه من عوائق البحث الصادق والملاحظة الرشيدة، أو تخليصه من تلك الآفات التي اصطلح باكون على تسميتها بالأوثان Idols، وعنى بها العقائد والموروثات التي تنحرف به عن قصده، وتميل به إلى السخف والضلالة.

وقد أطلق عليها ألقابًا مجازية على طريقته في المزج بين صيغة العلم وصيغة البلاغة، وسماها (١) أوثان القبيلة و(٢) أوثان الكهف و(٣) أوثان السوق و(٤) أوثان المسرح، وهي تطوي في هذه العناوين الأربعة كل ما هنالك من بواعث الخطأ والانحراف.

  • (١)

    فأوثان القبيلة هي نزعات العقل الطبعية، التي تصور الأشياء على صورة سابقة لا برهان عليها من التجربة والمشاهدة، كميل الأقدمين إلى القول بدوران الأفلاك في دوائر كاملة كالتي يرسمها المهندس بالبركار، ولا مسوغ من التجربة ولا المشاهدة لهذه الصورة الشائعة في العقول، أو كميل الأقدمين إلى القول بأن نسبة الكثافة في العناصر المزعومة كنسبة عشرة إلى واحد، أو كاستراحة العقل إلى صورة من الصور، وتطبيق كل شيء عليها واجتهاده في ليِّ الحقائق لموافقتها معرضًا عما يخالفها، أو ينبهه إلى خطئه في الاستراحة إليها، وهذه الأوثان — أوثان القبيلة — مما يفسر لنا ولع الإنسان بالعيافة والتطير، وتصديق الخرافات والأكاذيب الملفقة من خداع الحس أو الخيال.

  • (٢)

    وأوثان الكهف هي خلة القصور، التي يمنى بها الفرد على حدة من جراء الوراثة أو النشأة، أو علل الفطرة التي فطر عليها، فما من إنسان إلا وهو محصور في كهف من هذه الكهوف يأوي إليه، ولا يأذن بطروقه إلا لما يوائمه من الخواطر والأحاسيس والمذاهب الفكرية، وتشمل هذه الأوثان خصائص الأمزجة كمزاج العالم، ومزاج الفيلسوف، ومزاج الناشد ومزاج الفنان ومزاج الصانع، وكل منها مطبوع على إدراك الأمور من جانب من الجوانب، والإعراض عنها إذا قابلته من غير ذلك الجانب، وفيهم السريع إلى التصديق، أو السريع إلى الشك والمعتدل أو المفرط في الشعور.

  • (٣)

    وأوثان السوق هي شر هذه الأوثان؛ لأنها تلحق الأفكار بالكلمات التي جرت على ألسنة العامة، وتداولوها بغير تمحيص ولا اقتدار على الفهم الدقيق. ومتى اجتمع الناس كما يجتمعون في السوق فهم يتبادلون الأفكار بألفاظ لم توضع للدرس والعناية بالحقيقة، وإنما وضعت للمقايضة والمساومة، والتفاهم على سفساف الأمور. فلا مناص في هذه اللغة من التشويه والاختزال.

  • (٤)

    وأوثان المسرح قد تسربت إلى عقول الناس من قضايا الفلاسفة، وأخطائهم في القياس والاستدلال، فهذه النظم الفلسفية والمذاهب العقلية التي تلقيناها عن الأقدمين إن هي إلا عوالم مسرحية، كعوالم الروايات التي يخلقها الشعراء للتمثيل. ومن الأساليب التي ألحقها باكون بأوثان المسرح أسلوب أرسطو، الذي يصوغ القواعد على حسب الأقيسة، ثم يبحث عن مصداقها في ظواهر الطبيعة، وأسلوب أفلاطون الذي يجعل العالم المحسوس تابعًا للعالم المتخيل قبل وجوده، وأسلوب جلبرت الذي بنى على تجاربه في المغناطيس فلسفة واسعة تحيط بالعالم كله، وأسلوب الكيميين والتجريبيين الذين سبقوا باكون إلى مذهب التجربة، ولم يقيموه على أساس، ولم يتخذوا له الحيطة من الخطأ والالتباس.

فإذا انطلق الذهن البشري من عقال هذه الأوثان الأربعة، وقارب الظواهر الطبيعية على ذلك النحو الذي انتحاه باكون من المضاهاة والمقابلة، والتخصيص بعد التعميم، فهو على ثقة من إصابة الهدف وتسجيل الحقيقة، فهذه الطريقة على أهون ما يصفها به باكون هي كإبرة المغناطيس للملاحة، ولا تكشف الإبرة الفكرية لهداية العقل والحس في بحار الأفكار … وهذه العبارة وأشباهها من كلام باكون هي بعض الأدلة على الأثر العظيم، الذي كان للكشف الأمريكي في تفكيره ومعيشته، وصوغ مذهبه وتقرير نظرته إلى العلم ومقاصد المعرفة الإنسانية. فأثر العلم في فتوح الملاحة شاخص بين عينيه في كل ما كتب وما تخيل، وكتابه عن «طوبى الجديدة» إن هو إلا محاكاة لرحلة كولمبس في عالم المجهول للعبور إلى شاطئ المعرفة والحكمة المتمناة.

•••

ويعتقد باكون أن اجتناب تلك الأوثان، واتباع تلك الوصايا كفيلان بتمكين كل عقل من نشدان الحقيقة العلمية، والإفضاء إليها على اختلاف حظوظ العقول من الفطنة والثقافة، كأنه قد زود العقل البشري بمقياس واحد كمقاييس الأجسام التي يتساوى القياس بها في كل يد وكل نظر، وقد سوغ هذا الاعتقاد لنقادٍ كثيرين أن يرموا أسلوب باكون بالآلية، وتجاهل الملكات العقلية، إذ الواقع أن أساليب البحث بالغة ما تبلغ من الدقة لن تمحو الفوارق بين الذكاء والغباء والحس والبلادة والمثابرة والإهمال، ولن يزال نصيب الألمعي اليقظ الدءوب من التوفيق في البحث عن حقائق العلم، والمعرفة أعظم وأوفى من نصيب الذين لا يساوونه في هذه الملكات، ولكنها على ما أسلفنا مبالغة الدعاة في توكيد ما يبدءون بالدعوة إليه، وزيادتهم التي لا مناص لهم من التفرد بها قبل استقرار المذهب، وبطلان الحماسة النفسية في تأييده والإقناع به، ثم تأخذ تلك الزيادة في النقصان حتى ليخشى أن يندفع المخالفون إلى الغض منه وتهوين شأنه، كما حدث بعد باكون بجيل واحد في وطنه، وفي غيره من الأوطان.

وليس ذلك بالغلو الوحيد في تقرير طريقته، والإنحاء على الأقيسة والقضايا المنطقية وما شاكلها، فإن التعويل على التجربة والإحصاء عند باكون قد سول له أن يستخف بكل معرفة لا تصل إلى الذهن من طريق التجربة والإحصاء، ومن ثم أنكر على كبار الفلكيين أن يطبقوا قضايا الرياضة على علم الفلك، وما يرتبط به من المعارف الأرضية، وهذا مع تسليمه ببعض المعارف التي تدرك بالبديهة كمعرفة الناس مثلًا أن أجزاء الشيء لا تكون أكبر منه، وأن إضافة المتساوي إلى المتفاوت ينتج عنه كمٌّ لا يتساوى، وما يترقى من هذه الحقائق إلى منزلة القواعد الهندسية، ولكنه كان في انصرافه إلى طريقة التجربة يعطيها من الشأن ما يسلبه من كل طريقة أخرى؛ لأن الدعاة كالعشاق لا يحبون معشوقين على قوة واحدة في المحبة.

وعلى هذا الغلو في تعظيم قدرة الطريقة التجريبية على الوصول إلى حقائق العلم لم يصل باكون إلى قانون علمي ينسب إليه؛ ولهذا شك بعض ناقديه في ملكته العلمية ولم يحسبوه من عباقرة العلم الطبيعي أو عباقرة الاختراع، ولا يدعي أحد لباكون أنه اخترع صناعة أو أنه استكنه سرًّا من أسرار الطبيعة، وإن كان قد تسلف مبادئ القول بالمذهب الذري في تكوين المادة، وحرارة الأجسام الباردة، وخصائص العناصر المتعددة، ولكن تجريده من العبقرية شيء وقلة مخترعاته العلمية أو الصناعية شيء آخر، فإن ذهنه ولا ريب ذهن لماح بضوء العبقرية الذي لا يخفى، وليس هو من معدن الأذهان التي تفهم ما تفهمه بالدأب دون الطبع أو المحاولة، التي يستطيعها جميع الناس دون الملكة التي تولد مع الإنسان.

وقد أصيب باكون بالخصومة لشخصه ولكتبه، سواء في حياته أو بعد مماته، ولكن الحكم بقلة حظه من الابتكار لم ينحصر في خصومه والمنكرين عليه، بل تعداهم إلى المعجبين به والمعنيين بشرح كتبه، فقال سبدنج Spedding: إنه لم يخط خطوة واحدة في الطريق التي تقدم فيها العلم تقدمه الصحيح، وإنه كان في بحثه كمن يسلك المتاهة الدائرة، فلا يزال يتأخر كلما تقدم ليفضي إلى وجهته المقصودة. وشك أليس Ellis في إمكان الوصول من طريقة باكون إلى أسرار الطبيعة، سواء على يده أو يد غيره، بل تعدى الحكم على حظه من الابتكار نخب المعجبين به إلى ما قاله هو عن نفسه وعن قيمة سعيه، فإنه كان يقول: إنه كمن ينفخ في البوق ولا يخوض المعركة! وقال في كتابه تقدم المعرفة: إنه كالصورة التي تشير إلى وجهة المسير، ولكنها لا تستطيع المسير إليها.

وأفرط الناقدون فزعموا أنه مدين بكل شيء لسابقيه … أما أنه استفاد من سابقيه كثيرًا، فذلك ما لا ريب فيه ولا غرابة ولا هو مما يقال عنه دون غيره من رواد العلوم والآداب، ولكن لا ريب أيضًا في أنه «شيء جديد» إلى جانب سابقيه، وأن أشد المنكرين عليه لا يستطيع أن يزعم بحق أن ظهوره وعدمه يستويان، فظهور باكون شيء جديد في تاريخ الحركة الفكرية ما في ذلك جدال، ولا يطلب من المبتكرين المفيدين في تاريخ هذه الحركة أثر غير ذاك، على تفاوت الآثار في القوة والمقدار.

ويحضرنا هنا خاطر عبر بنا في صدد الكلام على باكون وأسلوبه التجريبي، فحواه أنه اقتدى بعلماء العرب في تنظيم هذا الأسلوب.

والذي لا نشك فيه أن سلف باكون وسميَّه روجرز باكون قد كان يقتدي بعلماء العرب، ويصرح بذلك في مصنفاته ومحاضراته، وأن فرنسيس باكون قد استفاد من سلفه وسميه، كما استفاد علماء الإنجليز جميعًا بعد القرن الثاني عشر من ذلك القس الغيور على أمانة العلم والتفكير، وقد أشار باكون في كتابه «طوبى الجديدة» إلى العرب، وذكر فيه بعض الأسماء العربية، ولكننا لم نجد في كتبه كلها دليلًا على استفادة مباشرة من مطالعة الكتب العربية المترجمة إلى اللغات الأوروبية، وكل ما استفاده من هذه الكتب، فهو منقول من المصادر الأخرى كما ينقل التابعون عن السابقين، شاعرين بذلك أو غير شاعرين.

•••

ولا يقال: إن باكون «شيء جديد» في تاريخ الحركة الفكرية من قبيل الاعتراف بمكانه الملحوظ في تلك الحركة وكفى، ولكنه «شيء جديد» من قبيل النوع الذي يضاف إليه بين ذوي المكانة الملحوظة في حركات الفكر البشري عامة؛ لأن نوع هذه المكانة مبهم ككلمة «الشيء» التي تشمل كل شيء!

ففي أي طائفة من طوائف رسل الثقافة والمعرفة تسلكه وتستبقيه؟ أهو فيلسوف؟ أهو شاعر؟ أهو عالم؟ أهو مؤرخ؟ أهو فقيه؟ أهو خطيب؟ أهو أديب؟ فيه من كل هؤلاء شيء وليس هو بشيء مستقل بين جميع هؤلاء.

فيه قبس من الفيلسوف؛ لأنه يبحث ويعلل ويعمم ويراجع مذاهب الفلاسفة، ويصحح منها ما يراه موضعًا للتصحيح، ولكنه لم يخلق للفلسفة كما خلق لها رجل مثل فيثاغوراس في الأقدمين، أو رجل مثل كانت أو هيوم في المحدثين. وقد تجنب علل الحقائق الأولى وأعفى عقله من الكد في الأصول الأبدية، التي شغل بها الفلاسفة من قديم الزمان، ويشغلون بها إلى آخر الزمان. وأدركه في ذلك ما كان يدركه دائمًا من حب الدعة، وإيثار للإيمان الذي يرجى الفراغ من بحثه على وجه من الوجوه العملية النافعة، فأسلم عقله للإيمان الديني كما كان يفهمه كل رجل من طبقته في زمانه. ويحسب مؤرخوه أنه فارق الدنيا وهو يظنها بنية تاريخية لا تتجاوز من العمر خمسة آلاف عام، على ما جاء في ظاهر نصوص التوراة.

وفيه قبس من الشاعرية؛ لأنه يتخيل ويأنق للمعاني الجميلة ويستخدم فنون المجاز، ولكنه لم يكن بين الشعراء في طبقة ملتون أو بيرون بل في طبقة دريدن أو بوب؛ لأنه دون هؤلاء في اشتعال النفس وحماسة الروح وجيشان العاطفة، واتساع آفاق الخيال.

وفيه ملكة العالم، ولكنه كما قدمنا لم يكشف قانونًا من قوانين العلم، ولم يحاول فيه محاولات العلماء المطبوعين من أمثال باستور وفراداي، وقصارى ما عنده من الملكة العلمية أنه علَّم المشتغلين بالعلوم كيف يبحثون فيها عن طريقته، وقد يتركون طريقته مع هذا ويبحثون ويوفقون.

وهو مؤرخ أو كاتب في التاريخ والسير، ولكنه لا يدرك في هذا الباب شأو جيبون أو بلوتارك، ولا يزال تاريخه ضربًا من التعليقات الفكرية، التي تحيط بكل موضوع من موضوعات الحاضر والماضي على السواء.

وهو فقيه من فقهاء زمانه المقدمين، ولعله في هذا الباب أقرب ما يكون إلى التمام والاستقلال بالقياس إلى فقه ذلك الزمان، ولكنه هو نفسه لم يكن معتدًّا بمكانته من الفقه، ولم يحفل بنشر قضاياه أو بحوثه القانونية في حياته.

وهو خطيب فصيح اللهجة حسن البيان لا يمل سامعوه الإصغاء إليه وإن أطال، ولكنه لو لم يصنع شيئًا غير الخطابة لما بقي له ذكر بين رسل المعرفة والبيان؛ لأن خطبه جميعًا طويت قبل موته، ولم تعلق بها ذاكرة أحد من سامعيه في مجلس النواب أو ساحة القضاء.

وهو أديب ولا سيما في باب الكتابة النثرية، وعنده في هذا الباب من الشهرة المستقلة ما يغنيه في تاريخ الآداب، ولكنه مع هذا أكبر من قدرته الأدبية، وأعظم ممن يضارعونه في أصالة المعنى وبلاغة الأسلوب.

فهو «شيء جديد»؛ لأنه يشترك في جميع هذه الأشياء، ولا يستوعب كله في واحد منها، ولا ينتظم مرة واحدة تحت عنوان واحد من هذه العناوين.

مثله في ذلك مثل النخبة القيمة من الجواهر فيها اللؤلؤ والياقوت والزمرد والمرجان وغيرها من معادن الجوهر النفيس، ولكنها لا تلبس جميعًا في عقد واحد، وليس في مفرداتها من صنف واحد ما ينضد في حلية معروفة بين الصاغة، وهي مع ذلك قيمة بين الصيارف ما في قيمتها جدال.

•••

قلت في تذكار جيتي: «من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة؛ لأنه يرتقى إلى أوجه في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتصرفه حق عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها، ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكرارًا لا جديد فيه.»

«ومنهم من يعطيك جزءًا من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها.»

«وجيتي من هؤلاء العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم؛ لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد، فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره، كما أن اليوم الواحد في غمار أيامه هو أصغر لا محالة من سنيه الثمانين.»

والذي يصدق على جيتي يصدق على باكون مع اختلاف العبقريتين في المعدن والمحصول، بل هو يصدق على باكون قبل أن يصدق على جيتي لكثرة الأجزاء التي لم تتم في كتبه الكبيرة، ولغلبة المتفرقات على آثاره الأدبية والعلمية والفكاهية، كأنما هي كلها من باب الفصول والشذرات.

أما ذكراه الأدبية اليوم فهي قائمة على المقالات قبل غيرها كما ذكرنا في غير هذا الفصل من الكتاب، وله عدا المقالات كتابان يقرآن ويستعادان للبحث، أو لمتعة المطالعة في بعض الأحيان، وهما الكتابان اللذان عارض بأحدهما أرسطو وعارض بالآخر أفلاطون، وهما القسطاس الجديد أو القانون الجديد Novum Organum، وطوبى الجديدة The New Atlantis.

والقسطاس الجديد — كما يدل عليه اسمه — مقياس جديد يعارض به مقياس أرسطو في البحث عن الحقائق، وتصحيح الأخطاء الفكرية، وهو جزء من الموسوعة الضخمة التي أزمع أن يضم إليها جميع آرائه وتوجيهاته في أساليب البحث، وتمحيص العلوم، ولكنه لم يتمه، وظهر هذا الجزء منه في سنة ١٦٢٠، وبه يذكر المؤلف بين أصحاب المذاهب والدعوات، ولا سيما الكتاب الأول منه وهو أنفع ما فيه.

وطوبى الجديدة New Atlantis هي رحلة خيالية إلى جزيرة سماها «بني سالم» وحكى بها القارة الضائعة، التي ذكرها أفلاطون في أحلام الفلسفة، وقد أوحاها إليه أفلاطون وكولمبس على السواء، وكان من أحلامه أو نبوءاته فيها إشارات سباقة إلى الطائرات والغواصات والتليفون، ومكبرات الصوت والأغذية المركبة، واختراع صنوف جديدة من المعادن والأشجار، وقد تحققت على الوجه الذي نراه اليوم، ولم تتحقق معها إشاراته السباقة إلى الفتوح الأخلاقية والفضائل الاجتماعية، التي خيل إليه أنها مساوقة في غده المنظور لتقدم العلوم والصناعات، ويرى ولز Wells الكاتب الإنجليزي المعاصر أن طوبى هذه أعظم خدمات باكون للعلم، وأصدق موحياته لمن اتبعوه في هذه الطريق، وقد نشره باكون قبل موته بسنتين.
ومن كتبه التي تراجع الآن للتنقيب في تاريخ الحركات الفكرية كتابه ترقية المعارف Advancement of learning، وهو جزء من تلك الموسوعة الضخمة التي سبقت الإشارة إليها، وقد أدمجه في كتاب باللغة اللاتينية أسماه De augmentis Seientarium، وتناول فيه المعارف البشرية من تاريخ وشعر وأخلاق وعلوم طبيعية وسياسية، مرتبًا لها أماكنها ومقومًا لها قيمها، وجاريًا في ذلك على مجراه من تسخير العلوم لمنفعة البشر، وقياس الأخلاق بمقياس هذه المنفعة العامة، واعتبار الغرض الأسمى للسياسة أن تعنى الحكومة بالسيطرة على الطبيعة لا على الناس، تحقيقًا للغرض الأخير من جميع المعارف والمساعي والجهود، وهو زيادة المسرة والراحة، ونقص الألم والعناء.
ومن كتبه العلمية التي لا تقرأ الآن إلا للتنقيب عن الآثار الماضية كتاب Sylva Sylvarum، الذي قصره على موضوعات أربعة: هي تاريخ الرياح، والحياة والموت، والكثافة والخفة، والصوت والسماع.

وأطرف كتبه بعد المقالات والأمثال التي ستأتي ترجمة بعضها كتاب ممتع عن حكمة القدماء، نشره في سنة ١٦١٠، وحاول فيه أن يفسر الأساطير القديمة تفسيرًا يعبر عن غرض من أغراض الحكمة على سبيل الرمز والكناية، وفي مقالاته التالية نماذج منه تدل على سائره، وتغني عن التوسع في نقله.

وقد شغل في أواخر أيامه بالتاريخ، فتوفر على إخراج كتاب عن تاريخ هنري السابع في سنة ١٦٢٢، ونقلنا في مختاراته شذرة منه تشير إلى منحاه.

ولم يشغله كثيرًا أن يذيع آثاره القانونية مع اشتغاله بالقضاء والمحاماة، كأنه كان يهملها ولا يعتمد على سمعتها بين رجال القانون، فنشرت حكم القانون Maxims of law بعد موته سنة ١٦٣٠، ونشرت كذلك طبعة ثانية من كتابه عن تطبيق القانون بعنوان آخر هو «عناصر القانون العام» The elements the common law.

ولا تعرف لباكون رسالة في عالم العقيدة الدينية، كرسالته في العلم ولا كرسالته المحدودة في السياسة والقانون، وإنما كان الرجل متدينًا كثير التلاوة للتوراة والإنجيل كما يؤخذ من كتاباته عامة، ومن مقالاته خاصة، ولم يُعن بالكتابة في الشئون الدينية إلا لمصلحة الدولة، وعلاج مشكلات الكنيسة، ومشكلات الحكومة التي ترجع إليها، ولم يزل يتهيب الخوض في الأسرار الدينية، ويحيلها على أربابها من علماء الكنيسة، ويؤثر الدعة واتقاء القيل والقال، ويقارب هذه المسائل وما شابهها من مسائل السياسة، وهو يعلم — كما قال — أن أوضع الملق هو الملق للسواد والغوغاء.

•••

ونحسب أننا ننصف الرجل بلسانه، ولا نستطيع أن نجمل القول في رسالته بأصدق ولا أوجز من إجماله حين قال: إنه كالصورة التي تهدي إلى الطريق ولكنها لا تسلكه، وإنه كمن ينفخ في البوق للمناضلين، ولا يقتحم ميادين النضال.

باكون الأديب

هل يعد باكون من أدباء اللغة الإنجليزية؟ قد أجبنا عن هذا السؤال بعض الجواب في صدد الكلام عن رسالته الفكرية.

أما هو فإذا سألناه رأيه فلا شك أنه يسلك نفسه في عداد العلماء والحكماء، بل في عداد الساسة والفقهاء، قبل أن يخطر له الدخول باسمه وعمله في زمرة الأدباء، وأكبر الظن أنه كان يأبى أن يُحسب من أدباء اللغة الإنجليزية خاصة؛ لأنه كان على سنة علماء عصره يعول في الكتابة الرفيعة على اللغات القديمة، كاللاتينية واليونانية، دون «هذه اللغات الحديثة» التي تعرض العقل للإفلاس كما قال! وبلغ من سوء ظنه بمصير ما يكتب في هذه اللغات الحديثة أنه عني بترجمة مقالاته إلى اللاتينية، واعتقد أن هذه الترجمة هي التي تبقى له في سجل الأدب الخالد ما خلدت كتابة بين الناس … فنسيت الترجمة اللاتينية بعد أعوام، وبقيت المقالات الإنجليزية وحدها عمادًا لشهرته الأدبية بين جميع ما كتب من أسفار وفصول ومقطوعات.

ورأي باكون في كتاباته — أو في حقها من الشهرة — مثل من الأمثلة الكثيرة على تلك الحقيقة المتواترة التي لا شك فيها، وهي أن الكاتب أو الشاعر ليس بالحجة في نقد نفسه، وإن كان حجة في نقد غيره، فلو كان الكتاب والشعراء لا يستحقون الشهرة إلا بما قدروه وتمنوه لكان أكثر النابهين اليوم من الخاملين المنسيين.

فعلى خلاف رأي باكون في مقالاته يعُد ولا جدال من كبار الأدباء الناثرين باللغة الإنجليزية، ولا سيما مقالاته التي ظهرت منقحة في طبعاتها الأخيرة.

ولقد أوشك بعض النقاد أن يرفعوه إلى منزلة ليس يعلوها مكان في عالم الكتابة الإنسانية؛ لأنهم زعموا أنه هو صاحب روايات شكسبير أو صاحب كل ما ينسب إلى شكسبير من منظوم ومنثور، ومن كان كذلك فقد تعدى قدره مرتبة الخلاف على حسبانه من أدباء اللغة الإنجليزية، وأصبح وحده الأديب الأول غير مدافع بين الشعراء والكتاب في جميع اللغات.

أول من زعم هذا الزعم العجيب كان قسًّا إنجليزيًّا من أبناء وارويكشاير Warwickshire في أواخر القرن الثامن عشر، حوالي سنة ١٧٨٥ يدعى جيمس ويلموت James Wilmot.

وكانت حجته وحجة اللاحقين به في زعمه شيوع الترادف بين كتابة باكون، وكتابة شكسبير في مواضع شتى من الروايات والمقالات، وأن تربية شكسبير في صباه لا تؤهله للإحاطة بتلك المعلومات العالية، التي تزخر بها منظوماته ومنثوراته، ولا تفسر لنا كيف سافر في طلب الثقافة الفنية والعلمية إلى البلاد الإيطالية والفرنسية، وهي عادة لم تكن معهودة ولا ميسورة لغير العلية من أبناء السروات والنبلاء.

وتدفع هذه الحجة حجة مثلها في القوة أو تزيد، وفحواها أن باكون على مكانته من العلم والثقافة لم يكن ليخطئ تلك الأخطاء التاريخية، التي ترددت في مصنفات شكسبير، ومن أمثلتها ذكر الساعة الدقاقة في عهد يوليوس قيصر، واستشهاد هكتور بكلمات أرسطو وإشارة كوريولانس إلى كاتو، وغير ذلك من الأخطاء الجغرافية والتاريخية، التي لا يقع فيها المتعلمون بالجامعات.

على أنها حجة لها حجة أخرى تناقضها وتماثلها في القوة أو تزيد!

فقد وقع أدباء الجامعات فعلًا في أخطاء كثيرة من هذا القبيل، وألف شاپمان العالم الأديب مترجم هومر إلى الإنجليزية مسرحية عن «متسول الإسكندرية الضرير» في زمن البطالسة، فإذا هو يذكر المسدسات والتبغ وأشجار البلاد الإنجليزية، ويجري اسم الإله أوزيريس على الألسنة متبوعًا بالدعاء لله والسيد المسيح!

بل قد أخطأ باكون نفسه مثل تلك الأخطاء التي أحصيت على شكسبير، فقال في الطرائف والأجوبة: «إن تمستوكليس أصاب حين قال لملك الفرس: إن الكلام كمنسوجات أراس حين تفتح وتعرض للأنظار لترى فيها النقوش والرسوم، أما الفكر فهو كتلك المنسوجات، وهي مطوية في الصرر والكارات.»

وأين منسوجات آراس يومذاك في عهد تمستوكليس وحروب الفرس واليونان؟!

فالأخطاء التي يقع فيها المتعلمون أو غير المتعلمين لا تذهب بنا بعيدًا في فض هذا الخلاف.

وكذلك تشابه الكلمات والمترادفات لا يذهب بنا إلى أبعد من ذلك الأمد، سواء نظرنا فيه إلى شكسبير وباكون أو إلى غيرهما من المعاصرين؛ لأن العصر الواحد كثيرًا ما تسري فيه المصطلحات والصيغ المتشابهة حتى تتكرر بنصها في كلام عشرة من الكتاب والشعراء، ولعلنا نلمس ذلك لمسًا فيما تنشره الصحف كل يوم، وما يردده المؤلفون بين حين وحين في كل كتاب.

وكل ما تقدم لا ينتهي بنا إلى الجزم بنسبة الروايات إلى باكون، أو إلى الجزم بنسبتها إلى شكسبير.

ولكننا مع ذلك نجزم كل الجزم أن الروايات لم يكتبها باكون، وكتبها شكسبير دون غيره.

ودليلنا على ذلك طبيعة كل من الرجلين، كما تتجلى معزولة مفصولة في تواليف هذا وذاك.

فروايات شكسبير هي روايات الرجل الذي عاش كما عاش شكسبير، وأحس كما أحس شكسبير، وليست هي روايات باكون الذي لم تضطرب نفسه قط بخالجة من تلك الخوالج المقيمات المقعدات في نفوس الشعراء. وقد صدق كارليل حين قال: «إن كل ما تجده في باكون من الذكاء هو من طبقة دون ذاك: طبقة مادية إذا قيست إليه.» أي: إلى ذكاء شكسبير.

وفي شعر شكسبير ونثره — عدا هذا الفارق — عشرات من الإشارات الشخصية إلى ماضيه وحوادث زواجه، وخصوماته ومنافساته، وعلاقاته ببعض الرجال وبعض النساء، مما لا نظير له في سيرة باكون أو سيرة أحد من معاصريه، فضلًا عن لغة الفقراء والعامة، التي تشيع فيمن حوله، ولا تشيع فيمن حول باكون من الخاصة المترفعين قليلي الخلطاء بين جمهرة العوام.

ومن أين مع هذا كان لباكون ذلك الوقت، الذي يتسع لكتابة هذه الروايات وهو مشغول بمناصبه وبحوثه ومساعيه ومطالب عيشه؟ ومن أين له بعد هذا كل ذلك العلم الدخيل بحرفة التمثيل، وأفانين المسرح، وترتيب مواقف الأبطال؟

إن السير هنري أرفنغ Henry Irving ثقة في هذا الباب؛ لأنه يحكم فيه حكم الممثل الدارس الخبير، ومن رأيه القاطع الذي استشهد له بكثير من الشواهد «أنه لا يستطيع غير الممثل أن يكتب تلك الروايات».

فأيًّا كان مقطع القول في هذه القضية، فليس مما يرضاه المؤرخ الناقد أن يجعل روايات شكسبير مناط الحكم على مكانة باكون الأديب، فهو لن يدخل إلى عالم الأدب آمنًا مطمئنًّا إلا بمقالاته وفصوله الأخرى التي تشبهها في السياق والتعبير.

•••

وقد كانت له مزية الرائد الأول في هذه المقالات، فإن فن المقالة اليوم في اللغة الإنجليزية فن كامل متقن مستفيض النتاج كثير الكتاب والقراء، ومن الكتاب عندهم من يسمون بالمقاليين؛ لأنهم لا يطرقون بابًا من الكتابة غير باب المقالة على نمطها الحديث، الذي وصلت إليه بعد ثلاثة قرون في التعديل والتخصيص، والفصل بين أدب المقالة وغيره من نماذج الآداب. ولكنها قبل هذه القرون الثلاثة لم تكن شيئًا معروفًا باللغة الإنجليزية، ولم يكن لباكون فيها قدوة مترسمة من الأدباء الإنجليز، وإنما نظر فيها إلى الحكيم الفرنسي مونتين Montaigne الذي سبقه إلى نشر مقالاته بسبع عشر سنة، ثم لم يكن بينهما من الوحدة فيها غير وحدة القالب دون سواه.

فمونتين فياض مسترسل كثير الأغراض متعدد الملامح الشخصية، قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون — على دأبه في جميع حالاته — كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز، ودسومة المادة الفكرية، واجتناب الألوان الشخصية، والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه.

ومما يقال في شروط المقالة الحديثة أنها ينبغي أن تكتب على نمط المناجاة، والأسمار وأحاديث الطريق بين الكاتب وقرائه، وأن يكون فيها لون من ألوان الثرثرة والإفضاء بالتجارب الخاصة، والأذواق الشخصية، وهذا هو الشرط الذي لم يستطعه باكون قط في عمل من أعماله الكتابية؛ لأن الجانب الإنساني فيه مكبوح لا ينطلق زمامه يومًا من يديه، ولم ينس قط أنه «معلم وقور»، وأنه سائس مسئول، وأنه فقيه مطالب بالسمت والرصانة. ولم يحاول الرجل قط أن يكون غير ما كان، أو أن يخالف بالموضوع ظاهر العنوان، فإنه كتب مقالاته وذكر في عنوانها أنها نصائح مدنية وخلقية، فبر بوعده الذي تضمنه هذا الوصف الوجيز. وصدق من قال في وصف مقالاته — ولا سيما الأوائل منها: إنها أشبه الأشياء بالمذكرات التي يدونها صاحبها للمراجعة، وأقرب الكتابة إلى أسلوب «جوامع الكلم»، وأصول الحكم ورءوس العظات، وخليق بأسلوب باكون في هذا الفن خاصة أن يجلو الفارق العظيم بين سليقته، وسليقة شكسبير في المنظوم والمنثور، فما من صفحة من صفحات شكسبير تخلو من لمحة شخصية، ولون من ألوان حياته الداخلية، وما من صفحة في كتب باكون جميعًا تنم على أثر من ذلك إلا بعد جهد جهيد في المراجعة والاستنباط، حتى هذا الفن الذي يتفتح طواعية في قديم الزمن وحديثه للمناجاة، والتبسط بين الكتاب والقراء!

ولم يكن لمقالات باكون أسلوب واحد بل أسلوبان؛ لأنه نشر منها في مبدأ الأمر عشرًا (سنة ١٥٩٧)، ثم زادها إلى ثمان وثلاثين سنة ١٦١٢، ثم بلغت بعد التهذيب والإضافة ثمانيًا وخمسين في طبعة ١٦٢٥؛ أي بعد ثماني عشرة سنة من ظهورها لأول مرة.

وقد لاحظ النقاد بحق أنها كانت في صيغتها الأخيرة أحفل بالبلاغة والزخرف وفنون التخيل والتشويق منها في صيغتها الأولى، واستطرد بعضهم من هذا إلى ملاحظة عجلى ليس فيها بصائب؛ لأنه حسب أن هذا الاختلاف بين أسلوب الشباب وأسلوب الشيخوخة ظاهرة مستغربة لا تجري مع المعهود من طبائع القرائح الإنسانية، فإن القرائح في الناس عامة أخصب بالخيال والرونق أيام الشباب، خلافًا لما بدا من أسلوب باكون في حالتيه على رأي أولئك النقاد.

ولا حاجة هنا على ما نرى إلى مجاراتهم في اختراع بدعة غريبة من بدع القرائح الإنسانية عامة، إذ المألوف في الواقع أن يكون الشباب أقرب إلى تكلف الوقار؛ لأنه مظنة الخفة، وأن تكون الشيخوخة أقرب إلى تكلف الخفة؛ لأنها مظنة الفتور والجمود.

وثمة سبب آخر نرجع إليه قبل الوثوب إلى البدع والخوارق التي لا تشاهد في جميع الأحوال.

فمما لا شك فيه أن باكون قد بدأ تجربته الأولى في فن المقالة، وهو مترفع عنه ناظر إليه نظرة المتحفظ الذي لا يوليه جهده من العناية والاحتفال، وقد كانت له قبل كتابة المقالات فصول تفيض بالتخيل والرونق، كما تفيض بها مقالاته الأخيرة بعد أن عاودها وهو مُعنًى بها محتفل بتنميقها، فليس في قريحته من هذه الناحية ظاهرة جديدة أو غريبة تخالف المعهود والمألوف.

وإنما هو اكتراث بعد تهاون، وإقبال بعد تردد، وما كان هذا التحول من التردد إلى الإقبال بالمستغرب بعد شيوع المقالات، وتسابق الخاصة والعامة إلى مطالعتها والاستزادة منها، وتلاحق ترجماتها بالفرنسية واللاتينية والإيطالية في سنوات قليلة، فقد تغير تقدير باكون لمقالاته تبعًا لتقدير القراء والنقاد، وبدا منه الارتياح إلى رواجها، والإعجاب بها في معارض شتى، فأشار مغتبطًا إلى تكرار طبعها، وقال في خطابه إلى أسقف ونشستر: «إنه لا يجهل أن هذا الضرب من الكتابة يضيف إلى اسمه سمعة وسطوعًا فوق ما استفاده من الكتب الأخرى مع قلة العناء فيه.» وقال في رسالته إلى دوق بكنجهام: «إن المقالات أروج أعماله؛ لأنها على ما يظهر أدنى إلى شواغل الناس وطواياهم.» وقدر لها أن تبقى ما بقيت الكتب في الدنيا، وإن كانت نسختها اللاتينية هي التي قدر لها هذا البقاء! لأنها اللغة العالمية التي يتفق عليها خاصة القراء.

فقد كان الاحتفال إذن بالأسلوب على قدر العناية والتقدير، ولم يكن على قدر الملكة البلاغية التي صحبته ولم تفارقه في الشباب، ولا في الشيخوخة، فأودع فيها كل فنه بعد أن كان يوليها منه الطرف اليسير.

ولكنه الطرف اليسير في الأداء لا في التأمل والتفكير، فإنه قد وفاها حقها من النضج والتمحيص، سواء ما كتبه منها في الكهولة وما كتبه في الشباب.

إنه لنسيج واحد في الأسلوبين، ونصيبهما من الجودة والنظافة وجمال الهندام واحد لا تباين فيه، وإنما التباين كله في التحلية والترصيع، وفي الوشي والتنسيق.

•••

فمقالات باكون في بواكيرها كانت طوائف من المتفرقات الفكرية، تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه فهو غني عن تفصيلها وتوضيحها لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليه، أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال الفكري التي يفهمها المرتاضون على قراءة هذا الضرب من الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه.

ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب، وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه، وطرافة الأمثولة، واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم، وموقعها المنتظر، وتم العجب في أمر باكون خاصة بين كتاب العلية المختارين، فإن الشائع في عالم الأدب أن الجمهور يوجه الكاتب إلى وجهته، ويرى له أحيانًا غير ما يراه لنفسه إذا كان من كتاب الجماهير، ولكنه — أي الجمهور — يعجز عن توجيه العلية بين الكتاب في باب من الأبواب، فينقاد لهم أو يتركهم لما يحلو لهم ويحلو لقرائهم الممتازين، فإذا بكاتب العلية الأول — فرنسيس باكون — يقدم لنا أندر الأمثلة على تجاوب الفهم والشعور بين القراء والكتاب كافة من كل طبقة، ومن كل طراز، ويرينا في غير شك ولا غموض أن الجمهور لا يقف بتوجيهه عند كتابه المنقطعين له، والمقصورين عليه، بل يتعداهم أحيانًا إلى صفوة العلية بين الحكماء والأدباء، فيوجههم تارة إلى الحسن المحمود، وتارة إلى الشائن المعيب … وقد كان توجيهه لباكون في أسلوب المقالات خاصة إلى خير مما اختاره لنفسه الحكيم الأريب.

فقد استخلص منه — بفضل الفهم والإقبال — نخبة ما أبدع واستحق به البقاء، وعاش به بين العلية والسواد على السواء، فخرجت المقالات على صورتها المهذبة ذخرًا لا يفوقه ذخر أدبي في وفرة جواهر البلاغة، ونصاعة خواطر التفكير، وكثرة ما يصلح منها للاقتباس؛ حتى ليوشك أن تتلاحق العبارات كلها صالحة للتمثيل والاستشهاد، وهي على تكرار بعض الشواهد والأماثيل فيها ليست مما تمل فيه الإعادة لوقوع كل تكرار في موقعه الذي لا يغني فيه سواه.

وليقل من شاء ما شاء في شروط المقالة كما اصطلح عليها النقاد والكتاب المقاليون، فهذه المقالات تؤخذ على نمطها الفريد ولا يضيرها أن تخالف به سائر الأنماط، وليس من اللازم أن تتوافى المقالات جميعًا على السنة الشائعة في عرف النقاد والقراء، ففي غير النمط الشائع مجال للخصوصيات المتفردة على حسب القرائح والطبائع والموضوعات.

وإذا كان باكون قد ابتعد بالمقالة عن نمط الحديث والفكاهة، فإنه قد علا بها صعدًا ولم يهبط بها إلى قرار دون ذلك القرار؛ لأنه اقترب بها من ترتيل الذاكرين وتنسيق الشعراء، فكان نثره أجدر كلام أن ينسقه شاعر مبين.

ليس باكون بشاعر على التحقيق.

أو هو ليس بالشاعر حين يكون الشعر جيشانًا في الحس، وقلقًا في البديهة، ونفاذًا إلى أغوار الضمير، وخيالًا يحلق في السماوات ويغوص إلى الأعماق.

ولكنه شاعر لا ريب حين يكون الشعر لمعانًا في الخاطر، وجمالًا في التشبيه وانتظامًا في النسق، ويقظة في البديهة، وكذلك كان في أسلوب المقالات.

وكذلك كان فيما نظم من القصيد، وهو قليل.

ومن هذا القليل قصيدة نترجمها هنا؛ لأن ترجمتها تفسر لنا ما عنيناه بذلك القسط الشعري في كلامه المنثور، فلا فرق بين ترجمة شعره ونثره، إذا زال الوزن والقافية من قصيدة المترجم إلى لغة أخرى؛ لأن بلاغته الشعرية كلها مما يسهل تحصيله في النثر البليغ.

قال من قصيدة عنوانها «الدنيا فقاعة» حين جرب تقلب الأقدار وطوارق الأخطار:

الدنيا فقاعة، وحياة الإنسان أقصر من مدى الشبر! وضيع في حمله ووضيع من رحم أمه إلى مثواه، وعليه اللعنة من مهده حيث يتربى مع السنين على الهموم والدموع! فهل من يركن إلى الفناء الهزيل، إلا كمن ينقش على الماء أو يخط على التراب؟

***

لكنك تسأل: أي الحياة — ونحن مثقلون هنا بالأحزان — خير وأشهى؟
فالقصور مدارس يلغو بها أطفال العقول.
والريف جحور لأناس من الوحوش.
وأين هي المدينة التي عرت من أدران الفساد.
حتى لا يقال فيها: إنها وايم الحق لشر الثلاث؟

***

هموم البيت تقض على الزوج مضجعه، أو توجع رأسه.
والذين يعشون في العزوبة يحسبونها نقمة، أو يصنعون ما هو شر وأدهى، وأناس يتمنون الذرية، وأناس عندهم الذرية ويضجون منها أو يسألون لها الزوال.
فما العزوبة إذن وما الزواج، إلا العزلة الموحشة أو العناء المضاعف.

***

المقام في الدار داء، والرحلة إلى الغربة خطر وعناء.
والحروب ترعبنا بوغاها، والسلم نحن فيه أضل سبيلًا.
فماذا بقي لنا بعد إلا أن نصيح وجلين:
ليتنا لم نولد، أو ليتنا إذ ولدنا نموت!

وليس في هذا الشعر — بعد تجريده من الوزن والقافية — معنى لا تحتويه مقالة أو كلام منثور.

•••

ولعل باكون كان يتمنى لقريحته نصيبًا شعريًّا أوفى من هذا النصيب؛ لأنه عظم الشعر كما لم يعظمه أحد من علماء زمانه وذوي الرئاسة بين أقرانه، فقال في بعض وصاياه إلى اللورد «إسكس» صديقه أولًا وغريمه بعد ذاك: «إن قصائد الشاعر تعيش ولا تضيع منها كلمة بعد أن تنطوي الدول والحكومات، بأجيال وراء أجيال … وإنها لتصعد على مرتقى من الزمن يستكشف المقبل من الزمان.»

ولا نخال باكون قد صرف هذا التعظيم إلى الشعر الذي ينسب إليه ومنه تلك القصيدة التي قدمناها. ولكنه عظم به ما كان يقدره من كلام غيره، وما كان يتمناه لنفسه ولا يصل إليه.

وكفى بتلك القصيدة وحدها دليلًا على الفارق الواضح بين الكاتب باكون، والشاعر شكسبير، أو دليلًا على المكان الذي يتبوَّءُه الكاتب باكون من ديوان الأدب الخالد، وهو مكان الأديب الموهوب والناثر البليغ، والشاعر اللبق فيما يحتويه النثر الجميل ولا يزيد عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤