ثالثًا: الطبيعيات الكونية
بعد جدل الإنسان والطبيعة ينشأ جدل الإنسان والكون، وبعد الطبيعيات الجسمانية تبدأ الطبيعيات الكونية على نحو علمي في علم الفلك عند الكِنْدي والفارابي قبل أن تتحول إلى علم التنجيم عند إخوان الصفا. فالطبيعيات الكونية نوعان، علمية في علم الفلك ضد أحكام النجوم، وإشراقية في علم التنجيم.
ويمثل هذا الموضوع عنصر الربط بين الطبيعيات والإلهيات ويبرهن مرة أخرى على أنهما علم واحد. فعلم التنجيم هو الصورة غير العلمية لعلم الفلك. ويتعلق بأثر العالم العلوي، الكواكب، على العالم السفلي، الأفعال والشرائع وأوقات الدعاء والتضرع والمواليد والسياسة والملك. علم الفلك علم طبيعي علمي، وعلم التنجيم فكر أسطوري عن تصور أن النجوم والكواكب لها قدرة نسبية أو مطلقة في حياة البشر طبقًا للثقافة القديمة مثل ديانات الصابئة، عبدة الكواكب التي كان عليها قوم إبراهيم. الأشكال في الأجسام الفلكية تدل على أن الطبيعيات والإلهيات علمٌ واحد لأنها صور بسيطة لا مزاج لها، وفي نفس الوقت متصلة بالعالم السفلي لأنها في مادة.
(١) من علم أحكام النجوم إلى علم الفلك
(أ) رفض علم التنجيم الكِنْدي
وقد بدأ ذلك الكِنْدي في نظرية الخلق. فالعالم عالمان، ولا واسطة بين الاثنين إلا عن طريق الفعل والعمل الصالح بحيث ينتقل الإنسان من العالم إلى الله أو من المتناهي إلى اللامتناهي أو من الدنيا إلى الآخرة بجهده وعمله، وهو ما سُميَ في علم أصول الدين الطاعة وتجنُّب المعصية وفي علم أصول الفقه التزام الأوامر وتجنُّب النواهي.
والسؤال هو: هل هناك أوقات خاصة للدعاء والتضرع أم أن الدعاء والتضرع ممكن في كل وقت؟ هل الدعاء فقط وقت الشدة والحاجة فإذا أذهب الله الشدة ولبَّى الحاجة كأن الدعاء لم يكن بالأمس؟ لو كانت هناك أوقات دون أوقات غير ليلة القدر ويوم الجمعة ووقت الحج أو في أماكن معينة مثل المسجد أو البيت الحرام وما هو معلوم بالشرع هل يمكن معرفتها؟ وإذا أمكن ذلك فهل الطريق إليه التنجيم؟
كان الموضوع مطروحًا في البيئة الثقافية القديمة نظرًا لانتشار الإسلام بين ديانات منها الصابئة الذين جادلهم إبراهيم من قبل مما ساعد على التحول من التنجيم إلى علم الفلك. والسؤال ما زال مطروحًا نظرًا لوروده في الثقافة الشعبية بالرغم من وجود علم الفلك وعلم الجغرافيا البشرية. ما زالت الخرافة والسحر والطلاسم والأحجية ممارسات شعبية في حاجة إلى فلسفة جديدة ضد الوسائط بين العالمَين.
وقد ستر المنجمون علومهم بالرمز لاجتنابها على أهل العلم بل كي لا يطلع السفهاء والجهلاء عليه فيستعملوها في شهواتهم وفيما يضر ولا ينفع. فهل يظل العلم سرًّا على منجمي السلطان؟ وإذا كان التنجيم سرًّا فكيف ذاع إلى هذا الحد حتى أصبح جزءًا من الثقافة الشعبية؟ وهل يظل مقياس النفع والضرر بأيدي المنجمين؟ قد يتحول المجتمع كله إلى مجتمع تنجيم، ويصبح لكل أسرة منجمٌ كما أن لكل أسرة طبيبًا بشريًّا أو نفسيًّا. هل هناك مقاييس واحدة أم أنها تختلف باختلاف الوضع الاجتماعي والسياسي، فمصلحة الغني غير مصلحة الفقير، ومصلحة الحاكم غير مصلحة المحكوم، ومصلحة القاهر غير مصلحة المقهور؟ وهو علم باطل لا يستند إلى علوم طبيعية عملية أو إلهية نظرية؟
يرى الفلاسفة الموحدون الذين هم على غير ملة الإسلام من جهة الشرائع الوضعية أن الكواكب إذا كانت على هيئة مقبولة يُقبل دعاؤُها في ميلها، ويُستجاب. فهي الوسائط بين الإنسان والله، خاصة المشتري. لذلك يعلون لكل كوكب من الكواكب السبعة هيكلًا يقدمون له القرابين ويعمرونه بإقامة السدنة فيه. فلما انقرض الفلاسفة الموحدون أتى بعدهم قوم معادون للفلسفة، اتخذوا لكل كوكب أصنامًا عبدوها. وكانوا يقربون ويصلون لها كوسائط بينهم وبين الكواكب على غير ما رأى الفلاسفة. بعد انقضاء التوحيد الفلسفي تحولت الكواكب كوسائط إلى عبادة الأصنام. فالتوحيد الفلسفي هو الحافظ للشريعة. فعند الكِنْدي عبادة الأصنام تالية تاريخيًّا للفلسفة مع أنها سابقة عليها؛ لأن الكِنْدي يتصور التاريخ في انهيار، السلف خير من الخلف، والمتقدمون أفضل من المتأخرين.
واعتبار الكِنْدي الفلاسفة من الموحدين يبين أن التوحيد ليس خاصًّا بالمسلمين ولا بالوحي. التوحيد حقيقة سابقة على الإسلام وعند أمم لم تتلقَّ الوحي. وهذا هو التوحيد الطبيعي. ويكون توصُّل الفلاسفة قبل الإسلام وخارج الوحي إلى التوحيد دليلًا على اتفاق الفلسفة والدين. وإذا كان الاتفاق بين البشر في التوحيد ممكنًا بصرف النظر عن العقائد فإن الخلاف بينهم في الشرائع الوضعية وحدها، الاتفاق في النظر والاختلاف في العمل، الاتفاق في العقيدة والاختلاف في الشريعة. تتفق الفلسفة والدين إذن على إمكانية التعرف على وقت استجابة الدعاء. إنما الخلاف في السبيل، في الدين مباشرة بين الإنسان والله، أم في الفلسفة عن طريق الكواكب كوسائط بين الإنسان والله. الاتفاق في الحكم والاختلاف في التعليل. وقد تكون هناك خطورة على التوحيد نفسه بعبادة الكواكب وكأن النتيجة تفرض مقدمتها، والشريعة تفرض عقائدها.
- (١)
يقوم التنجيم على الخلط بين الأعلى والأدنى في مسألة العلل. فهناك دلالة للقوى السماوية على ما تحتها أي عالم الكون والفساد، أما على فوقها من العالم السفلي فلا. أوقات العالم السفلي محدودة في حين أن أوقات العالم العلوي غير محدودة. العالم العلوي لا يتوقف على إرادة الإنسان واختياره لأنه معلول لا لعلة.
- (٢)
يستحيل معرفة أوقات الدعاء والتضرع إلى الله من جهة التنجيم. والدعاء هو تحرير الإنسان من الأسباب والعلل القريبة إلى الأسباب والعلل البعيدة. حل الفقر ليس في الإحسان بل في إعادة توزيع الدخل. وحل الاضطهاد ليس في التقرب إلى الرئيس بل في إعادة تنظيم المؤسسة بقانون عادل. وحل الإسكان ليس في التقريب إلى مدير الإسكان أو وزير الإسكان بل في وضع سياسة قومية للإسكان، وجعل العرض أكثر من الطلب. اللجوء إلى العلة الأولى تبخير للمشكلة الاجتماعية وتحييد للصراع وإلغاؤه.
وكيف تستطيع الكواكب تلبية كل هذه المطالب؟ وماذا لو اختلفت المطالب بين الأفراد؟ وكيف يمكن التوفيق بينها وتلبيتها كلها؟ وماذا تطلب الكواكب في المقابل، عمل صالح، تقوى باطنية، تنفيذ الطاعات وتجنُّب المعاصي؟ وماذا عن الكواكب الجديدة التي لم يتمَّ اكتشافها هل هي قادرة بأوضاعها على تحقيق نفس المطالب أو مطالب جديدة؟ وإذا كان الجهل بها لا يعني عدم وجودها، فهل هي موجودة دون وظائف تؤديها؟ ألا يجعل ذلك للكهان والمنجمين السلطة في المجتمع والسيطرة عليه؟ ألا يستطيع السلطان شراءَهم كشراء العلماء؟
وهل من المعقول أن يكون لكل طلب ميل؟ ومَن الذي حدد هذه العلاقة بين الطلب والميل؟ وهي كلها طلبات فردية، مادية اجتماعية تعبيرًا عن حرمان ورغبة في الإشباع دون أن يوجه طلب جماعي لنهضة أمة وتحقيق مطالبها القومية في الحرية والاستقلال أو نصرة جيوشها وتحرير أرضها والدفاع عن كرامتها. لا توجد مطالب معنوية بالإضافة إلى المطالب المادية، ولا توجد مطالب أخروية، وهي أقرب إلى الإيمان، بالإضافة إلى المطالب الدنيوية. وإذا كان التنجيم صحيحًا فما بال المسلمين الآن مضطهدون مستغلون محتلون مهمشون وهم أهل صناعة وتنجيم وأهل دعاء واستجداء وما سماه إقبال فلسفة السؤال؟ وما بال الغربيين الذين عرفوا الأخذ بالأسباب ورفضوا التنجيم متقدمون مستقلون أقوياء؟ وإذا كان يمكن تحقيق المال بالدعاء في وقت اتصال القمر بالمشتري من بيوت الزهرة فلِمَ الناس فقراء، يموت منهم الآلاف جوعًا وقحطًا في أفريقيا وآسيا؟ وإذا كان طلب الأهل بالدعاء في وقت اتصال القمر بالزهرة من بيوت المشتري فهل يجوز الدعاء في ذلك الوقت والأمة تعاني من زيادة السكان دون دعاء؟ وإذا كان الطلب هو المساكن والعقارات بالدعاء في وقت اتصال القمر بزحل فلماذا تتفاقم أزمة الإسكان والمضاربات في العقار كوسيلة للكسب السريع ورشاوى البلديات وحيتان الأحياء؟ وإذا كان الطلب للرتبة والرئاسة بالدعاء في وقت اتصال القمر بالمريخ فلماذا يكثر العداء والكل يتسابق نحو الرياسات، ويستأثر بها دون غيره فلا يتركها إلا موتًا أو اغتيالًا؟ وإذا كان الطلب للعلم والكتاب بالدعاء وقت اتصال القمر بعطارد فلمَ الجهل المتفشي في الأمة حيث تزداد نسبة غير المتعلمين أكثر من النصف، وحيث العلماء إما فقهاء السلطان أو فقهاء الحيض والنفاس باستثناء القلة؟ وإذا كان الطلب للوزارة والقضاء والفتيا بالدعاء في وقت اتصال القمر بالمشتري فلمَ إطالة الدعاء حتى تكالب الناس على المناصب، وطالت طوابير الانتظار؟ وإذا كان الطلب الملك أو الدعاء وقت اتصال القمر بالشمس وسط السماء فلمَ طال الدعاء واستأسد الملوك من قريش والجيش؟ وإذا كان الطلب ولاية عهد أو نقلة وحركة بالدعاء وقت القمر في موضع عز ومسعود فلمَ إطالة الدعاء حتى أصبح الكل في قوائم الانتظار؟
وهناك عدة تساؤلات حول نقد الكِنْدي لعلم التنجيم بالرغم من أهميته في درء الوسائط بين الإنسان والله دفاعًا عن التصور الثنائي بين الله والعالم. إذ يبدو أن الكِنْدي متعاطف مع التنجيم بصرف النظر عن نقده له. فالنقد الوحيد في التعليل بالوسائط نقدٌ خارجي دون نقد داخلي. فلماذا تخصيص الكواكب ببعض الأعمال دون البعض الآخر؟ لماذا أسعد الكواكب المشتري والزهرة؟ لماذا المشتري في الطالع لابتداء الدعاء، والزهرة في الرابع لصالح العاقبة في الدعاء؟ بالرغم من نقد الكِنْدي للتنجيم ظل في الثقافة الشعبية في حساب الأفلاك والبروج وحظك اليوم، وما زال مؤثرًا في حياة الناس اليومية. وكيف يمكن حساب الميل وما نسبة الخطأ فيه؟ وماذا عن عامة الناس غير القادرة على حساب الميل؟ ماذا عن اختلاف المنجمين في الطوالع؟ ماذا يفعل الداعي، وأيهم يُتبع؟ ألا يؤدي ذلك إلى إنكار الأسباب الدنيوية؟ ليست الأمور سهلة إلى هذا الحد. والنظر إلى أعلى فيه خطر على حياة الناس دون النظر إلى أسفل، النظر في الكواكب دون الأخذ بالأسباب. الدعاء مجرد إشراق وتعويض ويأس من صلاح الدنيا كما هو الحال في التصوف، الطريق إلى الآخرة بالطلب دون الفعل، ليس للدنيا دعاء وللآخرة دعاء. ولماذا يكون الدعاء باستمرار للدنيا، المواليد والأرزاق والمناصب والدول وليس للعفو عن العقاب وطلب الثواب في الآخرة؟ الدعاء استجلاب للرزق في الدنيا والفوز في الآخرة ضد قانون الاستحقاق، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وماذا عن الإضرار بالآخرين والدعاء عليهم. وهل منع الدعاء من وقوع الفقر والموت والجهل وكل شرور الدنيا؟ وهل هناك أوقات للدعاء والتضرع دون أوقات أخرى أم أن الدعاء والتضرع إلى الله في كل وقت، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ؟
إن الكهانة، علمًا وعملًا، تتعارض مع الشرع لأنها تقوم على التوسط بين الإنسان والله بعد أن تصدَّر الكهان مكان أهل الفتيا والرأي. بل إن الشرع أمر بقتل المنجمين. فالتوسط شرك بالله. والله مجيب الدعاء دون ما حاجة إلى توسط الكواكب أو غيرها. كل شيء يحدث في العالم من خير أو شر، نفع أو ضرر فبإرادة الله قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا. كما ترى بعض الآثار الأخرى مثل «السعيد مَن سعد في بطن أمه، والشقي مَن شقي في بطن أمه.» وبالتالي يتم تصحيح خطأ بخطأ آخر. والكواكب في القرآن مطيعة لله وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
(ب) نقد أحكام النجوم (الفارابي)
- (أ)
أمور ضرورية موجودة هي أجرام الكواكب وأبعادها وهو جزء من علم التعاليم.
- (ب)
أمور ممكنة مثل تأثيرات أمكنة الكواكب في كيفيات الطبيعة الأرضية إذا لم يمنعها مانع مثل التسخين، وهو جزء من علم الطبيعة.
- (جـ)
أمور منسوبة إلى الكواكب بالظن والموضع وبطريق الاستحسان والحسبان كمَن ظن أن كوكبًا متى قارن أو اتصل بكوكب استغنى بعض الناس، وحدث به حادث. وهي أمور اتفاقية ليس لها أسباب معلومة، لا يمكن ضبطها، ولا تنفع فيها التجارب، ولا يمكن معرفتها بالبحث. وليس السبب في ذلك قصور الإنسان عن إدراكها، وامتناع تقدمة المعرفة بها. ولا يعني ذلك إيمان الفارابي بالاتفاق وإنكار السببية بل هي أمور عرضية لا عليَّة بينها ولا سببية فيها.
يبدأ الفارابي بفعل الأجسام السمائية في الأجسام التي تحتها، وتسلسل آثار أوضاعها وأحوالها. وهو ما يستند إلى علم التعاليم وعلم الطبيعة، ووصف مضادات التأثيرات والموانع في عالم الأرض فالعلاقة بين العالمين علاقة تفاعل متبادل، وليست أحادية الطرف من أعلى إلى أدنى فحسب. وقد كان الأقدمون على رأيه. وقد وضع القدماء علامات في السعد والنحس على طريق الألغاز والرموز من أجل إشراك الجمهور. وهي مثالات وتخيلات وإيماءات إلى الأمور التعليمية والطبيعية. وفي هذه الحالة تكون صحيحة. الأولى من أجل إثبات التراث العلمي حول موضوع دراسة الفارابي ربطًا للحاضر بالماضي، والثانية تأويلها على أنها مثالات وتخيلات وإيماءات حتى تتفق مع الرأي العلمي الصحيح الذي يمثله الفارابي. فتقدم العلم من المثال إلى الحقيقة ومن الخيال إلى الواقع، ومن الرمز إلى الدلالة، ومن المجاز إلى الحقيقة، ولا يوجد ذكر لاسم علم يوناني أو غيره. وألفاظ «الأقدمون» و«القدماء» لا تشير إلى اليونان خاصة بل إلى جميع القدماء بما فيهم الشرقيون.
وهو موقف أكثر جذرية من الكِنْدي الذي كان يرى أنه يمكن قبول أصل دلالة الأحكام على ابتداعات الأعمال، وإن استعمل الرمز كان من أجل حصر منافع العلم على المستحقين وستر الصناعة عن الجهال. أما الفارابي فيرفض ذلك. فإما أن يقبل الإنسان أن تكون الصناعة صحيحة. وهذا يتطلب القول بأنها مثالات لأمور تعاليمية وطبيعية أو أن تكون كاذبة إن لم تكن صناعة طبيعية بل صناعة يحكم بها المنجم على السعد والنحس للأعمال الإرادية المروية. وقد يقبل الفارابي حصر الصنعة في الأشياء الطبيعية بما في ذلك مزاج الإنسان ولكنه يرفض صحة الأحكام على الإرادات التي تكون من روية وفكر.
- (١)
عدم الاتفاق مع العلم الطبيعي والتحليل العلمي الذي يقوم على التجربة لأثر الأجسام العليا في الأجسام السفلى عن طريق التسخين مع إضافة الزمن لقياس قدر الحرارة. وعلى هذا النحو وحده يمكن التنبؤ بالمستقبل. وعلى هذه الجهة فقط تصح أحكام النجوم. والأثر من العالم العلوي ليس أُحاديَّ الطرف، ومن أعلى إلى أدنى بل على التبادل فقد يكون هناك عائق طبيعي من العالم الأرضي أو إرادي من العالم الإنساني يجعل الحكم محتمل الوقوع وليس ضروريًّا. وهناك عوامل مضادة وعقبات تؤخذ في الاعتبار. فالعلل المضادة في الطبيعة توحي بجدل الطبيعة وصراع الأضداد فيها. كما أن أثر الأجسام العلوية على الأجسام الأرضية يحدث على المستوى الطبيعي وربما يحدث في أمزجة الناس باعتبارها طبيعة والإرادات الناشئة عنها. فأما الإرادات التي تكون عن روية وفكر صحيح فلا يحكم عليها بشيء من جهة الأجسام السمائية لأنها تعبِّر عن حرية الإنسان التي لا تخضع لجدل الطبيعة.
- (٢) عدم الاتفاق مع علم التعاليم، فحركة الأجسام العلوية تتم طبقًا لقوانين رياضية. وإذا قصد القدماء علامات على طريق الألغاز والرموز والمثالات حتى يشترك الجمهور معهم فهي صحيحة ما دامت مجرد أسلوب في التعبير مجازًا لا حقيقة للتقريب إلى الأذهان. وأما إن كانت حقيقة فكاذبة عند أصحاب التعاليم. ويفيض الفارابي في المقياس الطبيعي أكثر مما يفيض في المقياس الرياضي. فهو ليس عالم رياضيات وإن كانت الطبيعة عنده علمًا إنسانيًّا.٩
واضح أن الموضوع كان أزمة نفسية وفكرية في البيئة الثقافية القديمة. ويدل على ذلك مقدمة السائل وكأنها «المنقذ من الضلال» في البحث عن الحقيقة. فالعلوم أزمات وتجارب حية وليست نقلًا ميتًا. وكانت أيضًا تجربة معاشة عند الفارابي. والرسالة مكتوبة بأسلوب العقليِّين ابتداءً من وضْع عنوان دال على المسألة حتى ولو كان طويلًا كما هو الحال في كتُب فلسفات التاريخ أو بدايات العلوم مع مدخل منهجي للموضوع. فحلُّ الموضوع في المنهج، وتناول الموضوع من أعلى كبنية وليس كأجزاء تفصيلية متناثرة هنا وهناك. ولا توجد إحالة إلى الوافد علمًا أو مؤلفًا. وذكر القدماء على الإطلاق مرة واحدة، اختلافهم في الأجرام العلوية هل هي مضيئة بذواتها أم أنها تستمد نورها من الشمس. ولا يهمُّ الخلاف. فكلا الرأيين مقبولان. ولا يؤثر اختلافهما في المقصود، وهو التحقق من صدْق الأحكام، علمًا أو وهمًا.
وتبدأ التذاكير بعدة مقدمات منهجية عامة حول الموضوع والمنهج؛ إذ إن فضيلة العلوم والصناعات إنما تكون من حيث شرف الموضوع مثل علم النجوم أو شرف المنهج واستقصاء البراهين مثل علم الهندسة أو شرف النتيجة وعظم الجدوى الحاضرة أو المستقبَلة مثل العلوم الشرعية. والصنائع عند كل قوم وفي كل زمان، جمعًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا تشرف العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية من حيث منفعتها وتحقيقها للصالح العام. وقد تجتمع هذه النواحي الشريفة الثلاث في علم واحد مثل العلم الإلهي الذي يجمع بين شرف الموضوع، الله، وشرف المنهج، العقل، وشرف النتيجة، التقوى. فهل شرف الموضوع يجعل الكواكب أفضل من النبات والحيوان، والسماء أفضل من الأرض؟
وقد يأتي الغلط من الأسماء المشتركة فيحكم على شيء بشيء آخر يختلف معه لمجرد اشتراك الاسم؛ فالأحكام النجومية مشتركة بين الضروري كالرياضيات (الحسابيات والمقادير)، والممكن على الأكثر، والطبيعيات (التأثيرات الكيفية والكمية)، والإنسانيات (الظنيات، أي الوهميات عند حدوث شيء فيظن أنها حدثت لاقترانات الكواكب). وكل علم مخالف للآخر، الرياضيات والطبيات والإنسانيات. ولا تشترك إلا في اسم الأحكام النجومية. فالاقترانات من نوع الظن والحسبان. ومن هنا ينشأ الالتباس عند الجهل بأنواع العلوم وعلى رأسها البرهانية. وهو مدخل لغوي لمعرفة أسباب الغلط في المنهج وفي الموضوع.
وبعد أن يحلل الفارابي الأخطاء من جانب الذات العارفة يحلل الأخطاء من جانب موضوع المعرفة، أي العلية. فما يحدث في العالم نوعان: الأولى له أسباب كالحرارة من النار والشمس توجد للأجسام المجاورة والمهادنة. والثاني أمور اتفاقية ليست لها أسباب معلومة؛ كموت الإنسان عن طلوع الشمس أو غروبها. فكل أمر له سبب معلوم يمكن أن يُعلم ويُضبط ويُعرف؛ لأن الأجرام العلوية عللٌ له. وكل أمر من الأمور الاتفاقية لا يمكن أن يُعلم ويُضبط ويُعرف؛ لأن الأجرام العلوية ليست أسبابًا له. توجد إذن أشياء اتفاقية والخطأ من الذات العارفة في الربط بين شيئين لا رابط بينهما.
قد لا تكون العلية ضرورية إلا باجتماع مؤثر ومتأثر، فاعل ومنفعل. وكلما كان التهيؤ والقبول للتأثير أكبر كان الفعل أتمَّ. ولولا بعض التمنع في المنفعل لكان الفعل ضروريًّا. العلية إذن ليست حتمية بل احتمالية، على الأكثر طبقًا للعادة. ومن ثَم يبطل علم النجوم لأنه يجعل العلية اتجاهًا واحدًا، من العالم العلوي إلى العالم السفلي، منكرًا التفاعل بين العالمَين، ومعارضة العالم السفلي أو على الأقل استعداده وقابليته للانفعال أو معارضته.
إن أثر الأجرام العلوية عن طريق الضوء المستمد من حرارة الشمس موضوع للعلم الطبيعي. واختلاف القدماء حول الأجرام هل هي مضيئة بذواتها أم لا، لا يهمُّ أيضًا ولا يؤثر في موضوع الأحكام النجومية. كما أن أثر الأجرام المضيئة على الأجسام السفلية واختلاف الأثر بين الضعف والقوة طبقًا لاجتماع الكواكب أو انفرادها موضوع للعلم الطبيعي. الاجتماع يقوي الضوء، والانفراد يضعفه، بالإضافة إلى فاعلية الجسم ومقدار تهيئته للأثر؛ لأن الأجسام متفاوتة القبول. هناك إذن عاملان للتأثير: قوة الفاعل أو ضعفه، والتهيؤ لقبوله أو رفضه، بالإضافة إلى عامل الزمان والمدة وتعاقب الأزمنة والمدد.
والحكم بأن زحل أبطأُ الكواكب والقمرَ أسرعها لماذا لا ينقلب إلى الضد، وأن يكون زحل أسرعها لأن ساحته أطول، والقمرُ أبطأَها لأن مسافته أقصر؟ وهذه أخطاء علمية في رصْد الكواكب وحساب حركاتها بالإضافة إلى قرائن وأسباب بين العالمَين الأعلى والأدنى، لا وجود لها.
وكثيرًا ما تقع أشياء في العالم لا عن ضرورة بل عن اتفاق. ويُخطئ الإنسان في عقد قرانات بينها. تحدث في العالم أمور كثيرة مختلفة، خير وشر، محبوب ومكروه، جميل وقبيح، نافع وضار، بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى؛ مثل حركات البهائم وأصوات الطيور، بالإضافة إلى كلمات مدونة ونصوص مقروءة، بالإضافة إلى سهام منشورة وأسامٍ في مقابل حركات النجوم. قد تقع مصادفات ومناسبات بينها يقاس عليها مع أسماء يعجب السامع لها والتأمل فيها. كلُّ ذلك لا عن ضرورة أو وجوب إنما عن اتفاق محض.
أحكام النجوم إذن نتيجة وضْع الإنسان قياسات وارتباطات بين أمور كثيرة لا علاقة بينها بين العوالم العلوية والعوالم السفلية نتيجة لضعف العقل والجهل بالطبيعة. وذلك ناتج عن ضعف ذاتي أو ضعف عرضي؛ فالضعف الذاتي مثل نقص التجارب لحداثة السن أو غباوة الطبع، والعرضي مثل غلبة بعض الآلام النفسية، مثل الشهوة المفرطة أو الغضب أو الحزن أو الخوف أو الطرب. الأحكام النجومية إذن نتيجة الجهل أو الاغتراب وسيادة الانفعال والخروج عن الموقف الطبيعي في العالم.
إنه أمر اتفاقي أن يحدث كسوف فيموت ملك. ولو صح هذا الحكم واطَّرد كلما حُجب ضوءُ الشمس حدثت مصيبة، لوجب أنه في كل مرة يُحجَب ضوء الشمس بحجاب أو بقمر فإنه يموت ملك أو تحدث مصيبة. وهذا ما تنفر عنه طباعُ المجانين والعقلاء على حدٍّ سواء. يستعمل الفارابي مقياسَ اطراد قوانين الطبيعة والبداهة العقلية لنقد أحكام النجوم، وبيان أنها عملية نفسية، حجب الضوء يساوي الظلام، يساوي السواد، يساوي الشر. وهو نوع من شعر الطبيعة وصور فنية للتعبير والتأثير تكشف عن ضيق نفسي، وجهل بالعلم، وميلٍ إلى الخرافة.
وعلى افتراض أن القمر وسائر الكواكب دالة على الأمور التي وصفها أصحاب النجوم في السبب في جعل الأمور الخفية المستور في وقت اضمحلال ضوء القمر؛ لأن ضوء القمر على حالته لم يتغير ولم تلحقه زيادة ولا نقصان إلا بالقياس إلينا وليس في ذاته. فأحكام النجوم خاطئة لأنها تتصور الذاتيَّ موضوعيًّا. كذلك الكواكب والشمس في ذواتها ليست حارة ولا باردة ولا رطبة ولا يابسة باتفاق العلماء.
فماذا يعني الاحتراق الذي ادَّعاه أصحاب النجوم في الكواكب التي تقترب من الشمس؟ كما أنهم جعلوا الشمس دليلًا على الملوك والسلاطين، وعطارد دليلًا على الكتبة. ومَن كان طالعه قريبًا من الشمس كان قريبًا من السلطان. ومع ذلك جعلوا ذلك منحسة. ومن ثَم لا قياس ولا اطراد بل مجرد صور فنية، الشمس تسطع مثل الملك شمس الملوك، بدليل رؤيا يوسف، وسجود الشمس والقمر والكواكب له، وبدليل الشعر العربي:
إن الأجرام العلوية بإجماع العلماء وأولي المعرفة بالحقائق غيرُ خاضعة للكون والفساد، وغير قابلة في ذواتها للتأثيرات والتكوينات ولا اختلاف في طباعها. وهناك خطأ آخر في القياس؛ إذ لو وجب أن يكون كلُّ لون من الكواكب مثل لون المريخ شبيهًا بلون الدم دليلًا على القتال وإراقة الدماء لوجب أن يكون كل ما لونه أحمر في الأجسام السفلية كذلك، وهو أقرب وأكثر عقلانية، ووجب أن تكون سرعة الأجسام السفلية أو بطؤها دليلًا على السعد أو النحس فيها. فهي أقرب من الأجسام العلوية وأشد اتصالًا وربما أثرًا.
وهناك خطأ في التشبيه أو التمثيل عندما وجد المنجم في تعديد البروج بداية بالحمل، فحكم بالحمل على رأس الحيوان خصوصًا الإنسان، وعلى الثور الذي يتلوه بالعنق والأكتاف إلى أن ينتهيَ إلى الحوت والحكم به على القدمَين. فالحوت متصل بالحمل، والقدمان غير متصلتَين بالرأس. الحكم غير مطرد. أعضاء الحيوان على الاستقامة، والبروج على الاستدارة. وكلها أحكام غير علمية لا يرد عليها إلا بأمثلة مثلها على نفس المستوى، ضعفًا بضعف، وسخفًا بسخف، ومعاندةً بمعاندة.
إن الأمور الممكنة التي يتساوى وجودها مع عدمها، وليس وجود أحدها أولى من الآخر، لا يجوز القياس عليهما؛ لأن القياس تكون له نتيجة واحدة فقط إما موجبة أو سالبة. والقياس الذي يُنتج الشيءَ وضدَّه لا يُفيد علمًا. إنما القياس يُفيد وجودَ الشيء أو عدم وجوده دون أن يُحيلَ الذهن إلى طرفَي النقيض؛ لأن الذهن متوقفٌ قبل القياس بين وجود الشيء وعدمه. فإن لم يُنتج القياسُ أحدَ النقيضين فإنه يكون باطلًا. وهذا هو حال أحكام النجوم التي تتكافأ فيها الأدلة، واستحالة تغليب حكمٍ على آخر ومن ثَم لا يصح عليها القياس، ولا تُفيد العلم.
ولما كانت الأمور الممكنة مجهولة سُمِّيَ كلُّ مجهول ممكنًا. والحقيقة أن كلَّ ممكن مجهولٌ وليس كلُّ مجهول ممكنًا. وقد خلط الوهمُ بين القضيتَين وجعلهما متساويتَين، وسُمِّيَ كلُّ مجهول ممكنًا؛ لأن كلَّ ممكن مجهول، ووقع خلطٌ بين الممكن والمجهول. والممكن يقال بنحوَين: ممكن في ذاته، وممكن بالنسبة لمَن يجهله؛ وذلك من أجل الاعتراف بالمجهول، وهي أحكام النجوم، دون جعلها ممكنة.
وأكثر الناس الذين لا حيلة لهم لما وجدوا أمورًا مجهولة بحثوا عنها وطلبوا علمها حتى وصلوا لها، وصارت لهم معلومة فأحسنوا الظن بما هو ممكن بطبعه، وظنوا أنهم يجهلونه لقصورهم عن إدراك سببه، وأنه يمكن معرفته بالبحث والتفتيش مع أن الأمر في طبيعته ممتنع أن يكون به تقدمة معرفته؛ إذ إنه ممكن في الطبيعة. وما هو ممكن في الطبيعة يكون غير محصل، ولا يُحكم عليه بوجود أو بعدم. وأحكام النجوم من هذا النوع. قد يكون ذلك ضد العلم والاجتهاد. وكيف يعرف الشيء أنه ممتنع وليس ممكنًا؟ هل هناك وجود يتساوى فيه الوجود والعدم؟ وهل التوقف عن الحكم معرفيٌّ أم وجوديٌّ، لعدم العلم أو للاشتباه؟
(ﺟ) عدم فائدة علم النجوم (أبو حيان)
ويرفض أبو حيان علمَ النجوم مثل الكِنْدي والفارابي على نحوٍ عملي وليس على نحوٍ نظري، ما الفائدة منه؟ فعلم النجوم بالإضافة إلى أنه ليس علمًا لا فائدة منه. كل علم له فائدة. الحساب تصح به المعاملات، قيام الدولة، وحرس الملك، وجبْي المال، وأمْن الغبن، وقيام الديوان، وقوة السلطان، واطمئنان الرعية. وعلم النجوم ليس كذلك؛ لأنه لا يستطيع قلبَ الأعيان، ولا تصريف الأمور، ولا تغيير أحوال وقت، ولا يعصم عن ملمَّة حلَّت، ولا دفع سعادة وقعت. لا يستطيع أن يجعل الإقامة سفرًا، ولا الهزيمة نصرًا، ولا العقد حلًّا، ولا الإبرام نقضًا، ولا اليأس رجاءً، ولا الإخفاق توفيقًا، ولا العدو صديقًا، ولا الولي عدوًّا، ولا البعيد قريبًا، ولا القريب بعيدًا.
لا يحدث شيء في الأرض من آثار الأجرام العلوية. كل شيء بأمر الله عن طريق متوسطات أخرى، الملك أو العقل أو النفس، وليس عن طريق الأجرام. ولولا هذه المشيئة لكان التعرض للخطأ حتميًّا؛ فأبو حيان ينضم إلى الموحدين بتعبير الفارابي، الفلاسفة الذين يقولون بالتوسط عن طريق العقل والنفس تنزيهًا للأفلاك وبُعدًا عن التشبيه. والتوسط واحدٌ في كلتَا الحالتين. إنما الخلاف في المتوسطات، حسيَّات أم معقولات. وهي نفس القضية في علم الكلام، الفعل الإلهي في الطبيعي مباشرة أم عن طريق توسُّط الأسباب؟ يتوسط أبو حيان في الأمر دون إفراط أو تفريط. فيجعل العلم بين الخطأ والصواب. يُثبت الوسائط دون مبالغة فيها. ويوضع الإنسان بين الخوف والرجاء، والنجوم بين الترك والأخذ. ويترك للتاريخ الحكم عليه. كأن في الماضي وقته. أما الآن فهناك أفضل منه. ما يبقى منه هو علم الفلك وعلم الأنوار والأمطار، وعلم الجغرافيا البشرية.
ويعتمد أبو حيان على التراث الشرقي الآخر ضد علم النجوم مثل أنوشروان من المغفلين الأفاضل. فالتنجيم أيضًا من الثقافات الشرقية الوافدة الكلدانية واليهودية والصابئة بالإضافة إلى اليونانية.
ويبدو أن نظرية الفيض بديل عن التنجيم. بها روح التنجيم دون مادته، فيض الله على العقل، وفيض العقل على النفس، ثم فيض النفس على المادة. والخلاف بين التنجيم والفيض هو: مَن بيده الأمر، النجوم أم الله؟ البنية واحدة، رعاية العالم بقوة خارجة عنه، وليس من داخله بقوانين الطبيعة الثابتة.
(د) نقد علم أحكام النجوم (ابن سينا)
(٢) من علم الفلك إلى علم التنجيم (إخوان الصفا)
ونظرًا لأن علم النجوم هو العلم الذي يربط بين السحر والأرض، بين العالم العلوي والعالم السفلي من موقف معرفي وإرادي فإنه يصبح نموذج علوم الحكمة. فهو ربط بين الطبيعيات والإلهيات من خلال الإشراق وهو منطق نفسي. ومن ثَم تضخم العلم علم النجوم وتداخل مع كل أقسام الحكمة.
بل لقد أصبح علمُ النجوم هو شرطَ كلِّ علم طبيعي؛ لأنه هو العلم الذي يدرس أثرَ عالم الأفلاك على العالم الأرضي موضوع العلوم الطبيعية؛ فعلم النجوم شرطٌ لعلم الطب وعلم الطبيب أن يبدأ بعلم النجوم قبل أن يبدأ بعلم الطب. ينظر في الطالع ويعرف أثر البروج والأفلاك والقرانات على حياة البدن صحةً ومرضًا. ويتداخل مع علم الحساب؛ لأن بدايته علم الفلك وهو علم رياضي، ثم أصبح علم النجوم وهو علم خرافي. وبالحساب يمكن السيطرة على المقادير والأوزان في عمل الوصفات السحرية.
ويعتمد علم النجوم على وصْف العالم السفلي وطبقاته والعالم العلوي ومراتبه ثم أثر الأعلى في الأدنى، وقوة السماء وضعف الأرض؛ فالأعلى هو العلة، والأدنى هو المعلول. وتمثل الثقافات القديمة الوافدة والموروثة الحديثة لوضْع نسقٍ نهائي للعلم. وهو في الحقيقة إسقاط إنساني على الطبيعة أو تشخيص للطبيعة، موقف نفسي من العالم، عجز في الواقع وتعويض في الخيال، وفي النهاية قول بلا برهان، وموقف بلا دليل.
ولا أثرَ للوافد أو الموروث إلا في أقل القليل؛ إذ تتحول أسماء الكواكب على أساطير اليونان، الأورون هو الجوى، هروس الراعي، فوسدور البحر، مجرد تبادل القوى. ووقع تشكل كاذب. فهذه القوى الفلكية هي الملائكة، تنظيرًا أو تعقيلًا، والتعبير عن الموروث بلغةِ الوافد. وبعض أسماء الحيوان المعروف في الجزيرة العربية أخذت أسماء يونانية.
والغريب أن الغزالي لم يهاجم إخوان الصفا وهم من الحكماء. وهاجم الفارابي وابن سينا خاصة مع أن الإخوان أخطر على الإيمان من ابن سينا. ربما تعاطف الغزالي مع حكماء الإشراق مثل الإخوان ضد حكماء العقل مثل ابن سينا.
وبعض الألفاظ القرآنية توصف بها البروج مثل السنبلة والميزان والحوت والجدل والمصمت والاستقامة والاعوجاج. والألوان تشكيلات قرآنية، الأحمر والأخضر والأبيض.
(أ) علم أحكام النجوم
ويعتمد علم النجوم على قسمة العالم عالمَين، عالم سفلي وعالم علوي، ثم محاولة إيجاد العلاقة بينهما عن طريق الخيال بناء على عجز الأدنى أمام الأعلى، وقوة الأعلى أمام الأدنى. والحقيقة أنه لا يوجد وصفٌ للعالمَين على حدة بل للعلاقة بينهما عن طريق التأثير والتحكم والعلية والحتمية. العالمان مجرد البداية والنهاية للعلم، والعلم واسطة بينهما.
ونظرًا لأن العالم متناهٍ لأنه كروي، وحركة الأفلاك سرمدية لأنها دائرية ظهرت العلاقة بينهما علاقة الأدنى بالأعلى، والمعلول بالعلة، والمنفعل بالفاعل. ولما كان عالم الأفلاك إحدى صور الله أصبحت علاقة العالمَين علاقة العلة بالمعلول وليس الخالق بالمخلوق. فعلم النجوم يتعلق بالفاعلية والأثر وليس بالخلق والإيجاد.
ونظرًا لارتباط علم النجوم بنظرية الفيض فإنه يستحيل الفصل بين العالمَين. وهو عالم واحد من منظورَين مختلفَين رأسيَّين، من أعلى فهو الله ومن أدنى فهو العالم، لا فرق بين عالم سماوي وعالم أرضي، الله صورة العالم، والعالم مادة الله.
تنقسم الأرض طبقًا لتأثير الكواكب، ومراتب الكواكب طبقًا لتأثيرها في الأرض. فلا يوجد شيء يحدث في الأرض إلا ومفتاحه في السماء مع أنه لا يحدث شيء في السماء إلا ومفتاحه في الأرض مثل الجزاء على الأعمال.
والنفوس على أنواع، ما لا أجسام لها ولا تسكن الجنة لعلوها عليها، وهي النفوس الإلهية. وهي بدورها نوعان: خيِّرة وهي الملائكة التي يتقرب إليها، وشريرة وهي الشياطين التي تستوجب الدعاء للاتقاء من شرِّها. وهناك نفوس أخرى متعلقة بجثة الكواكب، وتتصرف في العالم الأرضي. أحدها بطبائع أجسادها والأخرى بنفوسها مثل الجن. وهي أقرب إلى الصورة الفنية منها إلى السكن الجغرافي. فالكواكب هي الملائكة.
وتؤثر الأشخاص الفلكية الثابتة الوجود الدائمة الدوران في الأشخاص السفلية. فصور النبات منكوسة إلى أسفل، رءوسها نحو الأرض، ومؤخرها نحو الأفلاك. والإنسان العكس، رأسه نحو الفلك، ورجلاه نحو الأرض. والحيوان متوسط بين النبات والإنسان.
أليس التقرب إلى الملائكة شركًا رفضه القرآن في رفضه عبادة الأصنام مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى. هل التحرز من الشرك قبل وقوعه يكون بالدعاء والتضرع والإنابة والصوم والصلاة والقربان والسؤال والتوبة، أم بمعرفة أسبابه والسيطرة عليها كما تفعل الأحكام الشرعية من أجل تحقيق مقاصد الشريعة وليس التأويل؟ ومن ثَم لا يحقق علم النجوم فوائدها، وهو التحرز من الشرك قبل وقوعه، ويقتصر على التكيف معه وقبوله بتأويلها من أجل الرضا عن العالم.
كما يقضي هذا التقرب والقربان والدعاء للاتقاء من شر الشياطين على العمل وجهاد النفس؟ ويتضح من مشاكل الطالع الأوضاع الاجتماعية مثل السفر والحيرة والخوف وطلب الرئاسة في الدين أو السياسة أو المجتمع، وفساد وخصومة، ورمال وحرب، ويتضح الكبت السياسي الذي لا حلَّ له إلا في السحر والطالع. ولو كان الأمر بهذه السهولة لما كان هناك فقر وسخط وجوع على ظهر الأرض، ولما كان المسلمون أفقر خلق الله. هناك أسباب فعلية للغنى والفقر والسلطة والقهر وجدل السيد والعبد دون حاجة إلى تدخُّل الشمس والقمر في السعد والنحس، وكأن وضْع الإنسان في الكون قطعة شطرنج ينقل من مكان إلى مكان.
وينتقد الإخوان العلم الطبيعي أو العلل الأصولية وكأن إثبات العلم والعلل الطبيعية خروجٌ على العلم. إن التفاعل بين العوامل؛ عوامل السماء وعوامل الأرض علم مثل علم الجغرافيا الذي يدرس أثر العوامل الجغرافية على تكوين الحياة الأرضية، علم طبقات الأرض، والحياة الإنسانية الجغرافيا البشرية. وهي قوانين طبيعية تتحكم في التقابل بين الطوالع الفلكية.
وهذه أشعرية بديلة، الله المشخص والسلطان القوي، والحتمية الكونية عن طريق الخرافة الفلكية. هو نوع من القدرية الفلكية الكونية. والأشعرية على أية حال أفضل من الشرك. تتحكم السماء في كل شيء على الأرض بحيث لم يَعُد للأرض شيء. وهل منطق الطالع محكم إلى هذا الحد من الحتمية والدقة في تحديد مصائر الناس؟ وتحليلات الإخوان كثيرة تدفع إلى الثورة والغضب؛ فالأقدار لا تتغير بل تحكمها السماء.
وقد يكون تحكُّمُ السماء في الأرض ردَّ فعلٍ ديني خيالي على تحكُّم الأرض في السماء تحكُّمًا سياسيًّا وواقعيًّا، من أجل أن تجعل السعود والنحس من السماء وليس من الأرض، حتمية لا يمكن الفكاك عنها. كلُّ مَن على الأرض عبيدٌ لمَن في السماء. وماذا عن العبد الآبق، وثورة العبيد؟ أليست سيادة السماء على الأرض نوعًا من العجز عن مواجهة الأرض والتعويض عن ذلك بمساعدة السماء؟
ألا يمكن تغيير الواقع إلا بمسار الكواكب والطوالع وهو ما لا حيلة للإنسان فيه. الإنسان مكبَّل من الخارج ويتحرر من الخارج وغير مسئول في الحالتَين، العبودية والتحرر.
وتتكرر الصفات في أكثر من برج. وليس لكل برج ألوان. وقد يجتمع لونانِ في برج واحد. والتشبيه بالزراعة يعبر عن رغبات سكان الصحراء مثل السنبلة والقصب والبردي.
والكل لوحة فنية شاعرية تجمع بين الشكل واللون واللمس والنسبة والوزن والرائحة والاتجاه والأثر على الأرض، الفنون السمعية والبصرية والشمية والحسية، جمعًا بين الحق والخير والجمال.
والتعود على الحس يقلل من العجب. ومع ذلك يتم الانتقال من المشاهدة الحسية إلى الصورة الفنية. الرأس للسعد والذنب للنحس صورة إنسانية لأفضلية الرأس على الذيل، والإنسان على الحيوان.
تبدو رسائل الإخوان كلها وكأنها ردُّ فعلٍ على العقل والعلم في القرنين الثاني والثالث لصالح الإشراق والخرافة مثل الفارابي وابن سينا في الفيض ومسكويه في الأخلاق الباطنية، باسم الفلسفة الروحانية، والعلوم النفسانية، والتأييد الإلهي، والعناية الربانية. علم أحكام النجوم ليس علمًا لموضوع بل هو موضوع لعلم النفس من أجل تحليل ظاهرة الاغتراب وشد الانتباه خارج العالم، التحرر من العبودية، وإطلاق الخيال في مقابل الأمر الواقع.
(ب) علم السحر والطلسمات
ولما كان علم النجوم مرتبطًا بعلم النفس، استدعاء العالم العلوي واستنجادًا به للسيطرة على العالم السفلي ظهرت الأسس النفسية للخيال العلمي، الإحساس بالعجز في الواقع ثم التعويض عن ذلك بقوة الخيال. إذ تسري قوى النفس العلمية في الأجسام الكلية والجزئية كسريانِ نور الشمس والكواكب في الهواء.
علم الكيمياء أقرب إلى علم السحر؛ لأن الأمان من الفقر عن طريق الكيمياء الخرافية تحويل الحجر إلى ذهب مثل علم أحكام النجوم لإدراك ما كان وما يكون. العلم الأول أفيون الشعب، والثاني خلط بينه وبين علم الهيئة ورجم بالغيب، والثالث مجرد صعود إشراقي عند استحالة الصعود الاجتماعي، والرابع علم صحيح، والخامس علم نفس لمعرفة الشعور وليس بالضرورة للمعاد المكاني.
هل تخصيص الرسالة الأخيرة للسحر والعين له دلالة على الاتجاه الخرافي في النهاية؟ هل هناك علاقة بين السحر والنواميس لجعلها آخر رسالة في هذا القسم الرابع، التأثير في القوانين أو تحويل السحر إلى علم أو العلم إلى سحر؟ وكما أن رسالة الحيوان من أقوى الرسائل دلالة، شكوى الحيوان من بني الإنسان، فإن رسالة السحر من أضعفها.
ومصادر رسالة السحر عند الإخوان ثلاثة: الأول التوراة، والموروث الديني التاريخي القديم، بالإضافة إلى الموروث الإسلامي الأخير، القرآن. يذكر الإخوان قصصًا عن السحر من التوراة ومن القرآن خاصة قصة هارون وماروت، وفرعون وموسى وغيرها من القصص مثل يونس والحوت، آدم وقميصه والصيد، وشمشون ودليلة والشعر، وآدم وحواء والغواية، وعيصو وصراعه مع ابن النمرود، ولابان ويعقوب، وشمويل، كلها راجعة إلى مراحل أولى من الوحي وليست في المرحلة الأخيرة التي تعتمد على العقل والعلم. لذلك كثرت الحجج النقلية.
ويسترجع الإخوان كل التجارب السابقة دون تمحيص أو نقد أو مراجعة، بل إن كثرة النصوص الدالة على الخرافة تجعل استيعابها مستحيلًا.
والثالث الثقافة الشعبية المحلية التي تبدأ بالروايات التاريخية الأسطورية حول المأمون مثل حلم المأمون من الموروث أو روايات أفلاطون في السياسة وأسطورة على منوال أهل الكهف، والخاتم الذي يُخفي الإنسان من الوافد خاصة أفلاطون فيلسوف الإشراق وليس أرسطو فيلسوف العلم. ويؤكد الإخوان على هذه المصادر التاريخية لإثبات السحر ضد منكريه.
والسحر لغويًّا يعني شيئين: الأول سرعة البيان وإقامة الدليل والبرهان مثل سحر الكلام. والثاني كشف الغطاء وإزالة الشبهة مثل سحر العقول. لذلك قيل الحكماء سحرة وطبقًا لحديث الرسول «إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرًا».
والسحر في اللغة العربية يعني ستة معانٍ. الأول: البيان والكشف عن حقيقة الشيء وإظهاره بسرعة العمل وأحكامه. والثاني: الإخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجل والفأل. لذلك قيل عن الحكماء إنهم سحرة لإخبارهم بالكائنات وكلامهم بالإشارات والإنذارات بما يكون في العالم من سرور وخيرات وبركات ونفحات. ونُسبوا إلى الكهانة لما جهلوا الأنبياء والنبوات، وزعموا أن لهم جنًّا تأتيهم بأخبار السماء. والثالث: قلب الأعيان، وحذق العادات. لذلك قال القدماء كلُّ مَن كانت له معجزة باهرة سُمي ساحرًا. والرابع: خيالات وحكايات وتمثيلات وخرافات وأوهام وأباطيل. والخامس: الدجل والشعوذة وهو نفس المعنى ولكن على مستوى الممارسات العملية. والسادس: البخور المنتنة التي تجلب الصرع والبله والحيرة وكما يبدو البخور في الممارسات الشعبية.
والسحر نوعان: العقل وهو البيان والكشف عن حقائق الأشياء، والنفس وهو الاطلاع على ما كان. وهي قسمة قرآنية تقوم على النظر في النفس وفي الآفاق أي الطبيعة. الأول عقلي إلهي للأنبياء، حلال، والثاني نفسي طبيعي للحكماء. وهو معنًى مجازي عند الأنبياء وليس معنًى اصطلاحيًّا حقيقيًّا. السحر في الحياة الإنسانية في مقابل السحر في الطبيعة، العقل في الحياة الإنسانية، والنفس للطبيعة. بل إن الطبيعة بعد السحر في الإنسان والمجتمع. والسحر في الطبيعة ذاته رؤية إنسانية لتقابل العالمَين، الأصغر والأكبر، النفس والآفاق. وأساس الحسر الطبيعي تركيز كل شيء في واحد الإلهي الطبيعي أو الطبيعي الإلهي.
ويتحول الأمر إلى منطق المصادر؛ إذ يعتمد السحر على قراءة الكتب والمعرفة بتراث القدماء، وعلى العقل والقياس، وعلى التجربة والواقع، وعلى الحكيم، أي سلطة الفرد وتجربة الساحر الشخصية.
ويؤوِّل الإخوان الأنبياء والحكماء على أنهم سحرة. فمعجزات الأنبياء نوعان، نعمةٌ ورحمة عند الطاعة أو سخطٌ ونقمة عند المعصية؛ مثل طوفان نوح، وريح هود، ومعجزات صالح وفرعون، ومعجزات السيد المسيح.
إنما الذي استقر في الثقافة الشعبية هو السحر وليس العلم، إخوان الصفا وليس الكِنْدي. والسؤال الآن: نجوم في السماء، وسحر في الأرض فأين الإرادة الحرة (المعتزلة)، والثورة (الخوارج)، والعلل المادية في الأفعال (أصول الفقه)؟ كيف يخضع الإنسان وظواهر الطبيعة للنجوم وللسحر وكأن الإنسان ليس صاحب أفعاله، وكأن الطبيعة لا تخضع لقانون؟ إن حسية الفقهاء وخرافة الإخوان نفس الشيء إن استعصى التأويل الاعتزالي والفلسفي والصوفي.
الطالع | الكوكب | الكبرى | الوسطى | الصغرى |
---|---|---|---|---|
(١) صاحب الطالع | الشمس | ١٢٠ سنة | ٣٩٫٥ سنة | ١٩ سنة |
(٢) بيت شرفه | الزهرة | ٨٢ سنة | ٤٥ سنة | ٨ سنة |
(٣) مثلته | عطارد | ٩٦ سنة | ٤٢٫٥ سنة | ٢٠ سنة |
(٤) حده | القمر | ١٠٨ سنة | ٣٩ سنة | ٢٥ سنة |
(٥) وجهه | زحل | ٥٧ سنة | ٤٣٫٥ سنة | ٣٠ سنة |
(٦) نويره | المشتري | ٧٩ سنة | ؟ سنة | ١٢ سنة |
(٧) اثنا عشريته | المريخ | ٦٦ سنة | ٤٠ سنة | ١٥ سنة |
(٨) الكوكب الذي يسير إلى درجة الطالع ومَن في الطالع وغير الطالع | ||||
(٩) سهم صاحب السعادة وصاحبة | ||||
(١٠) صاحب بيت الشمس بالنهار والقمر بالليل |