الفصل العاشر

بعد هذه الحوادث بيومين أو ثلاثة دخل خادم الفندق على السير إيليا دراك وقال له: إن الأمير يروم مقابلتك. فقال: ألا ننتهي من هذا الأمير؟ ولكن دعه يدخل.

ولما خلا به قال له: كيف حال هؤلاء القوم؟ أجاب: إنها أسوأ حالًا من ذي قبل، أفلا تزال عازمًا على السفر؟ أجاب: بلا شك، وإني مسافر في هذه الليلة إلى إنكلترة. قال: إذن ستجتمع على أسرتك؟ أجاب: لا أسرة لي. قال: إذن على أصدقائك؟ أجاب: ولا أصدقاء لي. قال: إذن تعود إلى وطنك؟ أجاب: وطني؟ وطني؟ ولعلك تريد به البلد الذي وُلِدتُ فيها وغادرتها وأنا صبي. قال ملطار: ما دام الأمر كذلك فلماذا ترتحِل عن باريس وفيها من يحتاج إليك؟ أجاب: هذا داعٍ على وجوب تخلُّصِي بالفرار … ولكن من الذي يحتاجُ إليَّ؟ قال: سيدتي الصغيرة. قال: ولكن أبوها عندها. أجاب: نعم، لسوء حظها. قال: وأمها! … أجاب: لا، لسوء حظها، قال: ألم ينقضِ أمر لورانس مع أبيها؟ أولا تجتمع بوليت على أمها كل يوم في بيت الأميرال؟ أجاب: لقد حدث أمر جديد.

وكان الشيخ الإنكليزي منحنيًا على حقائب أمتعته يحزمها استعدادًا للسفر، فتوقَّف وقال: ماذا حدث الآن؟ أجاب: إني ذهبتُ أمس فلقيت الكونتة، قال: أية كونتة تعني إذ يوجد اثنتان؟ أجاب الخادم بغضبٍ: لستُ أعرف إلا واحدة هي السيدة لورانس، فأعلمتني أن ابنتها لا تريد أن تأتي لتراها بحجة أنها عازمة على الاقتران. قال: بالرجل بلميري الذي كلمتني عنه قبلًا؟ ألم يبطُل هذا المشروع؟ أجاب: كلَّا، وا أسفاه! ولا يستطيع أحد إبطاله. قال: بل يوجد وسيلة قد فكَّرتُ فيها أنا. قال: ما هذه الوسيلة التي تنقذ بوليت من الموت؟ لأن سيدتي الصغيرة تموت ولا شك.

فجعل الإنكليزي يتمشَّى في الحجرة، ويقول: تموت ولا شك! …

ثم وقف قُبالة الخادم وقال له: هل تظن أن بوليت تقبل مني زورة إذا شئتُ إطلاعها على وسيلة تنقذها من ذلك الزواج المكروه؟ فأجابه: نعم، بل يسرُّها أن تراك.

قال: إذن عُد إليها وقل لها إنني أزورها، وبودِّي أن ألقاها دون أن أرى أباها؛ لأنني لا أحبه … فهو علة هذه العلل، وفي اعتقادي أنه لا قلب له ولا نفس ولا جوانح … فقال له ملطار: سأدخِلك البيت دون أن يراك أحد، وبعد ساعة كان السير دراك عند بوليت، فارتمت على عنقه وقد شعرت بأنه نصيرها الوحيد، وأخذت تبكي وتقول له: ما أعظم سروري بلقائِك فشكرًا لك. فأجابها: إنني أتيتُ اتفاقًا لتمضية الوقت، ولكن أصحيح ما قاله لي ملطار من عزمهم على تزويجكِ؟

أجابت: لقد أخطأ ملطار؛ فأنا التي عزمتُ على الزواج. قال: تكاد تكون النتيجة واحدة، ولكن ما عسى أن يقع للمسكين دي فاليير إذا تزوَّجتِ؟

فصاحت: واحسرتاه على جاستون! قال: ومع ذلك يوجد وسيلة لمنع هذا الزواج اللعين، وما عليكِ إلا أن تقولي كلمة واحدة، ويوجد أمرٌ لم أخبركِ به عن نفسي هو أنني ماهرٌ في الرياضة البدنية.

فنظرت إليه بحبٍّ وامتنان وقالت: أعرف أنك تسبح جيدًا. أجاب: نعم، أنا أُحسن السباحة … ولكن يوجد شيء آخر أحسنه؛ هو استخدام السيف كمعلم يتعاطى تدريس هذا الفن. ثم إنني أحذِق الرماية فأصيب ذبابة على بعد ثلاثين خطوة، ولم أنتفِع قط بهذه المزية، وأظن أن هذا اليوم وقت الانتفاع بها؛ لأنني لا أحب خطيبكِ بلميري وإن لم أره، فهل يسوءكِ أن أجرِّب نفسي معه؟

قالت: كلا لا تفعل، فهو لم يسئ إليَّ، بل كان كريمًا مع أبي، ووثق بكلامي، ولا بد لي أن أغدو زوجته! … لا بد لي، فهل فهمت؟ …

قال: فمتى يكون العرس، إن شاء الله؟ أجابت: في أقرب وقت، وربما بعد أسبوعين. فهمَّ بالنهوض، فمدَّت إليه يدها لتودِّعهُ، وإذا بالباب قد انفتح، ودخل أنيبال بلميري، فأرجعت يدها، فأدرك السير دراك رغبتها في مكثه عندها، فعرَّفَت كلًّا من الرجلين بالآخر، ثم خرجت تاركة إياهما معًا. فقال أنيبال: هل أنتَ يا سيدي من أوصل خطيبتي إلى باريس؟ فحدَّق فيه السير دراك وأجاب: نعم، أنا، وهل أنت ذلك السعيد الذي عزم على الاقتران بمن كانت رفيقتي في السفر؟ أجاب: نعم، أنا ذلك السعيد. قال: ولكن قد تقرَّرَ هذا الزواج سريعًا؟ أجاب: لأنني افتتنتُ بمحاسن الآنسة بوليت. فهل تجد ذلك أمرًا غير طبيعي؟

أجاب: بل أجده طبيعيًّا جدًّا ولا شك عندي أن هذا الهوى المفاجئ كان متبادَلًا؛ أي إنه نزل بالخاطب والخطيبة نزول الصاعقة، كما يقولون في فرنسا.

فأحسَّ أنيبال بالتهكم من وراء هذه الكلمات وكاد يغضب، إلا أن الإنكليزي ابتدره بقوله: هل لك أن توضِّح لي أمرًا أشكل عليَّ؟ فإنني ما ذكرتُ اسمك إلا تذكَّرتُ أنني سمعتُ به قبلًا. فاصفرَّ وجه أنيبال، إلا أنه كتم اضطرابه، وقال: لا عجب إذا كان اسمي معروفًا، فإن المسيو بلميري عمي قد أثرى في إدارة مصرف وورثنا أنا وشقيقتي ثروته، ولعلَّك سمعت باسمي لأبي أنا. قال دراك: هل مضى زمن طويل على الإرث الذي تتكلم عنه؟ أجاب: سنة واحدة. قال: لم يمضِ زمن طويل، فهل أنت إيطالي؟ أجاب: نعم، إيطالي الأصل، غير أنني وُلِدتُ في الهند. قال دراك: بدأتُ أفهم … قال بيبو: ماذا؟ أجاب: لا بد أن أكون سمعتُ باسم أسرتك وأنا في الهند، ولكن بقي شيء أيها العزيز نسيتُ أن أخبرك به، وهو أنني تلقيت الآن مهمة شاهد في زواجك عهِدَتْ إليَّ بها خطيبتك. فأجابه: لقد سرَّنِي وقوع اختيارها عليك. قال: يا ليتني أتعرف بشقيقتك فإنني لم أرها بعد. قال: سوف تكون في منزلها غدًا مساءً، وموعد استقبالها الزائرين أيام الجُمَع، فأهلًا وسهلًا بك.

قال: إني أودِّعُك الآن يا مسيو بلميري … وبقيت لي كلمة أيضًا أرجو أن تقولها لخطيبتك، هي أنني لا أزال مستعِدًّا لإسداء اليد التي رفضَتْها. أجاب: اعتمِد عليَّ في ذلك.

فانصرف دراك بينما كان أنيبال يقول في نفسه: ما أكثر ثرثرته، ولكن ما عسى أن تكون تلك اليد التي تكلم عنها؟ إني أودُّ معرفة ذلك.

•••

وصلنا الآن إلى صباح اليوم المعيَّن للزواج، وكان موعد الحفلة الساعة الثانية بعد ظهر ذلك النهار؛ أي إنه لم يبقَ إلا خمس ساعات بين بوليت والوقت الذي يُقضَى فيه على آمالها إلى الأبد، وكانت تقول: ما لهذا اليوم من غدٍ بالنظر إليَّ، وكانت تمد يدها إلى جيبها فتلمس خنجرًا صغيرًا جاءت به من الهند؛ وهو سلاح قاتل مسموم النصل سُمًّا يعرفه سود أفريقيا، فلو وُخِزَ الساعد به لفعل السم فعله. أما كيفية وصول ذلك الخنجر إليها فهي أن المسيو دي فاليير أراها إياه ذات مرة وقال لها: إذا قُضي عليكِ يا بوليت فهذا الخنجر ينقذني من الحياة بعدكِ. فارتاعت بوليت وانتزعتهُ من يده، ولكنها حفظتهُ لديها وقالت في نفسها: إن هذا السلاح يصلح لي إذا قُضي عليَّ بأن أتزوج غير جاستون.

ولما سمعَتْ الساعة تدق العاشرة تذكَّرَت أنها واعدت السير دراك على المجيء في ذلك الوقت لتُسَلِّمَهُ شيئًا، هو رسالة كتبتها في الليل، وقد تأخر إلى الساعة العاشرة والربع، ثم أتى فاعتذر بقوله إنه كان ينتظر ورود رسائل برقية ذات شأن. قالت: ما هذه الرسائل البرقية؟ أجاب: إنها لا تهمك، وسوف أعود إلى فندق اللوفر بعد أن أتلقَّى المهمة التي لديكِ، فلا أخرج منه إلا في ساعة الحفلة … فماذا تريدين؟ هل أعجبكِ اقتراحي؟ وذكرتِ مهارتي في استخدام السلاح؟

فتبسَّمَت وأجابت: كلَّا، فلستُ أريد أن يموت أحد بسببي، ولكنكَ تدري أن والدتي لا تشهد حفلة العرس، ولست تجهل أنني في حاجة إلى الصبر والبسالة، وأن حضورها يحملني على الضعف وخوار العزيمة، فرأيت أن أكتب إليها رسالة تسلَّم إليها اليوم بعد خروجنا من الكنيسة، فهل تتكرَّم عليَّ بإيصالها؟

أجاب: بلا شك، وها أنا ذا أفعل قبل رجوعي إلى الفندق فهاتي الرسالة.

فقالت بحدَّة: كلَّا، لا تسلمها إياها الآن، ولكن في النهار بعد انقضاء الحفلة بساعة، فهل أعتمِد عليك في ذلك؟

أجاب: نعم، وأنتِ تعلمين أنني أفعل ما تريدين. قالت: هل تعدني وعد الرجل الشريف؟ أجاب: نعم. قالت: أتقسِم لي بشرفك على أن لا تسلم هذه الرسالة إلى والدتي إلا بعد انقضاء حفلة زفافي بساعة؟ أجاب: كيف لا أقسم؟ وحلف لها كما أرادت. فقالت له: إني أشكرك يا صديقي وأثق بك.

ومدَّت يدها إليه فصافحها، ثم قالت: إني ذاهبة لملاحظة ملابسي؛ إذ ينبغي أن أتزين بأجمل ما عندي شأن كل عروس في حفلة زفافها.

وانطلقت مسرعة، فما كادت تحتجب عن بصر السير إيليا دراك حتى انثنى إلى الهندي ملطار وقال له: سِرْ مستعجلًا فاحمل هذه الرسالة إلى أم بوليت، وإياك والإمهال. قال: ولكنك وعدت سيدتي الصغيرة بأن لا تسلمها إلا بعد الحفلة …

فلم يدعه يتمُّ كلامه بل قال: سِر وأسرِع، ولولا اضطراري إلى الرجوع إلى الفندق لأوصلت الرسالة بنفسي، واعلم أن بوليت في رسالتها هذه تودِّع والدتها التوديع الأخير. أفلا تريد أن تبلغ السيدة لورانس عزم ابنتها على الانتحار قبل فوات الوقت؟

فلم يكد يسمع الخادم الأمين هذه الكلمات حتى مرَّ بالرسالة مرور السهم. أما السير دراك فقصد توًّا إلى الفندق.

فلندعهما سائرين، كلٌّ في سبيله، ولندخل منزل الكونت دي موري؛ فإن الكونتة الجديدة استصحبت أخاها وهي تروم أن تقبل بوليت قبل سائر الناس! فأجابت بوليت أنها في حاجة إلى بضع دقائق لإتمام زينتها وأنها ستلحق بالكونتة إلى البهو بعد ذلك. فكان أنيبال وأخته ينتظران، حين انفتح الباب، وسمعا صوت الكونتة دي موري الأولى مرتفعًا وهي تصرخ قائلة: لا بد لي من الدخول.

فانثنت جرجونة وعرفت لورانس، فتلاقت الكونتتان، فقالت الإيطالية: أنتِ هنا عندي؟ قالت لورانس: لستُ أدرى أين أنا، وإنما عرفتُ أمرًا واحدًا يهمني أكثر من العالم كله؛ هو أن ابنتي عازمة على الانتحار، وأتيتُ لأمنعها منه.

قال أنيبال وأخته معًا: عازمة على الانتحار؟!

أجابت: نعم، وذلك لكي لا تغدو زوجة للراغب في الاقتران بها.

قالت جرجونة: أنتِ مجنونة، فلا تمسنا إهاناتكِ، ولكن لا يمكن احتمال المجانين في بيوت الناس فاخرجي من هنا.

أجابت: لا أخرج من هنا حتى أرى ابنتي وأسير وإيَّاها معًا …

فوقفت جرجونة أمام باب مخدع لورانس، فمدَّت هذه يدها لتبعدها، وهمَّ أنيبال بمساعدة أخته إلا أن جرجونة قالت بأنفة وكبر: لستُ أقبل مساعدة على هذه المرأة إلا من شخص واحد هو زوجي، فاذهب يا أنيبال ونادِهِ وهو يحكم بيننا.

فخرج بلميري مسرعًا، ثم عاد ومعه الكونت، فلما رأت جرجونة زوجها مقبلًا رفعت صوتها وقالت: تقدَّم يا سيدي وأنقذني من وعيد هذه المرأة وإهاناتها.

فدنا الكونت من لورانس وهو كاره لتوبيخه إياها، فقال لها: هل تعلمين ما وراء دخولكِ هذا البيت؟ فأجابته: لم أدخله للجدال؛ وإنما أردت أن أرى ابنتي، لأن كل والدة ترى الدفاع عن حياة ابنتها أول واجباتها.

فقلق وقال: أي خطر على حياتها؟

فتعرَّضَت كلوديا وقالت: إن هذه المرأة تعتقد أن ابنتها في خطر لمجرد تزوُّجها أنيبال بلميري، فهي تحرص الآن على شرف اسمك بعدما لوَّثَتهُ بعارها.

فلم تكترِث لورانس لهذه الإهانة، وقالت: إن هذا الزواج كحكم على ابنتك بالإعدام وإليك البرهان: انظر إلى هذه الرسالة فهي تودِّعُني بها التوديع الأخير، وكان ينبغي أن تسلَّم إليَّ بعد حفلة الزواج، ولكن لحسن الحظ سلمها إليَّ ذلك الصديق الذي تعهَّد بها قبل الموعد؛ لأنه أدرك غرضها من كتابتها، ولو بقيَت هذه الرسالة إلى ما بعد الحفلة لثكِلتَ ابنتك الليلة، وقد قرأنا أنا ووالدتي هذه الرسالة الموجعة، فهي مبللة بعبراتنا، فاقرأها حتى تتحقَّق أن هذا الزواج يقتل ابنتك قتلًا فظيعًا. فألقى الكونت نظرة على تلك الصفحات، فعلِم أن ابنته تهوى جاستون دي فاليير وتكره الرجل الذي يريد التزوُّج بها بشفاعة أخته، فقال للورانس بصوت مؤثِّر: كوني مطمئنة؛ فإن بوليت تعيش، وهذا الزواج لا يُعقَد، وأحمد الله على أن في الوقت مُتَّسَعًا. فانبرت الإيطالية تقول باحتقار: لقد كان يجب علينا أنا وأخي أن نتوقَّع الحنث من الرجل الشريف الذي يبيع شرفه بأرخص الأثمان. قال دي موري: بل أنتِ واهمة؛ فلستُ أنسى ما لكما عليَّ من دين، ولكن بدلًا من أن أعهد إلى ابنتي بوفائه سأفيه بنفسي في هذه الليلة … فكونا واثقين بأن شرف الرجل النبيل لا يستمر رهينًا بين أيديكما أو بين أيدي سواكما. إن دمي يفي الدين الذي عجزت عن قضائه بمالي.

فصرخت لورانس صرخة هائلة، وقالت: أحقًّا أنك تجود بنفسك لتفِي دينًا مستحقًّا؟ وأنك عازمٌ على الانتحار لأجل النقود؟ إذن كل شيء ينقضي على سلام، فأنا أنقذك وابنتك معًا! …

فصاحت الإيطالية: أنتِ! وقال الكونت: كيف تستطيعين إنقاذنا؟

أجابت: عندما حكمت المحكمة بطلاقنا سلَّمتُ إلى المسجل نحو ثمانمائة ألف فرنك، فهذا المال خُذه يا روجر، إنه مالك. أجاب: لستُ بقادرٍ على قبول عطيَّتكِ، وأنتِ الشخص الوحيد الذي أردُّ مساعدته. قالت: إذن فالوالد والولد يجودان بالروح؛ لأن الأم كانت … قال: لأن الأم كانت مجرمة، ذلك عقاب المرأة الزانية.

فكبر عليها سماع ذلك الكلام، ورفعت رأسها وقالت: كفى، وحسبي ما لقيتُ من خجَلٍ وشجَن ويأس، أما الآن فنفسي تنهض ثائرة ورأسي يرتفِع. فصاح الكونت: ما معنى هذا الكلام …؟

وإذ ذاك دخلت زوجة الأميرال في البهو، ويذكُر القراء ما قالته لورانس منذ هنيهة؛ فإنها قرأت ووالدتها معًا رسالة بوليت، فبادرت لورانس مسرعة، أما أمها فتأخرت عنها إلى ذلك الحين.

فصاحت لورانس: تعالي يا أماه. قالت: فكيف بوليت؟ قالت: إنهم يمنعونني من إنقاذها. قالت: ماذا تقولين؟ أجابت: أقول إن الكبرياء لا بد أن تسوق الكونت دي موري إلى أحد أمرين: انتحاره أو قتل ابنته.

فانثنت إلى الكونت وقالت: أصحيحٌ ذلك؟ فأجابها: إنني أُحكِّمُكِ في هذه القضية. أجابت تُحكِّمُنِي أنا؟ أجاب: نعم. قالت لورانس: وهل ترضى بحكمها؟ أجاب: نعم أرضى. قالت: وهل تُقسِم على هذا الرضى؟ فرفع يده وأجاب: نعم، أقسم.

قالت: إذن دعني لأخلو بوالدتي إذ لا بد لي أن أكلمها على انفراد. فنهض الكونت وقال لزوجة الأميرال: إني أسلِّمكِ ما هو أعز عندي من الحياة؛ إنني أسلمكِ شرفي.

فأجابته: وإنني لحريصة عليه فلا تخف.

فانحنى الكونت وخرج مصحوبًا بزوجته الثانية. فلما خلت الأم بابنتها قالت لها: تكلمي الآن. قالت: أنتِ تعلمين يا أمي أن الكونت دي موري يريد أن يزوِّج بوليت ببالميري لينقذ شرفه. أجابت: نعم، أعلم ذلك. قالت: ولا تجهلين أن هذا الزواج يقتل بوليت … فأردتُ إنقاذ من أُحب، فاقترحتُ على الكونت أن أهِب له البائنة التي وصلت إليَّ منكِ يوم زواجي وردَّها هو إليَّ يوم طلاقي.

قالت: فماذا كان جوابه؟ أجابت: إنه رفض المال. قالت: ولقد أصاب، فروجر لا يستطيع قبول هِبَتكِ.

فصاحت لورانس قائلة: ولكن فكِّري في النتيجة، فأنتِ تحكمين على ابنتي بالموت، وبوليت تروم إنقاذ أبيها بأيَّة حال، فهي عازمة على الانتحار؛ إذ لا بد من هلاك أحدهما ليسلم الشرف. قالت أمها: ولكن ذلك قضاء الله، فهو يضرب الأمهات في أولادهن. فقالت لورانس بكل هدوء: إذ لو لم أكن مذنبة لقبل الكونت عطيتي؟ أليس الأمر كذلك يا أماه؟ أجابت أمها: نعم هو كذلك. قالت لورانس: فاعلمي إذن أنني بريئة مظلومة.

فصاحت أمها: ما هذا الكلام؟ آه … أرأيتِ كيف أنكِ تلجئين إلى الكذب الذي أعرضتِ عنه قبلًا لكي تنقذي ابنتكِ بوليت. قالت لورانس: لستُ أكذب يا أماه، وأظنُّكِ واثقة من صدق قولي.

وكان الصدق ظاهرًا في لهجتها حتى دُهِشَتْ والدتها، وعطفت عليها وهي متأثِّرة مرتجفة تقول: ألم تكوني مذنبة؟ أجابت: كلَّا يا أماه، وأقسم لكِ بالله وملائكته على أنني لم أهوَ إلا زوجي روجر، ولم أسلِّم نفسي إلى سواهُ قَط. قالت: إن القسم وحده لا يغني عن البرهان في مثل هذه الحالات. قالت: لا تطلبي برهانًا يا أماه. قالت: ولكن لا بد من البرهان لتنجو ابنتكِ من الموت. قالت: فهل تسمحين أن أعُدَّ هذا الطلب أمرًا يجب تنفيذه؟ أجابت: نعم، فتكلمي أيتها الابنة المنكودة الطالع.

قالت: إذن أتكلم! قالت أمُّها: ما عسى أن تقولي وشريككِ في الإثم خرَّ صريعًا أمامي؟

فنظرت إلى السماء وقالت: شريكي في الإثم؟ قالت الأم: ولكنني سمعت إقراره مطابقًا لإقراركِ، ورأيته يموت ولا يسلِّم تلك الرسائل المشتملة على برهان يؤكِّدُ اجترامكِ.

قالت: لم يكن في تلك الرسائل إلا سر مولده، وهي مكتوبة بقلم أمه.

فأخذ القلق مدام دي لامارش، ولم تفهم تمامًا فقالت: بقلم أمه؟ تكلمي. فهل فقدت أمه تلك الرسائل؟ ولكن ما شأنكِ معه؟ ولماذا تكتمين سره، وتبذلين شرفكِ في هذا السبيل؟ أجابت: إنه كتم السر، وبذل دمه في هذا السبيل. قالت: إنه معذور لأن المسألة تتعلق بوالدته.

فخبَّأت لورانس وجهها بيديها، وقالت: وإنني كذلك لمعذورة؛ لأن المسألة تتعلق بوالدتي.

فصرخت مدام دي لامارش صرخة هائلة، ونهضت وهي تترنَّح ممسكة فؤادها بيديها، ثم عادت إلى لورانس، فرفعت رأسها وتفرَّسَت في عينيها تفرُّسًا كأن فيه روح كل منهما، ثم ترامت الأم على مقعد، وابنتها جاثية أمامها، وقالت والزفرات تكاد تخنقها: إنكِ بذلتِ نفسكِ لأجلي! إنكِ كابدتِ أشد الآلام، وتحمَّلتِ الخزي والذل لأجلِي! إنكِ كنتِ «فدية شرفي»! قالت: أماه، أماه!

وقالت أمها: وكان ذلك القتيل ولدي؟ … ولكن لماذا لم يتمزَّق فؤادي حين سقط أمامي؟ وهنا اشتدَّ بكاؤها على ذلك الابن الذي أُلجِئَت إلى تركه منذ طفولته، ولم تستطِع معرفة حظه من دنياه، ولم ترَهُ إلا يوم قُتِل أمامها، وإذا بلورانس تقول لها: عفوًا يا أماه؛ لأنني لم أقوَ على كتمان هذا السر زمنًا أطول. عفوًا لأنني كنتُ السبب في يأسكِ وعبراتكِ؛ ولكن لم يكن في طاقتي السكوت بعدما أمرتِنِي بأن أتكلم، وما غرضي إلا نجاة ابنتي الوحيدة بوليت، ولقد بذلتُ نفسي ضحيَّةً لأكتم سركِ، وإني لأبذل العالم كله ضحية لأنقِذ ابنتي.

قالت: نعم، وتكونين قد فعلتِ ما يجب عليكِ، كما سأفعل ما يجبُ عليَّ. قالت: فما معنى هذا الكلام؟

فاتجهت مدام دي لامارش إلى الباب، وأطلت على الكونت دي موري والإيطالية، فدعتهُ لدخول البهو، فأرادت كلوديا وأخوها اللحاق به، إلا أن زوجة الأميرال قالت لهما: كلَّا، بل يأتي الكونت وحده ثم أناديكما بعد هنيهة. فلما خلا الكونت مع لورانس وأمها قالت الأم: اعلم يا روجر أن التي زوَّجتُكَ بها أنا والأميرال هي نموذج الفضيلة والطُهر والعفاف. قال: ولذلك أحببتها فيما مضى إلى حين … قالت: إلى حين ألقَت على عاتقها ذنب غيرها، ورضيَت بأن تكون فدية الشرف وشهيدة الشهامة. قال روجر: ماذا تقولين؟ وقالت لورانس: أماه، أماه!

فالتفتت إليها وقالت: ألم تقولي أنكِ تبذلين العالم كله ضحية لإنقاذ ابنتكِ؟ أما أنا فإنني لا أبذل إلا سرِّي. قالت: أناشدكِ الله لا تزيدي كلمة.

فلم تُجبها بل قالت: اعلم يا روجر أن التي كانت زوجتك رضيَت بالشك يسقط على رأسها ظلمًا، وبالتهمة تشين عرضها إخلاصًا وكرامةً؛ فالرجل الذي رأيته عندها لم يكن عشيقها.

قال: ما هذا الكلام؟

قالت: والرسائل التي كانت معه وطَرَحَها في النار لم تكن رسائلها. قال: فرسائل من هي؟ …

أجابت: رسائلي أنا. قال: لم أفهم مرادكِ.

قالت: إن الرجل الذي قتلته يا روجر لم يكن عشيقها، وإنما كان ولدي أنا. فبُهِتَ روجر وقال: ولدكِ؟

قالت: أقسِم لك بحياة لورانس على أنني لم أقل إلا صدقًا.

فصاح روجر صيحة هائلة، وقال: كل هذا صحيح وقد صدَّقتُهُ حتى إني لأقسِمُ كذلك على صحته. فويحي أنا الأحمق؛ لأنني لم أبصِر ولم أفهم. أعماني الغضب والغيرة فنسيت ذات الفضيلة السامية التي عاشرتها مدة ثمانية عشر عامًا كلها حنان وإخلاص، كنتُ أعمى ومجنونًا لا أرى ولا أفهم، فسَفَكَت يداي دم بريء، ثم طردتُكِ أيها الملك الكريم من منزلي، وطلَّقتُكِ، وأنا ذلك المفتون الذي لم يستحق امتلاك هذا الكنز ولم يعرف قيمته.

وهاجه اليأس فقال: إني أقدمتُ على ذلك كله، ثم فعلتُ ما هو شرٌّ من ذلك فاختطفتُ الابنة من أمها الشهيدة المُعَذَّبة. لقد كنتُ نذلًا وكنتُ وغدًا ذميمًا.

ثم صاح قائلًا: لحسن الحظ لا يزال في الإمكان إصلاح شيء مما أفسدتُ، وسارع إلى حجرة ابنته وناداها: بوليت، بوليت! تعالي فقبِّلِي أمكِ.

فأقبلت بوليت في لباس عُرسها، ولم تسمع كلمات أبيها، فقالت وهي مسترسلة إلى تأمُّلاتها المُحزِنة: أنتِ هنا يا أماه؟ ماذا جرى حتى أمكنني أن أراكِ أيضًا؟

قال الكونت: إن أمكِ هذه مثال الشرف والحكمة، فانطرِحِي على قدميها يا بوليت، واسأليها أن تعفو عني؛ لأنني لا أتجرَّأُ على طلب العفو منها فقد كنتُ لها ظالمًا.

وتهالكَ على مقعده وفاضت شئونه — سالت دموعه — فتقدَّمَت إليه لورانس وفتحت له ساعديها وقالت: عفا الله عما مضى يا روجر، فتناسَ ذلك الماضي، أما أنا فلا أذكر منه إلا حبك، وما برحتُ أحبك كما كنت قبلًا.

فضمها الكونت إلى صدره وهي ممسكة بيد بوليت.

وفي ذلك الوقت انفتح باب المخدع، ودخلت كلوديا ومعها أخوها، ولم تسمع ما قيل في البهو لكنها سمعت لجبًا، فلم تتمالك أن نهضت ودخلت المخدع مفاجئة، فحدِّث ولا حرج عن فرط تعجُّبها وسخطها لمَّا رأت زوجها ولورانس وبوليت في تلك الحال، فأشارت إشارة تهديد وقالت: يا لكم من أنذال!

وظن بلميري أن الواجب يقضي عليه بمساعدة أخته، فتقدم وقال: ماذا جرى حتى أقدمتَ على إهانة أختي أيها الكونت؟ ولماذا دخلت هذه المرأة …

فصاح روجر وهو يضم لورانس إلى صدره قائلًا: إن هذه المرأة تستحق كل إعجابٍ وإجلال. تستحق إعجابكِ أيتها السيدة وإعجابكَ أنت وأمثالك أيها السيد.

فأجابته كلوديا: لتذهب إلى مكان آخر تتلقَّى فيه مثل هذا الثناء، ولتخرج من هنا، فهنا بيتي وأنا أطردها منه.

واتَّجَهَت إلى الجرس لتدعو الخدم، وإذا بها قد التقت برجل وقف أمامها، وحيَّاها تحية تجاوَزَت حد التأدُّب، وأدرَكَت حد السُّخر والتهكُّم، وكان هذا الشخص السير إيليا دراك، فقال لها وهو باسم: أظنني سمعتُكِ تقولين إنكِ عازمة على مناداة خدمكِ ليطردوا من هنا والدة الآنسة بوليت؟ وأنا أغدو شاكِرًا لكِ إذا أخبرتِنِي بأي حق وبأي صفة تُقدِمِين على مخاشنة تلك السيدة المكرَّمة؟

قالت: ألا تدري إنني ربة بيتي وزوجة زوجي؟ قال: تقولين زوجكِ … عفوًا! عمن تتكلمين؟ … قالت: عن الكونت دي موري، هذا الذي تراه أمامك.

قال: مهلًا أيتها السيدة الحسناء؛ فإن الكونت دي موري لا يمكن أن يكون زوجًا إلا لزوجة حية، أي: في عِداد الأحياء … أما أنتِ فإنكِ ميِّتة، وقد دُفِنْتِ من زمن بعيد، فهل نسيتِ؟

فجعل كل من الحضور ينظر إلى الآخر ونفسُهُ تُحَدِّثُهُ أن السير دراك مجنون، إلَّا أنيبال فإنه ارتعد ارتعادًا واضحًا، أما كلوديا فضحكَت وصاحت: ماذا تقول؟ ألا ثِق يا هذا أنني حيَّة، وسأوافيكَ وسائر من حضر بالبرهان على أنني لا أزال في قيد الحياة.

فأجابها السير دراك: هذا يسرُّني كثيرًا، ولكنه يحملني على الدهش؛ لأنني أحمل إليكِ الآن شهادة رسمية بانتقال حضرتكِ إلى رحمته تعالى منذ زمن.

قالت: ماذا تقول؟

أجاب: أقول إن معي في هذه المحفظة شهادة بوفاتكِ، ثم شهادة ثانية بوفاةِ أخيكِ.

فقال روجر ولورانس معًا: ما معنى هذا الكلام؟

أما أنيبال ففهِم كل شيء، ولجأ إلى الباب يحاول الانصراف خِلسَة، فأشار إليه السير دراك وقال له: على رسلك يا مسيو بلميري ولا تعجل؛ فمن كان مثلك قدماه ما زالا في القبر لا يمشي إلا وهو مستمهِل.

فكاد يجنُّ أنيبال رعبًا وحيرة، وقال: قدماه في القبر! وقال الإنكليزي: نعم، فإنك وُلدت يوم ٩ يونيو/حزيران سنة ١٨٥١، ومرضت يوم ٢٢ يوليو/تموز سنة ١٨٥٦ وفي يوم ٢٣ منه كنتَ مُشرِفًا على التلف، فلما كان اليوم الرابع والعشرون منه قضيتَ نحبك وأنت في مقتبل الشباب، وبعد بضع ساعات دفنوكَ لئلَّا تنتشر جراثيم الوباء من جثتك، ولكن للأسف أصيبت أختك المنحوسة، وهي السيدة الحاضرة ها هنا بمثل دائك، وشاطَرَتْكَ منتيك وا أسفاه، ودُفِنَتْ معك.

فامتقع لون أنيبال وقال: أنت مجنون. فأجابه: عفوًا يا مختلِس اسم المرحوم بلميري، وارفق بنفسك.

فقالت كلوديا بوقاحة: وأين برهانك على ما تقول؟ هات البرهان.

أجابها: إليكِ البرهان!

وأطلع من جيبه رزمة أوراق زرقاء، وقال: هذه رسالة برقية وردت من كلكتا، ودَفَعتُ أجرتها أكثر من خمسة آلاف فرنك لطولها، ولكني غير آسِف على مالي، فهي نسخة «طبق الأصل» عن تذكرة المسيو أنيبال بلميري وشقيقته الآنسة كلوديا بلميري، وهي تُبَرهِن، أيتها السيدة العزيزة، على أنكِ لستِ الكونتة دي موري، ولا الدوقة دي لوقا، ولا كلوديا بلميري، وأن زواجكِ الأول كالثاني لا اعتبار له ولا اعتداد به، ولكنكِ في الحقيقة فتاة حسناء تفخر بها أزِقَّة نابولي، واسمكِ جرجونة، ولا تعجبا من سعة اطِّلاعي، فالأمر طبيعي؛ لما سمعتُ باسم بلميري تذكَّرتُ أنني اهتممت فيما مضى بمن يُدعى بهذا الاسم، ثم تذكَّرتُ أيضًا أنني سجَّلت بعض شهادات لأصحاب هذا الاسم أيام كنت قنصل إيطاليا في مدينة كلكتا، فبعثتُ برسالة برقية إلى خلفي في المنصب، كما بعثتُ برسالة برقية إلى نابولي، فوافتني الإيضاحات التي تشرَّفتُ بإطلاعكم عليها.

قال الكونت دي موري: إذن كنا ضحية احتيال هذين الماكرين. أجاب السير دراك: إن القانون يتكفَّل بمعاقبتهما، وأنا ذاهبٌ لكي …

فقالت لورانس: إن هذه المرأة يا روجر دُعيت باسم الكونتة دي موري، فدع هذا الاسم ينقذها ولو دُعيَت به زورًا.

قال: ولكن فكِّري في أنها هي التي حملتني على الارتياب بكِ. أجابت: لذلك أشفعُ لها عندك، فلتبتعِد عنا، غفر الله لها.

فقال السير دراك: لم أتعرَّض من قبل الآن لشئون الناس، ولو تعرَّضتُ لشئونك أيها الكونت لأشرتُ عليك بمثل ما أشارت زوجتك الكونتة، وتأبَّطَ ساعد بيبو ليمنعه من الفرار، وقال: لكن بيني وبين هذين الحبيبين حساب صغير.

قالت كلوديا: حساب صغير؟ أجاب: نعم، فإن المسيو أنيبال سيعيد ملايين المسيو بلميري.

قال: أنا لا أعيدها أبدًا.

فلم يحفل السير دراك بل قال أيضًا: إلا إذا آثر دخول السجن المؤبَّد؛ لأن تلك الملايين آئلة إلى الدولة، ولا بد من ردها إليها، وأما الآنسة جرجونة؛ فهذا عقد يجب أن توقع عليه بتوقيعها حتى تتمكَّن من إبطال الزواجين اللذين عقدتهما زورًا.

وللحال دفع العقد إلى جرجونة قائلًا لها: وقِّعِي عليه في الحال، وأعطاها قلمًا، ولكن قبل أن توقِّع على العقد نظرت إلى الكونتة دي موري الحقيقية، فرأت روجر ممسكًا بيدها وكأنه لم يتزوَّج غيرها، فانثنت إلى السير دراك وقالت له: إذا وقَّعتُ على هذا العقد هل تدعني أنصرِف؟

أجاب: ولكما عشرة آلاف فرنك لنفقة الطريق.

فكتبت اسمها هكذا: «جرجونة»، فقال لها الإنكليزي: أما من اسم آخر؟

أجابت: لا، فهذا اسمي وقد عاد إليَّ، فلا أتأسَّف على ما خسرته.

وخرجت من المنزل، وفي ذلك المساء بعينه سافرت إلى إيطاليا مع أخيها، إلا أنهما كانا أوفر غِنًي منهما يوم قدِما باريس، وهكذا رجَعا إلى ما كانا عليه قبلًا في إيطاليا.

•••

ولما انصرف الشقيَّان وسارَ معهما السير إيليا دراك لمحاسبتهما؛ نهض الكونت دي موري ودخل بهوًا آخر … قد اجتمع فيه بعض الأصدقاء ليشهدوا حفلة الزواج، فدعاهم جميعًا، فتبعوه، وكان دهشهم عظيمًا حين رأوا لورانس متهللة الوجه متكئة على ساعده، وكان الأميرال في طليعتهم، فقال: ما معنى هذا؟ فأجابه روجر: معناه أيها الأميرال وأيها السادة أنني سعيد بهذا الاجتماع؛ لأنني أستدرِك على نفسي خطأً فظيعًا مضى. فهذه التي ترونها إلى جانبي وقد اتَّهمتُها وطردتُها ظلمًا، هي من أشرف النساء وأفضلهن، فأنا أشهد لها بذلك، وأتهِمُ نفسي أمامكم بأنني ظلمتها وخامرني الشك في طهارتها، حملني على الشك وسفك الدم قوم سفلة أراذِل … وبالغتُ في ذلك حتى دعوتُ باسمي مخلوقة شقيَّة، وأحللتُها محل هذه التي تستحق كل إجلال وإكرام وإكبار، ولحسن الحظ كان ذلك الزواج الذي عقدتُهُ مفسوخًا … وسوف يصدُرُ حكم بفسخِهِ بعد أيام … إذن عُدتُ حُرًّا، والقانون الجديد يبيح للأزواج المطلَّقين أن يوصلوا زواجًا مفسوخًا ويُجددوا القران، فكونوا شهودًا أيها السادة على تندُّمِي لما فعلتُ قبلًا، وعلى احترامي وإجلالي لابنة الأميرال فيرمن دي لامارش، وأنا أتوسَّلُ إليها أن تسترد الاسم والحقوق التي أخذتُها منها خطأً.

وانثنى إلى لورانس وقد استهلت دموعها، فجثا أمامها وقال لها: هل تقبلين يا لورانس؟ هل تأذنين لي بأن أُكَفِّر مدى العمر بالإخلاص والحب عن إساءتي إليكِ؟

ففتحت له ساعديها. فقال الأميرال خافضًا صوته: ولكن كيف تبرَّأَت ابنتي؟ وأيُّ برهان لديك على براءتها؟

فارتعدت لورانس ونظرت إلى أمها، ولكنها تجلَّدَت وقالت: ما من برهان، وا أسفاه! … فإن شفقة زوجي برَّأتني، وقد عفا عني.

وهكذا حافظت على سر والدتها في هذه المرة أيضًا.

•••

وبعد حين عاد الكونت دي موري إلى منصبه في بوندشيري تصحبه أسرته، وهناك عقد لجاستون دي فاليير على الفتاة بوليت، وفي صباح اليوم المعين لحفلة الزواج أقبل رجل في لباس قنصل، فوقف أمام بيت بوليت، فاهتزَّت فرحًا ودهشًا وصاحت: السير إيليا دراك! فأجابها: نعم. قالت: فكيف قدمت؟ قال: ألم أعدكِ بأن أكون أحد شهود عرسكِ؟ قالت: هذا صحيح، ولكن ألا تمكث معنا أيامًا؟ أجاب: لا. قالت: لماذا؟ أجاب: لأنني أمكث معكم دائمًا؛ وها أنا ذا قنصل إنكلترة في هذه الديار.

•••

وكانت حفلة العرس جامعة أسباب السرور والحبور، وعاش القوم أهنأ عيش إلى أن أتاهم هادم اللذَّات ومُفَرِّقُ الجماعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤