الفصل الخامس

وكانت الغرفة التي أُدخِل إليها روبير بوريل في الطبقة الثانية من المنزل، وقد اتَّخذتها الكونتة ووالدتها مكتبًا، فكانتا تصرفان فيها كثيرًا من الوقت، ولحسن الحظ أن زوجة الأميرال لم تكن فيها حينئذ. فلما وصل روبر قالت له الكونتة: كيف تجرَّأت على المجيء إلى هنا؟ ألم يكن موعد اللقاء بيننا غدًا في الساعة الرابعة لأسلمك المال؟ ألم تقسم على أن لا تدخل بيت زوجي فقد يجيء إلى هنا …

قال: وماذا يهمني زوجكِ؟ فلسنا نخشاه، وما أنا بعاشقٍ لكِ! …

– ولكن لو سألني عنك، فبماذا أجيب؟

– عليكِ أن تقولي له إن زيارتي لا تعنيه، وأن تُبَرهِنِي له على ذلك.

– وكيف أبرهن له؟ ألا أضطر إلى إطلاعه على الحقيقة؟

– بلا شك.

– وهل يهون عليَّ أن أهين أفضل النساء لديَّ فألقِي على أمي تلك التهمة الثقيلة فأفشي سرها وأُمَزِّق فؤاد زوجها؟ ألا فاعلم أنني أوثر على ذلك اتِّهام نفسي دونها وحسبانك عشيقًا لي لا شقيقًا!

فتبسَّم روبر وقال: هذا إخلاص حميد، ولكن عليكِ أن تختصري مدة زيارتي ما دمتِ تخشين خطرًا.

قالت: تكلم، فماذا تريد؟

أجاب: إن تأخرتِ عن إنجاز وعدكِ أحبطتِ تدابيري، وإذا لم أدفع المال إلى مصرف أميركي غدًا قبل الظهر فإن العقد الذي أعتمد عليه في الإثراء قد يُلغَى ويغدو معدومًا.

– ولكنك تدري أن ذلك المال ليس في يدي الآن، ولا يُسلَّم إليَّ إلا غدًا.

– نعم، غدًا صباحًا، ولذلك أتيتُ لأقول لكِ أن لا تؤجِّلِي دفعه حتى بعد الظهر، ولكن أوصليه إليَّ حين قبضه.

– لا بأس، غدًا صباحًا أحمله إليك …

ولم تتم جملتها؛ لأن الباب انفتح وقتئذ، ودخل ملطار، فقال: شخصًا يُدعى المستر سميث أتى ليسلِّم سيدتي شيئًا، ولكنه لم يشأ أن يضايقها فعهدَ إليَّ بتسليمها ذلك الشيء الذي كان يجب أن يسلمه الجوهري إليها غدًا صباحًا.

فتناولت الكونتة منه رزمة أوراق مالية، فتهلَّل وجهها، وأدرك روبر السبب فاهتزَّ انفعالًا؛ لأنه رأى الثروة واصلة إليه، وكاد يثب إلى رزمة الأوراق ويختطفها وينطلق بها، إلا أن وجود الخادم الهندي حال دون ما أراد، وقد بقي هذا الخادم واقفًا، فقالت له الكونتة: قل للمسيو سميث إنني شاكرة له صنيعه وغدًا أقابله، فلم يتحرَّك الخادم، فقالت الكونتة: ماذا تنتظر؟

أجاب: إن والدتكِ تروم الدخول، وهي الآن في الحجرة المجاورة، وها هي قد أتت … فألقت لورانس رزمة الأوراق المالية على خوان.

أما روبر فقال في نفسه: الظاهر أنني سأرى والدتي، ولا يسوءني أن أراها لأعرف كيف تكون الأم! ولكنه لم يستشعر إلا فضولًا ذُهل به عن الأوراق المالية عندما دخلت والدة الكونتة وقالت: لقد أتيت قبل الوقت الذي عيَّنته لنفسي …

وإذ ذاك لاحَظَت وجود رجل غريب، فقالت لابنتها: ما أنتِ وحدك؟ إذن أترككِ وبعد هنيهة أرجع إليكِ.

إلا أن روبر حيَّاها بإجلال، فحيَّته بإيماءة، وتفرَّسَت في وجهه وهي صامتة، فقالت الكونتة تعرفها به: «إنه المسيو روبير بوريل يا أماه.»

فقالت: ألم أرَ الرجل عندكِ قبل الآن؟

فأجابها روبر قائلًا: كلَّا يا سيدتي، لم أكن أرجو المثول بحضرتكِ والوصول إلى هذه السعادة، وكان صوت روبر يرتجف لشدَّة تأثُّره عند رؤية أمه، فقد أورثه ذلك التلاقي اضطرابًا جديدًا، فلاحظته أمُّه زوجة الأميرال، فقالت وهي تبتسم لتشجيعه في موقفه: لِمَ هذا الانفعال؟

فأجابها: إنه ناجمٌ عن عظيم تقديري لأعمالكِ الخيرية وصِيتكِ البعيد المدى.

– ألا تغالِ يا سيدي، والمرء لا يفعل خيرًا بمقدار ما يجب عليه.

فقال بلهجة التهكُّم: إن ابنتكِ قد شَذَّت عن هذه القاعدة شذوذًا لا مثيل له في النبالة، فهي الكريمة المحسنة التي تأتي الأعمال الصالحة بالنيابة عن غيرها.

قالت: لستُ أعجب من لورانس إذا صنعت ذلك، فحدِّثني به؛ لأن ابنتي تكتم عني حسناتها. فهمَّ بالكلام، إلا أن الكونتة اعترضته قائلة: لا فائدة من ذلك، فلا تقل لأمي … إني أتوسَّل إليك! … فانحنى روبر وقال: لا تخافي أيتها السيدة، فإنني لا أتكلم عن إحسانكِ إلا بما ينبغي الإشادة بذكره. ثم التفتَ إلى زوجة الأميرال وقال: إن المسألة تتعلَّق بوالدة تركت ولدها …

فاصفرَّ وجه مدام دي لامارش، وقالت: تركت ولدها؟!

قال: نعم، أعني ابنتها … وأراد أن يحوِّل ظنون مدام دي لامارش بقوله ابنتها حتى لا تظن أنها هي المقصودة بالكلام، ثم قال: إن ابنة المرأة التي تركتها والدتها كبرت محرومة حنوها، وعاشت منفردة خالية إلى أشجانها، وأتاحَ لي القدر أن أعرِف الكونتة دي موري لتأخذ بناصر تلك الابنة المنحوسة، وتحل عندها في التعزية وجبر القلب محل تلك الوالدة الشاذة عن كل الأمهات …

فلم تدعه زوجة الأميرال يتم كلامه، بل قالت: إن هذه الكلمة التي تلفَّظت بها عن والدة؛ قاسية جدًّا، وربما كانت تُهمة باطلة، فصدِّقني يا سيدي، وارثِ للأمهات اللواتي قضى عليهن واجبهن الاجتماعي العتيق الصارم بأن يفارقن أولادهن، إنهنَّ أحق من كل إنسان بالرأفة؛ إذ لا يُوجد ما هو أَمَرُّ ولا أفظع من لوعة أُمٍّ تضطرها هذه الواجبات التي أملتها أنانية البشر على عقول الطبقات المحكومة من الناس وأسمتها شرائع وقوانين، إلى ترك حشاشة كبدها وحرمانها تلك العاطفة الوالدية التي تكفكف بها عبرات ولدها وترصد ابتسامته الأولى! ألا فَكِّر في شقائها، فإنها لا تسمع صوته ولا تتلقَّى قبلة من شفتيه ولا تراه أبدًا، وزِد على ذلك ما هو أدهى وأنكى؛ فإنها لا ترجو أن تراه ذات يوم، ولا تدري إذا كان يقاسي البؤس والشقاء بعيدًا عنها، ذلك لا يُطاق يا سيدي، وحرام عليك أن تتهم والدة ثَكْلى، فخير لها أن تعلم بموت ولدها من أن تُحرم لقاءه إلى الأبد.

فصاحت الكونتة: ما هذا الكلام يا أُمَّاه؟! وهل تؤثر والدة موت ولدها على حرمانها لقاءه؟!

أجابت: نعم، فإنها تعلم إذ ذاك أنها إنما ترثي لنفسها وتبكي على نفسها، وأن الله قد أنقذ ولدها من نكد الدهر وشقاء الحياة، ذلك خير لها من اليأس والبكاء سرًّا، وتصَوُّر ولدها يناديها في جوف الليل متألِّمًا ويطلبها ويستنجد بها، وهي عاجزة عن إسعافه. فمن الظلم الفادِح أن نقسو على أمٍّ منكوبة، وإنما يحسُن أن نسأل الله أن يُقَصِّر أيامها ويصرم أجلها!

فلبث روبر جامدًا مبهوتًا وقد تبدَّد ما كان يضمره من حقد على والدته، وبردت نار ضغينته، وعلِم أنه كان مخطِئًا في اعتقاده، جائرًا في حكمه إذ ظنَّ أن والدته تركته غير مكترثة له، أما الآن فعلِم أن جرحها دامٍ لا يندمِل، وأن عبراتها لا تجف لوعةً وتحسُّرًا، فقال: ولكن كيف تفعل الأمهات لاحتمال شقائهن بعد فقدهن لأولادهن؟

فرفعت العجوز رأسها وقالت: لقد عرفتُ منهن من قتلها الأسَى، وأعرِف واحدة منهن لو ظهرَ عارها لقتلت نفسها.

فأشرف نور على ذهن روبر، وأمسك عن الإفصاح، وخاطب والدته بقوله: لئن كان الأمر كما تقولين، فقد جُرْتُ في الحكم وكنتُ من المخطئين، ولو عرفتُ تلك الامرأة التي حدَّثتُكِ عنها منذ هنيهة، أو لو قدرتُ على مخاطبتها كما أخاطبكِ الآن لقلتُ لها: إنني نادمٌ على جوري في الحكم فاصفحي عني.

ثم لم يتمالك أن ثنى ركبته أمام والدته، فأشارت إليه بالنهوض، وقالت: تكرَّم فأعِد كل ما سمعته مني على مسامع تلك الابنة التي تركتها أمها، وكنتَ تدافع عنها منذ هنيهة، فلعلَّها تعدل عن أن تتَّهِم والدتها بالإعراض عنها كما كنت تتهمها أنت.

وبعد أن تلفَّظَت بهذه الكلمات خرجت من الغرفة، فمدَّت الكونتة يدها إلى روبر وقالت له: كيف رأيت يا أخي؟

فاغرَورَقَت عيناه بالدموع وقال: من لي بأن أرتمي على صدرها وأن أناديها «بيا أُمِّي!» فويحي لقد كنتُ ابنًا عقوقًا شقيًّا، وويلٌ لي أنني لبثتُ ألعنها سنين!

قالت: والآن لا نضيِّع الوقت يا روبر، فالمال الذي وعدتكَ به حاضر … فخُذه، وعسى أن يأتيك بالثروة الكُبرى التي ترجو الحصول عليها. خذ هذه الأوراق المالية، بارك الله لك فيها، ورأته يتردَّد، فقالت له: إليك المال!

فاخرج من جيبه غلافًا فيه رسائل بخط زوجة الأميرال إلى المرضع التي أرضعت روبر، وفيها تُقِرُّ بما كان من حملها به؛ أي إن فيها سِرَّ مولده، فدفعه إلى شقيقته وقال لها: إليكِ الرسائل. ثم أبى استلام الأوراق المالية قائلًا: لقد كانت الصفقة التي عقدتها معيبة يا لورانس، وما كنتُ لأبيع رسائل والدتي بعدما رأيتُها وشاهدتُ آلامها …

فتأثَّرَت الكونتة من إبائه وصاحت: بل خذ المال يا روبر، فما هو بثمن رسائل أمك، ولكنه من أختك التي غَدَت تحبك الآن.

فصاح قائلًا: وأنا غدوتُ أحبكِ يا لورانس من صميم فؤادي.

واجتذبها إليه وأخذ يُقَبِّلُها بلهفة وحنان أخوي حقيقي، وإذ ذاك فُتِحَ الباب، ودخل الكونت دي موري، ولما سمعت الكونتة صوت الباب يُفتَح تخلَّصَت من يدي أخيها ورأت زوجها، فقالت وهي مضعضعة الحواس: هذا زوجي!

أما الكونت دي موري فتقدَّم إليها وهو ممتقع اللون، ودفع لها صندوقة حُلِيِّها وقال لها: هل تعرفين هذه العلبة؟

أجابت: أظن أن جواهري فيها.

قال: نعم، وهي التي رهنتِها لتدفعي إلى هذا الرجل ثمن رسائل، وما دمتُ قد دفعتُ المال وفككتُ الرهن عن الجواهر، فمن العدل أن تَئُول إليَّ تلك الرسائل، فسلِّميني إيَّاها!

فوثبَ روبر إلى غلاف الرسائل وصاح: كلَّا! فإنك لا تحصل عليها لأنها لي وحدي، ولا يحق لأحد أن يأخذها مني، فنظر كل من الرجلين إلى الآخر، وارتمت لورانس بينهما، وقالت: أيُّ شكٍ خامر نفسك يا روجر؟

قال: أتَجسرِينَ على هذا السؤال بعدما لقيتكِ بين ساعدَي الرجل يضمُّكِ إلى صدره؟ إني أطلب منكِ رسائل تفتدينها بمالٍ كثير وترفضين، ثم تتجرئين بعد رفضكِ على أن تسألي عما يريبني منك؟ إنكِ لَمجنونة، فأعطيني الرسائل!

فصاحت الكونتة، احرص عليها يا روبر، فلبث روبر في مكانه جامدًا عازمًا على الدفاع عن سر والدته ولو هلك. فتعاظم حنق الكونت وقال: لئن كانت هذه الرسائل السلاح الوحيد الذي يعجبني أن أشهره على زوجتي، فيوجد سلاح آخر أشهره عليك أنت، فحاذِر! وأخرج من جيبه مسدَّسًا، فاكتفى روبر بأن ابتسم، فحاولت لورانس إطفاء ذلك الغضب، وترامت على قدمَي زوجها تقول له: وبحق ابنتنا اصغَ إليَّ، فما تطلبه أمر فظيع لو أطعتُكَ فيه لكانت طاعتي نذالة بل جريمة.

فهدر وزمجر، وقال لروبر: هات الرسائل يا رجل وإلَّا فأنت مقتول! ورفع يده بالمسدس، فصاحت وهي طائرة الفؤاد هلعًا ورعبًا: لا ترتكِب جريمة يا روجر، ولا تقتل بريئًا، بل اسمع أنبئكَ بكل شيء.

قال: عليَّ بالرسائل أولًا لأقرأها ثم أسمع.

قالت: نعم ستقرؤها وتعلم أن الذي تحسبه عشيقًا لي إنما هو … ولكن الباب انفتح وقتئذ، ودخل الأميرال وزوجته وقد سمِعا اللجب، فقال معًا: ماذا حدث؟

أما الكونتة فإنها لمَّا رأت والدتها توقَّفَت عن الاعتراف بحقيقة الأمر، فقال الكونت: حدث أن زوجتي خانتني، وإنني فاجأت ابنتها وهي على صدر عشيقها هذا.

قال الأميرال: عشيقها! وقالت زوجته: ذلك مستحيل! ذلك غير صحيح!

فقال الكونت أيضًا: لم أشأ الانتقام، الذي يحق لي، إلا بعد أن أطَّلِعَ على المراسلات التي تُثبت الجريمة … فرفض الاثنان تسليم الرسائل، ولكننا الآن قادرون على أخذها منهما، وسوف تقرؤها أيها الأميرال وتحكم على ابنتك وشريكها في الإثم. فقال روبر: أيقرؤها هو؟

أما لورانس، فصرخت رعبًا وتراجعت خطوة إلى الوراء، فاقتربت من روبر، وقالت: كلَّا، ذلك لا يكون أبدًا!

فقال روبر أيضًا: ذلك لا يكون أبدًا! وكان مُحَدِّقًا في وجه والدته، وقد استشعر عاطفة عليها وودَّ لو يبذل الروح فداءً عنها، وإذا بالكونت قد صاح به يقول: لا بد من الحصول على الرسائل أيها النذل، وهمَّ بالهجوم عليه.

فأتى روبير بحركة سريعة، وطرح الرسائل في الموقدة، وقال: خذها من النار إذا استطعت. فزمجر الكونت دي موري ووثب إلى النار، إلا أن روبر كان إليها أسرع فقذف فيها الرسائل، وفي أقل من لحظة صارت رمادًا، فاستشاط الكونت غضبًا، وأطلق عليه رصاصة، فخرَّ صريعًا وهو يقول: إنك قتلتني ولا سلاح معي لأدافع به عن نفسي، فأنت قاتل أثيم!

ثم سكنت حركته، ولم يتلفَّظ بكلمة أخرى؛ لأن فمه امتلأ دمًا وفارقته الروح، فصرخت لورانس: إنه مات!

فقال الكونت دون اكتراث: بقي عليكِ أن تتلفَّظِي بما هو خير من الرسائل، فبرِّئي نفسكِ إن استطعتِ!

وقالت أمها: نعم، تكلمي بالحقيقة.

وقال الأميرال: أنا أبوكِ آمركِ بالتكلم!

قالت: اسكتي يا أمَّاه فأنتِ لا تعرفين ما تطلبين مني، ولا تعرفين أي عذاب أكابد!

فقال لها الكونت: ألا تتكلمين؟

وقالت لها والدتها وهي تنتحِب: دافعي عن نفسكِ يا ابنتي، وأزيلي عنكِ وصمة الشك يا حبيبتي! فنظرت إلى والدتها مليًّا تتفرَّسُ في وجهها، ثم انثنت إلى زوجها وقالت بعزيمة: لك أن تفعل بي ما تشاء يا روجر، وأن تقتلني إذا شئت؛ لأن هذا حقك الذي تواضع الناس عليه، ولكنني لا أقول كلمة.

فأجابها بصوت يتهدَّجُ غضبًا: ذاك لأنكِ مذنبة، ولأن هذا الرجل كان عشيقكِ، فاخرجي من بيتي، فإني أطردكِ منه الآن.

وقال أبوها: أما أنا فإنني أستنزل عليكِ لعنةَ الله!

ومدَّ الشيخ يديه ورفع رأسه حين تلفَّظ بهذه الكلمات، فكان خصمًا وقاضيًا وجلَّادًا في وقت معًا.

فصرخت المسكينة يأسًا، وجعلت يديها على جبينها، ولبثت كذلك حينًا، فلما رفعتهما كانت تتبسَّم ابتسامة غريبة، وقالت بسكينة تامة: إنه كان حبيبي فعلًا، وظهرت عليها أمارات الجنون، فقد اضطرب عقلها لشدَّة جزعها حينئذٍ وظنت نفسها مجرمة حقًّا، إلا أن جنونها كان محصورًا في موضع واحد، فكانت صامتة تقول بين فترات الوقت: «إنه كان حبيبي وعشيقي!»

ولما دُعِيَ قاضي التحقيق للتحرِّي عن أسباب مقتل روبر وَقَفَتْ بحضرته كشاهد وكانت خافضة الرأس، فقال لها قاضي التحقيق: هل تعترفين بعلاقات غرامية نشأت بينكِ وبين الرجل الذي قتله الكونت دي موري؟

أجابت: نعم، أعترف بذلك.

فأشار إليها بالانصراف، فمضت واضطجعت على فراشها، ولبثت وحيدة؛ لأن والديها خرجا من المنزل دون أن ينظرا إليها، حتى إن والدها أبى أن يسمح لزوجته بتقبيل ابنتها قبل خروجهما، وكانت إحدى الوصائِف تعتني بلورانس، إلا أن هذه الوصيفة كانت جديدة في المنزل ولا تُسعفها إلا قليلًا، ولم يبقَ لها إلا صديق واحد هو الخادم الهندي ملطار.

وكان هذا الخادم — كما قلنا — مخلصًا للكونت وزوجته كل الإخلاص، لا سيما وأنه ربى الفتاة بوليت ابنتهما، وكان صديقًا للعائلة في زيِّ خادمها الأمين.

•••

ولنعُد الآن إلى جرجونة وأخيها؛ فإنهما لزما العزلة حتى يوم المرافعة في القضية التي أقامها الكونت على زوجته، ولم يلتقِ الكونت بالدوقة دي لوقا إلا مرة واحدة، فكان تلاقيهما خاليًا من ظواهر الهوى الذي اضطرمت نيرانه في فؤاديهما حينًا ما، لكنها تحقَّقَت من وراء ذلك أن المستقبل لها.

وقد أسفرت القضية عن تبرئة القاتل بعد إقرار زوجته بأن القتيل كان عشيقها!

وبعد صدور الحكم بيوم أقام الكونت قضية طلاق على زوجته، وبعد ثلاثة شهور صدر الحكم بفسخ زواجه دون أن تحاول لورانس دفاعًا عن نفسها، وبعد أربع وعشرين ساعة من صدور الحكم تلقَّت أمرًا بخروجها من المنزل، فطَأطَأت الرأس في هذه المرة أيضًا، وفارقَت ذلك البيت الذي ذاقت فيه طعم الهناء، وولدت فيه ابنتها الوحيدة!

وهكذا بات الكونت روجر دي موري حُرًّا، وغَدَت الشهيدة المسكينة مُطَلَّقةً تجرع كأس لوعتها وعذابها دون ذنب جنته سوى حرصها على سرِّ أمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤