ثالثًا: النفس الناطقة
وتعني النفس الناطقة ظهور العقل في النفس متجاوزًا الحس والحركة، ويبرز موضوع اللغة هل هو أقرب إلى النفس البدنية أو النفس العاقلة أو إلى كليهما؟ لأن المنطق نفسيٌّ أيضًا. وتشمل قسمين: العقل بكل درجاته ابتداءً من الحس حتى الخيال، والنبوة ونظرية الاتصال وكل ما يتعلق بالوحي والإلهام.
(١) العقل
ويضم العقل الحس وجميع أنواع العقول، الهيولاني والمستفاد، بالقوة وبالفعل، والعقل الفعال.
(أ) نظرية العقول (الكِنْدي)
العقل أحد مظاهر النفس. لذلك دخلت رسالة «في العقل» ضمن الرسائل النفسية مع «القول في النفس» و«الكلام في النفس». الصور العقلية في النفس، والنفس شيء واحد مما يدل على وحدة الذات والموضوع. ويتم الانتقال من العقل إلى النفس ثم إلى الصورة والمادة وكأن الموضوع ما زال في النفس الطبيعية. يرتبط العقل بالنفس، فالمنطق إحدى قوى النفس، والمعقولات تنشأ باتحاد النفس بالكليات. وتصبح النفس عاقلة بالفعل بعد أن كانت عاقلة بالقوة. والعقل المستفاد أو العقل بالفعل أو العقل بالقوة هو النفس وليس العقل.
ويتم ارتقاء النفس بالعلم والتعليم بتحويل العلوم الرياضية من المستوى الصوري والعلوم الطبيعية من المستوى المادي إلى مستوى النفس. يهبط الصوري إلى النفسي والاجتماعي والسياسي. ويرتفع المادي إلى النفسي والاجتماعي. ثم يرتفع النفسي والاجتماعي إلى الروحي. ويتم التحول من النظر إلى العمل، من الغربة إلى الاغتراب، من الصوري والمادي إلى النفسي، ومن النفسي إلى الإلهي.
(ب) نظرية الاتصال (الفارابي)
والبشر من حيث فِطَرهم مختلفون بالنسبة إلى قبول المعقولات الأُوَل نظرًا لتفاضلهم بالطبع والمقدمات. وهم ثلاث فِرَق من أدنى إلى أعلى. الأولى مَن لا تقبل بالطبع شيئًا من المعقولات الأُوَل. والثانية مَن تقبلها على غير جهتها مثل المجانين. والثالثة مَن تقبلها على جهتها وهم أصحاب الفطر الإنسانية الذين ينالون السعادة. وذو الفطر السليمة لهم فطرٌ مشتركة لقبول معقولات مشتركة للسعي بها نحو أفعال وأمور مشتركة، ثم بعد ذلك تأتي الفروق الفردية والجماعية. والبعض معدٌّ لقبول معقولات خاصة ليست مشتركة. فهناك نوعان من المعقولات، عامة للجميع وخاصة للبعض كما هو الحال عند الصوفية وقسمة الناس إلى عامة وخاصة. والمعقولات الخاصة لجنس آخر لا يشارك فيها أحد. البعض معدٌّ لمعقولات لجنس واحد، والبعض الآخر معدٌّ لمعقولات تصلح لجميع ما في ذلك الجنس. فالتفاضل موجود في القوى الاستنباطية من معقولات واحدة. يمكن لواحد أن يستنبط شيئًا أقل، وللآخر أن يستنبط شيئًا أكثر. يمكن لواحد أن يستنبط شيئًا واحدًا في الجنس، ولآخر أن يستنبط جميع ما في الجنس.
ويتضح الجانب الصوفي في نظرية المعرفة عند الفارابي، واستعمال عبارات صوفية وأحاديث نبوية وكأننا في «المنقذ من الضلال». كما يظهر القرآن الحرفي، مثل: وكلكم آتيه يوم القيامة فردًا. ويتوجه الفارابي إلى القارئ بالنداء وكأنه شيخ فيجذب المريد وصاحب دعوة بين الناس. والسؤال هو: لماذا يكون إدراك الكمال الأول للنفس إلى أعلى وليس إلى أسفل، خارج العالم وليس داخله؟ هل الاتصال الدائم لذة أم الاتصال بعد الانقطاع هو اللذة؟ قد تدل لغة الإدراك والعشق واللذة على حبٍّ إنساني ضائع والتسامي به، حب الإسلام الضائع والحق المهضوم. وقد يكون حبًّا جنسيًّا مكبوتًا يجد عوضه في الحب الصوفي.
والمعقولات الأولى المشتركة ثلاثة أصناف: الأولى أوائل الهندسة التعليمية أي الرياضيات دون ذكر للمنطق وكأن الرياضيات بديل عنه. والثانية أوائل الجميل والقبيح في سلوك الإنسان وهي الأخلاق. والثالثة أوائل أحوال الموجودات التي يعقلها الإنسان ومبادئها ومراتبه مثل السموات والسبب الأول وسائر المبادئ الأُخَر وهي الإلهيات والطبيعيات.
تمتاز نظرية العقول باعتبارها تفصيلًا للقوة النظرية بالحركة والتدرج والانتقال من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، وليست آلية مادية. وينتقل الفارابي من المستوى المادي الطبيعي في تحليل المني والأنثيَين في النفس الطبيعية إلى تحليل العقول على المستوى الغيبي في ازدواجية ربما ما زالت قائمة حتى الآن. ولا يظهر تعبير عقل مستفاد أو عقل بالملكة. ربما لا يعني شيئًا إلا مجرد المزاج الوقتي والإحساس باللغة. ليس المهم أسماء العقول، بالقوة هيولاني، منفعل، فهي كلها مصطلحات وألفاظ وتعبيرات وليست أشياء. وكذلك بالفعل أو مستفاد فهي تعبيرات عن عملية التعلم عن طريق العوامل الخارجية والداخلية، الخارجية المتمثلة في العقل الفعال والداخلية في العقل الإنساني وجهده في اكتساب المعارف. وإذا كان العقل مع الله والثواني والنفس وكل الجواهر المفارقة كصفات لله تحولت إلى وجود وأسباب الطبيعة الأبدية، فإن العقل الفعال هو المرتبة العاشرة. جمع بين الأعلى والأسفل، لقربه من السماء والأرض.
نظرية العقل الفعال هي في الحقيقة نظرية الرؤية والإبصار ولكنها مشخصة في الوجود على نحوٍ كوني وليس على نحوٍ معرفي فقط. هي نظرية في الإدراك تقوم على أن الشعاع يأتي من الخارج إلى العين وليس على صدور الشعاع من موضوع البصر إلى العين أو من العين إلى موضوع البصر. وتكرار صورة الشمس والبصر يدل على أن الخطاب أدبي إنشائي وليس خطابًا علميًّا. ويكون ابن الهيثم على حق في تحويل الصورة الفنية إلى نظرية في الإبصار، تقوم على الشعاع المزدوج بين العين والشيء في علاقة أفقية وليس بين العقل الفعال والعقل المنفعل في علاقة رأسية.
ونظرية الاتصال بالعقل الفعال بين النفس الناطقة والنفس الأخلاقية، نظرية في المعرفة ونظرية في السعادة في آنٍ واحد. وتكون السعادة بإعطاء العقل الفعال الإنسان المعقولات الأُوَل التي هي المعارف الأُوَل. فالنفس تعرف الخير بالعقل الفعال، وتشتاقه بالقوة النزوعية، ويعمل ويروي فيها بالقوة العملية. والقوتان المتخيلة والحساسة مساعدتان للقوة الناطقة حثًّا للنفس على الخير. يصعب التفرقة إذن بين القوة النظرية للمعرفة والقوة العملية للأخلاق. فحصول القوة الناطقة وتحوُّل العقل الهيولاني إلى عقل مستفاد وإلى عقل بالفعل كل ذلك مقدمة للفعل الخلقي من أجل السلوك الفاضل.
والعقل الفعال يُخرج العقل من القوة إلى الفعل فيصبح عقلًا بالفعل. والقوة العملية من أجل السلوك والفعل حتى يصبح العقل عقلًا بالفعل، وينتقل من العقل الهيولاني إلى العقل المستفاد. وبقدر ما تتم تصفية القلب يُشرق العقل الفعال. وأحيانًا يضع الفارابي التقابل بين العقل النظري والروح. فوظيفة العقل النظري التجرد والتصفية. والروح مِرآتُه، وهو صقل لها. المعقولات ترتسم فيه من الفيض الإلهي. والصقل للخلاص من الشهوة والغضب والحس والتخيل، وهذا يتطلب جهدًا ومعاناة وتحولًا، تحول المعرفة إلى سعادة بالاتصال باللذة العليا. فالأخلاق شرط المعرفة. ويستعمل الفارابي تعبيرَ الروح القدسية التي لا يشغلها العالم السفلي عن العالم العلوي، ولا يشرف حسها الظاهر حسها الباطن. وقد يتعدَّى تأثيرها من بينها إلى الأجسام العالية. تقبل المعقولات من الروح والملائكة بلا تعلم. لا يشغلها شيء مما يشغل الروح العامي.
والكليات في الأذهان لا في الأعيان، والمثل والصور الطبيعية ليست مفارقة في حين أن التعليمات الرياضية بذواتها مفارقة. وهو ما سيعود إليه ابن سينا في الحديث عما قبل الكثرة (الموجودات المفارقة)، ومع الكثرة (الرياضيات) وبعد الكثرة (الصور الحسية للمجردات).
وقد تضيع القوى النظرية والعلمية المعرفية من العالم الخارجي في النظرية الإشراقية والمعرفة من الفيض الإلهي. وبدل أن تعمل الحواس عضويًّا يعمل العقل ليصقل مِرآة الروح لتعكس الفيض الإلهي.
وبحصول العقل الفعال يتم الانتقال من المعرفة إلى الأخلاق على عكس أصول الدين عند المعتزلة الذي يبدأ بالفعل الحر كأول فعل للعدل ثم يظهر العقل بعد ذلك في الحسن والقبح العقليَّين. «أنا أريد إذن أنا أفكر» في الكوجيتو الاعتزالي، و«أنا أفكر إذن أنا أريد» في الكوجيتو عند الفلاسفة. فالمعرفة عند الفارابي ليست مجرد معرفة بل حنين وشوق ونزوع. لا يحب الإنسان إلا المعرفة، أي الحب العقلي وليس حبَّ الأشياء أو العالم أو الأشخاص. لا يحب الإنسان إلا المعاني والأفكار.
(ﺟ) الحس والعقل واللغة (التوحيدي)
نظرًا لاعتماد التوحيدي على أبي سليمان فإن ما يردُ على لسانه يعبر في نفس الوقت عن رأي الاثنين. فالرواية اختيار، والتبليغ رسالة. ولم يحدث تراكم فلسفي كافٍ عند أبي حيان والكِنْدي إلى الفارابي ربما لأن أبا حيان أديب أولًا وفيلسوف ثانيًا، أو لأنه يمثل الثقافة الشعبية في حين يمثل الحكماء الثقافة العالمة. لذلك أتت أفكاره متقطعة جزئية قصيرة النفس، حدوس ورؤًى أكثر منها أنساقًا وبراهينَ.
والعلم أيضًا هو العلم الشعوري، والكلام هو الكلام الشعوري. العلم صورة المعلوم في النفس ينتقل من القوة إلى الفعل.
(د) الصور الروحانية (ابن باجه)
وموضوع النفس «الصور الروحانية». وهو العنوان الوحيد في «تدبير المتوحد»، وموضوعه الفرد والجماعة وكأن وظيفة الفرد المعرفة الخالصة والإشراق والمدن الفاضلة. وتبدو أهمية عالم الصور، صور الأشياء الذهن. فالعالم صور ذهنية. وتختلف فيما بينها خسة ورفعة، وتتغير الصور. والأجسام صور ارتفاعًا وانخفاضًا، والجسم صورة. أما المعقولات فليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، رفعة ولا خسة. فهي كيف لا كم.
وعند الفلاسفة الروح على مرتبتين، من أدنى إلى أعلى: الحس المشترك أو الروحانية الخالصة، والروحاني المطلق، أي العقل الفعال للمعقولات الروحانية العامة. فتتحول القسمة الرباعية عند الأطباء إلى قسمة ثنائية عند الحكماء، والقسمة المزدوجة إلى قسمة بسيطة بعد استبعاد الصور الفلكية وضم الثانية والثالثة بدلًا منها في مقابل الرابعة.
وقد تنقسم الصور الروحانية الخالصة التي لكل جسم كائن فاسد في وسائل إدراكها إلى قسمة ثلاثية: الحس المشترك، والقوة المتخيلة وهي الفضائل الإنسانية وهي محبوبة بالطبع، والقوة الذاكرة فحسب دون الناطقة. وهناك روحانية أقل أو أقرب إلى الجسمانية وتسمى الصنم.
أما بالنسبة للموضوع فالصور الروحانية على أصناف من أدنى إلى أعلى: المعاني الموجودة في قوى النفس، الحس المشترك أو التخيل والتذكر، والمعقولات الهيولانية، وصور العقل الفعال إلى الفعل المستفاد، وصور الأجسام المستديرة، صور الأفلاك. الأولى وسط بين المعقولات الهيولانية والصور الروحانية، والثانية لها نسبة هيولى، والثالثة غير هيولانية، والرابعة خارج الذات، موضوعية خالصة. وهناك نسبة بين الذات والموضوع، بين الحس والمحسوس. لذلك تكثر الإشارة إلى «الحس والمحسوس».
وتتفاوت الصور الروحانية في مراتبها الجسمانية. كلما نزلت زاد الجسم وقلَّت الصورة. وكلما صعدت قلَّ الجسم وزادت الصورة. وتتفاوت فيما بينها بين الأكثر والأقل من أدنى إلى أعلى: الجسمانية والروحانية الخالصة والروحانية العامة. الجسمانية مثل الفلاحة، والروحانية الخاصة مثل الصناعات، والروحانية العامة المعقولات مثل التعليم والشعر. الصور المتوسطة ليست غايات بل توجد منها أكثر الصناعات في حين أن المتوحد يبحث عن العلوم النظرية الخالصة تعففًا من الصناعات وفي حضارة أعطت الأولوية للفضائل النظرية على الفضائل العملية. العالم كله صور، المهن والصانع والعلوم.
والحمل المنطقي هو تباين النسبتَين بين الجسمي والصوري أي بين المشخص والعام. فعن طريق الصور الروحانية يتحول علم النفس إلى منطق، والمحسوسات إلى معقولات. فأصول الاعتقاد مظنونة أو يقينية. والمظنونة كاذبة أو صادقة، وهي الصور الروحانية. وهي أقل رتبة من البرهان اليقيني الصادق ضرورة وأعلى من الظن الكاذب في مرحلة متوسطة بين اليقين والظن، بين الصدق والكذب. يصدق الإنسان بها أو يكذب.
وهذه الصور الروحانية زائدة على الأمور الطبيعية لأنها إلهية. وليست موضوع صناعة أو تدبير لأنها في أقل الناس. إنما التفاوت في الدرجة. عند البعض أكثر الظنون صادقة، قريب الظن. وعند البعض الآخر أكثرها كاذبة، بعيد الظن.
والظن حاضر حسب الأحوال. والموضوع يتوقف على الفحوص والوضوح، والقلة والكثرة، والكيف والكم. وما حكتْه العرب في الظن ممكن، مثل: زيد نحوي. والضروري والأكثر يحول الإنسان بالتجربة والإمعان في النسب إلى المتحنك. والمتحنكون هم الذين عركوا التجارب، وقليلًا ما يخدعون.
وقد تكون الأمثال صورًا روحانية كاذبة فيما لا وجود له أو ما له وجود مثل ما كانت تحكيه العرب عن زرقاء اليمامة وتأبط شرًّا وما تحكيه النصارى عن بناء الهياكل لقوم بأسمائهم، قتلوا ثم أحيَوا ثم أحرقوا ثم أحيَوا بالرغم مما قد يكون لذلك رصيد في التجربة البشرية. تجعلها صادقة في البداية كاذبة في النهاية. وهي غير الصور الروحانية الكاذبة التي تقع بالحس والتي منها تأتي صناعة المشعبذين.
وإذا اجتمعت القوى الثلاث حضرت الصورة الروحانية وكأنها محسوسة، وتكون صادقة. وهو ما ظنَّه الصوفية غاية الإنسان في دعائهم «جمعك الله وعين الجمع» وبقصورهم عن الصور الروحانية المحضة التي قامت هذه الصور الروحانية مكانها. تدبير المتوحد إذن أعلى من التصوف. التصوف خيالات، وغاية الصوفية بالعرض لا بالذات، وغاية المتوحد بالذات لا بالعرض.
والصور الروحانية العامة نوعان: الأولى عامة بالعرض كالصور الروحانية الخاصة والثانية عامة بذاتها كالأنواع والأجناس. الأولى في التذكر وتعمل بالحس، والثانية بالذات وتعمل في العقل. فالصور الروحانية في نفس الوقت موضوع للنفس وموضوع للمنطق.
والصور الروحانية مع نسبتها العامة نوعان: الأولى تمر بالحس المشترك، والثانية لا تمر بالحس المشترك. الأولى في النفس الطبيعية، والثانية في النفس المنطقية. والصور الروحانية الخاصة تهدف إلى الإفادة العامة إما للحيوان من خلل الحواس أو الطبيعة كالعطش للماء، وإما للإنسان من خلال الفكر أي الروية أو العقل الفاعل دون روية أي الإلهامات والرؤى الصادقة. هي إما متجهة إلى أسفل نحو الجسم أو إلى أعلى نحو العقل، نحو الطبيعة أو نحو ما بعد الطبيعة.
كما تعرف الصور الروحانية بالخيال إما عن طريق الحواس الخمس والصور الجسمانية أو عن طريق الحس المشترك خاصة البصر. وتغلظ الخيالات بسبب ألفاظها. لذلك أتت الاستعارة وأنواعها. وهي قاصرة على الإنسان دون الحيوان. ولا يحتاج الخيال إلى الحس إلا في وجود الأجسام القابلة للصور. ويظل السؤال هل يمكن أن توجد صورة روحانية مخترعة مادتها القريبة لم يمرَّ نوعها بذلك الحس المشترك؟ ويتصل الخيال بالنزوعية من أجل الحركة. والنزوعية إما بالعرض أو بالذات. وهي حالة طبيعية تقوم على الملائمة ضد الملل والسآمة.
(٢) النبوة
وتبدأ الموضوعات الدينية الصريحة في النفس الخالدة مثل الوحي والنبوة والمنام والملك وتأويل المنامات والرؤَى، والجن والشياطين، وأمور المعاد من ثواب وعقاب، وجنة ونار. وهي ما سمي في علم العقائد السمعيات أو النبوات في مقابل الإلهيات أو العقليات. فالإخوان في نسق العقائد أحيانًا تضحي بالعقليات من أجل السمعيات. ومن السمعيات يتم التركيز على النبوة والمعاد والإيمان دون الإمامة. فالأئمة خلفاء الرسل فحسب. فإذا استعملت حجة عقلية تأتي ملحقة بالحجج النقلية وشواهد التاريخ.
(أ) المنامات والأحلام (إخوان الصفا)
الوحي إنباء عن أمور غائبة تقدح في النفس من غير تكلف ولا قصد. وهو أقرب إلى تعريف الأحوال عند الصوفية. ويكون الوحي في اليقظة إما سماعًا لصوت أو سماعًا لصوت ورواية عن شخص وهو تعريف خاص. وقد يكون في المنام والنوم وهو استعمال النفس للحواس، وهو تعريف عام.

ويستعمل الإخوان تفسير الأحلام وتأويل الرؤى لإثبات جوهرية النفس مما يوقع في الدور. جوهرية النفس تُثبت الوحي، والوحي يُثبت جوهرية النفس. والسؤال هو: هل الأحلام دليل على جوهرية النفس أم أن الأحلام لها تفسير علمي؟ وما الضامن، ألَا تكون أضغاث أحلام؟
ويمكن تأويل المنامات مثلًا بمثل، حلم بسفر فيقع السفر، وضدًّا بضد، حلم ببكاء فيقع الفرح، وما له تفسير، حلم بطيران فيقع السفر، ولكل رمز معنًى لقرينه بينهم مثل سواد البدن الذي يعني سواد الوجه عند الله، وطول الشعر الذي يعني الحزن، والبئر الذي يعني الهاوية.
وترتقي نفوس الملائكة في درجات الجنان ومقامات المعارف كما ترتقي النفوس الإنسانية. ولما كان الارتقاء قانون الأحياء ترتقي نفوس الحيوانات كذلك إلى الرتبة الإنسانية. فالحيوان إنسان في نزعة إنسانية وتصور إنساني للأحياء. وأحق الناس بالارتقاء الأشقياء حيوانًا أم إنسانًا. النفوس المتعوبة في التعبد، المنقادة إلى أحكام الشريعة، الخادمة في الهياكل والمساجد والبِيَع والصلوات والصوم والقرابين والدعاء والتأليه. هي النفوس الملائكية الواصلة. وإذا كانت الملائكة لا تسلم إلا على أبناء جنسها فهل بها إمكانية للترقي وهي نموذج الكمال؟
لذلك يشار إلى الكهانة والغيب والتنجيم والنبوة. وهي موضوعات تظهر في الإلهيات في الإشراق، وفي الطبيعيات في علم أحكام النجوم. فللنبوة ميدانها، وهي موضوع حساس قد يؤدي إلى الاتهام بالكفر. الكهانة لأمور الدنيا قبل الآخرة، والحاجة إليها للتخلص من شوائب الحس، ويخطئ الكاهن كما يخطئ المنجم بسبب عدم خلاص نفسه.
والسؤال هو: هل يخطئ صاحب النبوة ولو على طريق السهو والخطأ؟ وماذا عن حديث تأبير النخل ثم الرجوع عن الرأي؟ فالأنبياء إما صادقون معصومون أو كذبة محتالون.
والكلام له ثلاث مراتب: الدنيا والوسطى والغاية التي لا غاية وراءها وهي النبوة. وبعض المسائل توجد بالفكر والرواية وبعضها بالخواطر والإلهام. ويختلف العلماء في الرقَى والعزائم بين صحتها وبطلانها.
ويتم تفصيل مرحلة الابن السادس، آخر الأنبياء، فقد مكث في الرحم أربعين يومًا، وهو عدد رمزي في القرآن، مواعدة موسى أربعين ليلة، عشرون منها في الرضاع. وقد تعني أربعين سنة قبل النبوة أصبح بعدها أديبًا عالمًا حكيمًا، ملكًا عزيزًا، إمامًا عادلًا، نبيًّا مرسلًا. فولَّاه أبوه المملكة. قهر ورفع، أعز وتحكم ثلاثين يومًا ثم أعجبته نفسه فأحبته العين فاعتدل وبقي في الفراش ألف يوم. ثم تحول إلى دار أخرى فسكر من خمرها، ودخل إلى كهف أبيه، ونام مع إخوته حتى أتى الميعاد، يوم الجمعة. مكث أربعين يومًا في الرحم، وثلاثين يومًا في الحكم من أيام الشمس، وعشرين يومًا في الاجتماع. وكلها أعداد رمزية في القرآن أصابته العين حسدًا، والحسد أيضًا مذكور في القرآن. وتشير القصة إلى العدد ثمانية وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ أو سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. كان أشبه بالأخ الثالث، إبراهيم نظرًا للتشابه بين المشتري وعطارد. صفاته الأدب والعلم والحكمة. جمع بين العلم والنجاح في الدين، بين الحكمة النظرية والحكمة العملية، بين المثال والواقع.
مرض وتحوَّل إلى دار أخرى، الهجرة وربما الآخرة، مرض مائة يوم قمري [ويوم ربك ألف سنة مما يعدون]. تم له النصر في النهاية، ثلاثين يومًا من أيام الشمس. ولا يوجد إعلان صريح بالموت. ربما تكون الدنيا رمزًا صريحًا للجنة. وتبدأ مشاهد القيامة في نهاية الزمان. وعلامات اليقظة النفخ في الصور، وهي علامات الميلاد الجديد.
(ب) الوحي والرؤى (الفارابي)
تظهر المقولات الدينية المباشرة مثل الروح والنبوة والملائكة والرسل واللوح وكل المفاهيم المكونة لنظرية النبوة. وتتحول نظرية الإدراك إلى نظرية في النبوة، من الله وعالم الأمر والروح الخالص بعيدًا عن النفس والبدن والحواس.
وهذا الجزء من أضعف الأجزاء في فلسفة الفارابي. فالنبوة تعتمد على روح واحد في الإنسان وفي النبوة، فهي جزء من كل. وفي نفس الوقت يقول الفارابي بذوات حقيقية للملائكة مخالفة لذوات الناس حرصًا على التنزيه واعترافًا بالتشبيه قياسًا للغائب على الشاهد وتشبيه الروح الإنسانية بالروح الملائكية. كما أنها لا تشير إلى الواقع، أسباب النزول الذي كان الوحي استجابة له وردًّا على أسئلته. فالوحي ليس من أعلى فقط بل من أسفل أيضًا دفاعًا عن مصالح الناس. ليس الوحي فقط من الملاك عن طريق اتصال الحس الظاهر والباطن للإنسان بالملاك بل هو قياس على الواقع بداية منه في أسباب النزول ونهاية له في الناسخ والمنسوخ. وهو خروج أيضًا عن الطرق الثلاث المعروفة المستنبطة من آية وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، الطريق المباشر أو غير المباشر من وراء حجاب أو بإرسال رسول. كما تستحيل المعجزات في آخر مرحلة من مراحلها بنص الوحيوَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
واللوح المحفوظ مجرد صورة فنية للتدوين، فالعلم ليس فقط في الأذهان بل في الأعيان. ويمكن تأويل القلم والروح والنفس. فالكتابة تصوير للتدوين والحفظ لأن الحقائق في الذهن وفي الواقع مثل في اللوح المحفوظ وفي الألواح والصحف.
ويفصل الفارابي مكونات النبوة في الروح والإنسان والملائكة وكأنه من كبار الصوفية. فالنبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر. كما تذعن غريزة عالم الخلق الأصغر. فتأتي بمعجزات ولا تصدأ مِرآتها، ولا يمنعها شيء من انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب وذوات الملائكة. وتقوم الرسل بتبليغ ما عند الله إلى الخلق.
والروح من جوهر عالم الأمر. لا يتشكل بصورة، ولا يتخلق بخلقه، ولا يتعين بإشارة، ولا يتردد بين سكون وحركة. لذلك تدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الآتي، وتسبح في عالم الملكوت، وتنتقش من خاتم الجبروت.
والإنسان مركب من جوهرين. الأول مشكل مصور مكيف مقدر متحرك ساكن متحيز منقسم. والثاني مباين لهذه الصفات غير مشارك له في حقيقة الذات. يناله العقل ويعرض عنه الوهم. جمعت من عالم الخلق وعالم الأمر. الروح من الله والبدن من خلق الله.
وهكذا يتم الانتقال من علم النفس إلى التحليل النفسي، ومن الفزيولوجي إلى الخالص؛ إذ إن عمل المنامات في المختزنات في النفس عن طريق التحليل والتركيب ودون أن يكون لذلك أدنى صلة بأرسطو في «الطبيعيات الصغرى» في موضوع النوم واليقظة. والموضوع بعد في الموروث لتفسير رؤيا الحلم والرؤيا والوحي وإفساح المجال في الثقافة الوافدة وتوسيع أفقها بحيث تكون أعمَّ وأشمل لميدان جديد من الموروث في نظرة عامة شاملة تجمع بين المصدرَين، الوافد والموروث.
وتحدث المحاكاة طبقًا لاستعداد المخيلة وقواها. وإن كانت في جوهرها محاكاة الشيء الذي ارتسم فيها تم ذلك بوجهين. الأول أن تقبله كما هو وكما ألقى عليها. والثاني أن تحاكيَ ذلك الشيء بالمحسوسات التي تحاكي هي بدورها الشيءَ؛ لأنها لا تعقل المعقولات. ولو أعطتها القوة الناطقة معقولات حاكتْها بالمحسوسات. وقد أعطاها المزاج محسوسات حاكتْها بأُخَر مشابهة. وقد تحاكي القوة النزوعية فتقوم القوة المتخيلة بأفعال النزوعية تشبُّهًا بها فيكون الإنسان كالهازل أو الميت. وقد يتدخل المزاج وتتم المحاكاة طبقًا للمزاج وبتوسط بين المخيلة والنزوعية. فالمزاج يتبع شهوة النكاح في القوة النزوعية فحاكت القوة المتخيلة أمثال النكاح فتنهض أعضاء النكاح استعدادًا للفعل لا من شهوة ومثير في ذلك الوقت. وكذلك إذا قام إنسان من نومه وضرب آخر دون أن يكون المنبه موجودًا بالفعل.
وتتم محاكاة السبب الأول والأشياء المفارقة بأفضل المحسوسات وأكمل مثل الأشياء الحسنة المنظر والمعقولات الناقصة بأخس المحسوسات وأنقصها مثل الأشياء القبيحة المنظر. القوة النظرية للمعقولات الكلية، والقوة العملية فعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة. ويعطي العقل الفعال القوة المتخيلة من الجزئيات بالمقامات والرؤيات الصادقة، ويعطيها من المعقولات فتحاكيها بالكهانات على الأشياء الإلهية.
والنوع الأول من المحاكاة القائم على التقليد والمطابقة ليس محاكاة بل تقريرًا وصفيًّا. المحاكاة لما لا يظهر للحس والعقل والتعبير عنه بالصورة الفنية على نحو جمالي مثل تصوير الثواب والعقاب بالجنة والنار. المحاكاة إذن ليست لحقائق أبدية بالصورة الفنية ولكنها مرتبطة بالحواس والنزوع وأقرب إلى إثارة شهوة النكاح بتخيل المثير دون وجوده بالفعل. وهو تفسير فزيولوجي خالص للخيال أو المخيلة أو المتخيلة.
أما التنبؤ بالمستقبل فليس بفضل العقل الفعال وتدخُّله في المخيلة بل له أصوله وقواعده في العلم الطبيعي فيما سماه الكِنْدي «تقدمة المعرفة». كما أن الرؤيا الصادقة ليست بتدخل العقل الفعال بل بكثرة الهموم والقدرة على معرفة مسار الحوادث وقوانين التاريخ. وليست الكهانات على الأشياء الإلهية بتدخل العقل الفعال في المعقولات لوجود تمييز بين الكهانة والوحي. الوحي يتم في اليقظة والكهانة في النوم. الوحي في الكليات والكهانة في الجزئيات. وهو قياس الغائب على الشاهد على مستوى الوجدان.
ويتفاوت الناس في تحقيق الأقاويل (التعبير) على رموز وألغاز وإبدالات وتشبيهات في سبع طبقات، قبول الجزئيات ورؤيتها في اليقظة فقط دون المعقولات، قبول المعقولات ورؤيتها في اليقظة دون الجزئيات، قبول بعضها ورؤيته دون البعض الآخر، رؤية شيء في اليقظة وعدم قبول البعض في النوم، عدم قبول شيء في اليقظة، وقبول الجزئيات في النوم دون المعقولات، قبول شيء من هذا وشيء من هذه وهو حال أكثر الناس الذين يتفاضلون فيه، وأخيرًا قبول شيء من الجزئيات فحسب، ويبقى البعض زمانًا، والبعض إلى وقت ما ثم يزول، وهو حال النبي والولي. وقد يفسد المزاج ويرى البعض تحايل لا وجود لها، وهم المحرورون المجانين. ويلاحظ أن هذه الطبقات السبع على التقابل باستثناء الطبقة السابعة بناء على ثنائيات الجزئيات والكليات والنوم واليقظة.
وبالرغم من محاولة الفارابي تفسير الرؤيا علميًّا عن طريق قوى النفس إلا أنه جعل الوحي رؤيا مثل الإسراء والمعراج وليس تنزيلًا طبقًا لأسباب النزول والناسخ والمنسوخ. جعل الوحي أقرب إلى الموضوعات الغيبية الصوفية مثل رؤية عظمة الله وجلاله المشروطة بالقوة المتخيلة التي تعمل مع الحاسة والعقل الفعال، وكأن مَن ليس لديه قوة حاسة البصر لا يستطيع أن يرى عظمة لله وجلاله. الوحي رؤية أشياء عجيبة وليس دفاعًا عن مصالح الناس، فيتحول الدين إلى أوهام وغيبيات. ومَن يرى عظمة الله وجلاله لا يشعر بما تم في عقله من قبل، وأن صراخه قد تم بناء على أشياء سابقة في مخيلته. وإذا كان المقصود التصوير الفني فإن ذلك لا يتم في رؤية بل في تحليل لغوي نفسي لها لمعرفة مدى إثارتها للخيال والتأثير على النفس. ما زال الفيلسوف هو النموذج وليس النبي، العقل وليس الخيال، الحكمة وليست الكهانة، الخاصة وليست العامة.
ويعطي الفارابي سبع حجج ضد الاختيار دفاعًا عن الضرورة الكونية يمكن الرد عليها بسهولة. أولًا أن الاختيار ليس مصاحبًا للإنسان من أول الوجود. وهذا صحيح قبل حالة الوعي والاستقلال الذاتي. فإذا حدث الوعي الذاتي ظهرت الحرية. ثانيًا أنه لا يوجد اختيار أول، والسبب في ذلك إسقاط العلل من أجل الوصول إلى العلة الأولى. وهو نموذج التفكير الطولي الديني وليس التفكير الدائري العلمي. كما أن الاختيار الأول يتم في الدنيا بعد الخلق وليس قبله، وبعد الوعي الذاتي وليس قبله وهو ما سماه الأصوليون العقل أو التكليف. ثالثًا أن لكل حادث سببًا والاختيار له سبب. هذا صحيح ولكن لا يعني ذلك أن وجود سبب للاختيار الوقوع في الحتمية، فالسبب ذاتي، والاختيار الحر. فالحرية علة ومعلول. رابعًا هناك اختيار لا عن اختيار وهي الضرورية الذاتية، الاختيار بناء على الرسالة في الحياة والغائية في الكون. فالحرية في موقف، والاختيار يقوم على باعث. خامسًا الاختيار التزام وتلك طبيعة الحرية. وفرق بين الالتزام الذاتي والإلزام الخارجي. سادسًا كل شيء له سبب في الأزل، والأصح أن كل شيء له سبب في الواقع وليس في الأزل، والواقع هو ميدان ممارسة حرية الاختيار. سابعًا وأخيرًا الشرور من الأزل، والحقيقة الشرور من الواقع وليس من الأزل، ومن تخلِّي الإنسان عن مسئولياته ومن صراع الأضداد. وهي سنة الكون في التدافع والكد والكدح والسعي أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. كما أنه لا يمكن نفْي الاختيار وإثباته بحجج صورية جدلية فارغة، فالحرية شعور باطني لا تقضي عليه المماحكات الجدلية وعلى هذا النحو يكون أصل العدل الاعتزالي فُضل من هذه النهاية الحتمية في علوم الحكمة.
حاول الفارابي الجمع بين نفْي الرؤية كالمعتزلة وإثباتها في الآخرة مثل بعض الأشاعرة والمعتزلة. وتقوم كلتا الحالتين على قياس الغائب على الشاهد، ورؤية الله على رؤية الأشياء، والله على الطبيعة. وفي موضوع الرؤية تبدو سيادة التصوف على الفلسفة لحساب الإشراق والفيض كما هو الحال عند إخوان الصفا. والحقيقة أن رؤية الله تعني رؤية الذات لموضوعها في الشعور حدسيًّا عن طريق الاستبطان. كما أن رؤية الحق لذاته هو الوعي الذاتي والإدراك الذاتي عندما يكون الذات والموضوع واحدًا.
كما تظهر المبادئ العامة في علم الكلام مثل الواحد والكثير، الله واحد والعالم كثير، وما بينهما مراتب الوحدة والكثرة، واتصاف الله بالواحدانية لا الكثرة لتفادي الكثرة في الذات. المشكلة كلامية، والفلسفة تطوير للكلام في مواجهة الوافد، غير الخارجي كما كان الكلام تطويرًا للعقيدة في مواجهة الموروث، غير الداخلي. ولا يهم هنا الأثر التاريخي. فقد تكون مسألة الواحد والكثير قد عادت إلى الكلام المتأخر من الفلسفة وأصبحت جزءًا من بنائه النظري في المبادئ العامة في أول نظرية الوجود وهي في أصلها صفة الوحدانية من أوصاف الذات في علم الكلام تحولت إلى الفلسفة بعد ذلك، والفكر الديني يتحول إلى فكر فلسفي وينتقل من «الثيولوجيا» إلى «الأنطولوجيا».
وهذا كله استعادة لموضوع الذات والصفات دون نسق بل مجرد خطاب إنشائي تتداخل فيه الصفات بلا ترتيب ودون تمييز بين الأوصاف والصفات والأسماء. والتوحيد بين الذات والصفات اعتزال في التوحيد والقول بالإرادة والاختيار اعتزال في العدل. ومع ذلك ينتهي التوحيد إلى الفناء الصوفي، لذة الإدراك وظهور العالم الأعلى، عالم الربوبية يصدر عن الأول كل شيء. هو أول الوجود والغاية، وأول الزمان، وأول بمعنى أن كل شيء فيه. وهو الآخر لأن الغاية القصوى وهي تعبيرات قرآنية. وهو المعشوق كما يعرفه الراسخون في العلم. وكل ذلك اقتضاء، والتعبير عما ينبغي أن يكون كما يبدو من عبارات «لا يجوز أن يقال أن»، وكما يبدو أيضًا من عبارات التنزيه، مثل: تقدست أسماؤه، جل ثناؤه، سبحانه وتعالى، تعالى الله عما يصفون.
(ﺟ) تأويل الرموز (ابن سينا)
وتبدأ الرسالة ببيان السياق العام للتأليف والإجابة على سؤال، ثم بالطبيعيات كمقدمة عامة، ثم بالنفس كمقدمة خاصة لإثبات النبوة، ثم إثبات صحة نبوة محمد، ثم تفسير الآيات والأحاديث القدسية الخاصة بها. البداية بالنظرة العقلية الصرفة، القسمة الثنائية، فعل وقوة، ذات وعرض، وهي ثقافة العصر، المثالية اليونانية التي تعبر عن الوجدان الديني كما ظهر طبيعيًّا وتلقائيًّا في التنزيه. البداية بالمعاني التجريدية والنظريات الخالصة دون حجج نقلية أو حتى عقلية جدلية، فالعقل أساس النقل. البداية من عل وعن بعد تأصيلًا للموضوع في الذهن أو التاريخ منذ آدم. ونظرًا لثقافة العصر تظهر مصطلحات العقل الفعال، والعقل المنفعل، والعقل الكلي، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد. وقد ارتبط إثبات النبوة وصحتها بهذه المصطلحات وهذه الثقافة دون السؤال، فإذا ما اهتزت هذه المصطلحات وتغيرت هذه الثقافة فماذا يكون مصير النبوة؟ ويبدو الأسلوب أحيانًا غير عربي أو لأن الأسلوب تجريدي الطابع أو لأن المؤلف فارسي الأصل أو لأنه ينقل من مصادر مكتوبة وصامت عنها.
ويغلب على القسمة الطابع الثنائي المتتالي من البداية حتى النهاية كما هو الحال في نظرية الفيض. وأحيانًا تتوالى القسمة مرة من أعلى مثل القيام بالذات والنامي والملكة والتام والمباشرة، وأحيانًا من أسفل مثل الصورة الملابسة للمادة. الأعلى هو المتخارج، والأسفل هو المتداخل، والمباشر مثل النبي أدخل من اللامباشر. والأفضل يرأس المفضول. تثبت النبوة بتصور رأسي لا أفقي مما يتفق مع نظرية الفيض. ويتحد الوجود بالقيمة في الأفضل والأتم والأكمل.
ويستعمل ابن سينا أحيانًا الألفاظ على نحوٍ مجازي من أجل التعبير عن فيض العلم ونقله من أعلى إلى أدنى. وفي نفس الوقت يحول التشبيه إلى تنزيه، والأشياء إلى دلالات، والرموز إلى معانٍ. والهدف من هذا كلِّه وضْع مصطلحات جديدة لثقافة قديمة لإيجاد وحدة بين القديم والجديد، والقضاء على دينية القديم وعلمانية الجديد.
وتظهر صحة نبوة محمد للعاقل. فالعقل شرط التصديق مقارنة بتاريخ الأديان وتطور الوحي في التاريخ. ويتحدث الأنبياء رمزًا أو إيماء كما يذكر أفلاطون. ولم يوقف محمد العلم على الأعرابي الجافي بل هو مبعوث للبشر جميعًا. وسياسة الأنبياء واضحة والتكليف ليس في حاجة إلى تأويل. لذلك يبدو ابن سينا مجددًا للغاية مثل محمد عبده في «رسالة التوحيد» في إثبات النبوة على الإطلاق ثم إثبات صحة نبوة محمد دون الحديث عن الوحي ممكن الوقوع وانتشار الإسلام في التاريخ.
ويظهر موضوع النبوة في تحليل قوَى النفس ووصف أحوالها. فالموضوع علمي وإن كانت الدلالة دينية، ونفسي وإن كانت خاتمته دينية مع موضوعات متعلقة بها قبل الملائكة والسعادة والشقاوة أي ما يتعلق بأمور المعاد.
- (١)
من مشاهدة لا شيء حسي إلى تخيُّل شيء آخر.
- (٢)
من الخيال إلى الرؤيا دون تعبير.
- (٣)
من الخيال إلى الرؤيا بتعبير (النبوة في حال اليقظة).
والسؤال هو: هل النبوة في البُعد الرأسي أم في البُعد الأفقي؟ أليست النبوة حركة في التاريخ وتقدُّم في الوعي الإنساني عبر تاريخ الأنبياء؟ فالنبوة فعل في التاريخ، عمل وممارسة، وحركة وبطولة أفراد وشعوب، أنبياء وأمم، قادة وجماهير. ولماذا يكون المدخل إلى النبوة عرفانيًّا بالضرورة؟ هل هذا هو المدخل الأوحد؟ وهل النبوة بالضرورة تصوير ما يحدث في المستقبل؟ أليس هذا هو التصور اليهودي؟ والفعل «نبأ» قد يكون بمعنى رؤية المستقبل وقد يكون بمعنى الارتفاع. والارتفاع شرط الرؤية عن بُعد. وقد يكون بمعنى الخروج أي تحوُّل المجتمع في تطوره التاريخي من مرحلة إلى مرحلة. إن غاية النبوة تحرير الحاضر بناء على تجارب الماضي والإعداد للمستقبل طبقًا لقوانين التاريخ. ليس الأنبياء أصحاب أحوال وصرع وغشي وكأنهم دراويش صوفية، بل هم قادة وأبطال الشعوب. ليست النبوة ألغازًا وأسرارًا صوفية بل هي رؤَى للعالم وأيديولوجيات سياسية واقتصادية واجتماعية تبني أوطانًا وتحقِّق مطامح شعوب.
وترتبط النبوة بالعقل طالما أنها مرتبطة بالنفس. والعقل إحدى قوى النفس، النفس العاقلة. إذ يتميز الحيوان الناطق عن غير الناطق بقوة تصور المعقولات وهي النفس الناطقة. والعقل النظري على أنواع: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل والعقل القدسي.
وتحصل الصور في العقل الهيولاني على ضربَين: الأول الإلهام الإلهي من غير تعلُّم أو استفادة من الحواس كالبديهيات. والثاني الاكتساب القياسي والاستنباط البرهاني مثل الحقائق النطقية والأمور الطبيعية، وإثبات المبدع الأول، ومعرفة السياسة الإلهية والطبيعية الكلية والعناية الأولية والوحي والنبوة والروح المقدسي الرباني والملائكة العلوية وحقيقة تنزيه المبدع عن الشرك والتشبيه، ومعرفة ما أعد للمحسنين من ثواب وللمسيئين من عقاب، واللذة والألم للنفوس بعد فراقها الأبدان.
النفس اسم مشترك يقع على معنى مشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات والإنسان والملائكة السماوية. وأول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر العقل والنفس والأجرام. ومن الأجرام تحدث نفوس وعقول، ويفيض الكل من الباري. وتفيض الصور من المبادئ من الأعلى إلى الأدنى. والملك جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير حادث، واسطة بين الباري والأجسام الأرضية. منه عقل، ومنه نفس، ومنه جسماني. والجن حيوان مشف الجرم، يتشكل بأشكال مختلفة.
النبوة استمرار للفيض ولمراتب الموجودات على مستوى الإنسان. فالنبي أكمل البشر. يتميز بالكمال النفسي والعقلي. وكلاهما مراتب الوجود الروحاني. يجمع النبي بين العقل والنفس. وهو محصل الأخلاق والفضائل العملية. في قواه النفسية خصائص ثلاث:
ويبقى السؤال: هل هناك أمور عينية في الطبيعة؟ هل قوى النفس أمور غريبة؟ هل خواص الأجسام العنصرية كذلك؟ هل القوى السماوية مثل قوى النفس وخواص الأجسام قوى غريبة؟ وهل الإصابة بالعين حقيقة؟ وهل يكفي الدليل النقلي على ذلك دون دليل عقلي طبيعي؟ وهل هي واقعة طبيعية أم حالة نفسية، حدوث تغيير في قوانين الطبيعة أم مجرد تفسير نفسي، حدوث ما يتوقعه الحاسد من شر للحسود ولولا هذا الحسد لما تم الإدراك أو إدراك ما يقع له من خير؟ وهل النبوة في حاجة إلى معجزة كما هو الحال في مراحل الوحي السابقة أم إلى إعجاز أدبي وفكري وتشريعي كما هو الحال في المرحلة الأخيرة؟ وهل الكرامات والنيرنجيات من نفس المنبع والمصدر وعلى نفس المستوى؟ إن هذا الجزء أضعف الأجزاء في فلسفة ابن سينا، يبدو فيها أشعريًّا غزاليًّا. وهو هنا مثل إخوان الصفا، إزاحة العقلانية عند الفارابي والعلمية عند الكِنْدي ووضع التصوف محلهما.
تعتمد النبوة على علوم سابقة في الطبيعيات والإلهيات بالرغم من أن بعض نتائج هذه العلوم غير صحيحة وبعضها مشكوك فيها، مثل: لكل معلول علة. وهو صحيح فقط في إطار ممكن الوجود. الحركة السماوية اختيارية. وهو إسقاط من الإنسان على السماء دون برهان موضوعي. الاختيار الكلي لا يوجب جزئيًّا. وهو أشبه بإنكار علم الله بالجزئيات. وخطأ المقدمات في الطبيعيات والإلهيات أنها السبب في تصور النبوة رأسيًّا لا أفقيًّا. ولو أن المقدمات من العلوم الاجتماعية والتاريخية لظهرت النبوة أفقيًّا لا رأسيًّا.









(١) الزهرة | الوحي والزجر والكهانة | زواج ونكاح |
(٢) المشتري | العبادات والصوم والصلاة | معاملات وثمارات وأخذ وعطاء |
(٣) المريخ | الذهاب في المطالب وطلب البشارات | الحراب والخصومات والمناعات |
(٤) عطارد | العلوم الدقيقة والأسرار الخفية | المحاسبات والمحاورات والخصومات |
(٥) الشمس | الهياكل وبيوت العبادات والأعياد والجماعات | الملوك والسلاطين |
(٦) زحل | أسفار بعيدة وأمور قديمة | المشايخ الأكابر. |
(٧) القمر | الأحاديث والأخبار والروايات | العوام وجمهور الناس. |




