الفصل الثالث

أما جرجونة فإنها نزلت في ذلك المسكن القديم وهي لا تسعها الدنيا من فرحها بذلك الفوز العظيم، ولا بد من القول أن الكونت دي موري أجفل من ميل فؤاده إلى الدوقة دي لوقا، وحرص على ما بينه وبين زوجته من الحب الذي أتى عليه ثمانية عشر عامًا وهو ثابت على السراء والضراء، ورأت جرجونة منه العفاف والفضيلة، فثار ثائرها وانجرحت كبرياؤها، إلا أنها وثقت من نفسها بالفوز لا سيَّما وأن من تستوهيه قد غدا على مقربة منها لا يحول دونهما حائل كما كان الأمر في فندق أنتيب، فأخذت تهاجم العلاقة التي بين الزوجين بما لديها من أسباب الفتنة والاختلاب، والحق يقال: إنها كابدت عناء شديدًا في الهجوم والنضال؛ لأن تلك الأسرة كانت تتصف بالصدق والفضيلة فلم تضعف عزيمة الكونت دي موري.

أما أخوها فقد عاش بين القوم عيشة الفلاسفة، وكان يجالس الأميرال حمو الكونت، ويتبسَّط معه في التحدث عن سلك الأبحر والأساطيل البحرية ومقاومة الزوابع والأعاصير ومقاتلة الأعداء، إلى غير ذلك مما يتوق إليه الأميرال، وكان الكل يصغي إلى مثل هذه المحادثة.

وفي ذات يوم كان الأميرال يتكلم، فخرجت زوجته إلى غرفة لتنفرد فيها، وكانت تلك عادتها في كثير من الأحيان، فقال الأميرال: إن زوجتي تحب الوحدة والاعتزال أحيانًا، وقد وقع لها ذلك من زمن طويل حتى أشفقتُ في بدء الأمر على صحتها، ولكنني تعودت ذلك منها وإن لم يذهب قلقي تمامًا.

فقالت زوجة الكونت في نفسها: لا شك في أن لوالدتي شأنًا آخر يجهله والدي وهي تكتمه عنه وعني إيضًا … فلماذا لا تثق بي وتبوح لي بسرها؟

ولقد سنحت لها الفرصة فأمكنها الاطلاع على سر والدتها؛ وذلك لأنها لزمتها منذ وصولها إلى باريس، وأرادت أن تخفف عنها وطأة الشجن، فما لبثت أن غدت سكرتيرتها تراسل عنها الجمعيات الخيرية العديدة، وتفتح الرسائل التي ترِد باسم والدتها دون أن تشاورها، وتجيب عنها.

وفي ذلك اليوم بعد المحداثة التي أشرنا إليها في عرض الحديث، تلقَّت نحو عشر رسائل من البريد واردة باسم والدتها، فلما افتضَّت ختم الرسالة الثالثة وطالعتها، أخذها انفعال واضطراب وامتقع لونها.

ولقد قرأت لورانس تلك الرسالة مرارًا، وها نحن نوردها للقرَّاء بنصها وعنوانها:

إلى السيدة زوجة الأميرال غيرمين دي لامارش
سيدتي

كاتب هذه الرسالة رجل لا تعرفينه، ولكنه يستحق منكِ الرأفة ويروم مقابلتكِ.

اسمي يا سيدتي روبر بوريل، وأنتِ لم تسمعي بهذا الاسم، ومع ذلك فأنا ابن البارون دي كورديو.

ومن ذكر أمامكِ هذا الاسم كان مذكِّرًا إياكِ بأمور وأمور!

والذي أراهُ أنكِ لا تودِّين أن أزور منزلكِ؛ لئلَّا أنبه فيكِ تلك الذكرى.

إذن تفضلي إلى بيتي فهو في ناحية دراجون رقم ٢٠ على بعض خطى من شارع فاين.

نعم، أرى الأفضل أن تأتي إليَّ، فذلك خير من أن أزوركِ في منزلكِ؛ إذ يصعب عليكِ ولا شك أن توضحي لزوجكِ الأميرال السبب في حضوري.

ومهما يكن من ذلك، يوجد أمر لا بد من إقناعك به؛ هو أن صيتكِ وهناءكِ يتعلقان بكيفية تلقِّيكِ لهذه الرسالة من المطيع الخاضع.

روبر بوريل

فلما فرغَت من قراءة هذه الرسالة قالت في نفسها: «الظاهر أن كاتبها نذل تكفي معاقبته بالسكوت والاحتقار، والأحسن تمزيقها وطرحها في النار. إلا أنها رجعت في الحال عن هذا العزم، وتذكرت ما اشتملت عليه الرسالة من وعيد خفي، وكانت تجهل من هو البارون دي كورديو الذي تعرفه والدتها، فخطر لها خاطر، قالت: إن الله أراد أن أكون المطَّلِعة على هذه الرسالة دون أمي، فلماذا لا أجلو الغامض دون أن أدعها تفهم شيئًا؟ فأنا أحل محلها في الزيارة التي تشير الرسالة إليها، والناحية قريبة.

ونهضت لساعتها فخرجت من المنزل قاصدة إلى شارع فارين، ومنه إلى ناحية دراجون، ووصلت إلى البيت الذي عليه رقم ٢٠ وهو بيت حقير جدًّا، فتردَّدَتْ لما شاهدت من حقارته، لكنها ما لبثت أن طرقت الباب، فسمعت قائلًا يقول لها: افتحي.

فدفعت الباب فانفتح، ودخلت بجرأة، فإذا بها ترى أمامها شابًّا ينظر إليها وهو مدهوش حائر، وبعد ارتباك ظاهر قال لها: من تكونين يا سيدتي؟

فلم تجبه على سؤاله، ولكنها قالت له: أأنت المسيو روبر بوريل؟ فأجابها: نعم، فاجلسي، وأدنى لها كرسيًّا وحيدًا في غرفته، فقالت له: إنك تنتظر زوجة الأميرال فيرمن دي لامارش؟

أجاب: نعم، وإن سرَّني أن ألقاكِ، لكنني أعيد سؤالي عليكِ فإنكِ لم تجاوبيني عليه حتى الآن، ولا أدري لماذا عهدَتْ إليكِ زوجة الأميرال بالحلول محلها في المهمة التي استقدمتها لأجلها، ومن مصلحتها أن لا يعلم شخص ثالث بما بيني وبينها، قالت: إنها تجهل زورتي هذه، وستظل جاهلة إيَّاها كما أرجو، وأنا التي فتحت رسالتك، أنا الكونتة دي موري ابنتها.

قال الشاب: عجبًا! إذن أنتِ أختي؟

فظنت لورانس أنه مجنون، ولم تَخَف بل سُرَّت سرورًا كبيرًا لانجلاء الغامض، وأيقنت أن كاتب الرسالة المزعجة كان ضائع الرشد، فلطَّفَت صوتها وجاملت من حسِبَتْهُ مجنونًا؛ لتعلم ما صوَّره له ذهاب عقله، فقالت: لم أكن أدري أنني أختك يا مسيو بوريل، فأوضِح لي هذه المسألة؛ لأن أبي وأمي نسيا أن يخبراني أن لي أخًا …

فنظر إليها متعجِّبًا من سكينتها، وتوَهَّم في أول الأمر أنها تسخر به، لكنه آنس شفقة في بصرها فأدرك الحقيقة، فقال لها: أنتِ تحسبينني مجنونًا … أم سكران! ولكنكِ واهمة، فإن هذه الغرفة الحقيرة لم تدخلها زجاجة خمر من عهد بعيد … ومع ذلك فإن الفقر والشقاء لم يذهبا برشدي حتى الآن، فأنا لم أقل إلَّا الحق، وأنا أخوكِ حقًّا.

ثم أبرز لها رسائل مكتوبة بخط والدتها، فقرأتها وهي مرعوبة، فلم يبقَ في نفسها أثر للشك، وإليك تلخيص الخبر: إن زوجة الأميرال فارقها زوجها فيما مضى من صباها ثلاثة أعوام؛ إذ كان في مداغسكر يقوم بمهام منصبه، فارتحلت في تلك الأثناء إلى مسكن قديم لأسرتها في قرية من قرى لورين، فأقامت فيه وحيدة منفردة، ورآها ذات يوم جار لها اسمه دي كورديو، فافتتن بها، وفي ذات ليلة فاجأها وهي في مضجعها فاغتصبها وفرَّ هاربًا خجولًا من فعلته. إلَّا أن ذلك الذنب لم ينقضِ بسفره؛ لأن زوجة الأميرال حملت من دي كورديو وولدت غلامًا وسلَّمته إلى أحد القرويين يربيه، ثم عادت إلى باريس، وفيها علمت بأن والد الغلام رجع إلى القرية وأخذ على عاتقه تربيته ثم ألحقه بنسبه، وما غنم الوالد أن قضى حزينًا نادمًا على ذنبه. وقبل أن يموت أطلعه على سر مولده، وقال له: إذا وقعت في ضنكٍ شديد فالقَ أمك زوجة الأميرال دي لامارش، فيحق لها أن تسعفك عند الضيق، أما أنا فلم يبقَ من ثروتي إلا القليل الذي لا يغنيك عن جوع.

هذا ما ذكره روبر لزوجة الكونت دي موري إلى أن قال لها: أنتِ ترين أنني كاشفتكِ بما في نفسي، وما تنبَّأ أبي منه قد تحقَّق؛ لأنني أضعتُ ما أَورثني إياه من مال قليل، وحاولت كسب رزقي بوسائل عديدة فلم أفلح، وكدتُ ألجأ إلى الانتحار، لكنني ذكرت ما أوصاني به أبي، فكتبتُ إلى والدتي الرسالة التي وقعت في يدكِ بعد أن كدت أنسى أن لي أمًّا …

قالت: كدت تنسى أن لك أمًّا! ومع ذلك فقد لبثت أعوامًا دون أن تحاول التعرف بها، ولو كنت في مكانك لسعيت إليها سعي المُجِدِّ حتى أراها كل يوم عند مرورها، ولرفعت يدي إلى السماء شاكرًا لها أنها منحتني أمًّا مثلها.

قال: فهمت كلامكِ فأنتِ تشيرين إلى الحب البنوي، وتعتقدين أن المرء يكفيه أن تكون له والدة! ألا فاعلمي أن هذا الوتر لا يهتز في سريرتي، ولئن نظرنا إلى الحب البنوي واختلافه عندي وعندكِ فذلك لأن لكل منا أمًّا تختلف عن الأخرى، أما أنتِ فوالدتك تستحق منكِ كل انعطاف؛ لأنها في نظركِ وعطفها عليكِ وعنايتها بكِ وتضحيتها راحتها لأجل هناءكِ، ملك كريم، أما أنا فوالدتي لا تستحق مني إلا عدم الاكتراث، إن لم أقل الكره والمقت، فصاحت تقول: وهل يوجد في الدنيا من لا يحب أمه؟

قال: لكِ أن تحبي أمك ما شئتِ، ولكن هل كنتِ تحبينها لو لم تعرفيها؟ أو لو لقيتِ منها الإهمال مثلما لقيتُ؟ نعم، كان يمكن أن أطرح في الأزِقَّة وأنشأ شريدًا طريدًا، ولا ذنب لي إلا أنها ولدتني، والمحبة البنوية ليست من الحشائش التي تنبت بفعل الصدفة أو الطبيعة، ولكنها غرسة لا تنمو ولا تكبر إلا إذا لفحتها حرارة المحبة الوالدية.

قالت: ولكنك نسيت أن أمك متزوجة، فما عسى أن تفعل لأجلك؟

أجاب: إنها أعطتني الحياة، فيجب عليها أن ترفق بي لأنني مولودها، ولم أقترف إثمًا لتنتقم مني! ولكن لا نفع من هذا الجدال، ولا أقنعكِ كما أنكِ لا تقنعينني؛ لأن كلًّا منا على صواب فيما يدَّعِي. إنما أريد أن أعلمكِ أنني لا صبر لي على ما أنا فيه من عسر وضنك، ولا أمنية لي إلَّا الرحيل عن هذه الديار التي تعوَّدت أن أبغض ما فيها ومن فيها، ولكنني لا أسافر وأنا صفر اليد، بل أريد أن أتزوَّد شيئًا من المال لأسعى في الأرض لعلني أغدو من المفلحين.

قالت: فماذا تطلب؟

قال: ما قَدْر البائنة التي تناولتِها من والدتكِ حينما زوَّجَتكِ؟

أجابت: لست أدري تمامًا، ولكن ربما كانت ثمانمائة ألف فرنك. قال: أما أنا فلا أطلب من أمكِ إلا عُشر ذلك المال، ثم أعفيها من كل طلب في الحال وفي الاستقبال، فارتعدت وقالت: مائة ألف فرنك! من أين لي هذا القدر الجسيم؟ أجاب: لست أطلبه منكِ ولكن من والدتكِ.

قالت: وهل تظن أنها أقدر مني على التصرف بمثل هذا القدر فيما لو أعلمتها بطلبك؟

– ليس ذا بطلب، ولكنها صفقة أو مساومة على رحيلي وسكوتي؟

– ولكنك تطلب أمرًا مستحيلًا، وأنت تدري أن النساء المتزوجات لا يتصرَّفن بأموالهن إلا بموافقة أزواجهن، بمقتضى شريعتنا.

– على زوجة الأميرال دي لامارش أن تجد الوسيلة الصالحة للوصول إلى تسوية عادلة لذلك الدين، فهي منذ ما ولدتني قد أصبحت مديونة لي، أما إذا حاولت التخلص من هذا الدين فإنني أعلن خبره على رءوس الملأ.

فصاحت: كلَّا! ذلك لا تفعله أبدًا، وما كنت لتفشو سر والدة أنت تعرف أنها مثلك ضحية تلك الأنظمة الاجتماعية التي لم يُسمح لها بالتطور والتقدم ومواكبة سير العلم والاختراع.

قال وعيناه من هذه الأقوال الفلسفية الآن: وإني أقسم بالله على أنني سأفعل ما ذكرته لكِ. فبهتت المسكينة رعبًا وقالت: لو عرفتُ وسيلة للحصول على الملايين لدفعتها لك، إذن سأبحث لأجد القدر الذي تطلبه …

قال: لا يهمني أن تبحثي أنتِ أو تبحث هي، وشرطي الحصول على المال في كل حال، ويوجد وسيلة هيِّنة إن شئتِ كتمان خبري عن أمك، هي أن تكلمي زوجكِ الكونت دي موري، فلا يبخل عليكِ بكل ما تطلبينه منه، فصاحت: حاشا لله أن أخبر أحدًا ولا سيما زوجي، والموت أحب إليَّ من أن أفضح والدتي المحبوبة.

قال روبر: افعلي ما يروق لكِ شرطًا أن تفلحي … وإني أمهلكِ يومين، قالت: ولكن هذا مستحيل.

– تدبَّري، فأنا أنتظركِ بعد غدٍ ها هنا في مثل هذه الساعة.

– لست أريد أن أجيء مرة ثانية إلى هذه الغرفة التي تلقَّيتُ فيها ذلك النبأ الفظيع.

– فاختاري مكانًا غير هذا المكان.

– لست أدري! وإنما أنا أذهب إلى كنيسة سن جرمين كل يوم.

– لا بأس، أنتظركِ في الكنيسة في مثل هذا الوقت بعد غد.

– نعم، ولكن …

– ولكن ماذا؟

– أيُّ شيء يؤكد لي زوال الخطر من نحوك بعد أن أدفع لك المال؟ ألا يمكن أن تعود إلى طلب المال ثانيةً؟

– لو أقسمتُ لكِ لخفتُ أن لا تصدقيني، ولا يسعني إلَّا أن أعطيكِ رسائل والدتكِ فهي كافية … فنهضت لورانس وقالت: بعد غدٍ نلتقي في كنيسة سن جرمين في الساعة الرابعة، وانصرفت وهي في أسوأ حال من الاضطراب.

وفي اليوم التالي قصدت إلى حانوت أكبر جوهري في باريس، وهو المسيو سميث المشهور بصدقه، ومن عنده كانت ابتاعت كل جواهرها، فلقيته في الحانوت وأنبأته بأنها تحتاج إلى مائة ألف فرنك دون أن يعلم بها زوجها، وأنها حملت إليه أنفس جواهرها، وطلبت منه أنن يُبَدِّلها بجواهر كاذبة حتى لا يرتاب أحد بإبدالها.

فتعجَّب المسيو سميث من طلبها، وأجابها أن جواهرها تُقدَّر بأزيد من مائة ألف فرنك، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك القدر من المال في الحال، وطلب إليها أن تمهله بضعة أيام بعد أن دفع لها ما عنده من النقود. فلم يسعها إلا إجابته إلى طلبه، وقالت له: والباقي بعد أربعة أيام.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى الموعد المضروب في الكنيسة، فلقيها روبر وقال لها: جئتِ بالمال؟ أجابت: لا. قال: ومع ذلك فقد وعدتِنِي به، ولعمري إنكِ أخطأتِ في إخلاف وعدكِ لي، ولكن ذلك لا ينفعكِ، وما لم أفعله منذ يومين سأفعله اليوم، وقبل انقضاء ساعة أكون عند أمك …

قالت: بحقك لا ترفع صوتك! إنني لم أخلف وعدي إلَّا مضطرة، وحدَّثته بما كان من الجوهري، وتوسَّلَت إليه أن يمهلها أربعة أيام، وبعد تردد قال لها: لا بأس، أنتظر ثلاثة أيامٍ أُخَر، والاجتماع يكون في هذا المكان بعينه، ولكن إذا مضى هذا الموعد فلستُ أبالي أن أفضحكِ ووالدتكِ معًا. فابتعدت عنه مسرعة، أما هو فخرج من الكنيسة بعد هنيهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤