الفصل السابع

بقي علينا أن نذكر السبب في وصول الفتاة بوليت إلى منزل أبيها في شارع فارين في باريس، وهو لا يدري إذا كانت قد وصلت إلى مرسيليا بعد … وكيف دخلت المنزل خفيةً غير مصحوبة بعمتها باسيليك ولكنها بصحبة رجل نجهله حتى الآن، اسمه المسيو دراك، فلنعُد قليلًا إلى الوراء.

كانت بوليت في الهند ضعيفة ناقهة من المرض، ولما وقعت حادثة افتراق أمها عن أبيها كتمت عمتها عنها الخبر، وقال الطبيب روبلين لعمتها: ثابري على الكتمان عنها لئلَّا تؤثِّر هذه المصيبة في صحتها، وربما قتلتها؛ لأن جسمها لا يزال إلى الآن ضعيفًا. فلما تم لها الشفاء أمر الطبيب بسفرها برغم إرادة المسيو جاستون دي فاليير نائب الحاكم، وكان هذا مغرمًا بالفتاة من قبل، لكنه لم يكاشفها بهواه، وكان الطبيب روبلين مطلع على سر ذلك الهوى، وقد أنبأ به العمة باسيليك، فعزمت أن تخبر به والدي الفتاة حين وصولها إلى باريس، فقالت لجاستون: كنت مطمئِن البال أيها العزيز، فسوف أسعى لك السعي الذي نوده. ثم سافرت العمة باسيليك وابنة أخيها، وظلت العمة تؤجِّل إطلاع الفتاة على ما كان بين والديها خشية تأثير الخبر فيها، لكنها أشفقت أن يتكلم أمامها أحد ركاب الباخرة فتعلم الفتاة ما كُتِمَ عنها، فاحتاطت بطريقة أخرى هي التي نذكرها الآن.

كان في جملة القادمين إلى أوروبا على تلك الباخرة رجل إنكليزي أقام ثلاثين عامًا في الهند، ثم عاد إلى أوروبا لينفق فيها بقية عمره ويستريح من الأعمال، وكان ذلك أمرًا ميسورًا عنده؛ لأنه غني، ولا علاقة له بأحد من الناس، ولا أقارب له، ولا يهمه غير نفسه، هكذا كان هو يقول، واسمه إيليا دراك، زاول التجارة في كلكتا وكان معتمدًا قنصليًّا فيها، تعرَّفَت به العمة باسيليك على يد ربان الباخرة، ثم آنست فيه طيبة القلب فأطلعته على ما توجسه من خوفٍ بشأن بوليت، فوعدها بالمساعدة لأنه يعرف جميع ركاب الباخرة، فحذَّرهم من التكلم عن حاكم بوندشيري، أي والد بوليت، وما جرى له مع زوجته؛ لأن خبر تطليقه إيَّاها كان شائعًا ذائعًا، ولكن إيليا دراك كان قد امتنع في بادئ الأمر عن قضاء هذه المهمة، لكنه ما لبث أن أذعن وأجاب بالقبول، واستشعر ميلًا إلى الفتاة بوليت، مع أنه كان لا يريد أن يكترث لأحد من الناس بسبب تقدمه في العمر.

وفيما كانت الباخرة تدنو من مرسيليا حدث حادث مزعج؛ لأن البحر هاج هياجًا شديدًا، وأخذ يتلاعب بالباخرة تلاعب العاصفة بريشة طائر، فلم يبقَ على ظهرها أحد من المسافرين؛ لأنهم أُمِروا بملازمة غرفهم، أما بوليت فلما علمت بقرب الوصول إلى مرسيليا أصابها انفعال شديد لاعتقادها أن والديها ينتظرانها على الشاطئ وهما متعرِّضان للعاصفة الهابة ليرقبا دخول السفينة في الميناء، ويشاهدا ابنتهما من بعيد، فطلبت إلى العمة باسيليك أن تأذن لها بالصعود إلى ظهر السفينة، وأدركت هذه العمة ما يجول في ذهن الفتاة، ولم تحاول منعها ذلك؛ لأنها قالت في نفسها: سوف تكون خيبة بوليت لعدم رؤية والديها على رصيف المينا عند رسو السفينة مقدمة لمكاشفتي إيَّاها بتنافرهما الذي أدى إلى الطلاق، وهكذا تكون الخيبة الصغيرة تمهيدًا للخيبة الكبرى التي أخشى من تأثيرها على الفتاة.

فصعدت العمة وابنة أخيها إلى ظهر السفينة وهي داخلة في الخليج، فنادت بوليت المسيو دراك وقالت له: ألا تأتي معنا؟

فأجابها متعجِّبًا: إلى أين؟

قالت: إلى ظهر السفينة كما أخبرتك … ألم أقل لك إني سأصعد إليه عند وصولها إلى مرسيليا؟

أجاب: نعم قد تذكرت الآن أنكِ قلتِ ذلك القول، ولكنني لا أعده كافيًا للمخاطرة بأرواحنا. فمن الجنون التعرُّض للأمواج التي تغطِّي ظهر السفينة الآن.

قالت: بل قُمْ ولا تجادل! وتعال فبلِّل ثيابك معنا ولا تكن رديئًا.

قال: ولكن قد تجرُّكِ الأمواج إلى البحر …

فأمسكت ساعده وقالت: بل أنا أثبت قدميَّ على الأرض وأتشبَّث بذراعك فلا تخَفْ عليَّ، وهيا بنا.

فاتجه الثلاثة وهم يستندون إلى كل ما تقع عليه إيديهم كي لا يسقطوا، فلما بلغوا السطح رأوا مشهدًا بديعًا أنساهم ما كان محدِّقًا بهم من خطر؛ فكانت السفينة تحاكي وقتئذٍ جوادًا كريمًا منطلقًا في ميدان ملؤه الغابات والأنهُر، يثب وثبات هائلة، فيرتفع ثم يهبط حتى يُظَن أنه هوى إلى الحضيض، وبينما كان يقترب من الخليج ويوشك أن يدخله فيأمن شر ذلك النوء الشديد؛ وإذا بموجة عالية كالجبل جاءت وتكسَّرَت على السفينة ففرشتها بالماء، ولم تُبقِ على ظهرها شيئًا، وإذ ذاك سمع «دراك» والعمة «باسيليك» صوت بوليت وقد جرفتها المياه إلى البحر، فبادر المسيو دراك، بعد أن خلع رداءه وبعض ملابسه، وانطرح على ظهر الباخرة وترك المياه تجرُّه إلى البحر وهو يتذمَّر ويتململ غضبًا، فلما ظهر بعد هنيهة على سطح الماء، أبصر قطعة من ثوب بوليت فسبح إليه، وأمكنه التوفيق من القبض على شعر الفتاة، إلا أنها تشبَّثَت به في الحال شأن كل غريق، فقال: لئن لم أتخلص من قبضتها فلا يبعد أن نغرق معًا، ولكن إذا تركتها فإن صورتها تلازمني في الليالي وتحرمني الرقاد؛ فإما أن أنجو وإيَّاها وإما أن نغرق معًا!

وأخذ يسبح بقوة والفتاة متشبثة به، ولحسن الحظ تنبَّه إليه النوتية، وطرحوا زورقًا في الماء فانتشلوه والفتاة، وكان قد أغمِيَ عليها، كما أغمي على عمتها لما رأتها وهي في تلك الحال.

ولما أفاقت المرأتان طلبت بوليت النزول إلى البر قائلة: إن والدَيَّ ينتظرانني ولا شك، وعسى أن لا يكونا قد شاهدا ما حدث لي: فارتبكت العمة ارتباكًا شديدًا ولم تدرِ ما تقول.

وفيما كانتا نازلتين على سلم الباخرة تلاقتا بالمسيو دراك، فتذكَّرَت بوليت أنه أنقذها من الموت غرقًا، فوثبت إلى صدره تشكره، فدفعها عنه بشيء من الخشونة السكسونية ليخفي انفعاله، وإن زعم أنه لا يفهم معنى هذا الانفعال، وقال لها: تنبهي إلى نفسكِ أيتها الآنسة؛ فهذه ثاني مرة تجعِّدين فيها ثيابي منذ حظيتُ بشرف صحبتكِ.

قالت: إنك لم تفكر في ثيابك التي ابتلت حين ألقيتَ بنفسك إلى الماء لأجلي، والآن أصبحت تخشى على هذه الثياب من التجعُّد إذا دنوتُ منك؟ فأنت منقذي من الغرق يا مسيو دراك، آهٍ ما أشد ما يكون حب والديَّ لك عندما يعلمان بما صنعته إليَّ من المعروف العظيم.

قال: ولكنني أعفيهما من ذلك العناء؛ لأنني مسافر إلى باريس في هذه الساعة، ومنها إلى إنكلترة دون إمهال.

فأشارت العمة إليه وقالت له: بحقِّك تعال معنا إلى الفندق، فلا غنى لنا عن وجودك معنا.

فلم يجد بُدًّا من الانصياع وهو يقول في نفسه: إنني لم أنتفع بعزوبتي ما دمت هدفًا لأول امرأة تطلب مني الإسعاف كما وقع اليوم.

ولما وصلوا إلى الفندق كانت العمة متألمة، وأصابتها حمى عقيب تبلُّل ثيابها، أما بوليت فتعجَّبَت لأنها لم ترَ والديها، وقالت: إنهما تأخرا، إذن سوف أسبقهما إلى المنزل في باريس، وغدًا نسافر على أول قطار. فقالت لها عمتها: إذا كنتِ راغبة في السفر فلا بأس، ولكن لا بد لي من السفر معكِ، إلا أنني مريضة كما ترين، وأحتاج إلى الاستراحة ولو يومين.

قالت: أنا لا أستطيع الصبر على لقاء والديَّ يومين أيضًا، وكان دراك يود الرحيل، فقال للفتاة: هل تريدين أن أوصلكِ إلى باريس على أن تبقى عمتكِ ها هنا بضعة أيام لتستريح تمامًا؟

فأرضى الاقتراح الامرأتين معًا، ثم خلت العمة بدراك، وبعد جدال وعدها بأن يخبر الفتاة في أثناء الطريق عن انفصال والديها، وسافرت بوليت برفقة دراك، غير أنه لم يجسر على إنجاز وعده شفقةً على بوليت، وهكذا وصلت إلى منزل أبيها وهي تجهل كل ما حدث.

دخلته وهي تجر المسيو دراك، الذي كان مرتبكًا كل الارتباك، ودخل الخادم الهندي ملطار من باب آخر فسمع صوتها ولم يرها، فقال في نفسه: كيف وصلت دون أن يدري أبوها بوصولها؟ ومن الرجل الذي يصحبها؟

وتعجَّب لما أدرك من لهجتها أنها مسرورة؛ إذ كانت تقول للرجل الإنكليزي تعالَ ولا تتردَّد، ولماذا أردت مخاطبة البواب وأنا لا أعرفه؟ فهل أحتاج إلى من يدلني على الطريق في بيت أبي؟

قال: ولكنه يسألني عن نفسي وعنكِ لأنه لا يعرفنا.

قالت: دعه يسأل ما شاء وادخل معي، فنحن قادمان دون أن يعلم أحد بوصولنا ولا سيما أنت، فالكل يجهلون أنك موجود في هذه الدنيا. ثم أقبلت على خادم وقالت له: أين المسيو دي موري وزوجته؟

فأجابها: لقد خرجا من المنزل.

قالت: فأين الأميرال دي لامارش وزوجته؟

أجاب: إنهما لا يقيمان في هذا المنزل منذ نحو شهرين.

قالت: هذا أمر غريب، فما معناه؟ وعطفت على المسيو دراك، فأخذت يده وقالت: تعالَ فلا بد لي أن أظهر لك سروري وفرحي.

فحاول أن يسكتها، فلم تدع له وقتًا للتكلم، وقالت: إني أعرف ما تريد أن تقوله، فأنت تريد أن تقول: إن سروري لا يعنيك، وإنك لا تحب الانفعالات، وإنك مسافر إلى إنكلترة على أول قطار، وإنك لا تريد أن تتعرَّض فتاة مثلي لشئونك، أو يهتم أحد بك، وإنك راغب في الصيد في أعماق البحار حتى تخلو إلى أنانيتك، ولا تفكر في غير نفسك، فتأكل وتشرب وتضحك أو تبكي دون أن يشاطرك أحد سرَّاءَك أو ضرَّاءَك، وأفراحك أو أتراحك، وهكذا تغدو أسعد رجل في الدنيا. كل ذلك تريد أن تقوله لي، وأنا أعرفه، ولكن البث ها هنا ساعةً قبل الشروع في تلك الحياة الطيبة، واشهد ملاقاتي لوالديَّ، وتأمَّل كيف يكون الحب بين أفراد أسرة واحدة، وكيف يسعد الناس به، أكثر منك بوحدتك وجفاء طبعك؛ لأن سعادتهم ناجمة عن اتحادهم وتشاركهم في الحبِّ!

وسمع ملطار هذه الكلمات ففهم الحقيقة، وأدرك أن سيدته الصغيرة تجهل ما وقع من الحوادث في البيت، فارتعد خوفًا عليها، وخرج لها من الموضع الذي كان مختبئًا فيه، فصاحت لما رأته، وحيَّته، ومدت إليه يدها فلثمها بحنو وغمغم يقول: سيدتي.

فقالت له وهي ضاحكة: آه لو سمعت البواب، فهو يريد أن يمنعني من الدخول بحجة أن المسيو دي موري وزوجته غائبان الآن!

فقال المسيو دراك: بل أراد أن يعرفنا أولًا، وأنتِ المخطئة؛ لأنكِ منعتِنِي عن إخبار والديكِ برسالة برقية عن قدومكِ. قالت: أردت مفاجأتهما.

فأشار المسيو دراك إشارة إلى الخادم الهندي لكي لا تبدو منه بادرة فيطلع بوليت على الحقيقة، وإذا بالفتاة تصيح به قائلة: تكلم يا ملطار عن أبي وأمي، فكيف هما؟ حدثني عنهما معًا!

وأخذت تتخلَّص من ملابس السفر وهي لا تفتأ تتكلم.

فقالت للخادم الهندي توبِّخهُ: ألا تسألني عن العمة باسيليك يا ملطار؟ فقد تركتها مريضة في مرسيليا، ولكن لا بأس عليها … ولذلك صحبني المسيو دراك، فكان كريمًا معي، ولكن هنا أمر خطير، عليك يا ملطار أن تكتم نبأ وصولي عن والديَّ حتى يَرياني ها هنا.

أجاب: نعم يا سيدتي، فها أنا ذاهب! وذهب الخادم الأمين من المخدع مستعجلًا؛ لأن عبراته كادت تفضحه، وودَّ المسيو دراك أن يقتدي به؛ لأن تلك المهمة التي عهدت بها إليه العمة باسيليك لم تعجبه، وهي أن يخبر الابنة بالطلاق الذي وقع بين والديها، فقد يقتلها الخبر في مثل ذلك الوقت، وقد قطع المسافة بين مرسيليا وباريس ولم يجسر على مكاشفتها به حتى عزم أخيرًا على أن يوصلها إلى المنزل وينصرف تاركًا تلك المهمة للصدف تفعل ما تشاء.

فأتى بحركةٍ ليأخذ قبعته وينطلق، إلَّا أن بوليت لاحظته واستوقفته وقالت له: كيف تذهب بعدما اهتممت بي في مدة السفر، وخاطرت بروحك لأجلي، وأوصلتني إلى باريس؟ كيف تذهب دون أن تُمَكِّن والديَّ من شكرك؟

قال: ليس ما يوجب الشكر، فإنني فعلتُ ما فعلتُ دون تحمس أو تعب، أما الآن وقد وصلتِ إلى بيتكِ ولم يبقَ لكِ حاجة بي فإني أودعكِ.

فأمسكت ساعدهُ ونظرت إليه تتفرَّس في وجهه، وقالت له بدلال: كلَّا، لا تودعني؛ لأنك باقٍ هنا، ولا بد أن يرى والداي من صحبني في سفري الطويل، وأُنبئهما بحسن عنايتك ورعايتك وكرم خلقك حتى يؤدِّيَا لك واجب الشكر والثناء، ولا بد أن ترى كل أقاربي.

قال: أتعنين جدكِ الأميرال وجدتكِ؟ إنني لا أحب كثرة الأقرباء ولا قلتهم! فضحكت وقالت: كم عدد أقربائك؟ أجاب: أحمد الله على أنني قريب نفسي الوحيد!

قالت: إنني أرثي لك.

قال: أنتِ على ضلال؛ لأن الحب الذي كان ينبغي أن أوزعه على أقربائي أختص به وحدي دونهم، إذ إن شخصي هو عزيزي ووحيدي! فزاد ضحك بوليت، وقالت: كيف ذلك؟ أتحب شخصك إلى هذا الحد؟ أجاب: هذه خير وسيلة للإحسان إلى من يستحق الإحسان.

قالت: ولكن الحب يولي المرء سعادة.

أجاب: إني أدرى الناس بذلك؛ لأنني أُحبُّ نفسي حبًّا جمًّا.

– ألم تحب امرأة في ماضي عمرك؟

– ما كان ينقصني إلا هذا!

– أما أنا فلا أكتم عنك أنني أحب رجلًا.

وإذ ذاك صبغ الحياء وجهها بلون القرمز، فقالت: إنه خطبني إلى نفسي وأجبته بالقبول. فبدأ المسيو دراك يرتعد؛ لأن هذا الإنكليزي الشهم ودَّ أن يرجع الكونت دي موري سريعًا وينقذه من هذه الورطة.

فقالت الفتاة: سوف ترى ما في بيتنا هذا من سعادة وحب، ويا لله! ما أشد كلفي بهذا البيت العزيز الذي لم أره منذ ثمانية أعوام، إلا أنني أتذكر كل شيء فيه … واحكم بنفسك، فهنا إلى اليمين يوجد بهو صغير لا أزال أراه كأنني دخلته بالأمس؛ لأنه بهو والدتي الذي تفضِّله على سواه، وجدرانه وردية اللون، فتعالَ وانظر، تتحقَّق! ففتح المسيو دراك الباب الذي أشارت إليه، وقال: نعم هذا بهو صغير إلا أن جدرانه زرقاء لا وردية.

قالت: يا ليته بقي وردي اللون، فإنني كنت أحب أن يبقى على حاله.

قال: إن الألوان تتغير ككل شيء في العالم، حتى المبادئ والعواطف والأفكار والآراء والأميال، فلا تحزني …

قالت: هذا صحيح، ولكن لست أبالي به، ولكنك سترى أنني غير مخطئة، ففي هذا البهو الصغير إلى يسار الباب يوجد جدار عليه صورة كبيرة.

قال: صورة كبيرة؟

أجابت: نعم، صورة صبية حسناء لابسة ثوبًا من الحرير الأطلسي الأبيض، فهي أمي! فارتبك الشيخ إلا أنه قال: كلَّا يا ولدي، لا، لست أرى صورة.

قالت: ألا يوجد جدار عليه صورة؟

أجاب: أما الجدار فنعم، وأما الصورة فلا.

فأسرعت إلى باب البهو وصاحت: ذلك مستحيل!

ثم لما لم تجد صورة أمها وقفت وقالت: ماذا فعلوا بها؟!

وكانت تلك فرصة ينبغي انتهازها لإخبار الفتاة بواقع الأمر، إلا أن الإنكليزي لم يطاوعه قلبه على انتهاز تلك الفرصة، بل قال: لا جرم أن الصورة أصيبت بأضرار مدة غيابكِ الطويل فحُمِلَت إلى مكان آخر لإصلاحها. قالت: لا بد إذن أن يكون ذلك هو الواقع. ثم رأت صورة على موقدة فقالت: انظر إلى صورتي أنا منذ ثمانية أعوام وقد جيء بها من مندشوري.

وكانت قد عكفت على تقبيلها، ثم نظرت إليها وقالت: إني أقبِّل دموع والدتي.

فتأثَّر المستر دراك برغمه وأخذ يتنحنح ويسعل، فقالت له: إنك تأثَّرت لتَذَكُّرِي والدتي، فأنت طيب القلب يا مستر دراك.

فتظاهر بقسوة تمساح، وقال: أنا؟ وأيُّ شيء يؤثِّرُ فيَّ؟ وهل يعنيني أمر والدتكِ وأنا لا أعرفها؟ وكانت بوليت قد تعوَّدَت على خُلُقِ دراك فلم تحفل باحتجاجه، بل قالت: أين الكتب التي كانت على هذا الخوان؟ وما هذا المنديل؟ لا شك أن أمي نسيته ها هنا.

وأمسكت المنديل وقرَّبَتهُ إلى فمها لكنها سرعان ما رمت به في الحال، وقالت: ليست له الرائحة التي تعوَّدَتها أمي فما هذا بمنديلها، ولكن هنا حرفان عليه ليسا لها؛ لأنهما لا يدلَّان على اسمها.

ثم صاحت تقول: ربَّاه! ما هذا التغيُّر الحادث ها هنا؟ لا بد لي من معرفة السبب.

واتَّجهت إلى باب آخر للبهو، فقال لها المستر دراك: إلى أين تذهبين؟ أجابت: إلى غرفة والدتي؛ ففيها ولا شك أشياء تحدِّثني عنها، فانتظرني قليلًا يا مستر دراك، وخرجت مسرعة، فقال: وا رحمتاه لها، إنها سريعة الانفعال، ومن حسن حظي أنني لم أتزوَّج ولم أُرزَق أولادًا، فحياتي هادئة لا يعتريها أدنى اضطراب. ثم عادت بوليت وهي تترنَّح كأنها سكرى.

فقالت له بصوت المذبوح: إنني خائفة.

وتعلَّقَت بساعده، فقال لها: نعم، أنتِ ترتعدين، فلماذا؟

أجابت: إنني دخلت غرفة والدتي، فجاءت وصيفة لا أعرفها وقالت لي بخشونة: ماذا تفعلين؟ ومن أنتِ؟ فذكرتُ لها اسمي، فنظرت إليَّ مليًّا، ثم قالت لي بلهجة المستهزئة: أنتِ ابنة الكونت؟ فأرجو منكِ عذرًا. فأنكرتُ عليها قولها إنني ابنة الكونت، وكدتُ أقول لها إنني ابنة الكونتة أيضًا، لكنني استشعرتُ ألمًا، فاكتفيتُ بأن سرَّحت البصر حولي، فلاحَ لي أنني في غير غرفة والدتي، فصرختُ وهربتُ إلى هنا.

فبُهِتَ المستر دراك ولم يدرِ ما يقول لها. فصاحت تقول: هل تغيَّرَت أمي أيضًا؟ وهل تنكرني اليوم؟ ولكنني أسمع صوتًا … فأمي آتية … ووثبت إلى النافذة فرأت امرأة أبيها نازلة من المركبة، فقالت: ما هذه والدتي، آه يا مستر دراك! هذا أبي، وسأنتظر والدتي وأنا على صدر والدي.

وطلعت من باب البهو وإذا بالكونت دي موري مقبلٌ عليها، فضمَّها إلى صدره بلهفة، وجعل يقول: بوليت! بوليت! ابنتي العزيزة! وكانت تُقَبِّله، وتُكَرِّر قولها: يا أبي.

فتنهَّد المستر دراك وقال: هذه رفيقتي في السفر بين ساعدَي أبيها، فقد انتهت مهمتي، ويسرُّني انتهاؤها.

وإذا ببوليت قد تخلَّصَت من يدي أبيها وقالت: إنني ناكرة للجميل يا أبتِ؛ لأنني نسيتُ أن أُعّرِّفُكَ بالمسيو دراك، فهو صديق لنا، ولقينا أنا والعمة باسيليك، ومن كرم أخلاقه ما لا أستطيع وصفه، وقد صحبني وأوصلني وحدي إلى باريس. قال: وحدكِ؟ وكيف وقع ذلك؟ أجاب دراك: نعم أيها الكونت، أما أنا فأُدعى «إيليا دراك» وكنتُ في الهند الإنكليزية تاجرًا وقنصلًا نائبًا عن إيطاليا في كلكتا، أما اليوم فقد استقلتُ من منصبي وتركتُ تجارتي، وكانت شقيقتك مريضة في مرسيليا فعهدَت إليَّ بإيصال الآنسة بوليت حتى باريس … إلا أنها ستوضح لك ذلك كله، ولم يبقَ إلا أن أقول كلمة قبل ذهابي، ثم ألحق بأمتعتي إلى فندق اللوفر، واقترب إلى الكونت وهمسَ في أذنه يقول: حاذر يا مسيو دي موري، وتنبَّه جيدًا كيف تنبئ ابنتك بخبر انفصالك عن أمها، فنحن، أنا والعمة باسيليك، لم نتجرَّأ على نقل هذا الخبر السيئ إليها، فهي لا تزال جاهلة كل ما حدث، وصحتها ما زالت ضعيفة.

فكاد يقع الكونت، واصفرَّ وجهه وقال: وا حرباه! وهل أخبرها أنا؟

فانثنى المسيو دراك إلى الفتاة وقال لها: أودعكِ أيتها الآنسة، وقد سرَّني وشرَّفني تعرُّفي بكِ.

وتناول يدها وهزَّها بقوة، فقالت: أتمضي قبل إياب والدتي، وقبل أنْ أُعَرِّفَكَ بها؟

أجاب: لا بد من ذهابي يا بنيَّة. قالت: ولكنك تعود إلينا؟ قال: لا أدري؛ إذ لا بد من سفري إلى لندرة سريعًا … قالت: بل أريد أن تعود، وأن تعرِفكَ والدتي، فأقسم لي على أنك تعود. فأقسم لها، واستأذن ومضى وهو يقول: نعم أقسمتُ لها على أن أعود ولكنني لم أقل متى … ولا أعود حتى يسكن كل ثائر في هذا البيت، قاتلهم الله إني لستُ بحاجة إلى مرض القلب!

وبعد ذهاب المستر دراك ارتمى الكونت على مقعد، فمالت عليه بوليت تقبِّله، وتقول له: ما أسعدني بهذا اللقاء، اجتماعنا نحن الثلاثة بعد طول الفراق.

فخبَّأ وجهه بيديه وجرى دمعه على وجنتيه، فرُعِبَت الفتاة وقالت: لماذا تبكي؟ لماذا تعرض بوجهك عني؟ إلهي، إلهي، ماذا جرى؟

وركعت أمامه، فقال لها بلهجة اليائس الحزين: لا بد أن تعتصمي بالصبر والتعقُّل والشجاعة. قالت: ولكن لا أدري أي خطر أخشاهُ وأنا معك؟ ولا ألبث حتى أرى والدتي بقربك. قال: إنكِ لا ترين والدتكِ. قالت: فهل هي غائبة؟ ألا تعود الليلة؟ ما بالك لا تجيب؟ لقد فهمت الآن، فوالدتي مريضة في خطر الموت، بل ربما ماتت! …

وصرخت صرخة موجعة، فقال لها أبوها: كلَّا، لم تمُت والدتكِ، فاطمئني.

فجعلت يدها على فؤادها وقالت: ظننتُ أنني مشرفة على الموت.

قال: فاسمعي يا بنيَّة، لقد وقع خلاف خطير بيني وبين والدتكِ منذ وصولنا إلى باريس، فاضطررنا إلى الافتراق.

قالت: أواه، لماذا لم أكن حاضرة يوم وقوع ذلك الخلاف، إذن لما حدث ما حدث، أما الآن وقد وصلتُ فالخصام يزول، وما مضى قد فات، وأمي تعود إلى هنا فأضمها إلى صدري، ونجتمع على هناء. قال الكونت: ذلك لا يكون أبدًا، فبيني وبينها سور لا تستطيع قوة بشرية أن تجتازه، وإذ ذاك ظهر ملطار، فقال: جاءت مدام دي موري وهي مقبلة إلى هنا!

فتهلَّلَ وجه بوليت وقالت: إنك كذبتني لتجرِّبَني فوا فَرَحَاه! هذه أمي آتية فأهلًا وسهلًا بها! …

وسمعَت وقع خُطًى وصوت امرأة تُلقي بعض الأوامر، إلا أن الصوت كان مُبهمًا، فقالت بوليت: هل سمعت؟ هذه أمي!

فحاول أبوها إمساكها وناداها إلا أنها لم تلتفت إليه، فوثبت حتى الباب وإذ ذاك تزحزح عن الباب ستر وظهرت الكونتة دي موري، إلا أن بوليت لم تعرف هذه الكونتة؛ لأنها ليست ابنة الأميرال فيرمن دي لامارش، ولكنها كلوديا بلميري دوقة دي لوقا، أي: جرجونة.

فبهتت بوليت وقالت: عفوًا أيتها السيدة فإنني لم أفهم … وكنت أظن … وانثنت إلى الخادم ملطار وكان يتستَّر وراء الستر، فقالت له: أنت المخطئ يا ملطار؛ لأنك قلت إن مدام دي موري آتية.

فلبث جامدًا لا يحير جوابًا، فتقدَّمَت جرجونة وقالت: أظنكِ ابنة الكونت دي موري؟

فخفضت الفتاة رأسها. فقالت جرجونة: لا يحقُّ لكِ أن توبِّخي ملطار على ما قال؛ لأنه لم يقُل إلا حقًّا، وأنا الكونتة دي موري الآن.

فلم تفهم بوليت، وظنَّت أن تلك السيدة نسيبة لها تجهلها، ولاحظتها جرجونة، فقالت: نعم، أنا الكونتة دي موري، زوجة أبيكِ. قالت: أنتِ زوجة أبي!

وكان في صوتها معنى الاحتجاج والانذهال، ثم تقهقرَت وقالت: حذارِ يا أبي، فإن هذه المرأة مجنونة!

ولجأت إلى صدر أبيها خائفة، فقالت لها الكونتة بسكينة: لئن لم تكن قد أنبأت ابنتك بالحقيقة، فقد آن أوان إنبائها، ألست ترى أية إساءة أورثني إيَّاها جهلها؟ فقُل لها إنني زوجتك حقًّا.

فثارت بوليت وقالت: ألا تسمع يا أبي؟ إنها تجسُر على أن تدعو نفسها الكونتة دي موري وتدعوك زوجها! فأسكِت هذه المجنونة.

فطأطأ دي موري رأسه كمجرم يقرُّ بجريمته، وقال بصوت خافت: نعم، إنها زوجتي، وإنها الكونتة دي موري حقًّا.

فصاحت بوليت: إذن فما تكون أمي يا ترى؟

فلم يبقَ موضع للسكوت أو الكتمان أو المواربة؛ لأن كل كلمة في مثل ذلك الوقت تحاكي خنجرًا ذا حدين، فقال: لقد أخبرتُكِ يا ابنتي بالانفصال الذي وقع بيني وبين أمكِ، لكنني لم أطلعكِ على الحقيقة بتمامها؛ فقد قطع الطلاق كل صلة كانت بيني وبينها، وإذ ذاك تزوَّجْتُ السيدة التي ترينها أمامكِ، إذن فهي الكونتة دي موري حقًّا، أي زوجتي.

فانتصبَت قامة الفتاة وقالت: تقول الطلاق؟ فأيُّ ذنب جنيته عليها حتى تركت بيتك ونبذت اسمك؟

وهكذا بانَ إجلال الفتاة لأمها، واعتقادها بأنها تترفَّع عن كل عيب وسفالة، ولم يكن ذلك اعتقادها في أبيها وكأنها قامت تتهمه دونها، فأجابتها جرجونة قائلة: بل اسألي عن الذنب الذي اقترَفَتهُ أمكِ حتى طردها زوجها وطلَّقَها.

فصاحت بوليت: أنتِ كاذبة يا هذه، أنتِ كاذبة!

فغضبت جرجونة وهاج هائج كبريائها، فقالت: أتستقبلينني بهذه الإهانة حين كنتُ عازمة على الاحتفاء بكِ وإكرامكِ؟ إذن فاسمعي الحقيقة كاملة …

فاعترضها الكونت وقال: بحق السماء اسكتي يا كلوديا.

واقترب إلى زوجته وخاطبها همسًا، قال: أتوسَّل إليكِ أن تسكتي، فإنني لا أريد أن أعذِّب ابنتي بتحقير أمها.

ولم تسمع بوليت هذه الكلمات إلا أنها فهمتها، فانبرت للإيطالية تقول لها: ما بالكِ صامتة، تكلمي واذكري التهمة التي ترمين بها أمي.

قال الكونت: أما أنا فأطلب أن لا يُقال شيء بهذا المعنى، فعليكما بالسكوت معًا.

ثم دنا من بوليت وقال: اصغِي إليَّ يا ولدي، فليس للابنة أن تقضي بين والديها فتُبرِّئ أحدهما أو تحكم عليه، وما عليكِ إلا أن تحترمي والديكِ دون أن تسألي عما كان.

قالت: سمعًا وطاعة! وهمت بالانصراف، فقال لها: إلى أين؟ أجابت: إني لاحقة بأمي، قال: بل البثي فما تريدينه مُحال.

فرفعت رأسها وصاحت: إن ما تطلبه مني شديد عليَّ وقاسٍ، تقول لا تسألِي عما كان، فلا بأس، فلستُ أسألكَ شيئًا، ولكني أريد أن أعزِّي أشقى والديَّ وأتعسهما حظًّا، ولا يصعب عليَّ أن أعرِف أن أمي تستحق مني التعزية، وإنك متمتِّع بكل ما يسعد الرجل؛ لأن حولك ظواهر الرغد والرفاهية.

فدُهِش الكونت؛ لأنه يعهد ابنته حيِيَّة شديدة الحياء، أما الآن فرآها قد اتخذت سبيل الجرأة والانتقاد، وكاد يقول لابنته لا تغرك الظواهر يا بنيَّة، فأشقانا من لا يستخدم سلاحه، لكنه تجلَّد وقال لابنته: إن السلطة العليا قضت بأن أكون الوصي الشرعي الوحيد عليكِ.

قالت: وهل تقضي السلطة العليا على ذاكرتي، فأنسى فضل والدتي؟ هل نسيت أنت يا أبي هاتيك الأعوام التي مرَّت بنا وكلها إخلاص وشفقة وحنو وعطف من والدتي عليَّ؟ واذكر أيام كانت تسهر قرب فراشي إذ كنت مريضة مدنفة وما كابدته من رعبٍ ويأس حينما نزلت بي نوبات الحمى الهندية الخبيثة وكادت تخطف روحي، فأيُّ قدرة للطلاق حتى يصير الملك الحارس غريبًا عني؟ وهل تحسب أنها لم تعُد أُمِّي لمَّا لم تعد زوجتك أنت؟

قال: اصغي إليَّ يا بنيَّة؛ لا بد لكِ اليوم من إجلال قرار الحكومة، وغدًا تلقين جدكِ الأميرال وجدتكِ، وهما يريان ما يجب أن تفعليه، ولا أمنعكِ من الذهاب لتري والدتكِ إذا استصوبا ذلك، وكان هذا الوعد الكاذب مُسَكِّنًا هياج الفتاة.

هذا، وجرجونة ما برحت منزوية في البهو تسمع وتعجب بجرأة الفتاة، وقد نسي الوالد وابنته أنها معهما، وإذ ذاك أقبل زائر هو أنيبال بلميري فحيَّا بوليت، واتَّجه إلى أخته جرجونة فصافح يدها، فقالت له بصوتٍ منخفض: هذه ابنته. قال: أعلم ذلك وقد أتيتُ لأراها. قالت: فكيف تجدها؟ أجاب: إنها أجمل بكثير مما كنتُ أظن. قالت: فحاذِر منها إنها عدوة لنا. قال: مهلًا ولا تجزعني، فلا بد أن تغدو حليفةً لنا بعد اقتراني بها.

قالت: ألا تزال على هذا الجنون؟ أجاب: كيف لا؟

وفي أثناء هذه المحاورة جعل الكونت يشرح لابنته العلاقة التي بين أنيبال والكونتة إلى أن قال خافضًا صوته: حاولي إلا تُظهري عداوة من شأنها أن تثنيني عن وعدي الذي وعدت، ومهما يكن من أمر هؤلاء الذين أعرِّفُكِ بهم فاصبري وتجلَّدي.

قالت: سأفعل ما دمتُ لا أرى والدتي إلا بهذه الوسيلة.

ولولا أن كلوديا أتت بما أثار الفتاة لما حدث شيء مما وقع، ذلك أنها التفتت إلى أخيها وقالت له: إن الكونت قد عرَّفَكَ بابنته، ولئن رضيَتْ بوليت فإنني أدعوها ابنتنا. فصاحت بوليت: تقولين أنني ابنتكِ أنتِ! كلَّا أيتها السيدة، وإيَّاكِ والتلفُّظ بمثل هذه الكلمة عندما تُكلمينني؛ لأنني لا أجيبكِ.

فاصفرَّ وجه كلوديا. فقالت الفتاة: إن لي أمًّا واحدة أيتها السيدة، فلها وحدها احترامي وحبي. فقالت الكونتة لزوجها: هل ترضى بإهانة زوجتك ولا ذنب لها إلا أنها لقيت ابنتك التي تحبها باسطة لها ذراعيها متهيئة لإحلالها في صميم فؤادها؟

قال: لا بد من الوقوف عند حد في هذا الجدال الشاق، فاطمئني يا كلوديا، وسوف تكونين محترمة ها هنا كما تستحقِّين، ولكنني لسوء الحظ لا أستطيع أن أعدكِ عن ابنتي بأكثر من الاحترام، وأما أنتِ يا بوليت فادخلي مخدعكِ والبثي فيه منتظرة أوامري.

فرجعت بوليت دون أن تودِّع أباها. أما جرجونة فدخلت مخدعها أيضًا وهي ترتجف غضبًا وأَنَفَةً. أما أنيبال فدفع للكونت رسالة وقال: نسيت أن أعطيك إيَّاها وقد تسلَّمتها من ملطار حين دخولي.

فمزَّق الكونت الغلاف، وللحال اكفهرَّ وجهه، فقال له أنيبال: ماذا جرى؟ فدفع له الرسالة وقال: خذ واقرأ، إن المصرف الهندي المرسيلي قد توقَّف عن الدفع، وليس لديه شيء من المال، وأنت تعلم أن فيه أموالي التي كنت أنوي أن أدفعها لمساهمي منجم «ريونجرو»، فإفلاسي محقَّق!

فقال له أنيبال: عفوًا، فهل نسيت اقتراحي؟ وهل فاتك أنني راغب في مصاهرتك؟

فمدَّ إليه الكونت يده وقال: إني أشكرك ولا أنسى كلماتك الطيبة، ولكن ما حدث أمامك يدلك على أن تحقيق أمنيتك من الأمور المستحيلة.

قال: لماذا؟

قال: ألم تسمع ما قالته بوليت لأختك؟ وقد تنبَّأتُ عن هذا الكره قبلًا، فإن بوليت لا تحب المقيمين في هذا المنزل بدلًا من أمها …

أجاب: نعم، ولكن لا شك في أن البغضاء تتحوَّل إلى هوًى حينما تعلم ابنتك باليد التي أُسديها إليك في هذه الأحوال الحرجة، وحينما تتحقَّق أن مساعدتي لك تُبقِي على شرف اسمك، وهذا يكون بشرط الزواج قبل انقضاء شهر، أي قبل موعد انعقاد الجمعية العمومية لمنجم ريونجرو، ويومئذٍ أدفع للمساهمين المال الذي يبقي على شرفك.

قال الكونت: لا بأس، رضيتُ بهذه الصفقة، ولكنني لا أتقيَّد بوعد لا ترضى ابنتي بإنجازه. أجاب أنيبال: قد اتفقنا. فتصافح الرجلان وافترقا.

وفي ذلك المساء بعينه ذهب ملطار إلى فندق اللوفر، وبقي المسيو دراك، وكان ملطار مرتديًا بملابس هندية ما رآها عليه أحد من الباريسيين إلا ظنه أميرًا من أمراء الهند، فأجلَّ قدره خدم الفندق، وأدوا له تحيَّة الإكبار والإجلال، ولاحظ خطأهم إلا أنه لم يشأ تنبيههم إليه. فدخل خادم الفندق على الرجل الإنكليزي وقال له: إن «دولة الأمير ملطار» يروم مقابلتك يا سيدي.

فدُهِش دراك وقال: هل يوجد أمير يروم مقابلتي؟ وتقول إنه يُدعَى ملطار؟ إني أذكر هذا الاسم، ولكنني لا أتذكَّر صاحبه …

قال: إن دولة الأمير مرتدٍ بملابس هندية.

ففَطِن دراك للأمر وتبسَّم، وقال: ليدخل الأمير.

وبعد هُنيهة كان ملطار أمام دراك، فقال له: أأنت من يُدعى ملطار؟ قد عرفتك الآن، فأنت تخدم الكونت دي موري، فهل لديك ما تقوله لي؟ أجاب: نعم يا سيدي. قال: فهل أرسَلَتْكَ إليَّ الآنسة بوليت؟ وهل هي مريضة؟ أجاب: كلَّا، فما هي بمريضة.

فتنهَّد دراك، ثم قال: لستُ أدري لماذا سألتُكَ عنها وأنا لا أعرفها، فما هي أختي ولا ابنتي، ولا شأن لي معها؛ لأن معرفتي لها تبتدئ منذ أيام وقد انتهت الآن، وهل انقضى الأمر في المنزل على سلام بعد ذهابي؟ إني أشكر الآنسة بوليت على اهتمامها بإبلاغي ذلك.

قال الهندي: لستُ رسول الآنسة بوليت، والأمر في المنزل لم ينقضِ على سلام.

قال: يا للداهية! زدني بيانًا.

فحدَّثَهُ ملطار بما جرى في منزل الكونت دي موري إلى أن قال: إن سيدتي الصغيرة في أسوأ حال، إلا أن أمها أشقى حظًّا منها وأسوأ حالًا؛ فهي لا تدري أن ابنتها قد عادت، وأنها لا يؤذَن لها بأن تراها، فصاح المسيو دراك: أتقول إن بوليت لا تذهب لتُقَبِّل والدتها؟ ولكن هذا أمر فظيع؟ أجاب: نعم، هذا أمر فظيع، لا سيما وأن المسكينة تنتظر وصول ابنتها، وتعدُّ الدقائق والثواني، فماذا يقع لها إذا قلتُ لها إنها لن ترى ابنتها؟ إنها لعمري قد تموت جزعًا. قال: ولكن إذا لم ترها اليوم فلا بد أن تراها غدًا، ولا تموت جزعًا … قال ملطار: كلَّا، لا اليوم ولا غدًا ولا فيما بعد! قال: وكيف عرفت ذلك؟ أجاب: أن الفتاة استأذنَت أباها في الذهاب لتزور جَدَّها الأميرال فيرمين دي لامارش، آملة أن تجد أمها هناك، وكان يأذن لها إلا أن زوجته الكونتة الجديدة اعترضته ومنعته.

قال دراك بغضب: بأي حق؟ ولماذا؟

قال: إن الكونتة الجديدة قالت: إن الفتاة لا ينبغي أن ترى أمها إلا بعد أن تندم على مُخاشنتها لزوجة أبيها، وتعود إلى ما يجب عليها من الاحترام لها.

قال: وهل أعدتَ هذا الكلام على بوليت؟ وهل أتيت هذه الخشونة والقسوة وأنت تزعُم أنك تحب سيدتك الصغيرة؟ أجاب: سيدي أمرني فأطعتُ كارهًا.

قال: فهل بَكَتْ عندما نقلتَ إليها ذلك الكلام؟

أجاب: بل ضحكَت ضحكًا غريبًا، ثم ظهر عليها الغضب وصاحت تقول: إذن قُضِيَ عليَّ بأن لا أرى والدتي أبدًا، قضيَ عليَّ بأن أبتاع كل قبلة منها بسفالة ونذالة. فاذهب يا ملطار ولا تتعذَّب لأجلي، فلا بد من يوم يجيء فيؤذَن فيه لأمي بأن تراني؛ ذلك يوم وفاتي إذ تأتي فتلثم جبين ميِّتَة.

فلم يتمالك المسيو دراك أن قال: ويحك! ولماذا جئت تخبرني بكل ذلك؟ ألا تدري أن هذه الشئون لا تعنيني ولا علاقة لي بها؟

فأجابه ملطار بلطف: إنما جئتُ لأخبركَ بكل ذلك حتى تأتي معي إلى بيت أمها.

فوَثَبَ الإنكليزي وثبة مجنون، وقال: كلَّا، ذلك لا يكونُ أبدًا، فحسبي ما سمعتُ ورأيتُ من أسرة موري فما هو بقليل، وإني أفضِّلُ الموت على الاهتمام بهذه الأمور وأمثالها … ولكن ما عسى أن أفعل إذا ذهبتُ معك؟

وهذا شأن الرجل الإنكليزي الجافي الظاهر؛ فإنه يسخط أولًا ويأبى ويرفض المساعدة، ثم يتغلَّب عليه كرم الأخلاق فينصاع. فأجابه ملطار: تقول لوالدة الفتاة ما قلتُه لك، قال: وماذا يمنعكَ من أن تفعل ذلك أنت؟

أجاب: لا شيء سوى أنك يمكنك أن تقصَّ على الوالدة قصة سفرك مع ابنتها، فترتاح إلى سماع حديثك؛ لأن الفتاة كلمتك عن أمها كثيرًا.

قال: بلا شك، حتى أدركني الملل والضجر من ثرثرتها هذه التي لم تهمني، ولم تكتفِ بذلك بل أنبأتني عن كلفها بشابٍّ تنوي الاقتران به.

فذُعِرَ الهندي من هذا الاكتشاف وصاح: أحقًّا أن سيدتي الصغيرة تحب شابًّا وتنوي الاقتران به؟ أجاب: بلا شك، ولكن ما معنى هذا الاضطراب الذي نزل بك من مجرد سماعك بأنها تحب فتًى وتريد أن تتزوَّج به؟

أجاب: لأنني سمعتُ محادثة بين سيدي ورجل آخر علمتُ منها أن الكونت وعد الرجل بأن يعقد له على ابنته.

قال: هذا ما كان ينقص المسكينة، ومن ذلك الرجل؟

أجاب: إنه المسيو بلميري شقيق الزوجة الجديدة.

قال الإنكليزي: بلميري؟ إني أتذكَّر هذا الاسم، ولكن ما لنا وله. هيا بنا لنرى الكونتة دي موري.

فتناول ملطار طرف سترة الإنكليزي، وأخذ يلثمه علامة الشكر والامتنان، ثم ركب الرجلان مركبة، وقد أراد ملطار القعود قرب الحوذي إلا أن دراك قال له: هل نسيت أنك من أمراء الهنود؟

فلما وصلا إلى بيت لورانس، قال دراك: تصعد أنت أولًا وتنبئ بقدومي.

قال: بل اصعد معي وانتظرني في إيوان الدار فأدعوك عند الحاجة، ولما مثل ملطار بحضرة الكونتة قال لها: لديَّ أنباء جديدة عن سيدتي الصغيرة، فنهضت وجعلت يدها على فؤادها، ثم ارتمت على مقعد وقالت: الحمد لله، فأين هي الآن؟ ومتى تصل؟ قل لئلَّا تميتني بسكوتك. قال: وصلت السفينة إلى مرسيليا. قالت: هل وصلت اليوم؟ أجاب: لا، ولكن منذ يومين. قالت: إذن ابنتي تصل اليوم إلى باريس، أو هي قد وصلت اليوم فعلًا؟ ولعلها تنتظرني وراء هذا الباب، فتعالَ معي، وأنتِ يا ابنتي ادخلي لأضمُّكِ إلى صدري فإنه ما خفقَ إلا لكِ وبكِ.

وهجمت على الباب ففتحته قبل أن يتمكَّن ملطار من إيقافها، إلا أنها لم تلقَ إلَّا الرجل الإنكليزي دراك، ولم تكن تعرفه فارتدَّت خائبة، فتلقَّاها ملطار بقوله: اطمئني يا سيدتي، فالرجل الذي ترينه صديق أتى ليكلمكِ عن سيدتي الصغيرة؛ لأنه صديقها أيضًا، بل صديقها الوحيد معي.

قالت الأم بلطف: أأنت صديق ابنتي؟ وأتيت لتكلمني عنها أو لتوصلني إليها؟ ألا بارك الله فيك، وجزاك خيرًا.

وهنا لا يمكننا وصف ما جال في سريرة دراك، ولكننا نقول إن الغضب كان أشد ما تسلَّطَ عليه، غَضِبَ لأنه أحسَّ بالانفعال الشديد، ولأنه استشعر ضعفًا يخالف ما يريد أن يتَّصِفَ به من عدم المبالاة؛ لأنه بلغ الخامسة والخمسين وهو مجتنب كل ما يُقال له تأثر وانفعال، وهو فيما مضى من عمره أبى الاقتران بإحدى الأوانس؛ لأنه شعر بتعلُّقه بها، وأشفق أن يعاني من دلالها عليه ما لا طاقة له به، وهو لم يدخل ناديًا إلا ليطالع فيه جريدة التيمس أو ينام على أحد المقاعد، وكان عنده مرة كلب، فاتَّفَقَ أن داستهُ مركبة، فحلف على أن لا يقتني كلبًا لئلَّا يُفجَع به، وآلى على نفسه أن لا يحب إنسانًا ولا حيوانًا حرصًا على عواطفه الذاتية، واليوم قُضِيَ عليه أن يهتم بشئون الناس وهمومهم وأسرارهم، وذلك ليس في طبعه ولا خُلُقه ولا إرادته، فحنقَ على نفسه حنقًا شديدًا، إلا أنه لم يستطع رجوع القهقرى؛ لأنه كان طيب القلب رغم أنفه، فإنه أحسَّ بفؤاده يتفطَّر لما رأى تلك الأم الحزينة باكية، فأجلسها على مقعد، وكفكف عَبراتها بمنديله وقال لها: صبرًا أيتها السيدة العزيزة، فتجلَّدِي فابنتكِ حيَّة تُرزق وسوف ترينها.

فردَّت هذه الكلمات الكونتة إلى الصواب، وقالت: نعم، كلمني عن ابنتي يا سيدي، ولك الفضل الذي لا أنساهُ أبدًا.

وبدأت المحادثة الطويلة عن قدوم بوليت، ومرَّت الساعات سِراعًا، وكتم دراك عن لورانس أنها لن ترى ابنتها، وأن أباها عازم على أن يلقِي بها إلى ساعدَي أنيبال بلميري شقيق الكونتة الجديدة، ذلك ما كتمه عنها لئلَّا يزيد عذابها، وقبل أن يذهب استحلفتهُ على أن يعود إليها، فاضطر إلى القبول، ثم قال: أجيء قبل رحيلي عن باريس.

قال ملطار بقلق: متى ترتحِل يا سيدي؟ أجاب بعزيمة: غدًا.

وراع لورانس سرعة فقدها لذلك الصديق الجديد، فنظرت إليه نظرة تشفُّ عن توسُّل وابتِهال، فصاح: غدًا أو بعد غدٍ أو بعد أسبوع … لا أدرِي، لكنني سأسافر على كل حال بعد أن يطمئن قلبكِ، وبعد أن تقولي لي أنتِ مع عزيزتنا بوليت: إنكما لستما في حاجة إلى السير إيليا دراك فليذهب بسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤