الفصل الحادي والأربعون

جيرونة أو جيرُوندة

هذه هي مركز إحدى المقاطعات الأربع، وهي اليوم مدينة صغيرة، سكانها بضعة عشر ألف نسمة، ولها تاريخ قديم، وفيها أبراج قديمة، عندما شاهدناها تذكرنا المدن العربية. وكان العرب قد استولوا عليها سنة ٧١٣، وكان يقال لها يومئذ جيرُنده، فسماها العرب بهذا الاسم. وما قيل لها جيرونة إلا فيما بعد. وفي سنة ٧٨٥، أي بعد أن بقيت في أيدي العرب اثنتين وثمانين سنة، جاءت جيوش شارلمان واستولوا عليها وعمروها، وإلى الآن يوجد عرب أصلهم من أهل جيرندة. وفي فاس حاضرة المغرب، عائلة يقال لها بنو الجيرندي. وقد رجعت جيرندة إلى الكتلان. بعد أن استولى عليها الفرنسيس. وكان يقال لقمط برشلونة برنس جيرندة، نظرًا لأهميتها، وطالما ذكرت في مغازي للعرب. وأشهر ما اشتهرت به المقاومة الشديدة التي أبدتها في وجه الفرنسيس سنة ١٨٠٩، فإن حامية قليلة العدد، تطوع لمساعدتها بعض الإنجليز، صدَّت جيشًا فرنسيًّا عدده ٣٥ ألفًا، مدة سبعة أشهر، ولم يتمكن الفرنسيس منها إلا بنفاد الذخيرة والميرة. وكان قائد الحامية «مريانوكسترو» قد مرض من شدة الإعياء ومات. وقد بلغت خسائر الفرنسيس على جيرُندة خمسة عشر ألف جندي.

fig47
شكل ٦٧-١: حديقة مونتجويك ببرشلونة.
fig48
شكل ٦٧-٢: قوس النصر ببرشلونة.
fig49
شكل ٦٧-٣: جبل قريب من برشلونة.
وموقع جيرندة بديع، يمر بها نهر يقال له «أونيار» Onar. وهذا النهر يجري إلى نهر آخر اسمه «تر» Ter ومن جيرُندة إلى باربينيان، التي هي من ضمن فرنسا نحو من ٦٨ كيلومترا. والحد الفاصل بين فرنسا وأسبانية هو على ٤١ كيلومترًا إلى الجنوب من باربينيان ويقال له عنق بليوشتر Belluistres وأول بلدة تستقبلك من أسبانية إذا جئتها من فرنسا تسمى بورت بو Port-Bou وهي مرسى على البحر. أهلها ثلاثة آلاف نسمة. والخط الحديدي يخترق هناك عدة أنفاق. وكلما أفاض القطاع من نفق انفتح أمامه، بين الجبل من جهة والبحر من جهة أخرى، مناظر تبقى صورتها في الخاطر. ثم إن الشرقي يتذكر هناك أنه صار إلى بلاد الشرق، فإنه يرى النواعير الدائرة على الحيوانات، ويشاهد الأشجار والنباتات التي يعهدها في بلاد الشرق. ومن «بورت بو» يتقدم الخط الحديدي إلى «لانسية» Liansa، ثم يمر بحصن «كارامانسو» Caramanso ثم بمعبر «بَرتس» Portus الذي يقال إن أنيبال عبر منه في زحفه إلى رومة سنة ٢١٨ قبل المسيح. ثم يدخل الخط الحديدي في سهل «امبوردان» الخصيب ويقطع وادي البريقات الأصغر. ووادي «موقة» Mugo ووادي «مانول». ووادي «فلوقية». ثم يصل إلى بلدة «فيغراس» Figueras. وهي قاعدة ناحية لمبوردان. وفيها حصن يقال له «سان فرنندو» ولهذه البلدة مرسى على البحر يقال له «روزاس» Rosas وهذه الناحية عمرها اليونان في القديم، وفيها من بقايا آثارهم الشيء الكثير.
ثم من امبوردان إلى جيرندة يمر القطاع في بلدة «فيلامَلاّ» Vilamalls وفيها برج قديم. وبعدها يمر ببلدة كاماليرا Camallera وهناك يقطع الخط نهر تير. ويمر ببلدة «سارَية» Sarria حتى يصل إلى جيرندة. وفي جيرندة كنائس عظيمة كما في سائر مدن أسبانية، والكنيسة الجامعة مبنية في مكان المسجد الجامع الذي كان في الأصل كنيسة. فلما أجلوا العرب عن جيرندة سنة ١٠٣٨ أعادوا الجامع كنيسة ولكنهم لبثوا يبنون، يزيدون ويزينون فيها مدة قرون متطاولة. وعدا هذه الكنيسة يوجد بيعة أخرى قديمة من القرن الرابع عشر يقال لها «سان فليو» Feleu وكنيسة غيرها اسمها «سان بتروه غلَّيكان» Galligans لها دير فيه متحف يشتمل على بقايا فينيقية ويونانية، وبين سان فليو وسان بتروه يوجد دير للكبوشيين فيه مسجد عربي قديم مثمن الشكل. وعلى مسافة ٥٠ كيلومترًا من جيرندة، توجد بلدة يقال لها «أولوت» Olot وبلدة أخرى يقال لها «كثلفوليت» Caslelifullit وهما مركز ناحية كلها براكين نيرانية منطفئة، واقعة بين نهري تر، وفلوفية. والذي يرجحه علماء الجيولوجية أن هذه الأطائم١ قد انطفأت من عهد متوغل في القدم، غير أنه لا يزال في تلك الأرض انبعاث روائح بركانية. وفي القرن الخامس عشر حصلت اضطرابات في تلك الأرض كما إنه في ٦ مايو سنة ١٩٠٢ حصلت رجفة قوية في بلدة أولوت، في الوقت الذي حصل مثلها في مدينة مرسية.
ويوجد فوهات يقال لها هناك بوفادورس Bufadors يضطر الأهالي إلى سدها، لأنه في فصل الصيف يخرج منها ريح بارد جاف مستكره جدًّا. ولما جرت زلزلة أولوت سنة ١٩٠٢ وجدت الفوهة التي في «غارينادا» بقرب أولوت مفتوحة، لأن الحركة الداخلية كانت شديدة بحيث إنها أسقطت تلك السدود. ويقال إنه في مقاطعة جيرندة مساحة الأراضي البركانية ١٩٦٨٦٠ كيلومترًا مربعًا، وهناك عدة فوهات بركانية معروفة بأسمائها، وبعض البراكين، مثل بركان غارينادا، له وحده ثلاث فوهات، كما أن بركان «بيزاروكاس» Bisarocas له فوهتان، وبركان «ادري» Adri له أربع فوهات.
ومما يذكر من آثار هذه البراكين التي في أرض جيرندة أن رماد بعضها يمتد على مسافة ١٥ كيلومترًا من الفوهة التي قذفت به. وتكثر في تلك الأرض المياه المعدنية، فتجد حمامات كثيرة منها حمام «فارنس» Farnes ومنها «بانيولاس» Banyolas وماؤه بارد، وبالقرب منه بحيرة لطيفة، فتقصد الناس إليه في أيام الصيف. وهذه البحيرة طولها ألفا متر، وعرضها ستمائة، وعمقها قد يبلغ ٥٣ مترًا.
ومن المدن المعروفة في تلك المقاطعة مدينة «فيك» Vich وهي بلدة قديمة، فيها متحف أثري يستحق النظر. ثم مدينة «ريبول» Ripoll وهي بحذاء الجبال في أعلى وادي «تر»، كان فيها قديمًا مراكز رهبانية عظيمة، ولذلك تجد فيها آثار الأديار الكثيرة التي أخنت عليها الحروب.
وأبدع شيء في كتلونية هو الساحل، فإن عليه قرى زاهية، لها محارث وزرائع متقنة، وبعضها مساكن لصيادي السمك، وعلى سيف البحر تكثر الأبراج، التي كانت في القديم محارس يتقون بها غارات أهل أفريقية فمن هذه القرى الساحلية «بادالونة» Badalona وهي بلدة رومانية قديمة. و«أوكاتا» Ocata وفيها برجان قديمان، و«مطارو» Mataro وهي بلدة صناعية فيها ميناء معمور، وكالديتاس Caldetas وفيها حمامات سخنة وآرنيس البحر Arenis، ولها موقع بديع، وكانيت البحر Canet وهي بلدة صغيرة، ذات صناعة، وزراعة، وملاحة، وصيد سمك، وسان فليو Feleu ولها مرسى، وتحيط بها بساتين البرتقال، وفيها كثير من شجر البلوط. وبالاموس Palamos ولها فرضة بحرية لطيفة، إلا أنها مفتوحة كثيرًا للريح الشرقية. وأما روزاس Rosas، وقد تقدم ذكرها، فهي مرسى عظيم مستدير، ترفأ إليه أكبر السفن، إلا أنه مفتوح للرياح الشرقية والجنوبية وهذه البلدة قد ورثت مرسى أميورياس الذي كان في الأعصر الغابرة أعظم مرسى في شرقي الجزيرة الأيبيرية، ومنه أبحر أنيبال القرطاجني إلى إيطالية غازيًا، وكذلك أبحر سيبيون الروماني قاصدا إلى أفريقية وكانت لأمبورياس أسوار هائلة، تداعت كلها، ولم يبق هناك إلا قرية حقيرة. ثم «سربيره» Cerbera، وبنيولس Banyuls، و«بورفندر» Port-Vendres و«كولبارا»، وكلها محاطة بالزياتين.

هوامش

(١) جمع أطيمة وهي في اللغة موقد النار وبعض الناس يظنون أن البركان الذي في صقلية واسمه «اتنة» Etna هو محرف عن أطيمة أو عن حطمة وهي الشديدة النيران وذلك لأن العرب سكنوا صقلية ثلاثة إلى أربعة قرون وتركوا فيها ألفاظًا كثيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤