الفصل السادس عشر

شنت ياقب

وهى بلدة سكانها ١٥ ألف نسمة، وكانت قاعدة مملكة جليقية. وكان لها الشأن الأول، فنزلت عن معاليها السالفة، ورجعت مركز مقاطعة، وكرسي رئاسة أساقفة. وفيها مدرسة جامعة بناها المطران فونسيكا سنة ١٥٣٢، وهى قديمًا وحديثًا مدينة أسبانية المقدسة، يحج إليها الأحامس في الدين الكاثوليكي من جميع أسبانية والبلدان المجاورة، وذلك لأنه يوجد حكاية متواترة عند الإسبانيول بأن أحد الحواريين وهو يعقوب بن زَبَدَة، قد ذهب إلى أسبانية، ونشر فيها العقيدة المسيحية، وهذه الحكاية لها رَضْخ يرجع إلى القرن الرابع للمسيح، إلا أنها بدأت ترسخ في أذهانهم في القرن السابع، ثم بمرور الأيام صارت هذه القصة تجر ذيولًا. منها: أن عظام الحواري يعقوب كانت مدفونة في ذلك المحل الذي استشهد فيه، ولم يكن أحد يهتدي إلى مكانها إلى أن كشفها المطران تدمير الإيري Tbeodemir D’lria فبنيت الكنيسة الحاضرة على القبر، وأما لفظة كومبوستالا، أي حقل النجمة، فقد قالوا فيها إنها جاءت من جهة أن المطران اهتدى إلى القبر بنجمة أضاءت له وقد فند دليل بديكر هذا القول، وذهب إلى أن الاسم سابق لقصة الحواريّ يعقوب، وكيف كان الأمر فالإسبانيول يعدون القديس يعقوب، دفين شنت ياقب، بزعمهم، حامي أسبانية وشفيعها، وبه كانوا يستغيثون في حروبهم مع المسلمين، وطالما رأوه بزعمهم متقلدًا سلاحه، يقاتل في صفوفهم، وأول من بنى على هذا القبر هو الأذفونش الأول، ولكن الكنيسة التي بناها هذا الأذفونش هدمها الغازي الكبير المنصور بن أبي عامر المعافري سنة ٩٩٧ للمسيح ثم جددوا بناءها، ومازالوا يزيدون في شنت ياقب الأديار والكنائس حتى أصبح فيها ٤٦ بيعة و٢٨٨ مذبحًا و١١٤ جرسًا و٣٦ رهبانية، وفى هذا ما يكفى لإثبات قدسيتها التامة عند الإسبانيول، وكونها لهم الحرم الأعظم.
وقد كان الابتداء ببناء الكنيسة العظمى سنة ١٠٧٨، ومازال الأساقفة يشتغلون ببنائها إلى سنة ١٢١١، ولها رتاج كبير، على جانبه برجان، ارتفاع الواحد منهما سبعون مترًا وفى أعلى الحائط تمثال للقديس يعقوب. وداخل الكنيسة له منظر مؤثر بكثرة الأساطين والمماشي والقباب، والمذبح الأعظم واقع على القبر، ويقال إن فيه خمسمائة كيلو جرام من الفضة، وفى محراب يعلو المذبح تمثال ليعقوب الحواريّ مزين بالفضة والذهب والحجارة الكريمة، وينزلون إلى القبر بدرج أمام المذبح الأكبر، وهناك مرقد يعقوب واثنين من رفاقه، وفى هذه الكنيسة قبور لا تكاد تحصى لأعاظم الإسبانيول وملوكهم مثل فرديناند الثاني، وأذفونش التاسع، ملك ليون، وامرأة أذفونش السادس، وامرأة بطرس الغاشم وغيرهم. وفيها تصاوير وتهاويل وتماثيل لأشهر المصورين والنحاتين. ولا يسع الكاتب أن يصف جميع ما في شنت ياقب من المعاهد الدينية، والآثار الفنية لكثرتها، وتنافس الملوك والأخبار في البذل والإنفاق عليها. أما غزوة المنصور بن أبي عامر لهذه البلدة فقد ذكر المقري في نفح الطيب ما يلي: ومن ذلك غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب، قاصية غليسية، وأعظم مشهد للنصارى في بلاد الأندلس، وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا، وللكعبة المثل الأعلى، فيها يحلفون، وإليها يحجون، من أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثني عشر، وكان أخصهم بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم يسمونه أخاه، للزومه إياه، وياقب بلسانهم: يعقوب، وكان أسقفًا يبيت المقدس، فجعل يستقري الأرضين، داعيًا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية. ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها، وله مائة وعشرون سنة شمسية، فاحتمل أصحابه رمته فدفنوها بهذه الكنيسة، التي كانت أقصى أثره، ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها. ولا الوصول إليها لصعوبة مداخلها، وخشونة مكانها، وبعد شقتها، فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة، يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وهى غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة «قورية»١ فلما وصل إلى مدينة غليسية، وإياه عدد عظيم من القوامس٢ المتمسكين بالطاعة في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم.
fig4
شكل ٢٢-١: كنيسة شنت ياقب المشهورة.
وكان المنصور تقدم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس من ساحل غرب الأندلس، وجهز برجاله البحريين، وصنوف المترجلين، وحمل الأقوات والأطعمة، والعدة والأسلحة، استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج لموضع برتقال، على نهر «دويرة» فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك، ووجه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند، فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدوّ، ثم نهض منه يريد شنت ياقب، فقطع أرضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار، وخلجان يمدها البحر الأخضر٣ ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارس وما يتصل بها، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعورة لا مسلك فيه ولا طريق، لم يهتد الأدلاء إلى سواه، فقدم المنصور الفعلة بالحديد. لتوسعة شعابه، وتسهيل مسالكه، فقطعه العسكر، وعبروا بعده وادي «مُنْية»٤ وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين، وانتهت مغيرتهم إلى دير فشان،٥ وبسيط بَلَنْبُه على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بيلايه، وغنموه وعبروا بساحته إلى جزيرة من البحر المحيط، لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي فسبوا من فيها ممن لجأ إليها، وانتهى العسكر إلى جبل مراسية،٦ المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط، فتخللوا أقطاره، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائمه، ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجًا في معبرين. أرشد الأدلاء إليهما. ثم إلى نهر آبلة، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة، كثيرة الفائدة، ثم انتهوا إلى موضع من مشاهد ياقب صاحب القبر، تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل، يقصد نساكهم له من أقاصي بلادهم، ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما، فغادره المسلمون قاعًا، وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان فوجدها المسلمون خالية من أهلها، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها وعفّوا آثارها، ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيمًا، كأن لم تغن بالأمس.
fig5
شكل ٢٢-٢: مدرسة الطب في شنت ياقب.

وانتسفت بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت الجيوش إلى مدينة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهى غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها قدم، فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال.

وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله،٧ فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون، يستقريه عائنًا، حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين، الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومر مجتازًا حتى خرج على حصن بيليقية من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم وكسا رجالهم، وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح من بيليقية، وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم، ومن حسن غناؤه من المسلمين، ألفين ومائتين وخمسًا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي، وواحدًا وعشرين كساء من صوف البحر، وكساءين عنبريين، وأحد عشر سقلاطونًا، وخمسة عشر مريشًا، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي ديباج رومي، وفروَىْ فنك.

ووافى جميع العسكر قرطبة غانمًا، وعظمت النعمة والمنة على المسلمين، ولم يجد بشنت ياقب إلا شيخًا من الرهبان جالسًا على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب فأمر بالكف عنه.ا.ﻫ.

fig6
شكل ٢٢-٣: الراهب الذي يؤنس يعقوب الحواري عندما وصل المنصور بن أبي عامر إلى شنت ياقب وفر جميع الرهبان.

هوامش

(١) Goria.
(٢) جمع قومس وهو كونت أو كند كما كان العرب يقولون في زمن الصليبيين.
(٣) المراد بالبحر الأخضر الأوقيانوس الأطلانتيكي.
(٤) لعلها Minho لأنه من أنهر ناحية شنت ياقب.
(٥) نظنها محرفة أو مصحفة وأن صحتها دير فنسان أو فيانست.
(٦) موراسيا إلى الشمال من اشبونة.
(٧) قال أبو جعفر الوقشي البلنسي نزيل مالقة، يحث على الجهاد في الأندلس:
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى
فأبصر شمل المشركين طريدا
وهل بعد يقضي في النصارى بنصرة
تغادرهم للمرهفات حصيدا؟
ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب
يعيد عميد الكافرين عمدا
ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل
فيتركهم فوق الصعيد هجودا
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحًا
ركوعًا على وجه الفلا وسجودا
ويفتك من أيدي الطغاة نواعمًا
تبدلن من نظم الحجول قيودا
وأقبلن في خشن المسوح وطالما
سحبن من الوشي الرقيق برودا
وغبرن منهن التراب ترائبًا
وخدد منهن الهجير خدودا
فحق لدمعي أن يفيض لأزرق
تملكها دعج النواظر سودا
ويا لهف نفسي من معاصم طفلة
تجاور بالقد الأليم نهودا
ويا أسفي من إن يزال مرددًا
على شمل أعياد أعيد بديدا
وآهًا بمد الصوت منتحبًا على
خلو ديار لو يكون مفيدا
وهي من قصيدة قالها الوقشي لأمير المؤمنين يوسف بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي مطلعها:
أبت غير ماء بالنخيل ورودا
وهامت به عذب الحمام برودا
وكان يوسف بن عبد المؤمن دخل الأندلس سنة ٥٦٦ وفى صحبته مائة ألف فارس من الموحدين ورجال المغرب وشرع يسترجع من بلاد المسلمين التي كان قد استولى عليها الإفرنج وأغارت سراياه على طليطلة قاعدة ملكهم ثم إنه حاصرها فاجتمع الإفرنج للدفاع عنها واشتد الغلاء في عسكره فقفل إلى المغرب ولكنه لم يقم بعده مثله ومثل أبيه في الجهاد ولكن جاءت في أواخر دولة الموحدين واقعة العقاب التي لم تقم بعدها للإسلام في الأندلس قائمة تحمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤