سادسًا: نظرية الفيض
ونظرية الفيض هي الغالبة على علوم الحكمة عند إخوان الصفا والفارابي والسجستاني والعامري وابن سينا. تُعطي افتراضًا ثانيًا عن علاقة الله بالعالم، والإلهيات بالطبيعيات عن طريق ملءِ المسافة بين الاثنين على نحوٍ تدرُّجي متصل لردم الهوة السحيقة التي تركتْها نظرية الخلق في تصور الله والعالم متضادَّين، صفات الكمال في الله وصفات النقص في العالم، والإنسان بينهما، بين كمال النفس ونقص البدن. الفيض تصور هرمي للعالم، ثنائي مضاعف. بين الله والعالم هناك درجات بين الألوهية والطبيعية. لم يخلق الله العالم بإرادته من لا شيء كُنْ فَيَكُونُ، بل فاض العالم منه بعلمه دون أن ينفصل عنه. فالعالم امتداد طبيعي لله في درجات أبعد. كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى الكمال المطلق، وكلما نزلنا إلى أسفل وصلنا إلى النقص المطلق. وما بينهما درجات بين الكمال والنقص. في العالم العلوي، الكمال أكبر من النقص، وفي العالم السفلي النقص أكبر من الكمال. ولما كان الإنسان لم ينفصل عن الله بل فاض عنه يكفيه التأمل والتدبر حتى يعود بذهنه إلى مُنشِئه الأول دون ما حاجة إلى فعل في الدنيا. فالفعل ضعف التأمل. يكفي «إلى الخلف سِرْ» حتى يصعد الإنسان إلى الكمال بدلًا من «خلفًا دُرْ»، أي التوجه بالفعل والكد والسعي إلى الله وإعطاء الظَّهر إلى العالم. الفيض ردُّ فعلٍ على الثنائية الحادة المتعارضة في الخلق، وعلى الانفصال بين الخالق والمخلوق، من أجل تصوُّر العالم واحدًا، لا فرق فيه بين الواحد والكثير إلا اختلافًا في الدرجة وليس اختلافًا في النوع. هي صورة شعرية ورؤية فنية للعالم بدلًا من التحليل العقلي والحجج الصورية في نظرية الخلق وأدلة وجود الله من الحدوث إلى القِدَم، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المعلول إلى العلة.
(١) إخوان الصفا
ولا يوجد عند الإخوان تصورٌ واحد للفيض بل على الأقل ثلاثة تصورات. الخلق الفيضي الذي يجمع بين الخلق والفيض. يؤيد الخلق ثم يكتشف عيوبه، والفيض العددي لما كانت الأعداد هي الكائنات ووحدات الكون، والفيض الكوني أي مراتب الوجود، الله والعقل والنفس والمادة.
(أ) الخلق الفيضي
ولا يكتفي الإخوان بإثبات حدوث العالم إيجابًا بثقافة الفيض ولكنهم يعيدون الكرَّة سلبًا بنقد قِدَم العالم عن طريق دليل الحركة الذي يقوم على مقدمتَين. الأولى أن الحركات تدل على اختلافها، والثانية أن المتحرك المختلف لا يكون قديمًا. والنتيجة إذن الله هو القديم. وهي مقدمات أشبه بقياس منطقي مجرد، والنتيجة تقوم على قياس الخلف. كما يدل اختلاف الحركات على أنها واقعة بقصد قاصد وصنْع صانع وجعْل جاعل وفعْل فاعل حكيم قادر عالم. ويرجع خطأ القول بقِدَم العالم إلى الظن بأن العالم ساكن في حين أنه متحرك حركة الفناء والبعث. والقيامة نوعان، للعالم الكبير وللعالم الصغير.
ويستعرض الإخوان آراء السابقين دون ذكرٍ للكندي أو الرازي، ربما صمْتًا عن المصادر، وللطابع التجميعي الموسوعي للرسائل، وربما الطابع السري للجماعة، وربما لأولوية الموروث على الوافد فيها، وربما للثقافة الشعبية التي تعرضها والتي لا تتحمل الثقافة العالمة عند حكماء البلاط.
ويدافع الحكماء عن أنفسهم ضد تهمة قِدَم العالم استباقًا لدفاع ابن رشد ضد اتهام الغزالي لهم بذلك. ويحذرون من سوء الفهم لأقوالهم وإلصاق تهمة بهم بناء على خطأ شائع. وما أكثر الشائعات التي أُطلقت على الحكماء، وقد كان الحكماء يتعاملون مع الثقافة الوافدة والأفكار الشائعة فيها بالإضافة إلى الثقافة الموروثة. فينشأ ازدواج بين الثقافتَين قراءة الموروث في الوافد، وقراءة الوافد في الموروث، مما يسبب خلطًا بين عرض الوافد ونقد الموروث. وحجتهم ضعيفة وهي أن الحكماء لا يتصورون الصلة بين الله والعالم في الزمان والمكان ومن ثَم ينشأ القول بقِدَم العالم. وهي حجة افتراضية وليست لها صياغة منطقية على عكس صياغات ابن رشد لحججه النقلية العقلية الصارمة. الزمان عدد الحركة، والله لا يتحرك.
ويتناول الإخوان موضوع العلية والعناية باعتبارها العنصر المتوسط بين الله والعالم في نظرية الخلق، وهو تعبير كلامي أو حدوث العالم وهو التعبير الفلسفي. ففي رسالة «العلل والمعلولات» تظهر العلل الشعورية. فهي رسالة في النفسانيات والعقليات أكثر منها رسالة في الطبيعيات أو الميتافيزيقا الصورية نظرًا لأن الطبيعة حية والإنسان في وسطها. وتهدف الرسالة إلى إثبات العدل بمعنى المتكلمين خاصة المعتزلة أو العناية عند الفلاسفة. فنِعَم الله كثيرة وفي مقدمتها الحكمة، والحكمة تأويل القرآن وليست الفلسفة اليونانية. فالعناية في الطبيعة حدسٌ لا شعوري من توجُّه قرآني رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ وحاجة العالم إلى العناية بعد الخلق مثل حاجة البناء إلى الصيانة بعد التشييد.
والعلية إجابة عن تساؤلات تسع هي الأعراض: هل ما، لمَ، أين، كيف، أين، متى، مَن؟ جمعًا بين العلل الأربعة في الفلسفة والأعراض. ويبحث الإخوان في تعريف العلة والمعلول وتحديد أنواعها كما هو الحال في رسائل الحدود والرسوم منذ الكِنْدي حتى ابن سينا والجرجاني وواضعي رسائل التعريفات. ومعرفة الحقائق بمعرفة العلل، أي الفكر العلمي الأصولي، وبالنفس الطاهرة، علم الطبيعة مع علم النفس مع علم الأخلاق. معرفة العالم الخارجي مشروطة بالعالم الداخلي. فالتعليل هو الحكمة، والبحث عن العلل هو عمل بالحكمة. فالعلوم وموضوعاتها متداخلة، لا فرق بين الإلهيات والطبيعيات والنفسانيات والأخلاقيات والاجتماعيات.
وينتقل الإخوان من البحث عن العلل في الطبيعة أي الحكمة من الإنسان إلى الحيوان بحثًا في جبلة الحيوان عن أربعة أسباب: آلامها، عطب أبدانها، شقاوة نفوسها، هلاك هياكلها بالجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة.
آلام الحيوان حفاظًا على بقائها، وحماية لأجسادها ووضع حب الحرب والقتال فيها أو الهرب والفرار. لكل منها عمر يموت ثم يأكله حيوان آخر حتى لا تبقى الجثث جيفًا وينشأ الضرر. والحكمة في الألفة بين الحيوان الجماع، وفي نفور بعضها التباعد والانتشار والتباعد في الأماكن على عكس الإنسان الذي في حاجة إلى الزحام والتعاون في المدن والقرى.
ويأكل الحيوان بعضه بعضًا للنفع على عكس ما قاله المعتزلة في التعويض عن الآلام. ويظل الاعتراض قائمًا لماذا يستعبد البعض على حساب البعض الآخر؟ وهناك عدة إجابات على ذلك من فعل الحكيم الشرير. فللعالم فاعلان خير وشرير، أو من فعل النجوم أو عقوبة لها على ما سلف من الذنوب في الأدوار السالفة، وهو رأْي أهل التناسخ أو العوض تحقيقًا للعدل أو للأصلح تبريرًا للشر، وهو رأي المعتزلة أو للعجز عن الفهم أو غياب الحكمة مع أن أفعال الباري قصدية، تهدف إلى تحقيق النفع الكلي والصلاح العمومي. وهو مقياس فقهي؛ إذ لا يمكن فهم الكل بالنظر الجزئي.
ومع ذلك يظل الاعتراض قائمًا. لماذا يكون البعض مأكولًا والآخر آكلًا؟ لماذا لا تتحلل الجثث وتصير ترابًا؟ وماذا سيأكل الإنسان الأخير آكل الإنسان الأول؟ ولماذا يكون البعض أشرف والبعض الآخر أقل شرفًا؟
وعلة اختلاف اللغات والألوان والأخلاق والصور والأب واحد اختلاف الأماكن والأتربة والأهوية وطوالع البروج وساحات الكواكب والآراء من أجل الاجتهاد واستخراج العلم.
والعالم عالمان، روحاني وجسماني، والجسماني أفلاك وأركان ومولدات والعالم الروحاني محيط بالعالم المادي، محيط بعالم الأفلاك، وعالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر. وقد جعل الله عالم الأفلاك كروي الشكل مستدير الحركة؛ لأنه أفضل الأشكال والحركات. والعدد اثنا عشر أفضل الأعداد، والأفلاك تسعة والكواكب سبعة لأنها أفضل الأعداد. في الفلك عقدتان، وبعض البروج متقلبة، وبعضها ذو جسدَين. بعضها ثابت، وبعضها ناري، وبعضها ترابي لما في ذلك من وجوه الحكمة وإتقان الصنعة. البروج المتقلبة لتقلُّب أمور الدنيا، والثابتة لثبات أمور الآخرة، وذوو الجسدَين لاتصال أمور الدنيا بأمور الآخرة. والعقدتان الملائكة والجن والشياطين والأرواح والنفوس. والكسوف للشمس والقمر ليلًا لدفع الشك من نفوس المرتابين الذين يظنون وجود إلهين. ولقد خلق الله العالم عالمَين، علويًّا للأفلاك وسفليًّا للأركان لإتقان الحكمة وللاعتبار في الدنيا والآخرة. العالم الطبيعي مخلوق طبقًا للعالم الإنساني: الشمس والقمر، الآخرة والدنيا، الزهرة السعد الأصغر، وزحل النحس الأكبر، والمشتري السعد الأكبر، والمريخ النحس الأكبر. فالدنيا والآخرة يفسران كل شيء في نظام الكواكب. وعطارد مزج، أي تعليق الدنيا على الآخرة. والمشتري سعادة أهل الآخرة وهي السعادة الكبرى، والزهرة سعادة أهل الدنيا وهي السعادة الصغرى. والمريخ محنة أبناء الآخرة، وزحل محنة أبناء الدنيا. الأمر إذن كله إسقاط إنساني، إسقاط الأفضل على الطبيعة المستديرة. وتقسيم الكواكب إلى سعدَين ونحسَين وممتزج إسقاط للانفعالات الإنسانية على الطبيعة تحويرًا لحديث «السعيد مَن سَعِد في بطن أمه والشقي مَن شَقيَ في بطن أمه»، وتحولًا من الحتمية الأخلاقية النفسية إلى الحتمية الكونية. ومن ثَم يكون الفارابي أفضل في نقد علم أحكام النجوم.
يرفض الإخوان وجود العالم في زمن الله كوجود بالقوة وصُوَر للأشياء في ذهن الصانع؛ لأن صور الأشياء استقراء في حين أن علم الله استنباط. والنزول أشرف من الصعود؛ لأن الأعلى أشرف من الأدنى، والصوري أشرف من المادي، والله أكمل من العالم واليد العليا خير من اليد السفلى. وهو أقرب إلى الخلق لأن العالم خارج الذهن الإلهي. ومع ذلك تنتهي حجج الإخوان من إثبات الخلق إلى إثبات الفيض. ويظل الموضوع متأرجحًا في نقطة البداية، الله في الخلق أم الواحد في الفيض، وإذا كان الفيض أقرب إلى الحدوث منه إلى القِدَم إلا أن ميتافيزيقيا الفيض أقرب إلى القِدَم منها إلى الحدوث. الفيض أقرب إلى التواصل منه إلى الانقطاع في حين أن الحدوث أقرب إلى الانقطاع منه إلى التواصل. الفيض تواتر بالمعنى الفلسفي وليس بمعنى الرواية والأخبار، والحدوث مثل السند المقطوع في علم الحديث. الفيض مستمر؛ لأن الوجود باقٍ، والفائض جواد كريم على المفيض عليه في حين أن الخلق عطاء مرة واحدة وليس صدقة جارية. كذلك لزمت العناية لإعادة التواصل، والبعث لإنقاذ الخلق عيب العناية التدخل في شئون العالم، والنيل من الحرية الإنسانية واطراد قوانين الطبيعة. لذلك فضَّل بعض الحكماء مثل ابن رشد صفة الحكمة على الإرادة على عكس الغزالي الذي فضَّل صفة الإرادة على الحكمة. إذا كان الفيض في الطبيعة وفي الإنسان فإن حرية الأفعال تصبح موضع شك. فالأعلى أقوى من الأدنى، وفعل الأدنى مجرد مستقبل لفعل الأعلى. وهو أقرب إلى الدفاع عن الأشعرية ضد خلق الأفعال واطراد قوانين الطبيعة.
(ب) الفيض العددي
وتكشف نظرية الفيض العددي عن التحول من النقل للإبداع، من نظرية الأعداد عن الفيثاغوريِّين إلى نظرية الفيض عند إخوان الصفا. ومذهبهما واحد في العدد، والخلاف في المنظور الحضاري. الواحد أصل العدد كما أن الله واحد أصل الموجودات. لذلك تبدأ الأعداد باثنين. وتعتمد الأعداد على العقل كما يعتمد المعلم في حين يعتمد المتكلم على الحس أولًا.
لما كان الله واحدًا جعل الأشياء كثيرة منعًا للشرك، فالله واحد حق وغيره كذلك بالمجاز كما عبَّر الكِنْدي. والله هو الذي يعطي الواحد اسمه للموجود، والزوج والفرد، والصحيح والكسور في الأعداد لها ما يقابلها في الموجودات. الموجودات في عالم الأرواح أفراد، وفي عالم الأجساد أزواج، وفي عالم الأفلاك صحيحة، وفي عالم الكون والفساد وكسور. فكل مرتبة في الوجود مرتبة في العدد.
ويأخذ مسار الفيض وهو تطور رأسي من أعلى إلى أسفل عدة مراحل وليس تطورًا أفقيًّا من الخلف إلى الأمام، عدة مراحل، تميز اللطيف عن الكثيف، صور الأشكال الكروية الشفافة الفلكية، تركب بعضها فوق بعض، استدارة الأجسام النيرة. ويمكن تمييز مسار آخر، تركيز مراكزها، تمييز الأركان الأربعة، ظهور نظامها وترتيبها. مسار التطور إذن، الشكل والتركيب والعلاقة والجوهر.
الفيض من أعلى إلى أدنى هبوطًا، والإشراق من أدنى إلى أعلى صعودًا. ففيض المعارف على العقل والنفس الصافية، نفوس الأنبياء والأولياء.
وقسمت أجناس الكائنات إلى أقسام. الموجودات بحسب طبيعة الوجود مما يسمح بالمراتب والتفاوت. وقد اكتشف الحمار وهو يمثل المعارضة ضد السلطة التعددية في الطبيعة أكثر مما اكتشفتْها السلطة، وفي نفس الوقت التعادل والكمال والجنس، وجدل السلب والإيجاب حتى الشمس والقمر. بها الكسوف والخسوف، الملائكة والشياطين، الإنس والجن. فالكمال لله وحده. هذا هو حمار الحكيم.
في الطبيعيات هناك تقدُّم زماني، وفي الروحانيات لا يوجد ولكن هناك تقدُّم روحاني على المبادئ. فالنفس متقدمة على البدن ولاحقة عليه (المعاد)، عودة النفس إلى حالتها الأولى بعد الدهور والأعوام. هذا نوع من تاريخ الروح. وفي العودة تحتاج النفس إلى الأخلاق والتطهير. فكان التصدق هو طريق العودة وليس العمل الصالح والجهد والإرادة في العالم. الله هو الفائض الأول على العقل، ومن العقل إلى النفس، ومن النفس إلى الهيولى. فهو المصدر الأول للفيض. فهي تعددية فلسفية لا أفقية، تراتبية وليست على مستوًى واحد. كما أن المصدر الأول والأكمل والأشرف في تصور هرمي، تعددية الطبقات وليست تعددية القوى. هذه هي ملحمة الوعي، موسيقى الكون، نَغَم الطبيعة، شعر الوجود، روح التاريخ. فالخلق قصة مثل الأساطير القديمة في فارس، أهرمان وأرمزدا، تفسير الأساطير الخلق والمعاد على نحوٍ علمي متسق، متفق مع الحضارات القديمة ومستواها. هو تفسير للعالم بالمبادئ والغايات وفي نفس الوقت تقسيم العمل بحيث تؤدي كلُّ مرتبة وظيفتَها.
والعجيب أنه في القسم الرابع «في العلوم الناموسية الإلهية والشرعية» تعود نظرية الفيض من جديد في الرسالة الثامنة «أحوال الروحانيين». ولا يعني الروحانيون أعضاء المدينة الروحية مما يبرر وجود الرسالة في هذا القسم بل الموجودات الروحانية، الملائكة والشياطين، وبالمناسبة العودة إلى نظرية الفيض، الله، والعقل، والنفس، والهيولى، والطبيعة، تفيض كل مرتبة لاحقة من المرتبة السابقة. وقد برر وضعها أن الناموس لا يعني الشريعة الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية أو قانون التاريخ، بل قد يعني أيضًا قانون الطبيعة وسنن الكون. وفي هذه الحالة تكون أدخلَ في الحكمة النظرية منها في الحكمة العملية.
(ﺟ) الفيض الكوني
ومراتب الفيض هي مراتب الشرف والقيمة بين الأعلى والأدنى. وأول شيء اخترعه الله جوهرًا بسيطًا تامًّا كاملًا. كل صور الأشياء فيه وهو العقل الفعال. ومنه فاضت الرتبة الكلية، وانبجس من النفس الهيولى الأولى ثم الهيولى الثانية ثم عالم الأفلاك.
(٢) الفارابي
لذلك فإن الحديث عن أثر أفلوطين في نظرية الفيض إنما هو تغليب للوافد على الموروث، وللخارج على الداخل، وللنقل على الإبداع. مع أن نظرية الفيض لا تُحيل إلى اليونان إلا في أقل الحدود، الشيخ اليوناني زينون وليس أفلوطين. وتبلغ «السياسة المدنية» قمةَ الإبداع. فلا تُحيل إلى وافد أو موروث بل تعتمد على تحليل العقل الخالص. بل إن رسالة «زينون الكبير اليوناني» تُشبه قواعد الإيمان الست في علم العقائد، في الدلالة على وجود المبدأ الأول، في صفاته، نسبة الأشياء إليه، النبوة، الشرع، المعاد، وكأن المبادئ الست في الفيض هي قواعد العقائد الست في قواعد العقائد.
(أ) الله، واجب الوجود، الموجود الأول
هو الواجب لذاته بالكمال، غير واجب الوجود بغيره بالنقص. هو المعتبر بذاته في مقابل ممكن الوجود المعتبر بغيره، مبرَّأ عن جميع أنحاء النقص. فهو كامل، في غاية الكمال والبهاء، صورة فنية للحبيب.
هو واجب الوجود في كل زمان في حين أن ممكن الوجود في زمان دون زمان. هو أزلي دائم الوجود، وجود بالفعل وليس بالقوة، أول وصف له. فيه ينحاز عمن سواه. هو ذاته، انحيازه لوحدته وذاته. وأحد معاني الوحدة الوجود الخالص. الوجود واحد والواحد وجود. الوحدة تساوق الوجود، والوجود يساوق الوحدة.
ماهيته عينُ وجوده على عكس ممكن الوجود الذي تُباين فيه ماهيتُه وجودَه. ليست الماهية سبب وجوده؛ لأن ماهيتَه عينُ وجوده، ولا العلة فيه سبب المعلول. فليس للماهية وجودان، مفيد ومستفيد؛ لأن إحداهما ليست علة للآخر. وتستمر نظرية واجب الوجود في معظم رسائل الفارابي الإلهية. ففي «الدعاوى القلبية» تبدأ بأحكام العقل الثلاثة الشهيرة في علم أصول الدين، الوجود والإمكان والاستحالة والتي لم تتشكل إلا منذ الجويني في القرن الخامس في «العقيدة النظامية» بعد الفارابي بقرن ونصف. ويسمِّي الفلاسفة الوجوب الوجود؛ لأنهم يتحدثون عن الله وليس عن حكم عقلي. ولا يتحدثون عن الاستحالة أو الامتناع، بل عن أن الوجوب والوجود نفس الشيء، واجب الوجود في مقابل ممكن الوجود. فالوجود قاسم مشترك بين الوجود والوجوب. كل شيء في عالم الكون والفساد ممكن الوجود؛ لأنه لو كان ممتنع الوجود لما وجب، ولو كان واجب الوجود لكان لم يزل. ممكن الوجود يحتاج إلى علة تُخرجه من العدم إلى الوجود. كل ما له وجود عن ذاته هو ممكن الوجود. وكل ممكن الوجود وجوده من غيره. ولا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية. فلا بد من الوصول إلى واجب الموجود بذاته، علة نفسه، متقدم على كل المعلولات.
وواضح أن نظرية الفيض بالرغم من أنها تحاول تجاوز ثنائية نظرية الخلق إلا أنها ما زالت قراءة لها بتضعيف الثنائية حتى تتحول إلى تصور هرمي للعالم. فالوجود أيضًا في نظرية الفيض وجودان، واجب وممكن، قديم وحادث، صوري ومادي، فعلي وانفعالي، أول وثانٍ، كلي وجزئي. ومع ذلك فهو جامع للطرفين معًا. هو الأول والآخر، الفاعل والغاية، وتظل علاقة الواجب بالممكن نفس علاقة الشرف، علاقة الاستقلال والتبعية كما هو الحال في العقائد الأشعرية. وقد كان الفارابي معاصرًا له.
وبالرغم من أن نظرية الفيض إشراقية في المعرفة إلا أنها ما زالت عقلية جدلية برهانية مثل نظرية الخلق وإثبات واجب الوجود ببرهان العلية واستحالة تسلسل ممكن الوجود إلى ما لا نهاية، وتبنِّي التصور الطولي الديني التقليدي الذي يقوم على الانفصال وليس التصور الدائري العلمي الذي يقوم على الاتصال. وتستعمل البرهان المنطقي مثل التضايف للربط بين طرفَي المعادلة. وقد يصل البرهان المنطقي في صياغته إلى حد الرمز الرياضي.
ويعقل الأول الفاسدات من جهة عِلَلها وليس من جهات حادثها. فالعلم الأشرف هو العلم بالأعلى وليس العلم بالأدنى، بالصورة وليس بالمادة. وعلم الأول واحد عقلي بسيط، علم فعل، علم واجب الوجود، في حين أن علْمنا متكثر، علم نفساني، علم ثانٍ، انفعالي، علم ممكن الوجود، وهي نفس القسمة الكلامية القديمة للعلم، علم قديم وعلم حادث، الأول كلي والثاني جزئي.
وتستمر صفات الله، يفيض بعضها عن بعض كما فاض العلم عن الوجود في القدرة والحياة. فهو حيٌّ لأنه عاقل. وهو عالم لأنه يعلم بالعقل لا بالحواس، وهو الحكيم المطلق من ذاته، مريد لأنه ليس فيه ضدية للأشياء. وتبرز صفة الواحد. فهو واحد لا شركة فيه. ويظهر دليل التمانع على نحوٍ فلسفي لإثبات الوحدانية تحوُّلًا من الكلام إلى الفلسفة، وتوسيع التصور اعتمادًا على العقل دون النقل. الواحد متقدم على الاثنين تقدُّمًا طبيعيًّا. إذا كانَا معًا اشتركَا في جميع الأشياء ولم يكونَا اثنين. وإن اختلفَا يكون أحدهما سببًا للآخر. ويستحيل وجوب واجبَين للوجود؛ إذ لا بد أن يتخصص أحدهما بالماهية.
وتظهر بعض الألفاظ الموروثة مثل «الباري» وليس لفظ «واجب الوجود» طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب. ويظهر القلق بين الكلام والفلسفة، بين التشبيه والتنزيه، بين العقائد والحكمة، بين القلم واللوح المحفوظ من ناحية والعلم من ناحية أخرى.
ولا يوجد إحصاء دقيق لأوصاف الذات الست أو صفاتها السبع كما هو الحال في علم الكلام الأشعري، ولا صياغة دقيقة لها. بل معظمها يغلب عليه الإنشاء وكأنها تجربة شعورية للتنزيه على أسس إشراقية. يقوم على الاتساق وليس التضاد. مع أن الاتساق يوقع في الصورية، والتضاد حيوية وصراع وتناقض وجهاد وغلبة.
وهل ردُّ الحياة إلى العقل والعلم تعريفٌ للحياة؟ هل تردُّ الحياة إلى العقل والعلم وحدهما دون أبعاد الحياة الأخرى خاصة العملية منها؟ قد يكون تعريف المتكلمين أفضل عندما جعلوها شرط العلم. الخطاب الإلهي إذن ما هو إلا خطاب مبالغات من أجل الذهاب دائمًا إلى الأعلى، انتقالًا من الجزئي إلى الكلي، ومن الحسي إلى العقلي، ومن المرئي إلى اللامرئي، ومن النسبي إلى المطلق، ومن النهائي إلى اللانهائي، ومن المحدود إلى اللامحدود.
ويقوم هذا الانتقال على التشبيه. فنحن أحياء أولًا ثم وصفنا الله بأنه حيٌّ. نحن أحياء لا تحتاج إلى إثبات؛ لأننا ندرك أحسن المدركات بأحسن إدراك. الخطاب كله يقوم على التشبيه، وليس فقط بالإنسان ولكن أيضًا بالحيوان. فالحي يستعار لغير ما هو حيوان، فيقال على كل موجود كان على كماله الأخير. وإذا كان في الحياة الكمال الأخير فكيف يُطلق على غير الكائن الحي؟ وكيف يكون الكمال الأخير لغير الحي؟
ويستعمل الفارابي الطرق الثلاثة للحديث عن صفات الله، طريق الإيجاب في اللاهوت الإيجابي، إثبات صفات الكمال لله، وطريق السلب في اللاهوت السلبي، نفي صفات النقص عن الله، وطريق التشبيه في لاهوت المماثلة، قياس الغائب على الشاهد. واللاهوت الإيجابي أقل لصعوبته، واللاهوت السلبي أكثر لسهولة النفي. ولاهوت التشبيه هو السائد في كل الحالات.
ويظهر اللاهوت الإيجابي في أنه موجود وواحد وأن وحدته غير ذاته، ذات واحدة وجوهر واحد. وتتكرر صفات العلم والحكمة، والقدرة والإرادة. بل ويمتد الأمر إلى الصفات الإنشائية ما دام الأمر هو مجرد انفعال بالتنزيه والتعظيم والتبجيل. فهو حق وحيٌّ وحياة. ويظهر أحيانًا أفعل التفضيل في اللاهوت الإيجابي. فهو أحق باسم الواحد من كل شيء.
ويتحول اللاهوت الإيجابي إلى لاهوت سلبي لتقوية الإيجابي. فالإيجاب دون سلب صورية أو إعلان وبيان دون تجربة حسية. فالعلم مثلًا لا يحتاج في علمه إلى ذات أخرى يستفيد منها خارجة عنه ولأن يكون معلومًا إلى ذات أخرى تعلمه. هو مكتفٍ بذاته في أن يعلم ويعلم، علمه بذاته جوهره، عالم ومعلوم وعلم.
ونظرًا لأن الأمر مجرد إفاضة في التنزيه يغيب الاستدلال الداخلي على كل صفة، اكتفاء بالإعلان عن النوايا، ووضع الصفات بمنطق الثقة بالنفس، وبقوة الاعتقاد الفلسفي. وأحيانًا يظهر الاستدلال على استحياء مثل استحالة التركيب فيه لأن التركيب نقص وعيب في مقابل البسيط. هو استدلالي خلقي نفسي أقرب إلى نفي المماثلة وطريق التشبيه. وتستنبط كل صفة من صفة أخرى بناء على منطق الاتساق والعقل والاستدلال المنطقي البديهي.
ويظل اللاهوت الإيجابي عرضة لنقد اللاهوت السلبي ولاهوت التشبيه. ففي العلم بالذات ما يهم في العلم ليس الموضوع الخارجي والإحاطة به بل وعْي العالم بذاته، وهو ما يُعطي الصدارة للذات على الموضوع. وما الداعي لصفة العلم ما دام المعلوم موجودًا في العالم، عقل وعاقل ومعقول، علم وعالم ومعلوم. وقد لا يتجاوز الأمر تحصيل الحاصل، الاتساق مع النفس في رغبتها في التنزيه القائم على الإجلال والتعظيم. ويصعب أحيانًا اطراد هذه القسمة الثلاثية للصفات بين الاسم واسم الفاعل واسم المفعول ونقلها من العلم إلى الحكمة والقدرة والحياة. فإذا كان الله عالمًا وعلمًا ومعلومًا، عاقلًا وعقلًا ومعقولًا فكيف يكون حكيمًا وحكمةً ومحكومًا لأن الله لا يكون موضوعًا للحكمة؟ كيف يكون قادرًا وقدرة ومقدورًا، والله لا يقدر عليه أحد؟ كيف يكون حيًّا وحياةً وحييًّا؟ سامعًا وسمعًا ومسموعًا، مبصِرًا وبصرًا ومبصَرًا؟ هل يجوز أن يكون الله مبنيًّا للمجهول في صياغات عبارات التنزيه؟ هل ما زال ردُّ الفعل على التشبيه قائمًا وعلى ثنائية الذات والصفات واعتبار الصفات زائدة على الذات والمخاطرة بالوقوع في التشبيه عند الأشاعرة؟ أم أنها صورة «الارستقراطي النبيل»، الواعي بذاته الذي لا يحتاج إلا إلى نفسه، ولا يحب إلا نفسه، كل شيء فيه وله ومنه؟
ويقوم اللاهوت الإيجابي على وصف الله بكمالات الإنسان، بالإنسان الكامل، الإنسان كما ينبغي أن يكون، بأقصى ما يصبو إليه الإنسان من نفسه، بأعز ما لدى الإنسان من وعيٍ ذاتيٍّ. الفرق فقط أنها تقال على الإنسان نسبيًّا وعلى الله بإطلاق. وكلها صفات إيجابية ملوكية. للإنسان جوهر وأعراض، ولله ذات وصفات، قياسًا للغائب على الشاهد، في الإنسان مرئية وفي الله غير مرئية.
ويستفيض الفارابي في اللاهوت السلبي، تبرئة الله وتنزيهه من كل أنحاء النقص البشري. ليس في مادة، وليس له صورة وإلا كان مركبًا. وهو ما يعادل وصف الذات بأنها لا تُشبه الحوادث، وليست في محل في علم أصول الدين، ومن أجل التسامي والاستعلاء عن طريق نفي ما هو موجود لتجاوزه.
وقد يقوم النفي على استدلال منطقي لتخفَّ حدةُ التعالي والانفعالات النفسية، مثل نفيِ الشريك والصفة والحد عنه تعالى. يقوم نفيُ الشريك على إثبات المباينة لكل ما سواه، أي أنه لا يُشبه الحوادث كما هو الحال في علم أصول الدين. وهي صورة سلبية للتنزيه، وفي نفس الوقت رفض المباينة والتغاير والاثنينية. فهو كل شيء واحد لا ينقسم. والدليل على نفيِ المباينة هو أنه لو كانت مباينة كان الذي باين فيه غير الذي شارك فيه. فيكون الشيء الذي باين به جزءًا مقوِّيًا له، والذي اشتركَا فيه هو الجزء الأخير، فيكون كلُّ واحد منقسمًا ويكون كلُّ واحد من جزئَيه سببًا لقوام ذاته فلا يكون أولًا، ولا يكون هناك موجود أقدم منه هو سببه وهذا محال. ويتكرر الدليل بالنسبة للآخر المباين المشارك لإثبات أنه ليس في المرتبة الأولى. فإذا كان الآخر هو الذي يُباين ولم يكن هذا شيئًا يباين لزم أن يكون الآخر هو الوجود الذي يخص ذاك وهو وجود مشترك. فالآخر مركَّب من شيئين، شيء يختص به وشيء يشارك فيه. فالآخر منقسم، والذات بسيط. والتقسيم له سبب وجود وأنقص من البسيط فلا يكون في الوجود الرتبة الأولى. وهناك صيغة ثالثة وهو أنه لو كان مثل وجوده في النوع خارجًا منه بشيء آخر لم يكن تامَّ الوجود؛ لأن التام هو الذي لا يوجد شيء خارجٌ عنه من نوع وجوده. فالتام في العظمة ما لا يوجد أعظم منه. والتام في الجمال ما لا يوجد أجمل منه. والتام في الجوهر ما لا يوجد أكثر منه جوهرية. كل تام من الأجسام لا يمكن أن يكون من نوع شيء آخر غيره. وإذا كان الأول تامَّ الوجود فهو متفرد به وحده. فهو واحد من هذه الجهة.
ونفيُ الضد عنه استمرار اللاهوت السلبي الصريح، والاستدلال الداخلي، والمحاجة مع النفس دون إظهار الخصم بعد أن تحوَّل الكلام إلى حكمة، واعتمادًا على العقل الخالص دون أدلة نقلية. والضد مباين للشيء. فهو إحدى حالات المباينة. ولا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء. وليس كلُّ مباين ضدًّا وليس كل ما لا يكون الشيء ضدًّا. الضد ما كان معاندًا، يُبطل كلٌّ منهما الآخر ويفسده إذا اجتمعَا. كلٌّ منهما يوجد ووجوده مرهون بعدم الآخر. والضد في الوجود وفي الحال أو الكيفية وفي الفعل أو في الجوهر، والتضاد في الجوهر لا يجعل الشيء قائمًا بذاته، أزليًّا باقيًا أولًا، ولا سببًا لوجوده بل الضد هو سببه. والضد لهما مشترك، يجعل تلاقيهما ممكنًا بحيث يُبطل أحدهما الآخر، موضوع أو جنس أو غيرهما. ويكون وجوده أقدم منهما. وهما يتعاقبان عليه. ولما كان الضدان في رتبة واحدة فالأول متفرد بوجوده دون مشاركة. فهو إذن واحد متفرد برُتبته.
ويصل اللاهوت السلبي إلى حدِّ النفي المطلق بل نفي النفي، فالتنزيه لا حدود له، والتسامي لا حدَّ له. لا أفضل ولا أقدم منه، ولا أرفع من وجوده، لا يشوب وجودَه عدمٌ أصلًا. ولا يمكن أن يكون له وجود بالقوة، ولا بوجه من الوجوه. ليس في حاجة إلى أن يكون أزليًّا. لا يوجد وجودٌ مثل وجوده أو مرتبة مثل مرتبته. ليس له سبب وليس له مادة. لا يقوم بمادة أو في موضوع، لا صورة ولا غاية ولا غرض له.
ولا يختلف اللاهوت السلبي في نظرية الفيض عنه في نظرية الخلق، الحديث عن الله بلغة التطهير والتنزيه. ويتولى السلب تباعًا؛ لأنه إيقاع نفسي في نفس الصياغات اللغوية يقوم على نفي المشاهدة الحسية. لا علة لوجوده، ولا يوجب بغيره، منزَّه عن جميع أحوال النقص، لا ماهية له مثل الجسم، لا جنس، ولا فصل، ولا حدَّ له، لا يمازجه العدم، ليس له وجود بالقوة، لا يمكن ألَّا يكون، لا حاجة به إلى شيء يمدُّ بقاءه، لا يتغير من حال إلى حال، لا يقبل التجزؤ، لا كم ولا متى ولا أين، ولا تنطبق عليه كل الأعراض، والجنس والفصل والضد. لم تَعُد الصياغات تشير إلى شيء في الخارج بل تعبر عن عمليات نفسية تستبعد المماثلة والمشابهة والقياس. واجب الوجود لا ينقسم بالفصول ولا بالحمل، لا جنس ولا فصل ولا نوع ولا ندَّ ولا مقوم ولا موضوع ولا عوارض ولا ليس له. الحق لا ينقسم ولا يشارك غيره، ولا يقابل ضدًّا، ولا يتجزأ مقدارًا ولا حدًّا، ولا يختلف ماهية وهوية، ولا يتغاير ظاهريًّا وباطنيًّا. هو اقتضاء نفسي بنفي الجواز أن يكون جسمًا، سطحًا وخطًّا ونقطة؛ لأن الجسم مركَّب من مادة وصورة، وهما علتان للجسم، والموجود الأول واحد. كما تظهر لغة الاحتياج والإشباع الإنسانية فهو لا يحتاج، ومستغنٍ عن كل شيء، لا يُشبه أحدًا، ويباين كلَّ شيء لتفرده.
وإذا كانت الحركة والزمان والعدم موجودات ناقصة وبالتالي فإن معقولاتها ناقصة في حين أن الأشكال الرياضية، المثلث والمربع أكمل وبالتالي فإن معقولاتها أكمل. ومن ثَم يمكن قياس كمال الموجود الأول على كمال الأشكال الرياضية، انتقالًا من الجزئي إلى الكلي، ومن الحسي إلى العقلي، ومن المرئي إلى غير المرئي. ولمَ إدانة الحركة والزمان والنهاية والعدم والحكم عليها بالنقصان وهي مظاهر للطبيعة، وقد تكون من كمالات الإنسان أن يحولها إلى كمال؟ ألَا يعبر ذلك عن الاغتراب الديني والموقف النفسي المسبق بأن الثبات والخلود والوجود كمال؟ ولماذا الأشكال الرياضية أكمل وهي فارغة صورية، والزمان والحركة أفضل منها وأكمل فيها عشق وحياة؟
فهو كامل الأوصاف، مبرَّأ من جميع أنحاء النقص. وهو كمال إنساني مثل الخير والإشراق والبهاء والحكمة والعقل والجمال والبهاء إثباتًا لا نفيًا، تشبيهًا لا تنزيهًا. وتستعمل لغة الإشراق مثل غاية الجمال والكمال والبهاء وله أعظم السرور بذاته، وهو العاشق الأول والمعشوق الأول. ويصل الأمر إلى وصْف الله بالملتذ بذاته، الفرِح بنفسه، وهي من صفات النقص الإنساني. فالفيض له لغته الإشراقية لغة المحبة والعشق والكمال والغاية والقصد. هو الخير بالحقيقة خير محض، والشر عدم ذلك توحيدًا بين الوجود والأخلاق. الخير تشوق كل شيء في حدِّه، وإتمام وجوده، وبلوغ رتبته، ونَيل حقيقته.
والفرق بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية فرقٌ في الدرجة وليس في النوع. لله أفعل التفضيل. فهو أكمل وأرفع وأفضل وأبهى وأجمل. يعقل أفضل معقول بأفضل عقل، ويعلم أفضل معلوم بأفضل علم، ويدرك المدركات بأحسن إدراك، يعلم بالعلم الأتم، ويوجد الوجود الأتم. لذلك يسمَّى الإنسان مجدًا وجلالًا وهما من صفاته تعالى. وفي هذه الحالة يكون أفعل التفضيل تنزيه شعوري. والأجمل والأبهي والأزين هي أيضًا لغة الحبيب.
والحكمة أفضل الأشياء بأفضل علم، وأفضل العلم هو الدائم الذي لا يزول أي العلم بالذات. يكشف أفعل التفضيل عن المبالغات المستمرة، والتحول من النسبي الإنساني إلى المطلق الإلهي، أفضل الأشياء، وكأن الله شيء، أفضل العلم وكأن العلم على مراتب حتى تكون الحكمة أفضله.
وتصبح الصفات الإنشائية خطابية في صياغات أدبية وتلقائية فنية، تعبر عن الإشراق مثل صفات البهاء والجمال والزينة، بداية صفات الغزَل والحب للجميل الفائق الجمال والبهاء. اللذة والفرح والسرور والغبطة بمعرفته. وهي لغة الحب الصوفي، لا فرق بين صفاته في ذاته وتجلِّيَّاته في الذات الإنسانية حين معرفته.
والسؤال هو: ألَا توجد في الله معرفة بالآلام والشرور والمعاناة؟ ألَا توجد معارف يتألم لها الإنسان ويعتصر لها قلبُه ويتأزم ويموت؟ ألَا يتألم الله لآلام البشر ويحزن لحزنهم كما يفرح لفرحهم؟ وهل الألم والشقاء عيب ونقص؟ وما وجه الكمال الذي لا يتألم ولا يشقى طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. هذا إقلالٌ من شأن الذات وإعلاء من شأن الآخر، وهو أساس التملُّق الاجتماعي.
واضح أن الفلسفة أقرب إلى الثقافة المغتربة وليست تعبيرًا عن واقع حتى في تجربة الحب الإنساني. فليس الحبُّ كلُّه لذةً وشوقًا وفرحًا وسرورًا، وأشواقًا وعناقًا. على الأقل يصور علم أصول الدين الواقع كما يبدو في تاريخ الفِرَق السياسية في حين أن علوم الحكمة لا تعبِّر عن واقع الفكر بل عن متطلباته وأمانيه.
وتشير أوصاف الحكمة والعقل والعلم إلى أن الفيض ما زال مرتبطًا بالعقل كصفة كمال لله. ولمزيد من التفخيم والتنظيم تضعف الصفات مرة واحدة، مثل عقل وعاقل على وزن فعل وفاعل، أو تضعف مرتين فتصبح ثلاثية الإيقاع عقل وعاقل ومعقول، عشق وعاشق ومعشوق، علم وعالم ومعلوم على وزن فعل وفاعل ومفعول ليبلغ الوصف قمة الكمال عندما يتحد الذات بالموضوع بعد أن تتوحَّد الذات، صفتها مع فعلها. قمةُ التفرد والتوحُّدِ الجمعُ بين العقل والعاقل والمعقول تأليهًا، وضمُّ الأكثر في الأقل والكثير في الواحد على عكس الإنسان.
وقد يكون هذا الطريق الثالث اعترافًا بإسقاط الصفات الإنسانية على الله ودفعها إلى حدِّ الإطلاق مع أن عظمة الكمال الإنساني في نسبيَّته والسعي نحو مزيد منه دون بلوغ الحد الأقصى.
كما أنه يجعل الله وعيًا بذاته مغلقًا على نفسه، دائرة مغلقة، الذات والموضوع، الذات وصورتها في مِرآة ذاتها، الوعي الذاتي، التوحُّد الذاتي، الوعي الخالص، الرئيس الأوحد. وبالرغم مما في ذلك من رغبة في التنزيه إلا أنها تقع في النرجسية، حب الذات وعشقها لنفسها كموضوع للعشق، وتتحول لغة العقل إلى لغة الوجدان. وأين الآخر ووجوده بحيث يمكن أن تحقق الغاية من العشق، وهي الوحدة بين الأنا والآخر؟ الله فكرة محددة تجعل العقل يعرف حدود اللغة والتشبيه والقياس تدفعه إلى البحث عن الأكمل، والتوجه نحو الخالص دون الوقوع في التجسيم والتشبيه أو القطعية والتوحيد بين القصد وهو التعالي والحكم، أي القضية القائمة على اللغة والتصورات. وما الفائدة من إرادته لذاته؟ ألَا يدل ذلك على نقصٍ؛ لأن الإرادة رغبة، والرغبة حاجة، والحاجة نقص، والنقص ضد الكمال، وبالتالي يتوجه التحليل كله عكس المقصود وضد التصور المسبق وهو الكمال.
وفي طريق التشبيه لا يدرك الله إلا بالنسبة للإنسان على المستوى الشعري الجمالي الأدبي. فالصورة الفنية أكثرُ بلاغة من الحجة العقلية. ومن ثَم يصبح الدين في تعبيرات أقرب إلى الأدب منه إلى المنطق أو الطبيعة أو الميتافيزيقا.
كيف يكون الله عاشقًا لذاته وفي نفس الوقت يصدر شيء عنه عن غير ذاته؟! أما أن يكون الشيء مخالفًا له فكيف يصدر المخالف عن الشبيه، والاختلاف عن الهوية أو أن يكون مشابهًا له فيكون تأليهًا للعالم وتجسيمًا له. وكيف يكون الله غرض نفسه وفي نفس الوقت يصدر عنه شيء آخر مخالف ومباين؟ هل الحديث القدسي الشهير «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ الحق فبه عرفوني.» الذي يرويه الصوفية هو الماوراء الشعوري لنظرية الفيض؟ أليس في إثبات الشوق إثباتٌ للغائية؟ وإذا كانت الغاية ذاته فما الفائدة من الغائية وهي تعني أولًا الاتجاه نحو الغير والقصد إليه؟ وهل حبُّ الغير غيرُ حبِّ الذات؟ الحب خروج نحو الآخر وليس نحو الذات، تجاوز الأنانية إلى الغيرية إلا إذا كان في ذلك إثباتٌ أعظم.
ويصف الخطاب الفلسفي أيضًا الموجود الأول بأسماء مع الصفات دون تمييز بينهما كما هو الحال في علم الكلام. وهي نوعان. الأول ما يدل على ذاته دون إضافة شيء آخر مثل الوجود والواحد والحي. وهو ما يعادل أوصاف الذات في علم الكلام. والثاني ما يضاف إلى شيء خارجي مثل العدل والجود، وهو ما يعادل الأفعال تجاوزًا للصفات المتوسطة بين الأوصاف والأفعال.
- (١)
رؤية صفات الإنسان الواقعية.
- (٢)
إدانتها كنقص نتيجة للاغتراب واتهام الذات بالدونية.
- (٣)
إطلاقها إلى حد الكمال تعزيةً وتعويضًا.
- (٤)
وصف الله بها بعد تجوهرها وتجسيمها ونقلها من الصفات إلى الجوهر، ومن الحالات إلى الموضوع.
- (٥)
جعلها في الله وحده على الحقيقة ثم إنكار كل العمليات السابقة خداعًا للنفس وإيهامًا لها.
وتظهر الأسماء من بقايا علم الكلام في الفلسفة مع تطوير لها خاصة وأنها تسمح بأفعل التفضيل وبالإنشاء وبالمبالغة والتعبير عن الكمال والفضيلة إلى ما لا نهاية دون أن يدلَّ كلُّ اسم منها على جوهر محدد. كما تعبر عن قياس الغائب على الشاهد أساس الإلهيات. وهي أسماء كثيرة تدل على جوهر واحد، ألفاظ متعددة لها معنًى واحد، وتعبيرات مختلفة تدل على قصد واحد.
ثم يتفرد الله بالأسماء بعد انتزاعها من أصلها ثم إطلاقها عليه بالإضافة. وتدل عليه بمرور الزمن والتعود عليه أولًا مثل الوجود والواحد. وبعد ذلك تدل على غيره بالإضافة. كانت في البداية كمالات الإنسان ومثالاته ثم أصبحت أسماء الله المطلقة، ولا ينال الإنسان منها إلا الأجزاء والنِّسَب والإضافات. يتحول الأصل إلى فرع ثم يصبح الفرع أصلًا.
ونظرًا لإنشائيات الأسماء يظهر بعض النقص في الأحكام النظري. فإذا كان الله لا متناهيًا كيف تكون له أسماء متناهية، تسعة وتسعون اسمًا كما هو الحال في علم الكلام بناءً على الرواية المشهورة؟
وكل كمال في الوجود انتُزع منه وأُعطيَ للأول، حركة سلب في حاجة إلى حركة استرداد. ومن ثَم وصف الله بصفات الكمال الإنساني وليس بصفات النقص التي تُنفى عنه كما هو الحال في اللاهوت السلبي، من عمل الوهم والخداع. كلها ما ينبغيان أيَّ اقتضاء نفسي، ومطلب أخلاقي، ونزوع روحي، وتحقق وجودي. لا يمكن وصف الله في ذاته أي في جوهره بل فقط قياسًا على الإنسان، قياسًا للغائب على الشاهد. وكل حديث عن الله تشبيه بالضرورة، حديث الإنسان عن نفسه خارج عنه. حديث الله عن نفسه بلغة الإنسان، وحديث الإنسان عن الله بلغة الإنسان. لا توجد أي وسيلة لمعرفة الله في جوهره إلا عن طريق ما يسقطه عليه الإنسان من كمالاته. كل حديث عن الله ليس وصفًا خبريًّا بل هو حديث إنشائي، ليس حديثًا عن الله بل حديثًا عن الإنسان خارج نفسه، مزحزحًا الله في ذاته إلى الإنسان المتجوهر خارج ذاته. حتى الصفات التي يظن أنه يتفرد بها هي أيضًا من كمالات الإنسان مثل الوجود والوحدانية. فالإنسان موجود يحقق وجوده بالفعل بحرية الفكر والعمل. وهو واحد في شخصيته وليس اثنين كما هو الحال في النفاق وازدواجية الشخصية. ولماذا يكون الوجود والوحدانية من صفات ذاته والعدل والجور من صفات غيره تُعطى له بالإضافة مع أن الوجود والوحدانية من صفات الإنسان وكمالاته، والعدل دون الجور من صفات الله أيضًا ولا يقلَّان عن الوجود والوحدانية تميزًا له؟
وهذا عمل الوهم أي الشعور الخالص المتجرد من أي موضوع خارجي، خداع النفس الميتافيزيقي، الوهم الإيجابي، الذات عندما تتراءَى لنفسها في مِرآة ذاتها.
ويأتي الفيض وترتيب الموجودات بعد الذات والصفات والأسماء وكأنها تحل محلَّ الأفعال في نظرية الذات والصفات الأفعال الشهيرة عند الأشاعرة في علم أصول الدين، ولما كان الفيضُ جودًا وعدلًا، وجودًا وقيمة أصبح معادلًا لأصل العدل مع التوحيد كما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي.
ويعبر الفيض عن نفسه بلغة الوحدة والكثرة. فالموجود الأول واحد في حين أن مراتب الموجودات التي تفيض منه كثيرة. وتكون حركة الفيض من الوجود الأول إلى مراتب الموجودات، حركة ذهاب من الوحدة إلى الكثرة، ومن مراتب الموجودات إلى الموجود الأول، حركة إياب عن الكثرة إلى الوحدة. ويظل الموجود الأول بعد الفيض واحدًا لا ينقسم. الواحد أساس الكثير كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر.
تبدأ نظرية الفيض بوضع الموجود الحق باعتباره واجب الوجود. هو الأول والواحد دون المرور بالطبيعيات والأدلة الطبيعية على وجود الله. البداية بالله والطبيعة تفيض عنه، ولا تبدأ بالطبيعة والله نتيجة لها. ولا يوجد تمييز بين واجب الوجود وبين ما يفيض عنه وكأنه موضوع واحد لا فصلَ فيه بين الأول والثاني. الفيض جوهر واحد يجمع المفيض والفائض، المضيف والضيف.
وإذا كان الله قد خلق العالم بالإرادة في نظرية الخلق كعلة فاعلة للعالم فإن العالم قد فاض عن الله في نظرية الفيض بالطبيعة وليس بالإرادة، فالله بطبيعته وبصيغة الجود والكرم، يفيض العالم منه. الله وجود جميع الأشياء منه، والموجودات كلها على الترتيب من أثر وجوده. يتم الفيض بالعقل لا بالإرادة. فالفعل ضعف في التأمل. الفيض ليس عن قصد ولا عن طبع، فالقصد إرادة والطبع حتمية.
تظهر الأشياء منه لأنه عالم بذاته، مبدأ نظام الخير وإبداعه حفظ ودوام الشيء. وتتحول العملية الكونية إلى أخلاق، من واجب الوجود إلى مبدأ نظام الخير. وتظهر لغة الاشتياق والاشتهاء والشوق واللذة هربًا من العقل الكلامي والعالم المادي، وتصبح نظرية الفيض أقرب إلى التصوف منها إلى الفلسفة وأشبه بوحدة الوجود التي تنجلي تدريجيًّا كما هو الحال في فصوص الحكم لابن عربي.
وتفيض الأشياء عن الله عن طريق الملائمة. فلا يصدر عنه إلا ما يلائمه لا ليكمل نفسه بفعله بل لأن الفعل أولى به وأليق وإلا كان ناقصًا. يبدو الاستدلال أشبه بقياس الأولى ولكن على مستوى أخلاقي ذوقي يعبر عنه بلفظ «أليق».
كل الموجودات الأبدية لها نِسَبٌ واحدة بعضها لبعض. وكلها معلولة للأول. وهي إما إضافية أو مضادية أو علية. وكلها نِسَبٌ لا متناهية. كلُّ منها علةٌ لما تحتها ومعلولٌ لما فوقها. وتتداخل النسَب فيما بينها. وكل من الموجودات له أكثر من نسبة، يكون متضايفًا، ومضادًّا ومعلولًا وعلة. ومع ذلك قصورُها وهيْأتُها المنتقشة متناهية. والجسم لا يكون علة جسم أو نفس أو عقل. فالأدنى ليس مصدرًا للأعلى. الفيض على مراتب تعبيرًا عن معنى آية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وترتيب الأشياء بين الكليات والجزئيات، بين العلل والمعلولات.
ما زالت لغة وتصورات نظرية الخلق سائدة في نظرية الفيض مثل العلية والتصور الثنائي للعالم. فهناك عللٌ متوسطة بين الله والعالم في سلسلة من العلل والمعلولات. الله يفعل في العالم من خلال العلل المتوسطة. وهو علة أولى وليس معلولًا لعلة أخرى. العلة الأولى لا متناهية في حين أن العلل المتوسطة قد تكون لا متناهية أو متناهية. والعلل المتوسطة توجد مع المعلول باستثناء العلة الأولى. والعلل التي لا توجد مع المعلولات ليست عللًا بالحقيقة بل معدات أو معينات مثل الحركة وعلة الحرارة المطلقة وعلة النار، وماهية الصور، وفعل الإحراق دون أن تكون علة شخصية. وهذا تنويع على برهان العلية لإثبات وجود الله كما هو الحال في نظرية الخلق. في نظرية الفيض ليس المطلوب إثبات وجود الله بل إثبات فيض العالم عن الله. الله موجود لأن العالم موجود، والعالم موجود لأن الله موجود. والوجود — بما في ذلك وجودنا — ليس في حاجة إلى إثبات.
ما زالت نظرية الفيض تعيش داخل نظرية الخلق والتصور الثنائي للعالم. فالعالم فاسد، وفساده كونه مثل سائر الأجسام. الكون تركيب، والفساد انحلال، اجتماع وافتراق، وكلاهما في الزمان الطويل والقصير، في المبدأ المحض وفي النهاية المحضة. العالم متكون وفاسد، وكونه وفساده لا في زمان، وأجزاء العالم متكونة فاسدة، وكونها وفسادها في زمان. والله هو الواحد الحق المبدع للكل، لا كونَ ولا فساد. الموجود الأول لا يفسد في مقابل الكون الفاسد. فالحكم بفساد الكون فكرة مقلوبة من الموجود الأول الذي لا يفسد والعكس صحيح. فكلاهما متضايفان. كما أن هذا العالم يجمع بين التناهي واللاتناهي، تناهي الصور والهيئات المتنفسة للإدراك ولا تناهي نِسَب التضايف والتضاد والعلية.
ويعرض الفارابي ممكن الوجود على نحوٍ منطقي ميتافيزيقي يتناول الهوية والوجود. في الإنسان ماهيته غير هويته أي وجوده. والماهية المعلولة ليست من ذاتها بل توجد لغيرها. فهي محدثة لا بزمان تقدم. لا يمتنع وجودها في ذاتها وإلا لم توجد ولا يجب وجودها بذاتها وإلا لم تَكَد معلولة. فهي في حدِّ ذاتها ممكنة الوجود. وتجب بشرط مبدئها، وتمتنع بشرط مبدئها، هالكة في حد ذاتها، وضرورية واجبة من الجهة المنسوبة إلى مبدئها. وهذا معنى آية كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، إشارة إلى الممكن الموجود بداية، ولا يكون واجب الوجود أو ممتنع الوجود إلا بغيره ومبدئه وهو واجب الوجود.
وتقال كل ماهية على كثيرين ليس لماهيتها بل لغيرها؛ لأن وجودها معلول لغير الذات. واشتراك الكثيرين في الماهية ليس من ذاتها بل من خارجها لأنها معلولة. ويشبه ذلك المنطق. فالفصل لا مدخل له في ماهية الجنس وإن دخل في طبيعته أي إنيَّته. الأدنى لا يحكم على الأعلى أو الفصل لا يحكم على الجنس. فترتيب الكليات الخمس ترتيبٌ ميتافيزيقي يتفق مع الفيض في الوجود والإشراق في المعرفة. يتقوم الجنس بالفصل من أجل حصوله على ذاته. وشخص وعين البحث عن ممكن الوجود سابق على واجب الوجود، من الطبيعة إلى الله مما يدل على أن واجب الوجود هو ممكن الوجود مقلوبًا، منفيًّا، مدفوعًا إلى نقيضه للبحث عن أساس له بالتمني والتطهر دون أساس اجتماعي له.
ونظرية الفيض أقرب إلى عمل الخيال منها إلى عمل العقل، صورة فنية إشراقية حتى ولو تحولت إلى أساطير عقول الأفلاك ونفوسها. كيف يمكن تصور الإبداع على هذا النحو الإشراقي الفني الخالي من الصراع والضد والإرادة المتجددة والوسائط وآلام الوضع وأحزان الزمان؟ كيف يكون إبداع ولا جديد في الوجود طالما أن كل فيض لاحق قد يتضمن في الفيض السابق والكل خارج وطائع ومقلد للمبدع الأول الذي فاض بطبيعته وليس بإرادته. وقد توقع نظرية الفيض في تصور هرمي للعالم تعظم أخطارها عندما تتحول إلى بنية اجتماعية وسياسية فتنتج المجتمع الطبقي، والنظام السياسي الرئاسي باسم المدينة الفاضلة. الأعلى أفضل من الأدنى بالضرورة مما يجعل العلاقة بين السيد والعبد علاقة أبدية دون جدل السيد والعبد وتبادُل الأدوار. كل شيء من الموجود الأول فهو عمادة دون جدل السيد والعبد وتبادُل الأدوار. كل شيء من الموجود الأول فهو عمادة البناء كله.
وكيف يمكن الخروج عن الذاتية في نظرية الفيض واللحاق بالعالم الخارجي الذي لا يكون نتيجة لانتشار الوعي أو الوعي المصمت بعد أن ينتهيَ الفيض ويصل إلى أدنى درجة؟ هل يصدر شيء من مجرد تعقل الذات؟ إلى هذا الحد بلغت قمة الذاتية التي تخلق موضوعها؟ وهل يمكن لما يحدث في الذات الإلهية أن يحدث في الذات الإنسانية بدلًا من ضياعها في عالم الأشياء وذوبانها فيه؟ وماذا يعني الفناء في هذه الحالة، عودة ما خرج إلى الوجود الأول وهو لم يخرج منه؟ هل العودة كونية موضوعية أم معرفية ذاتية؟ وهل يستطيع الإشراق رتْقَ ما أحدثه الفيض من فتق؟ وإذا كان الإشراق بعثًا جديدًا فهل هو وهمٌ ذاتي إذا لم يبعث الكون معه؟ وما فائدة صياغة ملاحم شعرية وصور فنية في بناء علوي بديل عن العالم السفلي المحطم؟ وكيف يتم الفعل في العالم والجهاد في الأرض والسعي والكد والكدح فيها والتأمل يُغني عنه، والوعي بالذات يُغني عن الفعل في العالم؟ كيف يتم التغير في هذه الحتمية الكونية والهرم الثابت؟
وبالرغم من أن نظرية الفيض تحاول الردَّ على الاعتراضات على نظرية الخلق والتصور الثنائي للعالم والانفصال إلى درجة التضاد بين العالمَين إلا أن الفيض لا يفسر كيف تخرج المادة من اللامادة أيضًا كاختلاف في النوع وليس فقط كاختلاف في الدرجة. كيف يخرج الزمان من لا زمان بفعل التعقل، والكثير عن الواحد، والحادث من القديم، وهي حجج ابن رشد ضد نظرية الخلق دفاعًا عن الفلاسفة لو قالوا بقِدَم العالم؟ يطغَى الاتصال على الانفصال، والوحدة على التنوع، والتشابه على الاختلاف.
ويمكن الاعتراض على الفيض بأنه يقلل من شأن التوحيد، ويقول بالمشاركة فيض العقل عن الله، والنفس عن العقل، والمادة عن النفس في علاقات علية متوسطة وكأن الله في حاجة إلى هذه المتوسطات حتى يتمَّ خلقه. ألَا يشارك الموجود الله في صفاته ما دام خرج منه، ويشاركه في أفعاله ما دام يفيض عنه كما فاض هو عن الله؟ بل إن الفيض بالرغم من حرصه على التنزيه إلا أنه لم يسلَم من التشبيه باستعمال الصور الإنسانية مثل الآلة والاحتياج والاستعانة.
(ب) العقل (العقول الثواني) العقل الفعال، الأجسام الأجرام، الأفلاك
ويفيض العقل عن الموجود الأول. ويتولَّى الفيض في عقول عشرة حتى العقل الفعال. كلُّ عقل سابق أشرفُ من العقل اللاحق وكلُّها أشرف من الأمور المادية التالية كالنفس والأجسام العلوية التي هي بدورها أشرف من الأجسام المادية المكونة من المادة والصورة كمال الأشرف هو الأقدم في ذاته، وعند الحكماء ما يحتاج إليه الشيء في وجوده وبقائه، كمال أول، وما لا يحتاج إليه كمال ثانٍ. عندما يعقل نفسه تصدر عنه صورة تتعلق بالفلك والنفس والمادة. وإذا عقل الثاني ذاته صدر عنه أيضًا فلك ونفس ومادة. فهناك عقول عشرة وأفلاك عشرة، ونفوس عشرة. العقل الأول عقل نفسه فصدر عنه عقلٌ ثانٍ لا وجود من ذاته بل يوجد من غيره.
فهل العقل الأول هو الواحد أم أنه بعد الواحد؟ يبدو أن العقل الأول بعد الواحد وأحيانًا يبدو أنه هو الواحد، عقل وعاقل ومعقول. هل الله هو العقل الأول يفيض عنه العقل الثاني أم أن العقل الأول يفيض عن الله ثم يفيض العقل الثاني عن الأول؟ ولمَ عقول عشرة ثم تتوقف؟ هل لأخذ الوافد كأداة للتعبير عن الموروث؟ هل هو تقدير للعقل، ومبالغة تحوله إلى أسطورة ثم تحجره وفصله عن حياة الناس؟ ولمَ تختلف هذه العقول بينها بالنوع مع أن الخلاف في الدرجة فحسب؟ ألَا يستطيع العقل الواحد أن يقوم بكل هذه الوظائف؟ ألَا يكفي عقل واحد في الإنسان وفي التاريخ بدلًا من هذه العقول العشرة الأسطورية التي لا وجودَ لها؟ هل هو تعويض عن العقل الضائع في الإشراق كما هو الحال عند الصوفية أم هو ردُّ فعل على عقل المتكلمين لصالح السلطة واستنباط الفقهاء لصالح السلطان؟
وتفيض صور الموجودات عن واجب الوجود عقليًّا. فالموجودات هي نفسها عقل. والعقل وجود مثل الله، لا تمايُز فيه بين الماهية والوجود، وكذلك ما يصدر عنه لا تمايُز فيه بين الموجودات والمعقولات. الهوية هي أساس الصلة بين المعقول والموجود وليس الاختلاف، ولو كان الاختلاف لأدَّى التسلسل إلى ما لا نهاية طبقًا لعلاقة العلة بالمعلول، أيهما علة وأيهما معلول. ولما كان العقل علة والموجود معلولًا كان السؤال وما علة العقل؟
والعقل الفعال وسيلة لإكمال نقص الجواهر تحت السماء. وهو الذي يهب المادة الأولى صورة. فالمادة الأولى مجرد طبيعة وإمكان واستعداد. العقل الفعال والأجسام السماوية هما الوصيان على الأرض والمربيان لها. ويأتي العقل الفعال بعد فعل الجسم السمائي، ويساعد على المفارقة، أي تحول المعقولات بالقوة إلى معقولات بالفعل. فهي لا تكفل إلا بعقل خارجي هو الجسم السمائي وأجزاؤه. فالسماء تتحكم في الأرض، والأعلى يوجه الأدنى. ولا يحدث ذلك إلا في الإنسان. فالإنسان هو الغاية. ولا يكمل إلا الإنسان بتخلصه من المادة وبتحول عقله من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل. وتلك سعادة الإنسان في وجوده المتجردة عن المادة وفي معرفته النظرية.
والسؤال: كيف تخرج الكثرة من الوحدة، والمادة من اللامادة، والناقص من الكامل؟ هل الكثرة دليل على البساطة أم أنها بداية التركيب والتجزئة والتعقيد؟ ولماذا هي فعالة؟ هل يفوض الله جزءًا من فعله لها؟ ولماذا يفعل الله عن طريق الوسائط وهي تحت قدرة الإنسان ومن أجله، أما العقول الفعالة فخارج قدرة الإنسان وسيطرته؟ الوحدة من لوازم الوجود وليست طارئة عليه وفي نفس الوقت مفارقة من أجل إثبات وحدانية الله وفي نفس الوقت إثبات تجلياتها في الوجود. فالله تصور معرفي وصفاته تصورات للوجود. فهل الثواني والعقل الفعال والنفوس ناقصة؟ وما مظاهر نقصها؟ هل لأنها تستمد وجودها من غيرها؟
ألَا يعبر هذا التصور كله عن اقتضاء أخلاقي ومطلب نفسي؟ فالأعلى أشرف من الأدنى، والأشرف مثل الأكمل والأجمل والأبهى. كلها علاقات قيمية وليست علاقات وجود. ولماذا السماويات أشرف من الأرضيات، والسماء جزء من الطبيعة طبقًا للحكمة القديمة؟ بل إن «السماء والعالم» أول كتاب بعد «سمع الكيان». ولماذا تكون السماء أفضل من الأرض إلا بناء على موقف مغترب من العالم؟ الكمال الأول والكمال الثاني، كلُّ ذلك يدل على أن التصور كلَّه أخلاقي إنساني وليس إلهيًّا طبيعيًّا، وأنه قول إنشائي وليس قولًا خبريًّا.
وهي عقول فعالة كلها تنتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر فلك الأرض، وهو سبب وجود الأنفس الأرضية، وسبب وجود العناصر الأربعة بواسطة الأفلاك. والعقل الفعال واحد كما هو الحال في السبب الأول بالرغم مما قد ينتج عن ذلك من مشاركة في صفة الوحدانية معه. ويعقل الأول والثواني في ذاته، ويعقل ما ليس بذواتها معقولات. يدرك ما فوقه وما تحته. المعقولات بذواتها هي الأشياء والمفارقة للأجسام التي ليست قوامها في مادة وما ليس بذواتها معقولات كالحجارة والنبات، ولكن العقل الفعال يجعلها معقولات بالفعل، ويرفعها من الطبيعة إلى رتبة أرفع. العلم هو العلم بالعلو أي العلم الكلي.
والعقل الفعال هو الذي يجعل القوة الناطقة عقلًا بالفعل. الجهد من الخارج، من أعلى، وليس من الداخل، من الإنسان حتى يصبح العقل الإنساني مثل العقل الفعال، عقل وعاقل ومعقول كالذات والموضوع والعلاقة بينهما، وبالتالي يحصل الإنسان على السعادة في المعرفة، ويتحول العقل الإنساني إلى عقل إلهي بعد أن كان هيولانيًّا، ويتشبه به. فكلاهما عقل وعاقل ومعقول.
وظيفة العقل الفعال الاتصال بالحيوان الناطق، أي بالكائنات الحية من أجل إيصاله إلى أقصى مراتب الكمال، السعادة القصوى. فالعلم يؤدي إلى السعادة، يجمع بين النظر والعمل، بين المعرفة والسعادة. مهمتُه تبليغ العلم والرسالات. فالحياة علم كما سيتضح بعد ذلك في «حي بن يقظان». الحياة بنت اليقظة ممثلة في حياة الشعور. والإنسان قادر على المفارقة، والاتصال بالعقل الفعل، ويكون مثله وفي مرتبته دون ما حاجة إلى جسم أو عرَض. العلم يأتي من العقل الفعال كما هو الحال في «التنزيل»، ويصعد إلى العقل الفعال كما هو الحال في «التأويل» بين العقل الفعال والعقل المفعل حركتان، نزول وصعود، ذهاب وإياب كما هو الحال في الوعي المتبادل على المستوى الرأسي بين الإنسان والله، وليس على المستوى الأفقي بين الإنسان والإنسان.
والصلة بين العقل الفعال والقوة الناطقة كصلة الشمس بالبصر، يعطيه الضوء. فالأمر تشبيهٌ وخيال وليس فكرًا، تصوير إنساني وليس علمًا. بفضل الضوء يصبح الإنسان مبصرًا بالفعل. وهو أقرب إلى التشبيهات الصوفية. وكل شيء مرهون بالمساعدة الخارجية كما هو الحال في النسق الأشعري في علم الكلام.
والعقل الفعال هو العقل الأخير سبب النفوس الأرضية، يجب في الأسطقسات بحسب نسبتها من السماويات وامتزاجاتها لتستعد لقبول النفوس النباتية والحيوانية والناطقة من الجوهر العقلي الآخر. ويكون كونها وفسادها بقرب العِلَل أو بُعْدها. وهذه هي الحركة. في العقل الفعال، والفعل من خارج الأرض. وسلب الإنسان فعله وجعله مع النفس في الأفلاك استلابًا للإنسان. كل ما يحدث في العالم من خير أو شر إنما هو ناتج من أعلى وليس من أسفل عن طريق وسائط الأفلاك والحركات الجسمانية. لماذا كل ما يحدث من أسفل لا بد وأن يحدث من أعلى وليس من أسفل وأن يحدث كل ما يحدث من أسفل يؤثر فينا من أعلى؟ ألَا يتعارض ذلك مع ما قاله الفارابي من قبل في «النكت فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم» وفي «الجهة» ضد الأحكام النجومية؟
والعقول الثواني أسباب وجود الأجسام السماوية أولَى مراتب الأجسام. سبب شريف لوجود شريف. وكل واحد من الثواني سبب لوجود أحد الأجسام حسب مراتب الشرف. أعلى الثواني ينتج عنه السماء الأعلى. فكل رئيس من درجة مرءوسه. وأدناها يلزم منه وجود الكرة التي بها القمر. والمتوسطات تلزم منها الأفلاك. والقمر أدناها لأنه أقرب الأشياء إلينا وأكثره سطوعًا. فالقرب هنا يعني الدنوَّ المكاني. وبالتالي يتساوى عدد الثواني مع عدد الأجسام السماوية. والثواني هي التي يسميها الروحانيون الملائكة مما يكشف عن عملية التشكل الكاذب، ترك الملائكة كلفظ قديم وأخذ الثواني كلفظ حديث. والروحانيون هم المتكلمون أو الصوفية ورجال الفكر الديني الصريح الذين لا يتفلسفون. الفلسفة إذن ابتعاد عن تشخيص العقائد وتحويلها إلى كونيات في الموجودات الروحانية كما هو الحال في الكلام والتصوف.
والثواني تعقل ذاتها وتعقل الأول أي ما فوقها وليس ما تحتها. المعرفة الصوفية من أعلى، والإنسانية من أسفل، الأولى استنباط والثانية استقراء. والإلهام نوع من الاستنباط المباشر. الأول والثواني والعقل الفعال في رتبة واحدة. كلٌّ منها يعقل ذاته ويعقل الأول. يقتبس وجوده من الأول ثم يفيض منه وجود آخر دون ما حاجة إلى شيء خارجه لهذه الولادة. يفيض من كلٍّ منها سماء من السماء الأولى حتى السماء الأخيرة التي فيها القمر. والسؤال: أين الشمس والكواكب؟ هل في السموات الأولى حتى التاسعة؟
فلماذا تسمى «الثواني» على الإطلاق دون جعْل التسمية وصفًا للعقول؟ ولماذا عشرة، والقرآن مملوء بأعداد الأفلاك والبروج؟ وهل القول بها يخاطر بالشرك أم أنه توجُّه نحو معرفة السببية في الكون؟
إن إبداع العقل الأول تكريمٌ له. من عملية التعقل، تعقل الأول لذاته، يخرج العقل الثاني في صورة فنية. العقل فاعل ومفعول، عملية تعقل كما أن التوحيد عملية توحيد. العقل ذات وموضوع وعلاقة. العقل هو البداية والنهاية مما يدل على أهمية العقل دون تحجير وتجسيم وتصنيم. هي أقرب إلى الصورة الفنية أو الملحمة الشعرية التي تقوم على الخيال ابتداء من العبارات الإنشائية مثل الغبطة والالتذاذ والسرور. غبطة الثواني في عقل الأول وليس في عقل ذاتها في حين أن عقل الأول على فضيلة ذاته، كلُّه غبطة والتذاذ وسرور بعقل الأول أكثر من غبطته والتذاذه وسروره بعقل نفسه، وإيجاد للمتعة في عقل الآخر وليس في عقل الذات مما يوحي بالتبعية ويكون مقدمة للاغتراب. فالعشق والإعجاب للآخر حتى ولو كان أولًا وليس للذات. الأول هو الأكمل والذات هو الأنقص، الخير من الله، والشر من النفس، تبرئة للآخر وإدانة للذات، بطولة زائفة، أو تضحية بلا ثمن كما هو الحال في علم الكلام. أليس هذا تدميرًا للذاتية والموضوعية معًا عندما يصبح الأول ذاتًا وموضوعًا، ذاته موضوعه وموضوعه ذاته، مغتبطٌ بنفسه وملتذٌّ بذاته، معجب بذاته وعشقه فيكون المحبوب الأول والمعجب الأول والمعشوق الأول؟ وحبُّ الذات وعشق الذات والالتذاذ بالذات والغبطة بالذات نوعٌ من النرجسية كما تصور ابن عربي أن الله يعشق ذاته لأنه لا يوجد معشوق أفضل منه والشرف والخسة مفهومان أخلاقيان. وليسَا طبيعيَّين مما يدل على أن الطبيعيات إنسانيات، إسقاط من الذات على الموضوع، ومن الإنسان على الطبيعة.
وبعد الموجودات الكاملة السماوية تأتي الموجودات الناقصة الأرضية. وتتراوح بين الأشرف والأخس. ويعبر عن مراتبها عن طريق أفعل التفضيل الموجب أفضل وأشرف، والسالب أنقص وأخس. كمالُها تصاعدي حتى الأرقى في حين أن الموجودات السماوية كمالُها تنازلي، بين الكمال المطلق والنقص المطلق. والترقِّي والكمال في طباع هذا الجنس وليس دخيلًا عليه؛ لأن الارتقاء على ثلاثة أنواع، الأول طبيعي وهو توطئة للإرادي ومتقدم عليه في الزمان، الأسطقسات الأربعة وما جانسها من بخار ولهيب، والثاني إرادي، والثالث المركَّب من الطبيعي والإرادي مثل المعادن والحجارة وأجناسها والنبات والحيوان الناطق وغير الناطق. وهذا هو بداية الاغتراب الديني، الكمال إلى أعلى والنقص إلى أسفل. وإذا كان الكمال في الجوهر فماذا عن الأعراض والجواهر لا تنفك عن الأعراض؟ هل هناك حدٌّ لبلوغ الكمال يجعله يخترق حُجُبَ الأجسام الأرضية إلى مرتبة الأجسام السماوية أم أن الترقِّي في مستوًى لا يصل إلى مستوًى آخر طبقًا لجدل التواصل والانقطاع؟ هل الأجسام الأرضية بهذا المعنى أفضل من الأجسام السماوية؛ لأن الكمال في طباع الأولى في حين أن الكمال في الثانية يهبط عليها من العقل الأول أي من مصدر خارجي؟ وكيف يؤدي عقل الأول إلى هبوط دون صعود؟ كيف يؤدي عقل الكمال إلى نقص؟ هل تتفاوت الموجودات السماوية في مراتب النقص والكمال تنازليًّا؟ هل تتفاوت العقول العشرة أيضًا في مراتب الكمال والنقص وهي كلها علوية؟ هل العقول العشرة مفارقة وهي متجوهرة في أجسام سماوية؟ ولماذا تقديس الكواكب والأفلاك وربطها بالعقول؟ هل لأنه العالم العلوي، صورة الكون المثلى؟
إن الموضوع أقرب إلى الصورة الفنية والاعتزاز بالوعي الذاتي. عندما يعقل ذاته تنتج عنه السماء الأولى. فالموضوع ينتج عنه وعيٌ بالذات بذاتها، التركيز على الذات الذي يخلق موضوعه. والثالث يعقل الأول وليس الثاني، أي أنه قادر على تجاوز المتوسطات. فعقل الأول هو سبب الفيض وحتى العاشر. والكل يعقل الأول. وهل يتجوهر اللاجسم؟ وهل التجوهر بالذات الذي يلزم عنه الجسم تجوهرٌ تلقائي أم بسبب عقل الذات أم بسبب عقل الأول؟ وماذا عن السماء الأولى؟ هل هي مختلفة عن الكواكب العشرة؟ ويظل السؤال: كيف تخرج المادة من اللامادة؟ كيف يحدث التجوهر من الذات؟ وهو نفس السؤال الموجَّه إلى نظرية الخلق والذي حاولت نظريةُ الفيض الإجابةَ عليه. وهل هذه العملية آلية إلى هذا الحد دون إرادة حرة أو إبداع؟ وماذا عن المشاركة في الخلق مع الموجود الأول ومن صفاته نفْي الشريك ونفْي الضد عنه؟
والأجسام السماوية لم تعطَ من أول الأمر ما إليه تتحرك، وكأن الأمر مجرد حركة، بلا هدف مسبق. كل جسم في مكان حول جسم ما. والانتقال ليس في النوع. وللنوع أجزاء وللجسم أجزاء. وليس جزء أولى بجزء من أجزاء الحول، ولا بوقت دون وقت، فماذا يعني كل ذلك، تفسير حركة الأجسام السماوية بالأجزاء؟ هل هذا موضوع تأملات أو بحث طبيعي فلكي؟ وهل يمكن تطبيق تحليلات العلوم الطبيعية على الأجسام السماوية قياسًا؟ ألَا يقوم ذلك على افتراض الجزء الذي لا يتجزأ أو القسمة وهي من آثار علم الكلام؟
وتغيب الدلالة أحيانًا. ويصبح الأمرُ مجردَ تكرار لا دلالة له، أسطورة غيبية لا أصل لها في فلسفة أو دين، مجرد تعبير عن هوى أو مستوى ثقافي للعصر لإيجاد الاتساق بين المعارف وفهْم العالم دون وجود هدف محدد. إنما هو تصور الفارابي للأجسام وكأنها تدور طبقًا لتصوراته ومزاجه. واستعمال أفضل التفضيل «أخس» يدل على أن الخطاب كلَّه إنشائي، وأن النظرة كلها إنسانية. وتبرئة الأجسام السماوية عن التضاد وإشارة إلى الأرض ومَن عليها؛ فإن التضاد نقصٌ وعيب وخسة فيكفُّ الناس عن التضاد والصراع. ولا يوجد في السماء شيءٌ يجري قسرًا وكأن هناك حريةً في السماء وجبرًا على الأرض.
أما الأحوال التي توجد بها الحركات الدورية وفي الطبيعة المشتركة لها فالتفاضل ليس في حركاتها بحسب إضافتها بل لها في أنفسها وندواتها. فالذات أكمل من الغير، والموجود بذاته أكمل من الموجود بغيره.
وكثير من الأجسام السماوية أوضاعها من الوسط وما تحتها مختلفة. ولأجل هذا الاختلاف تلحق بأعراضها خواص.
والأرض مركز الحركة والأجسام السماوية تُسرع حولها أحيانًا وتُبطئ أحيانًا مما يدل على التفاوت. وهناك ضبط للسرعة وهو الثبات. البطيءُ بطيءٌ دائمًا، والسريعُ سريعٌ دائمًا، أي أنه لا يوجد تغيُّر في حركة الأفلاك. وكلاهما قياس على حركة زحل إلى حركة القمر؛ لأن زحل هو المرتبة الرابعة والكوكب الأول والقمر الرتبة العاشرة والكوكب الأخير مثل المركز والمحيط. وهو تعبير لا شعوري عنه كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ. تجتمع أحيانًا وتفترق أحيانًا وتكون على نِسَب متضادة. تقترب أحيانًا مما تحتها وتبتعد عنه. تظهر أحيانًا وتختفي أحيانًا، فالتضاد في نِسَب الحركة مثل الطلوع والغروب، وليس في الحركة أي في العرض؛ لأن الأجسام السماوية جواهر. والجسم السماوي أول الموجودات الذي يلحقه التضاد وبه نسبة المتضادات؛ لأنه أقرب إلى المركز الذي يضم كل الحركات الدائرية للأجسام الأخرى.
وللأجسام طبيعة مشتركة وهي تحركها بحركة الجسم الأول، منها ثلاثة أنواع من الحركات. الأولى حركة دورية في اليوم والليلة. والثانية تباين في جواهرها من غير تضاد مثل مباينة زحل للمشتري، وكل كوكب لكل كوكب، وكل كرة لكل كرة، والثالثة يلحقها التضاد في نِسَبها، تتخلَّى عن نسبة ثم تعود إليها بالنوع لا بالعدد، نِسَب تتكرر، ويعود بعضها في مدة أقصر وبعضها في مدة أطول، ونِسَب لا تتكرر. فيمكن أن يكون لبعضها نسب إلى شيء واحد متضادة أي أن تكون قريبًا من شيء وبعضها بعيدًا عن شيء.
والسؤال هو: هل تتفاضل الكمالات؟ هل هناك كمال أعلى وكمال أنقص؟ وهل تكون كمالات في هذه الحالة؟ هل السرعةُ والبطءُ كمالٌ ونقص أم أنهما طبقًا للثنائيات المتطهرة تعبيرٌ إنشائي خالص؟ وإذا كان التضاد بين الخسيس والنقص فالجسم السماوي يلحقه النقص. وهو صادر عن الأول وهو الكمال. وقد يكون تبريرًا فلسفيًّا لا شعوريًّا لنهاية العالم وليوم القيامة. وإذا كانت الأجسام السماوية بها نزاع بين الكمال والنقص هل تكون في هذه الحالة أقرب إلى الله أم أقرب إلى الأرض؟ هل هناك اختلاف في الكمالات من حيث المبدأ؟ هل هناك أعراض في الكمالات؟ وهل الخواص في الكمالات فطرية أم مكتسبة. وكلها أسئلة عقلية تبيِّن أن الموقف الإنساني الوجداني من العالم لا يكفي بمفرده كي يتحول إلى موقف عاقل.
وتظهر بعض الموضوعات الميتافيزيقية الخالصة المشتركة بين الطبيعيات والإلهيات مثل الوجود والعدم والإمكان، والتضاد والمعارضة والتقابل، والحركة والقوة والفعل، والمادة والصورة، والمفارقة والعناصر، والكمال الأول والكمال الآخر. وهو حدسٌ واحد يتكرر عدة مرات في عدة تمرينات عقلية يتم التفلسف من خلاله في بدايات جديدة.
ويختلط في الأجسام تحت السماوية الوجود بالعدم. وهما أنقص من الأجسام السماوية. ولا يوجد وسط بين الوجود واللاوجود. لذلك تكون الأجسام تحت السماوية ممكنة أي وجود معرَّض للعدم. وإذا كان السبب الأول وجودًا فقط يهب وجوده دون عدم فمن أين يأتي العدم للأشياء؟ كيف تستمد الأجسام تحت السماوية وجودَها ماديًّا أو معنويًّا؟ أليس هذا جمعًا بين المادة والصورة من ناحية في ثنائية الخلق والفيض من ناحية أخرى؟ ويتم الحفاظ على الوجود بطريقتين. إما أن تكون صورته التي بها وجوده قوة أخرى (الداخل)، وأما أن يكون ما يحفظ به وجوده في جسم آخر خارج عنه (الخارج) بجسم واحد خادم أو بأجسام كثيرة خادمة.
وتتكرر قسمة واجب الوجود وممكن الوجود في كل مرحلة أدنى من عقل إلى عقل حتى يكون كل عقل واجب الوجود بالنسبة للعقل الذي يليه ممكن الوجود بالنسبة للعقل الذي يسبقه، الممكن له وجودان، وجود ولا وجود، وجود وعدم.
والأجسام الممكنة الوجود بالطبع منها ما وجوده لأجل ذاته ولا يصدر عنه فعلٌ ما. ومنها ما وجوده يصدر عنه فعل إما في ذاته أو في غيره. ومنها ما يقبل فعلَ غيره. وهي قسمة عقلية موجهة دينيًّا وليست قسمة طبيعية. ومفهوم الفطرة هو مفهوم الطبيعة. كل شيء مفطور على أن يكون لذاته أم لغيره.
ولكل ممكن مقابل، ليس أحدهما أولى من الآخر. والمقابل للممكن هو العدم أو الضد أو كلاهما. وتوجد المتقابلات في ثلاثة أوجه في وقتين أو في وقت واحد من جهتين مختلفتين أو في شيئين، كلٌّ منهما في مقابل الآخر. والمتقابلات تكون بالصور المتضادة، والمتضادات تكون بالمادة. والتقابل في المادة يعني أن الشيء لغيره والغير للشيء.
والموجودات الممكنة على مراتب. أدناها ما ليس له وجود محصل ولا بواحد من الضدَّين. وهي المبادئ الأولى. وما حصل له وجود بالأضداد التي تحصل في المادة الأولى، وهي العناصر في الأسطقسات. إذا حصلت بصور أمكن وجود التقابل. ويستمر التقابل بين الصور حتى تصل إلى الصور الأولى، وهي أشرف الموجودات الممكنة والمادة الأولى أخسها.
والتضاد ناشئ عن قوًى خارجية من حركات الأجرام السماوية وأثرها على الأرض. هو تضاد في الطبيعة وليس في المجتمع مع أنه لا فرق بين الطبيعة «الفيزيقية» والطبيعة الحية.
واشتباك هذه الأفعال في الموجودات الممكنة وائتلافها وحصول الامتزاجات واجتماعها على الائتلاف والاعتدال والتقدير والقسوم بالطبع إما بحسب المادة أو بحسب الصورة أو بحسب الأمرين معًا. إذا كان بحسب الصورة فإما لذاته أو لغيره أو للأمرين معًا. ما ينقسم بحسب الصورة نظرًا لأنها غاية المادة.
والحيوان الناطق بحسب صورته لذاته وليس لأجل نوع آخر لا على طريق المادة ولا على طريق الآلة والخدمة. وما سوى ذلك يكون إما لغيره أو للأمرين معًا. والسؤال هو: ما هو مثال الأمرين معا؟ هل هي الموجودات المتوسطة؟ أليس الإنسان لذاته ثم لغيره مثل الأب والابن؟
وقد تحدث معارضة في الأجسام تحت السمائية لقوى الأجسام السماوية؛ إذ تمتنع الأولى عن قبول أفعال الثانية. كما قد تمتنع القوى تحت السمائية عن قبول أفعال بعضها البعض. الممكنة التي فيها قوة فاعلة يمكن ألا تعقل إما لضعفها أو لامتناع أضدادها عليها أو لقوة أضدادها أو لأن أضدادها يقينها من خارج أشياء مشاكلة لها أو أن يعوق فعلَ الفاعل عائقٌ آخر مضاد من جهة أخرى. وليس ذلك عيبًا في الأجسام السماوية بل لامتناع موضوعات الأجسام الأرضية حتى يظل الجسم السماوي قادرًا وسبب الامتناع من فاعل آخر من الممكنات.
أما أشكال الأسطقسات والأجسام المعدنية حسب ما تتفق من فعل فاعلها أو الأشياء المحيطة بها، مقاديرها غير محدودة، ولكنها ليست غير متناهية في العظم تجتمع أجزاؤها اتصالًا أو تماسًّا. ليس اتصالها أو انفصالها طبقًا لقانون بل كيفما اتفق بحسب الفاعل أو اجتماعها وافتراقها. المهم أن يحدث كمالها، وكأن حدوث الكمال لا يسير وفقًا لقوانين الطبيعة. أما الحيوان والنبات فبالطبع.
ولماذا لا تكون المعارضة مثل التضاد في الطبيعة وليست في المجتمع؟ وإذا كانت الطبيعة تقاوم وليست لها إرادة حرة فالأولى مقاومة الإرادات الحرة الفردية والجماعية. ولماذا يكون الكمال لا حركة فيه ولا تقدم ولا تحقق ولا مشروع دفعة واحدة؟ وقد يبدو تناقضًا أن تتحول الطبيعة قسرًا وتتجه نحو الكمال في آنٍ واحد. فالقسر مناقض للكمال، والكمال ليس مقولة طبيعية بل مقولة إنسانية. ومن ثَم ليس في الحيوان والنبات والمعادن كمالٌ مما يدل على أن الفيض تصور شاعري للطبيعة وإسقاط إنساني عليها.
وكل شيء له وجودان، وجود بالمادة، وهو وجود غير محصل، ووجود بالصورة وهو وجود محصل. والممكن على نحوين، ما يمكن أن يوجد شيئًا ولا يوجد وهو المادة، وما يمكن أن يوجد في ذاته ولا يوجد وهو المركب من المادة والصورة. والقوى صور في الأجسام مفطورة فيها لئلا تكون آلات أو خادمة لغيرها. إن كانت مقترنة بالجسم فهي غير مفارقة، وإن كانت في أجسام أخرى فهي مفارقة. ولكل موجود استيهالان، حق المادة للمادة، أن يوجد الموجود الذي هو له، وحق الصورة، أن يوجد الموجود الذي هو له إما لذاته أو لغيره أو أن يكون غيرُه مفطورًا لأجله أو أن يكون نوعٌ واحد يجتمع فيه الأمران جميعًا، لذاته ولغيره. وما هو لأجل غيره بحق صورته أو يكون غيره له مفطورًا لأجله إما أن يكون له مادة أو تكون له آلة أو خادمًا له.
والأشرف والأخس درجات متوسطة كلما كان الشيء أقرب إلى المادة كان أخسَّ، وكلما كان أقرب إلى الصورة كان أشرفَ. المتوسطات إذن مفطورة لأجل ذاتها أو لأجل غيرها. وعلاقة الأخس والأشرف علاقة تبعية واستقلال. وهما مقولتان أخلاقيتان مسقطتان على الطبيعة. فالمادة توجد لغيرها وليس لذاتها، غايتها سببُ وجودها. لذلك لا توجد مادة مفارقة لصورتها. أما صورة الصور فتوجد لذاتها. لكل واحد استيهالان، واحد بمادته وواحد بصورته، الأول للزوال والتضاد، والثاني للبقاء والدوام. والعدل أن يوجد كلاهما كما هو في عالم الكون والفساد. العدل أن يوجد لكل شيء مادة وصورة. الأولى للزوال والتضاد والثانية للبقاء والدوام. وهو تصور إنساني للطبيعة. يقتضي العدل التقابل في المادة، أن يكون الشيء كغيره والغير للشيء على التبادل والشركة. العدل مقولة إنسانية. والفطرة مقولة طبيعية. والنظام في الطبيعة تعبيرٌ عن تصور قرآني، لكل شيء قدر موزون.
الفلك يعقل ثم يتخيل في حين أنَّا نتخيل ثم نعقل. عندما يعقل الفلك يستفزه الالتذاذ فتتبعه الحركة. فالحركة نتيجة للتعقل. وتنتج عن الالتذاذ كما هو الحال عند الإنسان عندما يتخيل فيلتذ فيتحرك. والفرق بين الفلك والإنسان أن الفلك يتصور الغاية في حين لا يتصورها الإنسان. وما يحدث للفلك عندما يعقل من الأول يكون كالوجد الذي يلحق بالإنسان عندما يتخيل. وكل ما تعقله النفس يكون مشوبًا بالتخيُّل.
ومن الطبيعي أن يعقل الفلك ذاته؛ لأنه يعرف ذاته ثم يتخيل بعد هذا التعقل. أما الإنسان فلأنه لا يُدرك الفلك إدراكًا مباشرًا فإنه يبدأ بالتخيل ثم يعقل ما يتخيل. التخيل مقدمة للتعقل. والسؤال هو: هل يقصد الفارابي النبوة، أن النبي يتخيل قبل أن يتعقل؟ وما القصد من هذا كله، عالم العقول والأفلاك أم النبوة قبل أن تتأصل نظريًّا عند ابن سينا؟
وكيف لا يتصور الإنسان الغاية في حين يتصورها الفلك، والغائية مقولة إنسانية؟ والغاية مثل الوجد والحركة والخيال والالتذاذ والعشق حديث صوفي وجداني خالص. وهي صورة شعرية مثل المسيحية، وجْدٌ صوفي مسقط على الطبيعة.
ويصعب التمييز بين العقول والكواكب. فالعلاقة بينهما علاقة الصورة بالمادة أو النفس بالبدن. ومع ذلك هما على درجة واحدة من الفيض من الله إلى العقل إلى النفس إلى المادة. الله مدبر البدن، والمادة الأولى أصل الموجودات المادية. والسؤال هو: لماذا عقول الكواكب بالقوة وليست بالفعل؟ كيف يعقل عقل بالقوة ويصدر عنه وجود؟ قد يكون العقل هنا بالمجاز وليس بالحقيقة، صورة فنية وليست ملائكة ناطقة بالفعل. ويشعر الفارابي بالاعتراض على النسق ويرد عليه مسبقًا كما يفعل المتكلمون. فما دامت الكواكب كثيرة ففيها مواد ونفوس إسقاطًا من الإنسان إلى أعلى مع رتبة الشرف. فالمادة الأثير وليست البدن، والحركة دائرية وليست مستقيمة، والزمان خالد وليس فانيًا.
وما الفرق بين الأفلاك والكواكب؟ هل الأفلاك مسارات الكواكب ومداراتها كما يشهد بذلك القرآن كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ؟ ومَن أين تأتي الأفلاك؟ هل تفيض من الأول كما يفيض العقل؟ وما هي وظائفها؟ وأين يوجد العقل فيها داخلها أم خارجها؟ وإن كان خارجها فكيف يدخل فيها، وإن كان داخلها فهل هو صورتها؟ هل يصدر الفلك من الأول مثل صدور العقل الأول أم أنه يصدر عن العقل الأول عندما يعقل ذاته. ويظل اعتراض ابن رشد على نظرية الخلق قائمًا. كيف تخرج المادة من اللامادة؟
والحركات مستديرة من الإرادات المتصلة تتحرك الأفلاك استدارة على شيء ثابت تُحاكيها الأسطقسات الأربعة. ويكفي محرك واحد وهو طلب الكمال إلى ما لا نهاية على سبيل العشق حتى تتوالى الحركات. فحركة الفلك كماله. والفلك كامل في كل شيء إلا من حيث الحركة والزمان. وإذا كانت الحركة دائرية والزمان عدد الحركة يكون الفلك كاملًا لأن الحركة والزمان لا متناهيان. طبيعة الفيض وجوده بحركة نفسانية لا طبيعية، لا لشهوة أو غضب بل لتشوقه للتشبه بالعقليات المفارقة للمادة.
وتتشبه إرادة الفلك بالأول فتتبع إرادته هذه الحركة. ويلزم عن حركته وجود الكائنات باعتبارها كمالات ثوانٍ. والغرض من حركة الفلك ليست الحركة باعتبارها حركة بل حفظ طبيعة الحركة أي نوع الحركة الجزئية. وإن كانت حركة الفلك متجددة فهي واحدة بالاتصال والدوام وأشبه ما تكون بالثابتة. غاية الطبيعة الجزئية شخصية جزئية. أما الأشخاص التي لا نهاية لها فهي غاية للقوة السارية في جواهر السموات التي تتبعها الحركات اللانهائية للأكوان التي لا نهاية لها. وتتحرك دورة الفلك بحركة واحدة في الشرق والغرب، هذه لاحقة وهذه فائتة. كل شيء في حركة في السماء. الكواكب في ذاتها متحركة على مراكزها في أفلاك تداويرها.
وكل جسم له مكان خاص ينجذب إليه. وله قوة يكون منها ابتداء حركته بذاته. المكان سطح الجسم المحوي. ولا فراغ في العالم ربما لأولوية الوجود على العدم أو لأن الله في كل مكان، ومحيط بكل شيء. وهو خروج على التصور الوافد إلى تصور أكثر تعبيرًا عن الموروث وإن لم يَصِل بعدُ إلى تصور المكان على أنه انتشار في الأرض إلى العالم والحركة والتاريخ.
وتظهر بقايا علم الكلام في الجزء الذي لا يتجزأ. والغرض من إثبات تناهي العالم إثبات لا تناهي الله، وإثبات المحرك الأول بدليل الحركة، ووضع قوة في الجسم تحولًا من الطبيعيات المغلقة إلى الطبيعيات المفتوحة دون وضْعها في المجتمع. ويستمر التقابل بين الكلي والجزئي، الثابت والمتحرك، اللامتناهي والمتناهي لهذا السبب. وإذا كانت القوة المحركة غير متناهية والقوة الجسمانية متناهية فإن قوة الفلك تشارك معها صفات الموجود الأول في القوة.
وبالرغم من ظهور اللاهوت السلبي في الحديث عن الفلك نظرًا لقربه من الله، لا حار ولا بارد، لا ثقيل ولا خفيف، لا ضد له ولا يخرقه شيء، ليس به شهوة أو غضب، والمحرك الأول ليس بذي عظم ولا جسم ولا متجزئ ولا متكثر إلا أن الإشراقيات تظهر أيضًا في نفس الوقت في لغة العشق والشوق.
ويستمر تشخيص الفلك وكأنه كائن حي له إرادة وعقل ونفس، مع نظرة تطهيرية له. فهو جوهر خالٍ من الزمان والحركة. وكل شيء يحدث في السماء وليس على الأرض. السماء إيجاب مطلق والأرض سلب مطلق. وما الفائدة من إبقاء النفس والعقل والإرادة والحياة خارج العالم الأرضي وإبقائهما في حركة دائرية في السماء دون إحداث تقدُّم على الأرض؟
وليس الفلك حركة مضادة أي قسرية. حركته نفسانية لا طبيعية لأن النفس بها حياة وعقل. ليس للفلك شهوة. لا يتحرك بالعشق نحو معشوقه. وهي أيضًا نظرة إنسانية تطهرية مسقطة على الطبيعة. فالعشق قوة طبيعية كما هو الحال في التصوف كقوة روحية. كل فلك يعشق بمعشوقه وهو عقله. والكل يعشق المعشوق الأول تصويرًا لآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا وهو إسقاط من الإنسان على الكون. فالفلك له نفس وعقل مثل الإنسان. الطبيعة إنسان والإنسان طبيعة كما هو الحال عند إخوان الصفا. للطبيعة لغة، تُخاطب، وتُسبِّح مثل الإنسان. والحيوان عالم وأمم مثل الإنسان ولكن الإنسان هو الذي لا يفقه التسبيح، واستعمال تعبيرات «يجوز» و«لا يجوز» يدل على أن الأمر اقتضاء أخلاقي ومطلب نفسي وتحديد ما ينبغي أن يكون. لا يهم التناقض العقلي. إذ كيف تكون العناصر الأربعة كروية الشكل وتشارك الأجسام السماوية صورتها مع أن حركتها في الأرض مستقيمة؟ ألَا يؤدي إلى إثبات كروية الأرض؟ والعجيب قبول الاستدارة في السماء ورفضها في الأرض نظرًا لرفض التسلسل إلى ما لا نهاية؟ وهو التقابل بين الفكر الطولي الديني والفكر الدائري العلمي.
والأجرام السماوية معلومات جزئية وكلية تنتقل من حال إلى حال على سبيل التخيل. ومصدر التخيل الجسماني هو مصدر الحركات الجسمانية التي تصير مصدرًا لتغيُّر العناصر الأربعة وما يقع في العالم من كون وفساد.
واشتراك الأجسام السماوية في معنى واحد هو الحركة الدورية سبب اشتراك المواد الأربعة في مادة واحدة، واختلاف حركتها سبب اختلاف الصور الأربع للمواد بالرغم من مخالفة مادة الأجرام السماوية وصورها لمادة العناصر الأربعة وصورها. فمواد العناصر الأربعة لها أبعاد ثلاثة مفروضة. وصورها لا تفارق مادتها على عكس الأجرام السماوية. الأجسام السماوية كثيرة تتحرك باستدارة حول الأرض، حركات كثيرة، تلحقها جميعها قوة السماء الأولى. بحركتها يتحرك الجميع نظرًا لصدارة الأول على الثواني.
وحركات الأجرام السماوية اللامشخصة تصبح الأحداث السفلية المشخصة، أي أن المجهول يصبح مصدرًا للمعلوم حتى النسب في الدنيا تقع نتيجة لاختلاف الحركات العلوية. وتتحد الجهات بالجسم السماوي؛ لأنه محيط ومركز. لذلك كان نافعًا في معرفة التوقيت والأهلة.
لا فرق إذن بين الطبيعيات المقلوبة إلى أعلى، والإلهيات المقلوبة إلى أسفل. فهو نفس الخطاب الثنائي. فالله فكرة محددة رادة غيرها إلى عكسها. فالفعل متناهٍ، ولا وجود لخلاء ولا ملاء لأن الله في كل مكان. والحركتان إلى أعلى وإلى أسفل للعناصر الأربعة النار والهواء في مقابل الأرض والماء، طبيعيات إلهية أو إلهيات طبيعية. ويستعمل الله أحيانًا لكسر حدة التشكل الكاذب وبروز الموروث كاشفًا عن نفسه وكأن الفيلسوف قد عاد متكلمًا والمتكلم عاد فقيهًا.
ولا تتجزأ الأجسام السماوية كالأرضية إلى الجزء الذي لا يتجزأ وذلك بناء على حجة الأولى التي تقوم على الأشرف. وهي حجة نفسية. وهي بسيطة لا تتألف من أقسام، حركة أو زمان. ولا توجد أضداد لها. فلا توجد حركة عن طريق الأضداد. ولا توجد أضداد في جواهرها بل في إضافاتها بعضها إلى بعض أو بعضها إلى الأرض أو إلى الأمرين معًا في حين أنه في الأجسام تحت السماوية التضاد حقيقي وكأن التضاد عيب في الأجسام العلوية وهو نقص. وفي كلتا الحالتين يوجد التضاد في المادة. ويلزم من قوتها المادة الأولى المشترك لجميع ما تحت السماء ووجود الصور الكثيرة فيها. تختلف الأجسام السمائية نظرًا لاختلاف أوضاعها فيما بينها، وبالنسبة للأرض اقترابًا وبُعدًا، اجتماعًا وافتراقًا، ظهورًا وخفاء، سرعة وبطئًا.
والجواهر غير الجسمانية كاملة ليس بها نقص مما يعتري الصور والمادة. فكل جوهر غير جسماني لا يتقوم في موضوع، يوجد لذاته لا لغيره، لا لمادة ولا لآلة ولا خدمة ولا حاجة إلى غيره، لا يزيد وجوده في المستقبل بفعل في غيره أو بفعل غيره فيه، لا ضد له، ولا عدم يقابله. الجواهر غير الجسمانية أولى أن تكون بهذا الاسم من الجواهر الجسمانية المركبة من الصورة والمادة. وتبلغ قمة التطهير في استعمال اللاهوت السلبي أيضًا للفلك. فهو لا يتجزأ ولا يأتلف مما لا ينقسم، ولا يمتد أي رفض صفات العناصر الأربعة. وهي لغة البراءة والإدانة. فالمادة عيب ونقص، والصورة كمال وشرف. فالأجسام السماوية مبرَّأة من النقص. وهل البهاء والجمال في الكمال أم في النقص؟ في الغنى أم في الفقر؟ في الحسن أم في القبح، في القصر أم في الكوخ؟
(ﺟ) النفس
والنفس أربعة أنواع. نفس الأجرام السماوية، والنفس الإنسانية والنفس الحيوانية والنفس النباتية. وكلها نفس واحدة بالرغم من تمايز مستوياتها. نفس الأجسام السماوية متبرئة من النقص الذي في الصورة والمادة. ومع ذلك فهي في موضوعات، وبالتالي تشابه الصور. موضوعاتها ليست مادية وبالتالي تخالف الصور. بها بعض النقص مثل الثواني وأكثر منها لأن كثرتها أزيد. كلما صعدنا قلَّت الكثرة وزادت الوحدة، وكلما نزلنا زادت الكثرة وقلَّت الوحدة. الأنفس السماوية كثيرة في مقابل النفس الإنسانية الفردة. وهي مباينة للنفس الناطقة وغير الناطقة في النوع ومتفردة عنها في الجوهر. بها تتجوهر الأجسام السماوية وتتحرك حركات دائرية. وهي أكمل وأشرف من النفس الحيوانية. هي بالفعل دائمًا وليست بالقوة وكأن التحول من القوة إلى الفعل ليس من مظاهر النشاط، وبذلًا للجهد وتحقيقًا للإبداع. بها معقولات. إذ ليس لها من النفس إلا النطق دون الحس والتخيل وكأنما نقصان، والمعرفة النبوة تعتمد على بداهة الحس وخصوبة الخيال. معقولاتها الجواهر المفارقة، كلٌّ منها يعقل الأول، ويعقل ذاته، ويعقل الثواني والذي أعطاها جوهرها. تشبه النفس الإنسانية في النطق مع أن النطق قوة في الإنسان ووسيلة للإدراك والتمييز بين الحسن والقبيح. والأنفس السماوية لا تحتاج إلى ذلك. النطق سند لحرية الأفعال وعدم الوقوع في الخطأ. والأنفس الإنسانية لا تحتاج إلى ذلك لأنها ليست حرة وليست معرضة للاختيار بين الحسن والقبيح. التعقل انتقال من القوة إلى الفعل كما هو الحال في النطق الإنساني. ولما كان التعقل الإنساني للمعقولات الأرضية وتعقل الأنفس السماوية للمعقولات السماوية كانت أشرف. فما تعقله النفوس السماوية غير ما تعقله النفس الإنسانية وكأنه جهل ونقص تترفع عن معرفته النفوس السماوية. وما الفائدة من عملية التعقل هذه إن تمت في السماء دون الأرض؟ ولماذا تكون أشرف من النفس الناطقة وهي قادرة على الاتصال بالعقل الفعال؟ إن علاقة السماء بالأرض ما زالت علاقة شرف ونقص، وهو تصور إنشائي للعالم يعبر عن الثنائية المتطهرة أساس كل دين.
وغذاء الروح هو النسيم يتغذَّى به. والرطوبة غذاءٌ، مستقرُّه هو القلب. فإذا لم يجد منفسًا يطل كالسراج، وينطفئ ولا يفني الذهن.
وتحفظ المتخيلة رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس وتركها وتفعلها في اليقظة والنوم عن صدق أو كذب وإدراك النافع الضار واللذيذ والمؤذي، وتأتي العلوم للنفس عن طريق الخيال. وقد يكون أعلى مما يأتي عن طريق العقل دون التصريح بأن ذلك تمهيد لإفساح المجال للنبوة كما هو الحال عند ابن سينا، وقبله الكِنْدي عن طريق الإلهام. فالهندسة والنبوة من نفس العلم ومن نفس القوة وهو الخيال، هندسة الكون وهندسة الروح.
والسؤال الآن: ألَا توجد عند الحيوان قوة مخيلة أم أن فرار الشاة من الذئب مجرد عادة مكتسبة؟ وهل يشارك الإنسان النبي فيها؟ ألَا توجد عند الحيوان قوة نزوعية مثل رعاية القط لأولادها؟ وأين القوة المحركة التي يضيفها ابن سينا والتي يشارك فيها الحيوان الإنسان؟
وتتداخل النفس والعقل في الوظائف، ولكن العقل سابق على النفس في الفيض. العقل إذن بديل عن الروح التقليدي، ويعني مراتب العلم، ودرجات التعلم. ويكون العلم من واهب الصور نقشًا من أعلى وليس استقراء من أسفل مما يبرر النبوة والإلهام. فالعقل بالفعل بفضل العقل الفعال وليس من تلقاء نفسه. يعرف الكليات فقط دون الجزئيات. فالعلم علم بالكلي. وهو عقل مفارق يبقى بعد البدن ولا يفنى، جوهر أحادي مشابه لصفة الوحدانية. وهو الذي يجعل الإنسان إنسانًا على الحقيقة. فالإنسان هو الوعي العاقل. له قوة مؤثرة في البدن أي أنه فاعل فيها. والسؤال هو: كيف يتم كمال النفس خارج البدن، وخارج الحياة لا يوجد تكليف؟
ويُعلن الفارابي بعد أن بلغ الذروة في الإشراق أن الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر القادرين فقط على معرفة خواص الأشياء ولوازمها وأعراضها دون الفصول المقومة لكل منها الدالة على حقيقتها. فلا يمكن معرفة حقيقة الأول أو العقل أو النفس أو الفلك ولا العناصر الأربعة ولا حقائق الأعراض ولا حقيقة الجوهر بل بعض خواصه، مثل كونه موجودًا لا في موضوع ولا حقيقة الجسم بل بعض خواصه مثل الأبعاد الثلاثة ولا حقيقة الحيوان بل بعض صفاته مثل حواسه، لذلك يقع الخلاف في ماهيات الأشياء لإدراك لوازمها المختلفة. وما دام الباب تُرك مفتوحًا للتصوف والنَّيل من الحس في سبيل العقل، والخوف من البدن واللجوء إلى النفس، بدت المعرفة وكأنها صعبة، وموضوع المعرفة وكأنه مجهول، وأنه ليس في وسع البشر. لا تعرف إلا الخواص والأعراض واللوازم ولا تعرف الأجناس والأنواع والفصول المقدمة الدالة على حقيقة الشيء. يجرفنا الحسُّ بعيدًا عن العقل، وإلى الجزئيات بعيدًا عن الكليات. وبالتالي لا نعرف الأول ولا العقل ولا النفس ولا الفلك بل ولا العناصر الأربعة. لا تعرف الجواهر بل لا ندرك إلا الأعضاء. ثم يقع الخلاف في ماهيات الأشياء نظرًا لاختلاف الإدراكات. فلا يمكن معرفة النفس أو الأول معرفة بعدية من العوارض واللوازم بل من الإنيَّة والماهية. ومن هنا نشأ المنطق والحاجة إليه للتعرف على الأجناس والأنواع والفصول والخواص والأعراض العامة. المنطق إذن قادرٌ على معرفة حقائق الأشياء قياسًا على منطق الإشراق. ومن ثَم يكون مسار الفارابي من علم النفس الحسي إلى المنطق الصوري إلى علم النفس الخالص إلى الإلهيات.
(د) المادة
ولماذا تكون الصورة سببًا للمادة؟ ولماذا جعل الصورة والمادة كليهما من سبب آخر خارجهما؟ أليس في ذلك قضاء على الطبيعة؟ كما أن تصور الصراع بين العناصر الأربعة وغلبة عنصر على عنصر ونفيه من المجتمع تأكيد لجدل الطبيعة ونفيه عن الجدل الاجتماعي.
وهناك فرق بين الهيولى باعتبارها هيولى والهيولى باعتبارها استعدادًا. الأولى مادة والثانية صورة. وكلاهما في الهيولى مثل الجنس والفصل في الحد المنطقي وليسَا مفارقَين. ولا يمكن تحديد البسيط بالحد المنطقي المركب من الجنس والفصل لأنه لا أجزاء فيه. وهذا ما يميز الفيض عن الخلق. الخلق يقوم على الارتباط بين الطرفين، والخلق يقوم على الفصل بينهما. يوحِّد الفارابي بين المادة والصورة أي الاستعداد في الطبيعة كما وحَّد بين الوجود والماهية في الله، والموجود والمعقول في العقول، نفس الحدس التوحيدي ثلاث مرات، في الله وفي العقول وفي الطبيعة. ولماذا تكون الموجودات من المادة والصورة ناقصة وهي الأشياء التي تصنعها وتُبدع فيها؟ أليست علاقة الصورة بالمادة علاقة المعشوق بالعاشق، الموجود لغيره بالموجود لذاته؟ أليست المادة كمال الصورة تتجه إليها، وتكمل المادة إذا حصلت على الصورة؟
والمادة الأولى تأتي من الطبيعة المشتركة أو من اختلاف الجواهر ينشأ وجود الأجسام المختلفة. وعن تضاد النسب تنشأ الصور المتضادة. وعن تبدُّل متضادات النسبة وتعاقبها ومن النسب المضادة والإضافات المتعاندة إلى ذات واحدة في وقت واحد من جماعة تنشأ أجسامٌ فيها اختلاط في الأشياء ذات الصور المتضادة. ومن أصناف تلك الامتزاجات تحدث أنواع كثيرة من الأجسام. ومن إضافاتها التي تتكرر تعود الأشياء ويعود بعضها في مدة أقصر، وبعضها في مدة أطول وعما لا يتكرر من إضافاتها وأحوالها.
إن حدوث الصورة الأولى ممكن. فهي من طبيعة الواحد، كلاهما صورة خالصة، أما بالنسبة إلى المادة الأولى فيظل سؤال: كيف تخرج المادة من اللامادة قائمًا والذي كان بسببه ظهر افتراض قِدَم العالم أنه الأنسب مثل قِدَم الله؟ وهل الأجسام العلوية مختلفة حتى تنشأ عنها الأجسام المختلفة أم متفقة؟ أليست الصور قبلية فهذا أشرف، والقبلي لا ينشأ من البعدي نظرًا لاختلاف النوع؟ وما الدليل على ذلك كله؟ هل هو موضوع للتأمل أو لعلم الفلك؟ ما هي التصورات الدينية التي وراءه؟ وما هو الوافد الذي يتم استعماله كأدوات للتعبير؟ وما الفائدة من الدخول في أسباب الحركة وأنواعها؟ هل هذا علم إلهي أم علم طبيعي؟
وإذا كانت كل الموجودات من مادة وصورة مما يفسر وجودهما ودوامهما تتعاقب الصور على الهيولى. ولما كانت الصور متضادة فلكل جسم حقٌّ واستئهال صورة أخرى بمادة للوجود الذي له. وليس وجود أحدهما أولى من وجود الآخر. حق الصورة هو حق الوجود. وحق المادة هو الصراع الذي يحفظ الوجود، وهي أربعة: قوة في الجسم الذي فيه صورة، وقوة في جسم آخر آلة مقارنة لحفظ وجوده، وجسم آخر أعلى يحفظ مثل الجسم السماوي، واجتماع هذه كلها.
والمضاد المتلف للأسطقسات من الخارج إذا كان لا ضدَّ له في جسمه. والكائن اختلاط قليل التركيب، المضادات التي فيه يسيرة، وقواها ضعيفة ومنكسرة. لذلك كان المضاد المتلف له ضعيف من الخارج. والمضاد الأقل تركيبًا التضاد فيه أكثر وأقوى من الداخل وعن الخارج معًا. والنبات والحيوان يتحللان من الداخل لوجود أشياء مضادة لهما. والذي يتلف من الخارج يُحفظ بآلات بعضها في الداخل وبعضها خارج جسمه فيحتاج إلى آلات تقوم مقام التآلف. ويكون ذلك إما أشخاصًا أو مَن يخلف الأول يحدث بعد زمان. وإلا كانت الأسباب السماوية مرافذة للأسطقسات وسبب تلفها. فهي إما تفيد أو تضاد دون إبطال فعل القوة بل تُحدث امتزاجًا إما للاعتدال أو يزيله الاعتدال. وتتكرر الأفكار في القوى على الأكثر أو على التساوي أو على الأقل.
وهو أطول الأبواب مما يدل على أهميته بالرغم من تجريده. ويُثير عدة تساؤلات: هل التنازع في المادة أم في الصورة؟ وإذا كان في الصورة كما هو واضح فإن وجودَ المادة خالٍ من أي ترجيح. ويمكن مدُّ ذلك من المستوى الطبيعي إلى المستوى الإنساني. فالإنسان قادر على الصراع والتضاد لأنه أعقد تركيبًا.
وإذا كانت المادة تسبق الصورة فهل هناك مادة غير متعينة بلا صورة؟ ومن أين أتت المادة ولا يوجد خلقٌ من عدم؟ كيف تخرج الأجسام الأرضية من العقول العشرة؟
كما تبدو أهمية هذا التحليل في الكشف عن اتساق نسق العقل مع نسق الطبيعة. فلا فرق بين التحليل العقلي والتحليل الطبيعي في ثنائية متطهرة تضم الطبيعيات والإلهيات باعتبارهما علمًا واحدًا.
كما يكشف عن الإسقاط الإنساني في التشخيص الأخلاقي في الحل وهو العدل. فالطبيعة عادلة، وأخلاطها ونِسَبها تتم توفية للعدل. فمن العدل ألَّا يبقى الشيء واحدًا بالعدد بل بقاء الدهر كله واحدًا بالنوع. فالطبيعة في احتياج مثل الإنسان. وتتم المقارنة بين المادة والصورة من حيث الفضل، وهو مفهوم أخلاقي وليس مفهومًا علميًّا. ولغة الاشتياق والوجد في الطبيعة، وعدم الاستغناء، والاتحاد بين طرفين، الصورة والمادة، والله والإنسان والعقل الفعال والعقل الإنساني، والله والعالم لغة إنسانية خالصة. هي نظرية إنسانية خالصة تستعمل صور العشق والعاشق والمعشوق. ومن ثَم يكون الفيض أقرب إلى التصوف الفلسفي أو الفلسفة الإشراقية. فالمادة بها حياة وارتقاء نحو الصورة.
ويظهر موضوع الجوهر والعرض بين الكلام والفلسفة لتحليل العناصر الأربعة في الطبيعة. الجوهر لا في موضوع والعرض في موضوع، والأسباب الطبيعية أربعة: الفاعل والقابل والصورة والمادة. الحرارة والبرودة فعل، والرطوبة انفعال سريع، واليبوسة انفعال بطيء. البالغ في الحرارة النار، والبالغ في الرطوبة الماء، والبالغ في الميعان الهواء، والبالغ في الجمود الأرض. ومن اجتماع العناصر الأربعة يحدث المزاج طبقًا لنسب الاختلاط والعنصر الغالب. وتتغير الصور إذا اشتد عنصر وغلب عنصر. والفساد هو تبدُّل النسب والكيفيات في الأجسام المكونة من العناصر الأربعة وعلى هذا النحو الطبيعي يمكن فهم نهاية العالم.
ويتراوح التحليل بين الطبيعيات والإلهيات، بين العلم والدين. فوجود الأعراض والصور المادية في ذواتها، وهو وجودها في موضوعاتها. فهي ليست مفارقة، ولا تنتقل من موضوع إلى موضوع. وهو تحليل علمي. والغايات في الأمور الطبيعية هي في نفس الوقت وجود الصورة في المادة؛ لأن الطبيعة تتحرك لتحصل الصورة في المادة. فغاية المادة الصورة، وهو تحليل إلهي. والحديث عن الهيولى ووصفها بأنها أخس الهويات حديثٌ أخلاقي إنشائي مسقط على الطبيعة.
وهذا الوضوح ليس من أرسطو بل من وضوح الموروث اعتمادًا على العقل والفطرة. كما يدل على أن الفيلسوف هو العالم والفقيه في نظرة حضارية متكاملة.
ويقال الأجسام السماوية وليست الأرضية. فالفكر يتحدد بالنفي. الأرض نفيٌ للسماء. والسؤال هو: هل الخلاف بينهما في الدرجة أم في النوع؟
والسؤال هو: هل تحتاج الصورة إلى المادة أم أن المادة هي التي تحتاج إلى الصورة؟ ألَا يحتاج الأدنى الأعلى أكثر مما يحتاج الأعلى الأدنى أم أن احتياج أحدهما لا يقلُّ عن احتياج الآخر مثل الذكر والأنثى؟ إن لغة النقص والكمال والاحتياج بين الصورة والمادة تدل على أن الأمر كلَّه تصوير إنساني وإسقاط من الذات على الطبيعة.
يحدث في الأسطقسات قوًى تتحرك بها من تلقاء أنفسها دون قوًى في الخارج، تتصارع وتتقابل وتتضاد. وتفعل فيها الأجسام السماوية. فيحدث من اجتماع الفعلين أصنافٌ من الاختلاطات الامتزاجات بغير تضاد. فالعامل الخارجي هو الذي يلغي التضاد، ويحقق المصالحة بين القوى الداخلية المتصارعة. ومن القوى الطبيعية يحدث اختلاطٌ ثانٍ، وتحدث أجسام متضادة بالصور، ويُحدث كلٌّ منها قوًى فاعلة وقوًى منفعلة، وقوًى تتحرك من تلقاء نفسها بغير محرك من الخارج، وتفعل الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض. تفعل الأسطقسات وتفعل هي في الأسطقسات فتحدث اختلاطات أخرى كثيرة تبتعد بها عن الأسطقسات والمادة الأولى. ثم يحدث الاختلاط الثاني من جديد أكثر تركيبًا من الأول إلى ما لا نهاية إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط فيحدث من اختلاطها جسمٌ آخر أبعد منها عن الأسطقسات فيقف الاختلاط. بعض الأجسام تحدث عن الاختلاط الأول، وبعضها عن الثاني، وبعضها عن الثالث، وبعضها عن الاختلاط الآخر. كل مرتبة عُليَا تحدث من اختلاط المرتبة السفلى. فالمعدنيات تحدث من اختلاط أقرب الأسطقسات وأقل تركيبًا ويكون بعدها عن الأسطقسات برتبة أقل. ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبًا وأبعد عن الأسطقسات برتب أكثر. وكلما صعدنا إلى أعلى زاد التركيب. ويحدث الحيوان غير الناطق باختلاط أكثر تركيبًا من النبات. الإنسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير، يحدث في كل نوع قوًى تتحرك بها من تلقاء نفسه، وقوًى يفعل بها في غيره، وقوًى يفعل بها فعل غيره. وموضوعات الفعل ثلاثة: على الأكثر وعلى التساوي وعلى الأقل، سواء كان من الغير إلى الذات أو من الذات إلى الغير أو من الذات إلى النفس. وفعل كل واحد إما بأن يرفدَه أو أن يضادَّه. والأجسام السماوية تفعل في كل واحد منها مع فعل بعضه في بعض بالرفد والتضاد، مرة هذا ومرة ذلك فيحدث من اقترانها امتزاجات واختلاطات كثيرة.
والترتيب بين الأدنى والأعلى على التبادل، تنازلي من الإنسان إلى المادة الأولى وهو طريق الفيض أو تصاعدي من المادة الأولى إلى الإنسان وهو طريق الإشراق. فالمعرفة تعادل الوجود، وترفع النقص إلى الكمال. كما يتحول التعليل من الخارج إلى الداخل. إذ تتحرك الأسطقسات بقوًى من داخلها ثم تتفاعل مع القوى الخارجية من الأجسام السماوية، ويكون هو العامل الحاسم الذي يلغي التضاد ويحقق المصالحة بين الداخل والخارج. وإذا كانت القوى ثلاثًا، فاعلة أو منفعلة أو من تلقاء ذاتها فإنها قسمة عقلية بديهية، اتساق العقل مع الطبيعة.
(٣) ابن سينا
إذا كان الكِنْدي هو فيلسوف الخلق، وإخوان الصفا فلاسفة الخلق الفيضي، والفارابي فيلسوف الفيض، فإن ابن سينا فيلسوف الفيض الفلسفي أو الفيض العقلي، نقلًا لنظرية الخلق من علم الكلام إلى علوم الحكمة وليس إلى علوم التصوف كما فعل إخوان الصفا والفارابي.
وقد عرض ابن سينا الإلهيات في موسوعاته الأربع «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» و«عيون الحكمة». ليس الخلاف بينها فقط في الإسهاب والتركيز بل أيضًا في مستوى الفهم والتحليل. فإذا كان الفيض في «الشفاء»، و«النجاة» مختصر له، أقرب إلى العقل، والفيض العقلي، فإنه في «الإشارات والتنبيهات» أقرب إلى الإشراقي الصوفي، وفي «عيون الحكمة» أقرب إلى الفيض الطبيعي القائم على وصف الطبيعة وليس التأمل الإلهي.
ويوجد قدر كبير من تمثل الوافد خاصة في المقالات الأربعة الأولى مع تشكُّل كاذب واضح في المقالَين الثامن والتاسع وسيادة الموروث خاصة في المقالة العاشرة الدينية المباشرة عن الوحي والإلهام والأولياء والأنبياء والملائكة والعبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة.
وتختصر إلهيات «النجاة» المقالات المنطقية الطبيعية الأولى من الأولى حتى السابعة التي تبدو فيها الطبيعيات متجهة نحو الإلهيات باعتبارها طبيعيات مقلوبة ومقتربة إلى أعلى ابتداء من ثنائياتها التقليدية التي تضع التمايز منذ البداية بين العالمَين، العالم الطبيعي والعالم الإلهي دون الدخول في جدل مع المشككين والمبطلين وهم المتكلمون.
ويتم حذف الوافد من المقالات الثمانية الأولى والإبقاء على الموروث في المقالين الأخيرين مما يدل على أولوية الموروث على الوافد وأن الصلة بينهما صلة الأصل بالفرع. غاية «النجاة» الكشف عن حقيقة الشفاء، تتويج الوافد بالموروث ابتداء من المنطق والطبيعيات والإلهيات غير المباشرة، وإزاحة النقاب عن التشكُّل الكاذب، الإقلال من أسماء الأعلام والمعلم الأول، واختصار الموضوعات الوافدة، والإشارة إلى المتكلمين على أنهم المقصودون بالغلط، وإسقاط كل الجدل السابق، تحولًا من التاريخ إلى البنية، ومن الوافد والموروث معًا إلى الإبداع الخالص. فابن سينا لا يقول شيئًا نقلًا مباشرًا بل يعبِّر عن الأشياء إبداعًا. لا يعطي أحكامًا بل تصورات. فالموسوعات الأربع خاصة «النجاة» تصورات لا تصديقات، وصور لا أحكام، وشعر لا مقال. لا يُحيل إلى الفارابي، وهو معلِّمه، وهو أول مَن تكلم عن الواجب والممكن. تبدو وكأن الميتافيزيقا لا موضوع لها بل هي تحوُّل من المنطق والطبيعة، أي من العقل والواقع بفعل الاغتراب.
أما الإلهيات في «الإشارات والتنبيهات» فأقل اتصالًا بالطبيعيات خاصة في الأنماط الثلاثة الأولى منها بالإلهيات التي تقتصر على الأنماط السبعة الأخيرة. فالإلهيات أكثر من الطبيعيات. أكبرها الرابع «في الوجود وعِلَله» مما يدل على أهمية نظرية الوجود التي يتجلَّى فيها الفيض العقلي، وأصغرها الثامن «في البهجة والسعادة». وعناوين الأنماط ليس من ابن سينا مما يدل على غياب الموضوعات الجزئية داخل الموضوع الكلي. وفي كل نمط عدة مسائل ابتداء من النمط الرابع. والخامس أكثرُها مسائلَ، والسادس أصغرها.
(أ) الإلهيات باعتبارها علم الإبداع
ومبادئ الفنون في صناعتين. وتعني الفنون هنا العلوم. الأولى البرهانية مثل الإلهيات، الفلسفة الأولى، ما وراء الطبيعة أو ما قبلها. وقسم منها يُسمى أثولوجيا أي الربوبيات ومبادئ الوجود. أثولوجيا لا تعني «ثيولوجيا» بل «أنطولوجيا» وما تظهر فيها من عناية. ومن ثَم يخرج ابن سينا عن نظرية الذات والصفات والأفعال للوجود ولإثبات العناية والحكمة والتدبير وهو معنى تسميتها الربوبيات، أي الرب المعتني بالعالم. والثانية الجدلية أي الكلام. الفلسفة برهانية والكلام جدلي، قبل صياغة أنواع الأقاويل الفلسفية، الخطابي والجدلي والبرهاني عند ابن رشد.
ومن مظاهر وضع الوافد في إطار الموروث هو تسمية «ما بعد الطبيعة» العلم الإلهي، وأول مَن قام بذلك هو الفارابي. ويسميه ابن سينا «ما بعد الطبيعة»، و«ما قبل الطبيعة»، أي الفلسفة الأولى، أي ما قبل الخلق وهو الله، أو ما بعد الطبيعة، وهو الدليل البعدي. فالتسمية تتعلق بمنطق البرهان. أما تسمية «العلم الإلهي» فلمعارضته للمتكلمين وتشخيص الموجود الأول في نظرية الذات والصفات والأفعال. موضوع العلم الإلهي هو الموجود من حيث هو موجود. وهو علم لأنه معرفة الله والأمور المفارقة للمادة. ليس شخصًا معينًا بل الوجود ذاته.
هي بنية ذهنية واحدة تعبِّر عن نفسها في مقولات مزدوجة متعددة وكأنها مستمدة من قاموس فلسفي واحد لدراسة المنطق والطبيعيات والإلهيات. هو علم واحد، علم الذهن أو تصورات العالم في عالم الأذهان. ثم ينعرج إلى أعلى فيصبح إلهيات أو يهبط إلى أسفل فيصبح طبيعيات. ومن ثَم تصبح قضية عالم الأذهان وعالم الأعيان قضية جوهرية تعبر عن مدى التطابق بين العقل والوجود. لذلك جعل القدماء الوجود في الأعيان وهو الشيء وفي الأذهان أو النفس وهو المعنى، وفي اللفظ وهو اللغة.
تظهر هذه الثنائيات في لغة المنطق مثل الجزئي والكلي، اللفظ والمعنى، التحليل والتركيب، الاستقراء والاستنباط. وفي الطبيعيات في الحسي والعقلي، والمتحرك والثابت، والمادة والصورة، والمكان والزمان، والتكاتف والتخلخل، وفي الميتافيزيقيا مثل الحادث والقديم، الممكن والواجب، الناقص والتام، الكثير والواحد، المركب والبسيط، العدم والوجود، الاختلاف والهوية، وكلها مفاهيم إضافة، إذا عرف أحد المضافَين عرف الآخر. وتستنبط كلها من بعضها البعض. يكفي البداية بأحدها حتى تتوالى الأخرى كحبَّات العقد.
والحقيقة أن ذلك كله مقتضى نفسي، وبنية شعورية تم تجريدها إلى حدِّ التنزيه في بناء هندسي للعقل أو شعر للطبيعة أو مواجيد إلهية. كلها في عالم الأذهان وليست في عالم الأعيان، في الذات وليست في الموضوع، تعبر عن عالم ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن، تحقق الوئام المعرفي مع العالم حقيقة أو وهمًا، وتُعطي الرضا والطمأنينة في النفس.
ونظرية الخلق أو الخلق الفيضي أو الفيض الإبداعي تنحصر في علوم ثلاثة: الطبيعية والتعليمية والإلهية. وهنا يبدو استبعاد المنطق باعتباره آلة للعلم ثم وضع التعاليم بين الطبيعي والإلهي، كسُلَّم ارتقاء من العالم إلى الله، من الموقف الطبيعي إلى الموقف المغترب.
تبحث الإلهية عن الأمور المفارقة بالقوام والمدة وعن الأسباب الأولى للوجود الطبيعي والتعليمي، وعن سبب الأسباب ومبدأ المبادئ وهو الإله «تعالى». موضوع العلم الإلهي أنية الله تعالى. ووجوده ليس سلَّمًا بل مطلوب إثباته، افتراض يتم التحقق من صحته. ليس البحث الإلهي ببعيد عن العلوم الرياضية. أليس الله واحدًا والواحد من الموضوعات الرياضية؟
أما العقول العشرة فهي نظرية متهافتة، فلكية طبيعية في الأساس ثم استخدمت في الإلهيات على نحو غيبي أسطوري.
يتأرجح أثر الأجرام العلوية على السفلية عند ابن سينا بين العلم والخرافة، بين الحقيقة والوهم. الأول أحكامه نسبية والثاني أحكامه مطلقة. الأول يؤدي إلى الإبداع، والثاني إلى الفيض. قد يكون السبب في ذلك أنه بعد أن تحول علم النجوم إلى علم الجغرافيا تحول علم الجغرافيا إلى علم النفس في علم النفس الفلكي أو علم الفلك النفسي فعاد من جديد إلى علم التنجيم كما هو الحال عند إخوان الصفا. وانحسر علم الفلك الطبيعي من الوعي العلمي.
وبالتالي يتحول ابن سينا من علم الكلام إلى الفلسفة، ومن الخلق إلى الفيض، والفيض الخلقي إلى الإبداع، الخلق الإبداعي الذي لا يستبعد الفيض أو الفيض الإبداعي الذي لا يستبعد الخلق كما خلط علم الكلام بين الوجود والمعرفة فاستحال الفصل بين وجود الله وطرق إثباته كما هو واضح في نظريات الحدوث والقِدَم والممكن والواجب مما سمح بالتشخيص وإسقاط الإنسانيات على الأفلاك.
يجمع ابن سينا بين الخلق والفيض بوجود مدبر صانع عادل أبدع الهيولى من الصور طبقًا للحكمة، والعدل. فالإبداع من الصور أي من العلم النظري، ويفيض طبقًا لاستعدادها وأمزجتها. ولها غاية وغرض وصفة الحكيم فيها. يجمع ابن سينا بين الاتصال والانفصال، بين الداخل والخارج، بين الخلق والكون، بين العِلَل الصورية والمادية والفاعلة والغائية.
وبالرغم من محاولة ابن سينا الخروج من الاختيار بين الخلق والفيض إلى الإبداع إلا أن بعض التساؤلات العلية ما زالت قائمة حول أثر الأفلاك. لماذا أثَّر القمر على الغاذية، وعطارد على النامية، وزحل على الناطقة، والزهرة على المولدة، والمريخ والشمس على الحركة؟ ولماذا يُعطَى الفلك هذا القدر الضخم من الروحانية والمخاطرة بالشرك؟ الفلك موضوع طبيعي، جزء من العالم، موضوع علم الفلك وهو ما حاول ابن سينا تأسيسَه في عصر البيروني، ولكنه كان ما زال تحت أثر الفيض فاستسلم له. وأحيانًا تتوه القضية ويغمض الاختيار وسط الإلهيات الصورية. فهي جزء من كل، والتركيز ليس عليها بل على بنية الإلهيات كلها.
ويبدو في هذا النسق اجتماع الطبيعة والإرادة، الحتمية والحرية، التاريخ والإنسان، الجماعة والفرد، الظرف التاريخي والقرار الإرادي الحر. ليست الحوادث على المستوى الطبيعي، سخونة وبرودة بل على المستوى الإنساني الفردي والاجتماعي. والتغير ليس فقط في ظواهر الطبيعة بل أيضًا في الحياة الإنسانية. ولمَ إنكار تأثير الأرض في السماء وهو أساس الدعوات والعبادات والصدقات، كما أن تأثير السماء في الأرض يمكن معرفته عن طريق معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع والتاريخ؟!
الأجرام السماوية هي نقطة التقاء بين الإلهيات والطبيعيات مثل النفس، فيض من العقل والطريق إلى واجب الوجود. المهم هو طبيعة هذه العلاقة، أحادية الطرف، أثر السماء في الأرض أم على التبادل مع أثر الأرض في السماء؟ وهل الأجسام المركبة أكثر قبولًا للفيض من الأجسام البسيطة؟ وأيهما أبسط العلوية أم السفلية؟ وتظهر مصطلحات القرآن، مثل سدرة المنتهى، عرش الرحمن، وبعض مصطلحات الصوفية مثل الهياكل الإلهية.
والفاعل القريب للحركة الأولى النفس مما يبرر قربها من الله في مراتب الوجود. وحركة السماء مع أنها نفسانية إلا أنها طبيعية. لذلك أتت في الرتبة الثانية بعد النفس، والثالثة بعد المحرك الأول، ويرفض ابن سينا مقالات القدماء، أن الله خلق النفس ثم اشتغل بتدبير الهيولى وتصويرها فلم يُحسن التدبير ولا أكمل حسْنَ التصوير فتداركها الباري وأحسن تقويمها.
(ب) واجب الوجود
إلهيات ابن سينا تقوم على التوحيد والتنزيه كما هو الحال عند المعتزلة على نحو عقلي خالص. ثم تظهر لغة الفيض والإشراق، لغة الوجدان، بألفاظ الغاية والكمال والشوق والعشق. وتظهر صفات التعظيم الأخرى مثل غاية الجلالة، اللذيذ وهي صفة أقرب إلى المدرك منها إلى المدرك وتعني اللذة العقلية. وله بعض صفات المبالغة مثل فوق التام، البهاء الأعظم، الجلال الأرفع، المجد غير المتناهي.
فالله منطقي لا حدَّ له، وطبيعيًّا الخلق والعناية، وإلهيًّا واجب الوجود، لا برهان عليه وهو برهان على كل شيء. وهل واجب الوجود يحتاج إلى إثبات ما دام اقتضاء نفسيًّا أخلاقيًّا نزوعيًّا غائيًّا، وأن براهين المتكلمين في عالم الأذهان وليست في عالم الأعيان؟
ومع ذلك يظهر لفظ «الله» كثيرًا كاشفًا عن ظاهرة التشكل الكاذب، وكذلك صفة الإلهي والباري مع صفات التبجيل والتعظيم والإجلال، مثل «تعالى»، «تعالى جدُّه»، «تبارك وتعالى».
وإذا كان موضوع «الرؤية» قد ظهر في علوم الحكمة فإنه تطوير لنفس المسألة في علم الكلام: هل تجوز الرؤية؟ إما في باب ما يجوز على الله بعد ما يجب له وما يستحيل عليه، وإما في صفة ليس في محل أي القيام بالنفس لما تتطلبه الرؤية من شيئية وموضوعية في مقابل العين. ينكر ابن سينا الفيلسوف رؤية الله مثل المعتزلة كي يُثبتَها في مكان آخر كصوفي. وهو موضوع وثيق الصلة بالفيض نظرًا للطابع الإشراقي للرؤية.
يحاول ابن سينا هنا التحول من الدين إلى الفلسفة مباشرة دون المرور بالضرورة بعلم الكلام وإن كان المعتزلة قد حاولوا نفس الشيء قبل ذلك حفاظًا على التنزيه في موضوع الرؤية. ويبدو ذلك عند ابن سينا خاصة في رسائله أكثر مما يبدو في موسوعاته. ويظهر التشكل الكاذب في مصطلحات الحق الأول، الذات الأحدية جمعًا بين الموروث والوافد في اللغة مثل «الذات الأحدية»، كما تظهر المصطلحات الموروثة مثل الله، الباري عز وجل، تعالى، بل المصطلحات العقائدية مثل الملائكة، الوحي، اللوح، القلم، التنزيل، السموات والأرض، الغيب أو العقائدية الفلسفية مثل الفيض الإلهي، الملكوت الأعلى، الروح القدسية، الروح الملكية، الأحلام. يتضح الدين غير المباشر في المقالتين الثامنة والتاسعة، والدين المباشر في العاشرة. فالمقالة الثامنة في الله أي التوحيد، والتاسعة في العالم أي العدل، والعاشرة في السمعيات أي النبوة والمعاد والإمامة والإيمان والعمل أي العبادات وهي أدخل في الحكمة العملية.
(ﺟ) العلية والعناية
وإذا كان واجب الوجود يشير إلى أصل التوحيد فإن العلية والعناية يشيران إلى أصل العدل بتعبيرات المعتزلة. فالعلية هي التي تربط في نظرية الخلق بين الله والعالم، العلة والمعلول. في مقابل قِدَم العالم. والعناية هي التي تبيِّن اعتناء الله بالعالم طبقًا للتصور الموروث في مقابل تحرك العالم نحو الله بالعشق، التصور الوافد، وما يتضمنه من خلق الأفعال، والحسن والقبح العقليَّين وما سماهما ابن سينا، القضاء والقدر والشر في العالم.
ثم تنتقل العلية من مستوى الطبيعة إلى الإنسان بمناسبة التضرع والدعاء. ينقد ابن سينا المشبهة من الفلاسفة الذين يُنكرون العلل والأسباب وهم المتكلمون الأشاعرة. كما يرفض الاتفاق والبخت والمصادفة والعبث؛ لأن ذلك إنكار للتعليل. كما يرفض القضاء والتقدير؛ لأنه إنكار للإرادة الإنسانية. فكلَا الموقفين خطأ ومجموع الخطأين لا يكون صوابًا. يثبت الغائية مع المعتزلة ضد الأشاعرة، ويُعطي تفسيرًا علميًّا للقضاء والقدر ضد التفسير الأشعري الذي يُنكر الأسباب. لا شيء يحدث اتفاقًا أو عبثًا أو قهرًا من إرادة مشخصة بل طبقًا لعلل طبيعية. التقدير هو القدر. القضاء عام والقدر خاص. ليس القضاء أمرًا إلهيًّا مشخصًا بل هو قانون تاريخي. هناك تفسير لما يقع باجتماع الإرادة والحتمية، الفعل الإنساني والفعل الكوني، العلة الإنسانية والعلة الطبيعية.
ومعرفة الحوادث الحاضرة يمكن أن تكون مقياسًا لمعرفة الحوادث المستقبلة، استقراء لقوانين التاريخ. وهذا هو أساس علم أحكام النجوم. وبهذا المعنى يمكن معرفة الغيب. أما اعتماد أحكام النجوم على أمور السماء وحدها دون الأرض فباطل وينتهي إلى التنجيم حتى لو ادَّعى المنجم التجربة أو الوحي أو القياسات الشعرية والخطابية لأنه ينكر البرهان، بالإضافة إلى أنه لا يعرف كل ما في السماء. يكفي الاعتماد على العلل الأرضية. أما السماوية فهي العلل الجغرافية واشتراكهما هي قوانين التاريخ.
وهو السبب في الدعاء والصدقة وحدوث الظلم والإثم. مبادئ كل هذه الأمور تنتهي إلى الطبيعة والإرادة والاتفاق. الطبيعة مبدؤها سابق عليها، والإرادة الإنسانية كائنة بعد أن لم تكن. وكل كائن له علة، وكل إرادة لها علة، وعلَّتُها ليست الإرادة المتسلسلة إلى ما لا نهاية بل إلى أمور من الخارج أرضية وسماوية. والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماعها يوجب المراد.
وترتبط بالعناية ووجود الشر في العالم الغائية. فطبائع المطبوعات ثلاثة: الأولى العلة الفاعلة وهو الصانع الحكيم الذي ركز عليه الروحانيون والذي أعطى كل شيء كما توجبه الحكمة، صانع عظيم وفاعل حكيم أعطى الهيولى التي أبدعها من الصور ما وجب في الحكمة والعدل. والثانية العلة المادية واستعدادها ومزاجها والتي يركز عليها الماديون. وهي الاستعداد للتخليق والتصوير والتطبيع والتخصيص والتقوية قبل الفيض وبعده، يختلف باختلاف الأمزجة. والثالثة العلة الغائية التي تبرز القصد والعناية، غرض الحكمة من صنع الصانع. ويضل بعض المتفلسفة الذين لا يفهمون الطبيعيات مثل الطب عند الحديث عن الطبائع في العناصر (الماديون) أو في الحكمة كلها (الروحانيون)، وظهور الأمثلة الطبية عند ابن سينا تبيِّن أن العلم الطبيعي أحد مصادر تكوين علوم الحكمة، من الداخل وليس من الخارج.
كما تقوم نظرية الفيض على نظرية حتمية آلية للكون كالعلب المتداخلة التي تتخارج مرة بالفيض وتتداخل مرة أخرى بالإشراق، أو كالكوب المتدرج الذي ينفتح مرة بالفيض وينغلق مرة بالإشراق ومن ثَم يغيب الإبداع. الفيض بالطبيعة والكرم، والإشراق بالتأمل دون الفعل. خطورة الفيض التضحية بالعلم في سبيل التصوف، وبالعقل لصالح الإشراق، وبالعالم في سبيل الله، وبالتالي الوقوع في الأشعرية الصوفية التي ما زالت سائدة حتى الآن في الوعي الفلسفي التاريخي.
نظرية الفيض تصور شعري خالص لله والطبيعة والإنسان من منظور الوحدة بلغة إنسانية فياضة بتجاوز لغة الفلسفة والعلم إلى المجاز الأدبي. فالطبيعة تسبح وتسجد وتركع. وقد تتحول الصورة الفنية إلى أسطورة دينية وملحمة كونية.
ليس عيب الفيض الموقف الشرعي، الوساطة بين الحق والخلق وتأليه الكون بل الخروج على استعمال اللغة بسبب الاغتراب عن العالم، وتوهم أن اللغة الإنشائية المستعملة في الفيض والتي تعبر عن مواجيد النفس لغة العودة إلى الموقف الطبيعي وتحليل اللغة، وهو ما حاوله أبو حيان التوحيدي كأديب الفلاسفة بالرغم من مواقفه الصوفية كفيلسوف الأدباء.
- (أ)
الفاعل المختار هو الذي يقدر على الفعل والترك متى شاء.
- (ب)
كلُّ فاعلٍ حكيم مختار فعْلَه في فعله غرضٌ.
- (جـ)
الغرض عناية سابقة في علم الصانع قبل إظهار صنعته ومن أجله يفعل ما يفعله؛ فإذا بلغ إلى غرضه قطع الفعل، وأمسك عن العمل.
- (د)
كلُّ حكيم صانع إذا علم علمًا يقينيًّا أنه لا يبلغ إلى غرضه في فعله فإنه لا يعمل شيئًا ولا يطلبه.
- (هـ)
محرك الأفلاك والكواكب فاعل مختار حكيم قادر.
٢ = اليمين واليسار.
٣ = ثلاث طبقات.
٤ = أربعة أمزجة، أربع طبائع، أربعة عناصر.
٥ = خمس حواس، خمس طبائع، أول عدد دائر.
٦ = ست جهات، أول عدد تام، عدد سطوح المكعب.
٧ = سبع قوى فعالة، أول عدد كامل، عدد الكواكب.
٨ = ثمانية أمزجة، أربعة مفردة وأربعة مزدوجة، مناسبة في الموسيقى.
٩ = تسع طبقات لتركيب الأبدان، أول عدد مجذور، طبقات الأفلاك.
١٢ = ثقبًا للحواس، أول عدد زائد، عدد البروج.
٢٨ = أعمدة الظهر، عدد تام، منازل القمر.
٣٦٠ = عرقًا، عدد درج بروج الفلك، أيام السنة، الرسائل، ج٢، ٨، ١٩٧، ج٣، ٢، ٢٠٠-٢٠١، ج٣، ١، ١٨٣-١٨٤.


- (١)
الوجود: كيفية سريان الجود في الموجودات.
- (٢)
البقاء: كيفية سريان البقاء في الباقيات.
- (٣)
الدوام: كيفية سريان الدوام في الدائمات.
- (٤)
كيفية سريان التمام في التامات.
- (٥)
الكمال: كيفية سريان الكمال في الكاملات.
- (٦)
الحياة: كيفية سريان الحياة في الأحياء.
- (٧)
العلم: كيفية سريان العلم في ذوي العلم.
- (٨)
القدرة: كيفية سريان القدرة في ذوي القدرة.
- (٩)
الرياسة: كيفية سريان الرياسة في ذوي الرياسة.
- (١٠)
الربوبية: كيفية سريان الربوبية في ذوي الأرباب.
- (١١)
الوحدة: كيفية سريان الكثرة من الوحدة المحضة.

-
(١)
القوى الحساسة الحيوانية (٤).
-
(٢)
القوى الناطقة (١٥).
-
(٣)
القوى العاقلة الخيرة (٣٠).
-
(٤)
الحكمية المستبصرة (٤٠).
-
(٥)
القوى الملكية المؤيدة (٥٠).
-
(٦)
القوى الناموسية الممهدة للمعاد. المفارقة للهيولى في آخر العمر.
-
(٧)
المعراج.






الإنسان | الفلك |
---|---|
سبع قوى روحانية حاسة | سبع روحانيات، الكواكب |
القوى الخمس | الكواكب الخمس |
الناطقة العاقلة | الشمس والقمر |
النفس والعقل | عقد تام، الرأس والذَّنَب |
مفاصل الجسد وأعضاء البدن وعروقه | درجات صعود الفلك ووجوهه |
أفعال المفاصل | أفعال قوى النفس في الكواكب والبروج |
اتصال النفس بالبدن | اتصال النفس الكلية بالفلك |
المبادئ الستة | الأجسام الستة |
---|---|
الأول | الأجسام السماوية |
الثواني | الحيوان الناطق |
العقل الفعال | الحيوان غير الناطق |
النفس | النبات |
الصورة | المعادن |
المادة | العناصر الأربعة |
نفي الصفات الإنسانية | إثبات الصفات الإلهية |
---|---|
(١) الإنسان معقول، وليس المعقول منه معقولًا بالفعل بل كان بالقوة ثم صار بالفعل | الله معقول، والمعقول منه معقول بالفعل وليس بالقوة ثم صار بالفعل. |
(٢) ليس المعقول هو الذي يعقل | المعقول هو الذي يعقل |
(٣) ليس العقل هو المعقول | العقل هو المعقول. |
(٤) نحن نعقل لا لأن جوهرنا عاقل | يعقل لأن جوهره عاقل |
(٥) ما نعقل ليس هو الذي تجوهرنا به | ما يعقل هو ما تجوهر به |

النفس | الموضوع |
---|---|
(١) الناطقة | الجميل والقبيح |
(٢) المخيلة | الضار والنافع |
(٣) الحواس الخمس | الملذ والمؤذي |

النمط الثاني: جهات الأجسام (١٧١)، (مسائل ١٥).
النمط الثالث: النفس (١٥٧)، (مسائل ١٢+٤).
النمط الرابع: في الوجود وعِلَله (٦٥)، مسائل (٦).
النمط الخامس: في الصنع والإبداع (٤٩)، مسائل (١٠).
النمط السادس: في الغايات ومبادئها في الترتيب (٤٦)، مسائل (٣).
النمط السابع: في التجريد (١٦)، مسائل (٨).
النمط الثامن: في البهجة والسعادة (١٠)، مسائل (٧).
النمط التاسع: في مقامات العارفين (١١)، مسائل (٧).
النمط العاشر: في أسرار الآيات (١٨)، مسائل (٥).


- (أ)
قسمة الأجسام إلى بسيط ومركب.
- (ب)
أصول الأجسام الكلية والجزئية.
- (جـ)
مبادئ الطبيعيِّين من الإلهيِّين.
- (د)
مبادئ الطبيعيِّين من الطبيعيِّين.
- (هـ)
القوى الطبيعية (من أجل إثبات العناية والتدبير والحكمة).
- (و)
الفلك عند الطبائعيِّين (خرافة الفيض). ابن سينا: بيان الجوهر النفيس، جامع، ص٢٥٨–٢٧٩.
