الفصل الثاني والأربعون

تابع للوثائق التاريخية

التي تقدم لنا نقلها في أثناء البحث عن مملكة كتلونية

سبق لنا نشر عدة مراسلات سلطانية من ملوك بني الأحمر أصحاب غرناطة، إلى ملوك أراغون وكتلونية، وقد أخذنا هذه الكتب السلطانية عن مجموعة وثائق تقدمت هدية من بعض الهيئات الرسمية ببرشلونة عام ١٩٢٩، إلى الشهم الهمام، فقيد المغرب الحاج عبد السلام بنونة، تغمده الله برحمته، فلما علم أخوه الفاضل الحاج محمد العربي بنونة، حفظه الله، اشتغالنا بهذا الكتاب في أخبار الأندلس، استنسخ لنا من هذه المجموعة عدة كتب، وأهدانا إياها، وكتب إلينا في هذا الصدد ما يلي:

هذه مجموعة محتوية على تسعين ورقة فوتوغرافية سلبية، بعضها فيه معاهدات وبعضها فيه صور الكتابة التي على ظروفها، وبعضها فيه رسائل دارت بين ملوك بني الأحمر وملوك أراغون، والبعض الآخر بين هؤلاء وبين بني مرين ملوك المغرب١

وقد أكلت أصلها الأرَضة، إلى درجة يصعب معها استخراج كل ما فيها من الكتابات، وأنا لما كنت ألقي عليها نظرة سطحية، كان يتراءى لي سهولة نسخها، ولكن عندما جئت أنفذ الفكرة، وجدت الأمر غير ما ظننته، وبالرغم من ذلك فقد أمكننا استنساخ بعضها، وما زلت أقلِّبها علِّي أستطيع استخراج غير الصور الواصلة ولا سيما من القسم الخاص بالأندلس، لما فيه من المعاهدات، وأسماء السفراء، وتسوية الحدود، وغير ذلك مما له فائدة تاريخية.

أما قسم المغرب، وهو أكثر المجموعة، فغالبه رسائل ودادية، لا تخرج عن كونها تنبئنا بأن العلاقات بين ملوك أراغون وملوك بني مرين كانت حسنة (إلى أن قال): ولم يقدموا المجموعة للمرحوم أخي كاملة، لأن أرقامها غير مرتبة. ولست أدري هل ذلك مقصود منهم، أم من باب المصادفة؟ أقول هذا لأني أذكر أنني رأيت عدة ظهائر موجودة بهذه المجموعة عند المرحوم محمد بن الحسن ساسي، أحد الغواة بجمع الآثار بمدينة سلا، وأذكر أنها كانت واضحة الكتابة أكثر من هذه، وبها تعديد مثالب بعض الأمراء الأسبانيين رأيتها سنة ١٣٤٨، في آخر مرة زرت فيها المتعلقة السلطانية، أي قبل صدور الظهير البربري الذي منع دخولنا إلى تلك المنطقة ثم توفي ساسي إلى رحمة الله، ولست أدري ما صنع الله بمجموعته.» ا.ﻫ.

•••

كتاب من الأمير عبد الله محمد بن الأحمر، إلى سلطان أراغون، كُند برجلونة:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

ليعلم كل من يقف على هذا الكتاب، أنا الأمير عبد الله بن محمد ابن أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، وما إليها، وأمير المسلمين. ننعم٢ لكم أيها السلطان المعظم، دون جايم، ملك أراغون وبلنسية، ومرسية، وكند٣ برْجَلُونة، بأن نكون لكم صاحبًا وفيًّا، ويكون بيننا وبينكم صلح ثابت، وصحبة صادقة يكون فيها أصحابكم أصحابنا، وأعداؤكم، أهل قشتالة، أعداءنا، ونرفع الضرر والفساد عن بلادكم وأرضكم، من بلادنا وأرضنا، ولا نجعل سبيلًا لأحد من ناسنا، لا في البر ولا في البحر عليكم، وإن اتفق أن صدر لأحد أو لموضع من ناسكم وبلادكم ضرر من أحد ممن يرجع إلى حكمنا، فنحن ننصف منه بالحق الواجب، على أن تكونوا أنتم لنا كذلك، صاحبًا وفيًّا، كما ذكرتم في كتابكم، وتلتزموا لنا صحبة صادقة، وصلحًا ثابتًا، وتصاحبوا كل صاحب لنا، وتعادوا كل عدو لنا من المسلمين أو من أهل قشتالة، وترفعوا الضرر والفساد عن بلادنا كلها، وعن ناسنا في البر والبحر، وإن اتفق أن يرجع إلى طاعتنا بلد من بلاد العدوة، أو ناس من أهلها فيكون حكمهم في ذلك كحكم سائر بلادنا الأندلسية، ومتى صدر عن أحد من ناسكم أو من أهل بلادكم، ضرر لأحد من ناسنا أو من أهل بلادنا الأندلسية، أو التي تكون من بر العدوة، فعليكم أن تنصفوا منه في الوقت والحين، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعم لكم بأن يصل إلى بلادنا كل من يريد الوصول برسم التجارة من بلادكم، بما شاءوا من أنواع التجارات، ويسرّح لهم ما أرادوا من ذلك، ويكونوا مؤمّنين في نفسهم وأموالهم، على أن ينصفوا من الحقوق الواجبة على العادة، وينصفوا من حقوقهم الواجبة لهم في الدواوين على العادة، وعلى أن يكون أيضًا كل من يتوجه من بلادنا إلى بلادكم من التجار مؤمّنين في نفوسهم وأموالهم، ويسرّح لهم في بلادكم ما شاءوا من أنواع المتاجر، وينصفوا من الحقوق الواجبة على العادة، من غير إحداث زيادة، وينصفوا من حقوقهم الواجبة، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعّم لكم أن نعينكم على أهل قشتالة في نفاقهم معكم، وإن اتفق أن يجيء لكم إلى مرسية صاحب قشتالة الآن، أو مقدرته (كذا) فنعينكم بما نقدر عليه في ذلك الوقت، ولا نعمل معهم صلحًا ولا مهادنة، إلا برأيكم، وفي منفعتنا ومنفعتكم، وعلى أن تلتزموا أنتم بما نلتزمه نحن من النفاق٤ عليهم وشنِّ الغارات على أرضهم كلها، ولا تعملوا معهم صلحًا ولا مهادنة إلا برأينا، وفي منفعتكم ومنفعتنا، حتى تكون الحال واحدة في النفاق والاتفاق، وعلى أن تعينونا أنتم عليهم، متى احتجنا إلى إعانتكم بما تقدرون عليه، كما ذكرتم في كتابكم، وكذلك ننعم لكم أنه إن احتجتم إلى إعانتنا في أرض مرسية بفرسان من عندنا أن نعينكم بهم، على أن يُضمّوا في بلادكم (جملة أكلتها الأرضة) يعطوا المأكول والنفقة. من يوم خروجهم من أرضنا إلى يوم رجوعهم إليها، وتأمروا بأن تغرم لهم الدواب التي تموت لهم في خدمتكم، من يوم خروجهم من أرضنا إلى يوم رجوعهم إليها، وكذلك ننعم لكم أنه إن (جملة أكلتها الأرضة) مرسية أن نرده في الحين لكم، وإن كان من غيرها من بلاد قشتالة، لا اعتراض لكم فيه. وكل موضع يرجع لكم أنتم من رئاسة قشتالة، فلا اعتراض لنا نحن فيه، إلا أن يكون من المواضع التي هي لنا وهي طريف (جملة ذهبت بها الأرضة) وقشتال فإن اتفق أن ترجع هذه المواضع أو واحد منها إليكم فعليكم أن تردوها لنا في الحين، من غير تطويل ولا مطلب، وإن اتفق أيضًا أن ترجع هذه المواضع أو واحد منها إلى طاعة السلطان دون الفونش وأخيه الافّنت٥ دون فِراندَة، أن تقفوا معنا في تكميل الشروط التي بيننا وبينها، بشهادتكم عليها وضمانكم في ردها إلينا في الحين والوقت من غير تطويل ولا مطلب، وعلى أن تمنعوا أهل بلادكم من الدخول بالتجارة إلى أشبيلية وغيرها من بلاد أعدائنا، في البر والبحر وإن دخل أحد منهم إليها يكون حكمه حكم الأعداء الذين يكون معهم وأن يكون هذا كله ثابتًا، وتكونوا أنتم منه على يقين. أمرنا بكتب هذا الكتاب، وجعلنا عليه خط يدنا، وطابعنا، في آخر ربيع الآخر عام أحد وسبعمائة.
وكتب في التاريخ. ا.ﻫ.
وقد كتب إلينا الأديب الفاضل الحاج العربي بنونة في ذيل نسخة هذا الكتاب الملاحظات الآتية:
  • (١)

    الألفاظ التي نشكلها في هذه الرسالة هي مشكولة في الأصل، فأنا أنقلها لكم من غير تصرف حتى تعلموا كيف كان ينطق بها أهل ذلك العصر.

  • (٢)

    سطور هذه الرسالة أفقية تامة الاستواء.

  • (٣)

    نوع خطها من الشكل المصطلح على تسميته بالمجوهر، وهو خط مغربي مراكشي.

  • (٤)

    ينقط الكاتب الفاء بواحدة من أسفل، والقاف بواحدة من فوق، على القاعدة المغربية الجارية.

  • (٥)

    البياض الذي ترونه في هذه النسخة هو المحل الذي أتلفته الأرضة أو محاه قدم العهد وأنا أنقل إليكم الصورة من دون زيادة ولا نقص.

  • (٦)

    الكتاب من ناحية فن الخط آية في الإبداع مشكول كله، ونجده في المواضع التي نستعمل فيها نحن الفاصلة (،) أو علامة الانتهاء (.) يخالف قليلا البعد المناسب، وعوضًا عن أن ينزل الكاتب إلى السطر الثاني في ابتداء الكلام، كما هي العادة في هذا العصر، يكتفى بكتب الحرف الأول كبيرًا يتبعه بجرة في السطر طويلة جدًّا تنبيها للقارئ.

  • (٧)

    السلطان محمد هذا صاحب هذه المعاهدة هو محمد المخلوع بن محمد الفقيه بلا شك ولا ريب.

كتاب آخر:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى الكريم وعلى آله وسلم تسليمًا.

السلطان المعظم الملك المرفع، الأوفى المكرم المبرور المشكور الأخلص، ذون٦ جاقمي «ملك أراغون وبَلَنْسِيَةْ وسَرْدّانية، وقُرْسِغَة، وقُمط بُرجْلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم جانبه، وشاكر مقاصده في الوفاق ومذاهبه وحافظ عهده عملًا بواجبه، الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم من هدايته أوضحها، ومن عنايته المرشدة أسعدها وأنجحها من حمراء غرناطة، كلأها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، وجانبكم مبرور، وعهدكم بالوفاء محفوظ، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومنصبكم في ملوك النصرانية معلوم مشهور، وقد وصلنا كتابكم المكرم صحبة رسولكم إلينا، شِمُنْ دي طوبينَه، وصحبة راجلنا أبي علي حسن الفرّان، ووصل العقد الذي عقدتم على نفسكم وأرضكم، بالصلح الذي يكون فيه الخير لنا ولكم إن شاء الله، وقفنا على ذلك العقد، وحضر رسولكم به بين يدينا وأمضينا حكم الصلح، وكتبنا نظير ذلك العقد، ووجهناه إليكم، وألقى إلينا الواصلان المذكوران من قِبلكم، ما عندكم من الاغتباط بصحبتنا، والعزم على الوفاء بما عاهدتمونا عليه، والمقاصد الحسنة التي تليق بمثلكم من الملوك الأوفياء، فشكرنا ذلك لكم أكمل الشكر، وإذا اغتبطّتم بصحبتنا، وجريتم على منهاج الوفاء في حفظ عهدنا فعندنا من الاغتباط بصحبتكم والحفظ لعهدكم، ما يقتضيه حسن قصدكم، فثقوا منا بذلك أكمل الثقة، وكونوا منه على يقين، وسبيل مبين، والله يقضي الخير لنا ولكم، وهو سبحانه يصل إعزازكم بتقواه، ويحملكم على ما يحبه ويرضاه، ويوالي لكم أسباب عنايته، ويوضح لكم طريق هدايته، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا، كتب في يوم السبت السابع عشر لشهر ربيع الثاني عام أحد وعشرين وسبعمائة، عرّف الله خيره وبركته بمنه وفضله.ا.ﻫ. صح هذا.

•••

كتب إلينا الأخ بنونة في ذيل نسخة هذه الرسالة ما يلي:
  • (١)

    هذه الرسالة لم تعتد عليها الأرضة فهي واضحة جدًّا.

  • (٢)

    خطها من النوع المسند الظاهر وكلها مشكولة.

  • (٣)

    طريقة كتابتها فنية جميلة تبين لنا أسلوب الأندلسيين في تدبيج الرسائل في ذلك العصر، فترى السطر يبدأ مستويًا طويلًا، ثم ينتهي بالتواء طفيف لأعلى ويبدأ السطر الثاني أقصر من الأول، والثالث أقصر من الثاني، وهكذا حتى ينتهي الجميع في زاوية مربع، أو مستطيل الورقة السفلى. وكل سطر ينتهي بذلك الالتواء الجميل. فإذا وصل الكاتب إلى أسفل الورقة، نكّسها وبدأ الكتابة عكسية، من أسفل لأعلى، على الصورة نفسها. فيبدو الكتاب آية في الفن قد احتوى مثلثين متضادين مختلفي الأضلاع، وبسبب ذلك يأتي إمضاء الملك عقب التاريخ في آخر الرسالة، ولكنه في أعلاه بحسب الوضع، وهي طريقة أنسب وأدق ذوقًا من جعل الإمضاء قبل الرسالة، كما ترون في رسائل بعض الملوك.

  • (٤)

    رقم هذه الرسالة في المجموعة الأسبانية ١٣، بينما ترى تاريخها مقدمًا على تاريخ الرسالة رقم ١١. وهذا لا شك آت من سوء الترتيب.

  • (٥)
    اسم الملك المرسل إليه الكتاب نراه مختلف الصورة، ففي بعض الرسائل جاييم، وفي بعضها جقمي، وفي أخرى جاقمي. وأنتم تكتبونه «جقوم» (يريد أننا كتبتاه كذلك في مختصر تاريخ أسبانية ذيلًا على آخر بني سراج) والمراد بالجميع الملك خايمي Jaime. وكذلك نرى مثل هذا الاختلاف في لفظ كُندِي Conde فنجده في بعض الرسائل قمطا؛ وفي بعضها كندا، ومثل ذلك بعض الأعلام مما سيمر بكم كبرجلونة، وقُرسغة، بالقاف والغين وغيرهما، والكل مشكول، ظاهر الخط، مما يجعلنا نتعرف النطق به تمامًا، خصوصًا وأن هذه الوثائق التي ننتسخها خطية مكتوبة في ذلك العصر، ومشكولة وصادرة عن ديوان هو أحق من يتعرف الأسماء في عصره.

•••

كتاب آخر:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا.

السلطان الأجل، المرفع المكرم المعظم، الأوفى المشكور المبرور، الشهير الأوَدّ ذون جتمى، ملك أرغون وبلنسية، وسردانية، وقرسغة وقمط برجلونة، وصاحب هَنْجَليرة،٧ أعزه الله بطاعته، ويسّر له أسباب رضاه وكرامته. حافظ عهده، وشاكر مذهبه في الوفاء وقصده، ومكرم جانبه، ثقة بخلوص ودّه، الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الجزيل، والصنع الجميل، والحمد لله كثيرًا، وجانبكم مرفع مبرور، وقصدكم في السلاطين الجِلّة الأوفياء قصد مشكور، وقد وصلتنا كتبكم المبرورة، على يدي النصارى الذين وجهتم، وأنتم تقررون فيها حفظكم لعهدنا، وثباتكم على صلحنا، وتوفيتكم لما عقدنا معكم، وذلك هو الذي يليق بكم، ونحن لكم على مثل ذلك، من الوقوف على العهد، والحفظ للصلح، فكونوا من ذلك على يقين، وعرّفتم بما لكم من الطالب عندنا، فمنها ما طلبتموه منا على وجه الكرامة لجانبكم، وقضاء حاجتكم فنحن قد وفيناه على حسبما أردتم، إكرامًا لكم، وتوفية لقصدكم، على ما يقتضيه اعتقادنا فيكم، وقصدنا في قضاء أغراضكم، وعند وصول كتبكم أمرنا بسراح النصارى، الذين طلبتموهم على هذا الوجه، وهم برتلمين مرتين، الذي كان قديمًا في ملكنا، وهو يصلكم مع هذا الكتاب، والصبي الذي أُخذ في الأَبْركة، التي أقلعت من أشبيلية، مع أن أهل أشبيلية قد كانوا طلبوه، وزعموا أنه أُخذ في صلحهم فما أسعفنا لهم فيه قصدًا، لأجل الشكايات التي لنا قبلهم، ولكن لما وصل كتابكم في شأنه، أنعمنا بسراحه، وهو يصلكم مع هذا الكتاب، وأما جيله التي عرّفتم أنها أُخذت بقرية البسيط، فقد أمرنا أن يبالغ في البحث عنها وعن ولدها، فما وُجد لها خبر، ولكن البحث عنهما متصل، وعسى أن يوجدا ويوجها إليكم، وكذلك كان ولدكم الافانت ألرمون برنفيل، قد طلب أن يسرح له نصراني قديم الأسر عندنا اسمه برنفيل أرنَوه، فأنعمنا به، وسرحناه، وهو يصلكم أيضًا، ووفينا قصدكم في ذلك كله لمكان صحبتكم لنا، وصدق مصادقتكم، وكذلك سَرْكَهْ من الكرمن، لما وصل كتابكم في شأنه أنعمنا به، وأمرنا أن نحمله أرسالكم لكنه كان بحال مرض اشتد عليه فمات، وأما المطالب التي طلبتموها منا على غير هذا الوجه فما أُخذ لكم في الصلح فتعلمون أنتم أيها السلطان أن لنا بأرضكم حقوقًا كثيرة، ومطالب عدة، وقد كتبنا بها إليكم، ووجهنا مرة بعد مرة، ووعدتم بخلاصها، والإنصاف منها، فنحن ننتظر وصول المسلمين، وخلاص الشكايات، فإذا وصلوا، فنحن نسرّح لكم من عندنا في مقابلهم، فما عندنا إلا الحفظ لعهدكم، وتوكيد الصحبة معكم، وعرفتم أن ابن جندي أخذ ناسًا من بلادكم، وباعهم ببجاية وهذا الشخص ليس من أرضنا، ولا خدم بالأندلس قط، فلو أنه كان من أهل الأندلس لعملنا الواجب في أمره، ولعاقبناه أشد العقاب حفظًا لعهدنا كما هو الواجب والله يصل عزتكم بتقواه ويحملكم على ما فيه رضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا. كتب في التاسع والعشرين لذي الحجة عام أربعة وعشرين وسبعمائة. صح هذا.
ثم كتب في أسفل الورقة العنوان كما يأتي:

السلطان الأجل، المرفع الأوفى المشكور المبرور، المعظم الشهير الأود الأخلص ملك أرغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط بُرجُلونة، وصاحب هنجلير، ذون جقمي، أعزِّه الله بطاعته، ويسّر له أسباب رضاه وكرامته، بمنة.

وفي نفس هذا العنوان يظهر أثر الطابع المستدير الذي لم يبق منه إلا علامة الاستدارة، ثم ذكر لنا الأخ بنونة أن نوع الخط في هذه الرسالة بين المبسوط والمجوهر العادي وأن الأسطر غير مستقيمة، وغير مساوية، ثم قال: ورد في الرسالة لفظ الأبركة، وهي على ما يظهر جمع «بركو» Barco، بمعنى المركب، مما يدلنا على أنهم كانوا يستعملون بعض الألفاظ الأسبانية في لغتهم الكتابية. ومثلها لفظة «الافانت» بمعنى الأمير. وتدل هذه الرسالة وغيرها على أن مسلمي الأندلس كانوا يقرءون القرآن برواية ورش كالمغاربة، بل كانوا يكتبون حسب قواعد المصحف كثيرًا من الألفاظ، مثل النصرى فيحذفون الألف من الخط، ويثبتونها فوق السطر، وكذلك الآخر والأرض، ويحذفون منهما الهمزة، ويشكلّون اللام بالفتحة، وغير ذلك كثير.

رقم الرسالة ٢٣، ولكن يوجد رقم آخر داخل الورقة الأصلية ٧٧، مما يدل على أنها كانت مدرجة في مجموعة أولى ثم أُتلفت هذه المجموعة فرتبت ثانية، فنزل العدد إلى ٢٣، أو كان رقم ٧٧ راسمًا لها في خزانة الملك ذون جقمي. أما ظرف الرسالة فهو منها، إذ يظهر أثر الطي في الصورة وفيها كتب العنوان.

كتاب آخر:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه، أننا الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ورندة، والجزيرة، وأمير المسلمين لما وصلنا من قبلكم، أيها السلطان المعظم، الملك المرفع، الأوفى المكرم، المبرور المشكور، الأخلص ذون جقيمي، ملك أراغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقُمط بُرجُلونه، رسولكم إلينا الفارس المكرم، شمون دي طُبنية، بالعقد الذي عليه طابعكم، المعهود عنكم، الذي عقدتموه على نفسكم، بأنكم قد ثبتم معنا صحبة خالصة، ومصادقة صادقة، جددتم بها ما كان بينكم وبين أسلافنا، رضي الله عنهم، وعقدتم معنا صلحًا صحيحًا صريحًا، مبنيًّا على الصفاء والوفاء، أمضيتموه على نفسكم، وعلى جميع أهل أرضكم، من نصف شهر مايُو، الموافق للتاريخ إلى انقضاء خمسة أعوام، وظهر لنا منكم من الاغتباط بصحبتنا، ما أكد عندنا إجابتكم إلى هذا القصد، أنعمنا بموافقتكم ومصالحتكم، وأعطيناكم هذا المكتوب بأننا عقدنا معكم الصلح على نفسنا، وعلى جميع أهل أرض المسلمين، ببلاد الأندلس كلها، لانقضاء خمسة الأعوام المذكورة، صلحًا ثابتًا، محفوظ العهد، مؤكد العقد، وأمضينا معكم هذا الصلح إمضاء صحيحًا، لا يتعقَّب حكمه، ولا يتغير رسمه، تأمن به أرض المسلمين ببلاد الأندلس وأرضكم أمانًا تامًّا عامًّا، وينكفّ عنها الضرر من الجانبين، بطول مدة الصلح، برًّا وبحرًا، فلا يلحق أرضكم ولا ناسكم ولا أجفانكم ضرر من جهتنا بوجه، ولا على حال، كما أنه لا يلحق ناسنا، ولا جميع أرض المسلمين بالأندلس، ولا أجفاننا ضرر من جهتكم، ولا شيء يقدح في الوفاء، وعلى شروط تتفسَّر، فمنها أن يتردد كل من يريد التجارة من أهل بلادنا إلى بلادكم، آمنين في البر والبحر، في النفوس والأموال وجميع الأحوال، وأن يباح لهم بيع ما يريدون بيعه، وشراء ما يريدون شراءه، وإخراج ما يشترونه إلى بلادنا، وذلك على العموم في جميع الأشياء كلها إلا الخيل والسلاح، لا يستثنى غيرها، لا طعام ولا بغال، ولا سائر الدواب، ولا غير ذلك، ولا يزاد على أحد منهم في سوم شيء يشترونه، بل يباع منهم بسومه بذلك الموضع، ولا يزاد عليهم في مغرم مخزني على ما جرت به العوائد … بينكم وبين أسلافنا، ومثل ذلك يكون العمل مع من يتردد إلى بلادنا من أهل بلادكم. وعلينا وعليكم حفظ هؤلاء المترددين وحراستهم حيث حلّوا، ومنها أن تعادوا من يعادينا من أهل بلاد المسلمين … أحدًا منهم، ولا تضمُّوه، ولا تعينوا علينا عدوًّا كان من كان، وعلينا أن نعادي من يعاديكم من أهل أرضكم، ولا نضمه، ولا نقبله، ولا نعين عليكم عدوًّا لكم، كان من كان، ومنها أن تكون أجفاننا آمنة من أجفانكم، وناسكم لا … منهم ضرر، سواء كان فيها أهل بلادنا أو غيرهم، من المسلمين أو النصارى، فلا يتعرض لهم من جهتكم بوجه، وكذلك جميع مراسي بلادنا وسواحلها تكون آمنة من أجفانكم وناسكم سواء كان في مراسينا وسواحلنا عدو لكم أو صديق، لا يتعرض من جهتكم لمرسى من مراسينا، ولا لساحل من سواحلنا، وإن استوليتم على جفن من غير أجفان أهل بلادنا، أو استوليتم في البحر على طائفة من المسلمين، وكان فيهم أحد من أهل أرضنا، فتسرّحون من أخذتم من أهل أرض المسلمين ببلاد الأندلس بأموالهم في الحين، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا. ومنها أن لا تمنعوا من أراد الخروج إلى أرض المسلمين من المدجَّنين الساكنين بأرضكم بأهلهم وأولادهم، وأن يتاح لهم الوصول إلى أرضنا آمنين، مرفوعًا عنهم الاعتراض، من غير شيء يلزمهم، إلا المغرم المعتاد، على ما جرت به العادة، من غير زيادة على ذلك. انتهت الشروط، وعليها أعطيناكم عهدًا صحيحًا ثابتًا، والتزمنا الوفاء به لكم، ولجميع أهل أرضكم، فلا يزال محفوظًا إلى أقصى أمده، ما وفيتم لنا بما ذكر عنكم في هذا المكتوب، ونجعل الله شاهدًا بيننا وبينكم، والله خير الشاهدين. وقد تقيد نظير هذا بالعجمي في المكتوب الذي استقر عندنا، وعليه طابعكم، ولأن يكون هذا ثابتًا، وتكونوا منه على يقين، أمرنا بكتبه، وجعلنا عليه خط يدنا، وعقلنا عليه طابعنا، توثيقًا لحكمه، وذلك في السابع عشر لربيع الآخر عام أحد وعشرين وسبعمائة، وبموافقة السادس عشر من شهر مايو (صح هذا).

وكتب الأخ بنونة تحت هذا الكتاب الملاحظات التالية:
  • (١)
    يستعمل الكاتب لفظة مخزني نسبة إلى المخزن، أي الحكومة، مما يدل على أن هذا الاستعمال كان معروفًا بالأندلس، كما هو اليوم بالمغرب.٨
  • (٢)

    خط المعاهدة من النوع المبسوط الظاهر، وسطورها أفقية تامة الاستواء.

  • (٣)

    تأملوا قوله «المدجنين الساكنين بأرضكم» أليس معناه الأهالي المسلمين؟ ثم مما لا شك فيه أنه مترجم عن لفظة «أندخيناس» التي يطلقها اليوم الإسبانيول على الأهالي المغاربة. وأذكر أن الأخ المكي الناصري كتب عنها فصلًا قيمًا في مجلة السلام، أعطى فيه هذه اللفظة حقها، ولا نستطيع أن نفسّر اللفظة هنا بالمقيمين من دجن بمعنى أقام بالمكان، لأن لفظة «الساكنين» تفيد ذلك المعنى، فلا وجه لتفسيرها بها إلا بتكليف. ا.ﻫ.

قلنا إن المدجنين هم المسلمون الأندلسيون الذين عندما غلب النصارى على بلادهم لبثوا تحت حكم هؤلاء، ولم يختاروا الرحيل إلى بلاد الإسلام، كما رحل إخوانهم، وقد سمّوا بالمدجنين من دجن بالمكان بمعنى ألف الإقامة به، ومنه الحيوان الداجن، الذي يألف البيوت، ولا ينفر منها، كالحيوانات الأخرى الشاردة، وربما كان الحيوان برّيًّا، فإذا أمسكوه عوّدوه الدجن في البيت وانتهى بأن يستأنس ويألف. ووجه المناسبة ظاهر، وهو أنه عندما كان يتغلب النصارى على بلاد المسلمين من الأندلس كان أكثر أهلها يشردون نافرين، ويهاجرون منها إلى بلاد الإسلام، وقد كان يوجد فيهم من لا يتمكن من المهاجرة، أو من يعزّ عليه فراق وطنه، فيبقى تحت حكم النصارى، ويألف الخضوع لهم، فسمي هذا النوع من المسلمين مدجنين من باب التشبيه. وهكذا قرر المؤرخون والعارفون باشتقاق الألفاظ وجه هذه التسمية.

وكان هؤلاء المدجنون، وإن سكنوا في الأول تحت حكم النصارى يضطرون في الآخر إلى الرحيل منها، نظير الذين سبقوهم من إخوانهم، وذلك بسبب تفاقم الظلم والاضطهاد عليهم. فسلاطين غرناطة كانوا يتوسطون لدى سلاطين الأسبان حتى يسمحوا للمدجنين بالخروج إلى بلاد الإسلام، وبأخذ أموالهم معهم، وسبب هذا التوسط هو أن سلاطين النصارى لم يكونوا يسمحون دائمًا بهجرة المدجنين، وذلك لأن المدجنين كانوا يعملون في أراضي النصارى، وكانوا أهل جد ونشاط، وعلم بأصول الزراعة، وكانوا إذا خرجوا ماتت المزارع من بعدهم، وحرم النصارى خيراتها الدارّة. فطالما منع ملوك النصارى خروج المدجنين بهذا السبب، وكانوا إذا أراد بعضهم الخروج لا يسمحون لهم بأخذ أموالهم معهم، وذلك حتى يبقوا في أرضهم فيعمروها، ولكن بعد سقوط غرناطة، وإكراه النصارى للمدجنين على ترك دينهم صار هؤلاء يثورون في الأحايين، وتقع الوقائع، وكانوا يستصرخون إخوانهم مسلمي المغرب الأقصى والأوسط، وأتراك الجزائر، فكانت ترد إليهم نجدات، ويتسرّب سلاح، ويقاتلون ويستبسلون، فرأى ملوك النصارى أخيرًا أن لا نهاية لثورات هؤلاء.

وفي الآخر أحسّوا بأن المدجنين صاروا يستصرخون سلاطين آل عثمان، وكانت الدولة العثمانية حينئذ في إبّان قوتها فخاف ملوك أسبانية من تعرض الأسطول العثماني لسواحل أسبانية، وإثارة المدجنين، وإنزال عساكر تقاتل معهم، فأجمعوا طرد جميع المدجنين من جميع أسبانية، وأنفذوا هذا القرار بالرغم من احتجاج الكثيرين من نبلاء الإسبانيول، وأصحاب الأملاك فيهم، ممن كانوا يقولون إن خروج المدجنين من البلاد سيجعلها خرابًا.

وقد كان المدجنون عندما استولى النصارى على شمالي الأندلس وشرقيها ينزح منهم الكثيرون إلى مملكة غرناطة، حتى إن هذه المملكة امتلأت بالسكان، بسبب توارد المدجنين عليها من مرسية، وبلنسية وجيّان، وقرطبة، وأشبيلية، فضلًا عمن كان قد سبق رحيله إلى الجنوب من مسلمي سَرَقسْطة، ولاردة، ووشقة وتطيلة، وقلعة أيوب، وطليطلة، ووادي الحجارة، ومدينة سالم ومجرط، وغيرها. فسلطان غرناطة عبد الله إسماعيل بن فرج، يرجو في هذا الكتاب من الدون جنيمي ملك أراغون، ألا يضيّق على المسلمين الذين في مملكته في منعهم من الهجرة منها.

فهذا ما عندنا في قضية تاريخ المدجنين واشتقاق اسمهم، ولا نرى شيئًا من التعارض بين قول السلطان «المدجنين» وقوله «الساكنين» لأن اسم المدجنين صار أشبه باسم علم يطلق على المسلمين الذين تحت حكم النصارى، وصار يجوز وصفهم بالساكنين، ولا يحتاج ذلك إلى تأويل، فهو صفة لاسم، وسنأتي إن شاء الله في آخر هذا الكتاب على أخبار المدجنين في جزء خاص. وقد كان لهم عند الإفرنج اسم آخر وهو «الموريك»، كما أن الإسبانيول حرفوا لفظة «مدجّن» إلى «مدجَّر» ولما كان الأسبان يقلبون الجيم خاء صاروا يقولون «مدخَّر» وإلى اليوم يطلقون هذا الاسم على طرز البناء العربي فيقولون طرز قوطي، وطرز مدجَّر، كما يعلم كل من له ضراوة بتاريخ الأندلس.

•••

كتاب إلى الدون جيمي ملك أراغون من السيد عثمان بن إدريس بن عبد الله ابن عبد الحق رئيس جند غرناطة:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

الملك المعظم الشهير، الأرفع المشكور، الأوفى الخطير الكبير، الأوَدّ الأخلص، دون جَيْمي، صاحب بلنسية، وأراغون، وسردانية، وقرسغة، وقمط برشلونة، أعزه الله بتقواه، ويسره إلى ما يحبه الرب جل جلاله ويرضاه. شاكر خلوصه وصفائه، المثني على ثبوت عهده وصدق وفائه، عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، وبعد حمد الله رب العالمين، المنزه عن الصاحبة والولد والشريك والمعين، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد سيد الخلق، وخاتم النبيين، وعلى جميع أنبياء الله الكرام والمرسلين، والرضى عن الصحابة الأكرمين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، فإني كتبته لك أيها الملك المعظم، من حضرة غرناطة، حرسها الله ولا جديد بيُمن الله إلا ما يجدد إنعامه عز وجل وإحسانه، والحمد الله، وجانبك مبجل على الدوام والاتصال، وواجبك مكمل في كل الأحوال، والثناء على جميل ولاتك، وصدق وفائك، مردد في كل مقام ومقال، وإلى هذا فإن كتابك المرفع وصل إليّ مع رسولك شمون دي طوبينه، في شأن عقد الصلح بين مولانا السلطان، أيده الله ونصره، وبينك، وقد تخلصت العقود على أكل وجوه الاختيار، وحصل المقصود في تأمين البلاد والعباد، وكف الأضرار، وأنا على شكر وُدّك، وحفظ عهدك، حسبما يوجبه الاعتقاد الخالص الإعلان والإسرار، وقد بلغني ما وجهت لي من رسولك شمون، وجددت على ذلك شكر ودادك، وعلمت صحة خلوصك واعتقادك، وظني فيك أيها الملك المعظم، أن تفعل ذلك، وغرضي أتحقق أنه ينقضي ما طالت حياتك هنا لك، فوفاؤك معلوم، وقصدك في المودة مفهوم، وأنت الملك الذي لا يساويه أحد من ملوك النصَارى شرقًا وغربًا، ولك الوفاء الذي شُهر عند جميع الناس بعدًا وقربًا، وقد قلت لشمون في ذلك كلامًا يقرّ به بين يديك، ويلقيه إن شاء الله إليك، فصدّق ما يقوله، فعنده شرح ما عندي وتفصيله، والله يعزك بتقواه، وييسرك إلى ما يحبه الله ويرضاه، والسلام يراجع سلامك كثيرًا أثيرًا، كتب في الثامن عشر لشهر ربيع الآخر عام أحد وعشرين وسبعمائة.ا.ﻫ.

يقول الحاج محمد العربي بنونة: إن هذا الكتاب، ورقمه في المجموعة ١٤، ظاهر الخط واضحه، وهو من نوع المسند العادي، وإن إمضاء الوزير في وسط الكتاب، وإنه بقلم غير قلم الكاتب، وفيه لفظ عثمان بدون ألف بعد الميم، وكذلك لفظ النصارى بدون ألف بعد الصاد، وهو يخاطب ملك أراغون بكاف الخطاب المفردة، بخلاف سلطان غرناطة فإنه يخاطبه بالجمع. انتهى.

ونحن نقول إن الذي صدر عنه هذا الكتاب هو رئيس الجند المغربي في سلطنة غرناطة، وهو الذي قال عنه لسان الدين بن الخطيب في اللمحة البدرية: الشيخ الهمة،٩ لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، كان رئيس الجند في زمن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس، المكني بأبي الوليد.

وانظر إلى ما سبق لنا من الكتابة في شأن المرابطة بالأندلس، وذلك في خلاصة تاريخ الأندلس التي علقناها على رواية «آخر بني سراج» وهو ما يلي:

الفصل الخامس
في ذكر مشيخة المرابطين والغزاة من الإسلام والنصرانية

كانت الثغور منذ القديم مواطن الأمم المتناظرة، ومواقف الأقران من حماة الأقوام المتبارزة، وكماة الشعوب المتحاجزة، ومقامات صدق المجاهدين، ومظان النخوة الجائشة بالرءوس، للذب عن العرض والدين. ومنذ ظهرت دولة الإسلام، بما شرع فيها من الجهاد، لم تبرح مرابطة الثغور، ومحافظة الدروب، وبعوث الصوائف، من أركان الملة، وقواعد الدولة، وأعمدة سرادق الخلافة، يتنافس في الوفاء بها، والقيام عليها، الأطول يدًا، والأبعد همًّا، والأشد عزمة، والأنأى في المجد غاية، من خلائف الإسلام وسلاطينه، وأمراء التوحيد وأساطينه، ممن رفعوا في تعزيز الملة، وإجابة داعي الجنة، شأن الجهاد، ولم تزل آثار مساعيهم ظاهرة بهذه البقية من البلاد، فإن كان للإسلام لواء خافق فوق رءوس بنيه، فهو بقية ما عُقِدَ بأيدي الغزاة والمجاهدين، وإن كان تحت أقدامهم مواقع للامتناع، فهي نتيجة مواقع السيوف من رقاب المناهدين.

ولما كانت الجزيرة الأندلسية بموقعها من الاتصال ببر العدوة الأوربية والموازاة لبر العدوة المغربية غير منفصلة عنه إلا ببحر الزقاق، الذي يتراءى الساحل من ورائه، تعد ثغر الثغور بين البرين الكبيرين وموطن الرباط، ومعترك الثقاف من العنصرين العظيمين، استمر الجهاد فيها نيفًا وثمانمائة سنة، بين حماة الحنيفية والنصرانية منازعة الأرض بالشبر، فلما كان الإسلام هناك في عنجهيته، والعرب تترامى إلى الأندلس للاعتمار من جميع الأقطار، قد عصفت ريحهم بأمم الفرنج، وأجفلت هذه بين أيديهم، وانهزمت من أوجههم، وانتظمت في أثناء ذلك دولة بني أمية في ذلك الصقع أعظم ما كان العرب نضارة، وأكمل عزًّا، وأبعد في العدو مغارًا، مضت على الإسلام في الأندلس ثلاثة قرون، كَنَّتْ فيها نفسها مئونة الجهاد، وقامت وحدها في وجه العدو الذي كان قد انضم بعد التخاذل، واستمسك بعد الاسترسال، إلى أن انقرض حبل الخلافة المروانية، وتشعبت الكلمة، وصار الأمر إلى ملوك الطوائف فاستأسد الفرنج، واقتحموا ثغور المسلمين، وأجلوهم عن كثير من القواعد والضواحي، فاستصرخ هؤلاء إخوانهم من وراء البحر، بحسب الانقطاع في تلك الجزيرة، فوافاهم مدد المرابطين من بني لمتونة، واستجاش يوسف بن تاشفين المغرب، فرمى إليه بأفلاذ أكباده من زناتة وضهاجة وغيرها، وأجاز إلى الأندلس بجحافله، فرد عادية النصارى، واسترجع كثيرًا من القواعد، ولم يلبث أن تأذن الله بانقراض أمد تلك الدولة، وقيام دولة الموحدين بني عبد المؤمن، فاقتدوا بسلفهم في الجهاد، وأجازوا إلى الأندلس على ظمأ من أهلها لنجدتهم، فصدموا تقدم العدو، وفلّوا غربه، ولم يسعد الإسلام الحظ بطول انتظامهم، وامتداد التئامهم، فخامر دولتهم الضعف واستولى عليها الانقسام وظهر في عقبها الفشل، وجاءت وقعة العقاب، لعهد الناصر من أمرائهم، الطامة الكبرى على الإسلام، فلم تقم له بعدها قائمة تحمد فيما وراء البحر، وانجلى أهله أمام العدو المتقدم إلى سيف البحر. وحشروا في مملكة ابن نصر الذي ضم شملهم في غرناطة وجوارها. ورأى المسلمون أن الأمر كاد يفلت من أيديهم، وإن منزلهم هناك أصبح قُلْمة،١٠ وأن زيالهم لتلك الديار أضحى قريب الأجل كما يستدل على ذلك من كلام علمائهم وشعرائهم، كقول أبي البقاء الرندي:
قواعدُكنّ أركان البلادِ فما
عسى البقاء إذا لم تَبق أركان

وكقول غيره من قبله:

حثّوا رواحِلَكم يا أهل أندلس
فما المقامُ بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيـرة منسولًا من الوسط
وقول لسان الدين بن الخطيب وزير غرناطة الكبير، من جملة نصيحته لأولاده:

ومن رزق منكم مالًا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للذلة والاحتقار، وساعيًا لنفسه، إن تغلب العدو على بلدة، في الافتضاح والاحتقار، ومعوقًا عن الانتقال أمام النوب الثقال.

ولما ضعفت حامية الأندلس بعد ذهاب بني عبد المؤمن، وضاقت مسالك المسلمين في الجزيرة، وتسامع بذلك أهل المغرب، نفروا للجهاد، وسابق إلى ذلك الأمير أبو زكريا بن أبي حفص، صاحب إفريقية (أي مملكة تونس) فأمدّهم بالمال والرجال، وأعطوه بيعتهم. ولما قامت دولة بني مرين، واستفحل أمر يعقوب بن عبد الحق، واستبد بسلطنة المغرب، وكان عظيم الاستعداد في نفسه لإحراز تلك المثوبة وبلوغ هاتيك الرتبة، وأهمه شأن ابن أخيه إدريس بن عبد الحق، لما وقع بينهما من المنافسة، واستأذنه عامر بن إدريس في الجهاد، اغتنم هذه الفرصة، وعقد له على ثلاثة آلاف من مطوعة زناتة، وأجاز معه رحو ابن عمه ابن عبد الله بن عبد الحق. فكان لهم في الأندلس مقام كريم في الجهاد. ثم صارت الإجازة والجهاد شأن ذوي القرابة من ملوك المغرب المنافسين في الملك، والمزاحمين في الدولة، اغتنامًا للأجر والذكر. وتوسلًا إلى قطع أسباب المنافسة بالغربة والانقطاع. وهؤلاء مثل أبناء أعمام الملوك من بني مرين، الملقبين بالأعياص. ومثل عبد الملك يغمراسن ابن زيَان، وعامر بن منديل بن عبد الرحمن، وزيان محمد بن عبد القوي، فامتلأت الأندلس بأقيال زناتة وأعياصهم (إلى أن أقول):

ولما انتزى أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر علي ابن عمه صاحب غرناطة، كان شيخ زناتة بمالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس من آل عبد الحق، فانتصر به أبو الوليد على ابن عمه، ولما استتب له الأمر عقد له على الغزاة من زناتة، وصرف عن تلك الرئاسة عثمان بن عبد الحق بن عثمان، فلحق بوادي آش مع السلطان أبي الجيوش، وصار حمو بن عبد الحق بن رحو من عملة عثمان بن أبي العلاء إدريس، بعد أن كانت الرئاسة له. وبَعُدَ صيت ابن أبي العلاء، واستفحل أمره، وعلت رايته، وأتاح الله للمسلمين من النصر على يده، ما لم يتوقعوه، ولما مات أبو الوليد سلطان غرناطة، وبويع ابنه صبيًّا، لنظر الوزير بن المحروق، استبد عليه ابن أبي العلاء شيخ الغزاة، فوقعت الفتنة بينه وبين الوزير، ونصب الوزير له كفئًا من ذوي قرباه، يحيى بن عمر بن رحوم، وارتحل عثمان، وبقي إلى أن استبد بالأمر السلطان محمد بن الأحمر، ونكب ابن المحروق، فاسْتُدْعِيَ عثمان ثانية لمشيخة المجاهدين، ومات لسبع وثلاثين سنة من إمارته عليهم وكان مكتوبًا على قبره هكذا: «هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال والكماة، واحد الجلالة، لبث الأقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، إمام الصفوف، القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، قاسم الأعادي، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام المجاهد الأرضَى، البطل الباسل الأمضى، المقدس المرحوم، أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل، الهمام الكبير الأصيل، الشهير المقدس المرحوم، أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانيًا وثمانين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة.» ا.ﻫ.

فأنت ترى لماذا يخاطب هذا الرجل ملك أراغون بالكاف بينما يكون سلطان غرناطة نفسه مخاطبًا له بالجمع، فإن أبا سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق هو من بني مرين، ملوك المغرب، وهو شيخ الغزاة بالأندلس، وقد عمَّر ثمانيًا وثمانين سنة، وغزا سبعمائة وثلاثين غزوة، وبهذا كفاية ليخاطب الملوك بكاف المفرد.

•••

كتاب آخر من سلطان غرناطة إلى نائب ملك أراغون بأَريُولة:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

من الأمير عبد الله إسماعيل بن فرج بن نصر، أيد الله أمره، وأعز نصره، إلى النائب عن السلطان ملك أراغون بأرْيُولَة، الأجل المكرم، المبرور المشكور الأخلص، بيره جيل قَرَإلط، وصل الله عزه بتقواه، ويسّره لما يحبه الله ويرضاه، كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، والبر بكم والـ … والشكر لمقاصدكم، في الوفاء ومذاهبكم، وإلى هذا فإنه بلغنا … ضرر من جهة المسلمين … أمر لا تعتقدوه فينا بوجه، فإننا لا نبدأ بنقض ما عاهدنا، ولا بحل ما عقدنا، وكونوا من ذلك على يقين، وما عهد السلطان ذُونْ جَقميِ عندنا إلا أثبت العهود وأحكمها، وقد عرفتم …. أننا لم نطلق الغارة على أرض ولد مَنْوَل إلا عن نكايات كثيرة صدرت لنا منها، وبقينا نطلب منه الإنصاف من أزيد من عام، ووجهنا إليه رسولًا إلى قشْتالة، فما أنصفنا أحد، ولا رأينا خلاصًا، فحينئذ انتصرنا لناسنا، حسبما هو الواجب علينا. وأما السلطان ذون جقمي فما صدر لنا منه إلا الوفاء، ولا يصدر له منا إلا ما صدر لنا منه من الوفاء بعهده والحفظ لبلاده، فلا تشكّوا في ذلك، فاعلموه والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، وييسركم لما يحبه ويرضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا. وكتب في يوم الاثنين الرابع عشر لشهر ربيع الآخر من عام أربعة وعشرين وسبعمائة (صح هذا).

وقد كتب إلينا الأخ بنونة تحت نسخة هذا المكتوب ما يلي:
  • (١)

    في نفس الصحيفة مكتوبة ترجمة هذا الكتاب بالأسبانية بخط جميل جدًّا والأسطر مستقيمة الأفق أكثر من أسطر الكتاب العربي.

  • (٢)

    الترجمة الأسبانية مؤرخة في ١٤ ربيع الثاني عام ٧٢٤ مثل الأصل، ولكن فيها زيادة على الأصل هذه الجملة «الموافق من الشهر العجمي وهو ١٢ مارس ١٣٢٤».

  • (٣)

    إمضاء الملك في هذه الرسالة «صح هذا» وهو مكتوب بنفس القلم الذي كتب به الكاتب الرسالة السلطانية، بينما الإمضاء في كتب أخرى غيرها مكتوب بقلم آخر غليظ.

  • (٤)

    البياض الذي ترونه في هذه الرسالة هو أثر المحو أو العثّة.

  • (٥)

    نوع الخط في هذه الرسالة بين النوع المبسوط والنوع المجوهر، أما نقط الفاء والقاف فهو دائمًا على الطريقة المغربية.

  • (٦)

    الخطوط الأفقية التي ترونها تحت بعض الأعلام قد وضعتها بقصد تنبيهكم إلى أنها في الأصل مشكولة كذلك. أما اسم نائب ملك أراغون وهو الذي خوطب بهذه الرسالة فلم أستطع قراءته فصورته كما هو فيها.

  • (٧)
    لفظة دون Don التي معناها السيد كتبت في الرسالة رقم ٣ بالدال المهملة وهي في هذه بالذال المعجمة، ولعلهم جعلوا الذال مكان الدال لأن «الدون» في العربي معناه الخسيس، وأما «الذون» فلا يدل في العربي على شيء. ومثل هذا حصل في أيامنا فقد تبدلنا الضاد بالدال المهملة فصرنا نكتب في الرسائل وغيرها «ضون» بدلا من دون، تفاديًا من جرح العواطف.

•••

كتاب آخر:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون جَقْمي، سلطان بلنسية، وقُمط بُرجَلُونة، وصاحب قرسغة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، مكرم مملكته، وشاكر ما أظهر من مودته، المحافظ على عهده، ورعى صحبته، الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة معلوم مشكور، ومحلكم في ملوك النصرانية المحل المعروف المشهور، وإلى هذا فقد وصل كتابكم المكرم، على يدي رسولكم إلينا، جوان أنريق، وقد حضر بين يدينا هو ورفيقه جقمى، من قلعة أيوب، وقررَا عندنا من محبتكم في صحبتنا، وقصدكم الجميل في حفظ عهد مولانا الوالد، قدّس الله روحه، ما شكرناه لكم، وعلمنا أنه الذي يليق بمثلكم من الملوك الأوفياء، ووصلنا المكتوب الذي وجهتم بتجديد الصلح الذي كان بين والدنا وبينكم لخمسة أعوام من الآن، وقد جددناه نحن على حسب ما اقتضاه مكتوبكم، والعقد يصلكم صحبة هذا، ونحن على أولنا في حفظ عهدكم، والاغتباط بصحبتكم، والوفاء بما عقدناه معكم، وقد وجهنا إليكم صحبة رسوليكم أربعة من النصارى من أرضكم، فقصدنا منكم أيها السلطان أن توجهوا إلينا المسلمين الذين أخذتهم أجفانكم في سلوة،١١ ثم بيعوا بميورقة، وتعملوا في ذلك ما يقتضيه وفاؤكم الصادق، ونحن قد أمرنا أن يبحث عما أُخذ من أرضكم من النصارى في الصلح، ويعمل في ذلك ما هو الواجب، ومما نعرفكم به أنه في هذه الأشهر السالفة أخذ عمر بطرُه أفرد (كذا) من سكان أريوله شَبطيًّا١٢ في المدور، وأخذ بطرف الغبطة اثنا عشر شخصًا من أهل المرية، فنريد منكم أيها السلطان أن يعز عليكم هذا الحال، وتعملوا فيه ما يعمله سلطان مثلكم، وتوجهوا إلينا هؤلاء المسلمين، وتأمروا رجالكم بكف الضرر عن أرضنا، على المعلوم من وفائكم، وحفظكم للعهد، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، وييسركم لما يرضاه. والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا. وكتب في الحادي عشر لجمادى الآخرة عام ستة وعشرين وسبعمائة (صح هذا).

وكتب هنا ما يأتي:

جواب السلطان — ثم كتب في الورقة نفسها ما يأتي:

السلطان الأجل، المرفع المكرم، المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون جقمى سلطان بلنسية، وقمط برجلونة، وصاحب قرسغة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه.

(رقم هذا الكتاب في المجموعة ٢٦)
كتاب آخر رقمه في المجموعة ٢٧:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى الكريم وعلى آله وسلم تسليمًا.

ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه أننا الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ورندة، والجزيرة الخضراء ووادي آش، وأمير المسلمين، لما وصلنا من قبلكم أيها السلطان المعظم، الملك المبرور، الوفي المشكور، المرفع الأخلص، دون جقمى، ملك أراغون وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونة، رسولكم المكرم جوان انريق، الذي وجهتموه إلينا بكتابكم، وبالعقد الذي عقدتموه على نفسكم، وجعلتم عليه طابعكم المعهود عنكم بأنكم قد جددتم معنا الصحبة التي كانت بين والدنا رحمه الله وبينكم، وعقدتم معنا صلحًا مبنيًّا على الصفاء والوفاء لخمسة أعوام أولها نصف شهر مايُه. الموافق للتاريخ أدناه. أن جددنا معكم الصلح والصحبة، على الفصول التي انعقدت بين والدنا وبينكم، وأمضينا حكمه على نفسنا، وجميع أهل بلادنا، إمضاء صحيحًا لا ينقض له حكم، ولا يغير له رسم، إلى انقضاء أمده المحدود، يشمل حكمه البر والبحر على شروط تتفسّر: فمنها أن تتردد أجفاننا إلى سواحكم وأجفانكم إلى سواحلنا، وناسنا إلى أرضكم، وناسكم إلى أرضنا، آمنين برًّا وبحرًا، في نفوسهم وأموالهم، وجميع أحوالهم، محفوظين محروسين حيثما حلّوا، وأينما ساروا، لا يلحقهم ضرر بوجه من الوجوه، في بر ولا بحر، في سر ولا جهر، ويباح لهم البيع والشراء، في جميع الأشياء، بسوقها المعتاد هنالك، وإخراج ما يشترونه من إحدى الجهتين إلى أخرى، من غير شيء يلزمهم في ذلك، إلا ما جرت به العادة، في الحقوق المخزنية، على العادة في الصلح المتقدم، من غير زيادة. ما عدا الأمور التي جرت العادة أن يمنع خروجها من إحدى الجهتين إلى أخرى. ومنها لا تتطرق أجفاننا لأجفانكم، ولا أجفانكم لأجفاننا، في بحر ولا مرسى، كان فيها من كان من عدو أو صديق، وإن استوليتم على جفن من أجفان١٣ المسلمين أو النصارى من غير أجفاننا، وكان في ذلك الجفن أحد من أهل أرضنا، أو استوليتم على طائفة المسلمين، وكان فيهم أحد من أهل أرضنا، فتسرّحون (كذا) من أخذتم من أهل أرضنا بأموالهم في الحين، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أن تتعرضوا لمرسى من مراسينا كان فيها من كان من عدو أو صديق، ولا تتطرقوا بضرر لما في مراسينا، وسواحل بلادنا، وبحارها من الأجفان، كانت لمن كانت من المسلمين أو النصارى، ومن أي جهة كانت لا سبيل لأجفانكم عليها بوجه، ولا على حال، مدة هذا الصلح إلى انقضائها، وأن لا تعينوا علينا عدوًّا من المسلمين ولا النصارى في بر ولا بحر، بوجه من وجوه الإعانة، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أنه إن هرب من أرضنا أحد خرج عن طاعتنا فلا تضموه ولا تسرّحوا له قوتًا ولا شيئًا من الأشياء ولا تعينوا علينا أحدًا على خالص الأحوال، ومثل ذلك يكون العمل معكم من جهتنا، ومنها أن لا تمنعوا المسلمين المدجنين الساكنين بأرضكم من الخروج بأموالهم وعيالهم وأولادهم، من غير أن يُتعسف عليهم في شيء ولا أن يُطلب منهم مغرم إلا ما جرت به العوائد في مثله، من غير زيادة. وعلى هذه الشروط أعطيناكم عهدنا ثابتًا صحيحًا، والتزمنا الوفاء به إلى أقصى أمده، ما وفيتم لنا بما اقتضاه هذا المكتوب من الفصول وجعلنا الله شاهدًا بيننا وبينكم، والله خير الشاهدين، ولأن تكونوا منه على صحة ويقين أمرنا بكتب هذا الكتاب، وجعلنا عليه خط يدنا وطابعنا، شاهدًا علينا، في أواسط شهر جمادى الآخرة عام ستة وعشرين وسبعمائة (جملة لم تمكن قراءتها) إلى انقضائها صح في تاريخه المؤرخ به. (صح هذا).

•••

ثم علَّق على هذا الكتاب الأخ بنونة بما يلي:

إن فصول المعاهدة متبادلة بين الملكين إلا الفصل الأخير فإنه لا مقابل له، فهل مملكة الأمير محمد بن الأحمر هذا لم يكن بها أناس من النصارى؟ أو هل كانوا بها ولكنهم كانوا راضين عن حكم المسلمين لا يطلبون السكنى بأرض ملوك ملتهم؟ وهل وقع هذا النقص في المعاهدة عن سهو من الكاتب، أو عن عمد من الملك؟ هذه أسئلة ترد ولكني لم أستطع الجواب عنها فأريد رأيكم، والله يطيل عمركم. ثم لا يعزب عنكم أن هذه المعاهدة على ما يظهر من صدرها، ومن الكتاب المرفق بها، هي ترجمة للعقد الذي أتى به جوان انريق، فهل جقمى نفسه يتبرع بتسريح المسلمين المدجنين من غير أن يحتفظ للنصارى المدجنين بمثل هذا التصريح من قبل محمد بن إسماعيل؟ لعل في الأمر سرًّا لم أفهمه. ا.ﻫ.

ونحن نجيب على هذا السؤال جوابًا بغاية البساطة وهو:

إن المسلمين المدجنين في ممالك النصارى لم يكونوا خرجوا من بلادهم بعد استيلاء النصارى عليها كما خرج إخوانهم إلا بسبب العجز عن السفر، ولم يلبثوا في تلك الأرض إلا انتظارًا لأول فرصة يتمكنون فيها من الخروج منها، إلا أن النصارى كانوا يمنعونهم من الخروج استغلالًا لهم، واستفادة من عملهم ونشاطهم، فكانوا معهم في حكم الأرقاء، فلم يكن من مصلحة النصارى أن يخلوا منهم الديار والأراضي. وكان يوجد في أسبانية مثل سائر: حيث لا يوجد مدجنون لا يوجد غلة. فلا عجب بعد ذلك من أن نرى النصارى مانعين للمسلمين الباقين بين أظهرهم من أن يتركوا مزارعهم، ويخرجوا إلى بلاد الإسلام، فكان المسلمون المدجنون يئنون من هذا الضغط الواقع عليهم، ومن حالة الرق التي كانوا فيها، وكانوا يشتكون من وقت إلى آخر إلى ملوك الإسلام، طالبين إليهم أن يتوسطوا لدى ملوك النصارى في تركهم يخرجون إلى بلاد الإسلام، وما سمح فيليب الثاني ملك أسبانية، ولا هنري الرابع ملك فرنسا، بخروج المدجنين من بلدانهم إلا بعد إنذار السلطان أحمد العثماني، فلا عجب إذن في توسط سلطان غرناطة لدى سلطان أراغون في قضية الإذن للمدجنين بالخروج إلى بلاد الإسلام بأموالهم متى أرادوا.

فتقولون لماذا لم يطلب سلطان أراغون إلى سلطان غرناطة الإذن للنصارى بالخروج من بلاده؟ فالجواب على ذلك أن النصارى الذين كانوا في غرناطة وملحقاتها لم يكونوا تحت الضغط، ولا كانوا متعبدين، حتى يطلبوا الخروج منها، بل كانوا يؤثرون بلاد الإسلام على بلاد النصارى، وبالإجمال إذا استقرأ الإنسان التاريخ يجد النصارى مؤثرين العيش في بلاد المسلمين، ولا يحبون تركها، إلا فيما ندر لأسباب خاصة، وإن المسلمين الذين استولى النصارى على بلادهم كانوا يخرجون منها بأجمعهم ولم يكن يبقى فيها إلا من لا يستطيع إلى الخروج سبيلًا. نعم في هذين القرنين الأخيرين عندما استولت أوروبا على كثير من ممالك الإسلام التي أهلوها يحصون بعشرات الملايين، لم يكن لهم سبيل إلى الخروج منها، لأنه لا يوجد بلدان تسعهم فيرحلون إليها. ولأنهم لم يقطعوا الأمل من أن يرحل الأجنبي عنها.

•••

كتاب آخر

من سلطان غرناطة إلى سلطان أراغون

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسول الله المصطفى الكريم وعلى (بياض المحو)

ليعلم من يقف على هذا الكتاب ويسمعه أننا الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلطان غرناطة، ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إليها، وأمير المسلمين، لما وقفنا على عقد الصلح الذي أمضاه علينا محل والدنا السلطان الأوحد المعظم، أبو الحسن أمير المسلمين١٤ ملك الغرب، أيده الله، مع السلطان المرفع، ملك قشتالة، ذون الُهُنشه ومن مضمنه أنكم أيها السلطان المعظم، المرفع المبرور المشكور، الأوفى الأخلص، ذون الهنشُهْ،١٥ ملك أراغون، وسلطان بلنسية، وسردانّية، وقمط برجلونة، إن أردتم إمضاء … والدخول فيه، فإنه يمضي حكمه معكم، كما أمضى مع ملك قشتالة، وأردنا نحن أن نثبت هذا الصلح معكم، خصوصًا بما عندنا من الاعتقاد في وفائكم، والقصد الجميل في تجديد الصحبة التي كانت بين أسلافنا وأسلافكم، ودار بيننا وبينكم المكاتبة في ذلك، اقتضى نظرنا أن وجهنا رسولنا الحظي لدينا. القائد الأجل الأعز، الأرفع الأمجد، أبا الحسن بن كماشة. أعزه الله، نائبًا عنا في تثبيت ذلك الصلح معكم. وتوكيد حكمه. على حسب شروطه وربوطه المذكورة. التي انعقد عليها الصلح بحضرة فاس، حرسها الله، في عقده المؤرخ في شهر جمادى الآخرة من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. المتضمن إمضاء … لأربعة أعوام، أولها شهر مارس القريب لتاريخه، فوصلنا رسولنا منكم بمكتوب عنكم، عليه طابعكم المعهود منكم، مضمنه أنكم قد رضيتم بالدخول في الصلح المذكور معنا على شروطه المذكورة في عقده، لانقضاء أمده وارتبطتم إليه، والتزمتم حكمه عنكم وعن أولادكم وإخوتكم ورغمائكم، وفرسانكم ورعيتكم، في البر والبحر، بالوفاء الخالص في السر والجهر، وأنكم قد جددتم مع رسولينا (كذا) المذكور … وبما أعطيناهما (كذا) من المقر أمرنا نحن بكتب هذا المكتوب بأننا قد التزمنا لكم الوفاء بذلك الصلح، على حسب فصوله، وإلى آخر أمده، بنية صادقة، وصفاء طوية في السر والجهر، وأعطيناكم عهد الله وميثاقه، على الوفاء به. إلى أقصى أمده برًّا وبحرًا عن نفسنا وعن قوادنا وخدامنا، وجميع أهل مملكتنا، لا تنقض له حكمًا، ولا نغير له رسمًا، ولأن يكون هذا ثابتًا، وتكونوا منه على صحة ويقين، جعلنا عليه خط يدنا وعلقنا عليه طابعنا، شاهدًا علينا. والله خير الشاهدين، وكتب في أواخر شهر ذي القعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة عرّف الله تعالى خيره وبركته، بمنّه وجوده، وطوله فيه (على بشر١٦ التي انعقد عليها الصلح بحضرة فاس حرسها الله صحيح منه وفي تاريخه). (صح هذا).

•••

وقد كتب تحت هذا المكتوب الحاج محمد العربي بنونه ما يلي:

الذي وضعناه بين هلالين لم نفهم معناه تمامًا، وهو بالأصل ظاهر مشكول تام الحروف. ثم يقول لنا: هذه الرسالة من روائع ما كتبته يد خطاط. قد بلغت الغاية في حسن الخط، ونوع خطها هو المسمى عندنا بالمغرب المبسوط، وهو يشبه النسخي عندكم بالمشرق. ثم يقول لنا: الهنشه هذا هو الفونس الحادي عشر Alfonso Xl ملك قشتالة وليون، تولى من سنة ١٣١٢، وقتل بجبل طارق سنة ١٣٥٠، وهو الذي تعاهد مع ملك البرتغال، وحارب معه جيوش الأندلس والمغرب، وهزمهم قرب مدينة طريف، وقد شرحتم ذلك في كتابكم خلاصة تاريخ الأندلس صفحة ١٤٢. وشرحه أيضًا الناصري في كتاب الاستقصاء صفحة ٦٦ من الجزء الثاني. ا.ﻫ.

قلت: أما الذي كتبته في خلاصة تاريخ الأندلس حسبما قال الفاضل الحاج محمد العربي بنونة فهو هذا: وفي سنة ٧٣١ توفي أبو سعيد المريني، وقام بالأمر بعده ولي عهده الأمير أبو الحسن، وكان من أجل سلاطين الإسلام، فاشتغل مدة بإطفاء فتن مملكته، ولما خلص له المغرب وجه عنايته إلى الجهاد، وسمت نفسه إلى حال جده أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، وكان الإسبانيول، بما طرأ على المغرب من الفرقة والاختلال وشجر بين المسلمين، دون التواني لنصرة بعضهم بعضًا، قد تغلبوا على كثير من حصونهم. ونازلوهم في عقر دارهم غرناطة، وضربوا الجزية على أبي الوليد، فأدّاها عن يد الذل، فاعتزم أبو الحسن الجهاد، وجهز الأساطيل، وسرّح بالجيش ابنه الأمير أبا مالك، فغزا أرض العدو، وأثخن وغنم، وجمع له العدو فأشير عليه بالخروج من دار الحرب اعتصامًا، فأبى إباؤه، وأقام بأرضه، فأدركوا عسكره وهم في مضاجعهم، وقُتل أبو مالك قبل أن يستوي على جواده، وتسلم الإسبانيول أكثر قومه، وغنموا ما معهم. ووصل النعي أبا الحسن والده، ففت في عضده، وتفجع، وأعمل في النفير للجهاد، والأخذ بالثأر، واستدعى الأساطيل من مراسي العدوة، وأنجده الموحدون من تونس بأسطول بجاية، عليه زيد بن فرحون. قائد البحر. ووافاه أسطول طرابلس وقابس وجربة. واجتمعت كلها بسبتة. معقودًا عليها لمحمد ابن العزفي. وزحفت إلى أساطيل الإفرنج. فتحاجزت وتناجزت. وأهبَّ الله ريح النصر من جهة بني مرين، فخالطوا سفن الإفرنج. واستلحموا مقاتلتها وقتلوا قائدهم الملند، وعادوا بالسفن مجنوبة إلى مرفأ سبتة. وطيف بالرءوس، وجلس السلطان للتهنئة. وكان يومًا مشهودًا.

ثم أخذ يجيز العساكر إلى الأندلس، وأجاز على أثرها ختام سنة ٧٤٠، وخيّم بساحة طريف، ووافاه سلطان غرناطة بغزاة زناتة، وجنود الأندلس وشددوا الحصار على طريف، وجاء الإسبانيول بأسطول عظيم، حالوا به بين العدوتين، وامتنع البلد ففنيت الأقوات، واختلت أحوال المعسكر، وتكاثرت جموع الإسبانيول، وأصرخهم صاحب لشبونة البرتغال، فجاء بقومه ودخلوا البلد ليلًا على حين غفلة، وكمنوا في مكان. وفي الغد تزاحف الجمعان فبرز الجيش الكمين من البلد، وخالفوا إلى معسكر السلطان وعمدوا إلى فسطاطه، فدافعهم الحراس، فقتلوهم، وفتكوا بحظايا السلطان، عائشة بنت عمه، وفاطمة بنت السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية، وغيرهما وسلبوا الفسطاط وأحرقوا المعسكر، فلما رأى المسلمون ما حل وراءهم بالمعسكر اختل مصافهم، وأُخذ ابن السلطان أسيرًا لمخالطته العدو في تقدمه، وانحاز أبو الحسن مع فئة من أبطاله فدافع ونجا ووصل الطاغية إلى محلة السلطان، فأنكر على قومه قتل النساء والأولاد. وانهزم ابن الأحمر إلى حمرائه، وخلص أبو الحسن إلى الجزيرة، فجبل طارق، ومنها إلى سبتة، وكانت وقعة مشئومة على المسلمين، عظم فيها البلاء، وفدحت الرزيئة، وجل الخطب.

وقد بالغ بعض مؤرخي الإفرنج في تقدير خسائر المسلمين، فزعم بعضهم أنه قتل منهم مائتا ألف. وأن خسائر الإسبانيول كانت نحوًا من عشرين قتيلًا فقط، وهذا أشبه بقول بعض مؤرخي الإسلام إن خسائر الإفرنج في وقعة الدون بتره بلغت خمسين ألفًا، ولم يستشهد من المسلمين إلا ثلاثة عشر فارسًا، وقيل عشرة فقط مما يدل على تأخر فن النقد في تلك الأعصار، وقبول الأخبار على علاتها بدون عرضها على العقل، ولا سبرها بمعيار الحكمة والنظر، على أن هاتين الوقعتين تتشابهان في قضية أسر نساء الملوك، ففي الأولى أسرت امرأة الطاغية حسب قول العرب، وفي الثانية أسرت بعض نساء السلطان أبي الحسن، عدا من قتل منهن.

وبعد هذه الوقعة اشتدت وطأة الإسبانيول على المسلمين وطمعوا في التهام بقية الأندلس، ونازلوا قلعة بني سعيد، وأخذوها بعد حصار شديد، فأعاد أبو الحسن بن مرين الكرة، وجهّز الأساطيل، وسرَّب البعوث إلى الجزيرة الخضراء، وتلاقت الأساطيل الإسلامية بالأساطيل النصرانية، فقضي بهزيمة المسلمين، وملك أسطول الطاغية بحر الزقاق، وسمالة شوق إلى استخلاص الأندلس، فبعث النفير، ووافته النجدات وحضرت الأوامر من البابا بوجوب القيام يدًا واحدة لطرد مسلمي الأندلس وانضم إلى الفونس ملك قشتالة كثير من الملوك، ووافاه من أنسباء ملك إنكلترة، الكونت دربي، والكونت سالسبري، وغاسطون، وكونت دفوا، وكونت دو بيارن، وغيرهم، وزحف الجميع، ونازلوا الجزيرة الخضراء. ليلحقوها بطريف، ويستولوا على فرضة مجاز المسلمين، وحشروا إليها الفعلة والصناع، للنقب والحفر، وأطالوا حصارها، واتخذوا المعسكر بيوتًا من الخشب، بقصد المطاولة، كما اتخذوا لمعسكرهم في القرن التالي بيوتًا من الحجر، وهم على غرناطة. وجاء سلطان غرناطة لمدد الجزيرة، فنزل بظاهر جبل طارق. وطال الحصر، وأصاب أهل الجزيرة الجهد، فسألوا الأمان. فبذلوه لهم. وخرجوا إلى المغرب. وذلك سنة ٧٤٣ فأنزلهم أبو الحسن المريني خير نزل. ا.ﻫ.

استوفينا ذكر هذه الواقعة لأنها كانت من مقدمات سقوط الإسلام في الأندلس فإن الإسبانيول من بعدها أحاطوا بالجزيرة الأندلسية من جهة المغرب. وصارت مملكة غرناطة في حكم المحصور. وآل أمرها إلى التلاشي، بحيث لم تمض مائة وخمسون سنة بعد ذلك، حتى صارت أثرًا بعد عين.

ولننظر ما قاله في شأن هذه الوقائع صاحب كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، العلامة الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي رحمة الله، قال:

لما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه، وعلت على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته إلى الجهاد، وكان كلفًا به، فأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور الأندلسية، سنة ٧٤٠، بالدخول إلى دار الحرب، وجهز إليه العساكر من حضرته، وأنفذ إليه الوزراء، فشخص أبو مالك غازيًا وتوغل في بلاد النصرانية واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم، فاتصل به الخبر أن النصارى قد جمعوا له، وأنهم أغذوا السير في اتِّباعه، فأشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم، وعبور الوادي الذي كان تخمًا بين أرض المسلمين ودار الحرب، وأن يتحيز إلى مدن المسلمين فيمتنع بها، فلجَّ في إبايته، وصمم على التعريس، وكان قرمًا ثبتًا، إلا أنه غير بصير بالحرب لصغر سنه، فصبّحتهم عساكر النصرانية في مضاجعهم، قبل أن يركبوا، وخالطوهم في بياتهم، وأدركوا الأمير أبا مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه، فجدّلوه، واستلحموا الكثير من قومه، وأحنوا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين وأموالهم ورجعوا على أعقابهم، واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن، فتفجع لهلاك ابنه، واسترحم له، واحتسب عند الله أجره، ثم أنفذ وزراءه إلى سواحل المغرب، لتجهيز الأساطيل، وفتح ديوان العطاء، وعرض الجنود، وأزاح عللهم، واستنفر أهل المغرب كافة، ثم ارتحل إلى سبتة، ليباشر أحوال الجهاد، وتسامعت به أمم النصرانية، فاستعدوا للدفاع، وأخرج الطاغية أسطول إلى الزقاق، ليمنع السلطان من الإجازة، واستحث السلطان أساطيل المسلمين من مراسي المغرب، وبعث إلى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن فرحون، قائد أسطول بجاية، ووافى سبتة في ستة عشر أسطولًا إفريقية، كان فيها من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجاية، وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة، تناهز المائة، وعقد السلطان عليها لمحمد بن علي العزفي، الذي كان صاحب سبتة، يوم فتحها أيام السلطان أبي سعيد، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق، وقد تكامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهر في السلاح، وزحفوا إلى أسطول النصارى، وتواقفوا مليًّا، ثم قربوا الأساطيل بعضها من بعض، وقرنوها للمصاف، فلم يمض إلا كلا ولا، حتى هبّت ريح النصر، وأظفر الله المسلمين بعدوهم، وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبرًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، وقتلوا قائدهم الملند، واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها، وطيف بكثير من رءوسهم في جوانب البلد، ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء، وعظم الفتح، وجلس السلطان للتهنئة، وأنشد الشعراء بين يديه، وكان ذلك يوم السبت سادس شوال سنة ٧٤٠، فكان من أعز أيام الإسلام.

ثم شرع السلطان أبو الحسن في إجازة العساكر من المتطوعة والمرتزقة، وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة، من العدوة إلى العدوة، ولما تكاملت العساكر بالعبور، وكانت نحو ستين ألفًا، أجاز هو أسطوله مع خاصته وحشمه، آخر سنة ٧٤٠، ونزل بساحة طريف، وأناخ عليها ثالث محرم من السنة بعدها وشرع في منازلتها، ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن الأحمر، في عسكر الأندلس من غزاة بني مرين، وحامية الثغور، ورجَّالة البدو، فعسكروا حذاء معسكره، وأحاطوا بطريف نطاقًا واحدًا، وأنزلوا بها أنواع القتال، ونصبوا عليها الآلات، وجهَّز الطاغية أسطولًا آخر، اعترض به الزقاق، لقطع المرافق عن المعسكر، وطال مقام المسملين بمكانهم حول طريف ففنيت أزوادهم، وقلت العلوفات، فوهن الظهر، واختلت أحوالهم، ثم احتشد الطاغية أمم النصرانية، وظاهره البرتقال، صاحب اشبونة، وغرب الأندلس، وزحفوا إلى المسلمين، لستة أشهر من نزولهم على طريف ولما قرب الطاغية من معسكر المسلمين، سرّب إلى طريف جيشًا من النصارى، أكمنة بها إلى وقت الحاجة، فدخلوها ليلًا، على حين غفلة من العسس، الذين أرصدوا لهم، وأحسوا بهم آخر الليل، فثاروا بهم من مراصدهم، وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددًا، وقد نجا أكثرهم، فلبسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم، حذرًا من سطوته، ثم زحف الطاغية من الغد في جموعه إلى المسلمين، وعبَّأ السلطان مواكبه صفوفًا، وتزاحفوا، ولما نشبت الحرب برز الجيش الكمين من البلد، وهو الذي دخل ليلًا، وخالفوا المسلمين إلى معسكرهم، وعمدوا إلى فسطاط السلطان، فدافعهم عنه الناشبة الذين كانوا على حراسته، فاستلحموهم لقتلهم، ثم دافعهم النساء عن أنفسهن، فقتلوهن كذلك، وخلصوا إلى حظايا السلطان منهن عائشة بنت عمه أبي بكر بن يعقوب بن عبد الحق، وفاطمة بنت السلطان أبي بكر أبي زكريا الحفصي، وغيرهما من حظاياه، فقتلوهن، واستلبوهن، ومثّلوا بهن، وانتهبوا سائر الفسطاط، وأضرموا المعسكر نارًا، ثم أحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم، فاختل مصافهم، وارتدوا على أعقابهم، بعد أن كان ناشنين ابن السلطان أبي الحسن صمم في طائفة من قومه وحاشيته، حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبضوا عليه، وعظم المصاب بأسره، وكان الخطب على الإسلام قلّما فجع بمثله، وذلك ضحوة يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وولى السلطان أبو الحسن متحيّزًا إلى فئة المسلمين، واستشهد كثير من الغزاة، وتقدم الطاغية حتى انتهى إلى فسطاط السلطان من المحلة، فأنكر قتل النساء والولدان، وكان ذلك منتهى أثره، ثم انكفأ راجعًا إلى بلاده، ولحق ابن الأحمر بغرناطة وخلص السلطان أبو الحسن إلى الجزيرة الخضراء، ثم منها إلى جبل الفتح، ثم ركب الأسطول إلى سبتة ليلة غده ومحّص الله المسلمين وأجزل ثوابهم.

ولما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في التهامهم وجمع عساكر النصرانية، ونازل أولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعلى مرحلة منها، وجمع الآلات والأيدي على حصارها، وأخذ بمخنقها، فأصابهم الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة ٧٤٢، وأدال الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف الطاغية إلى بلاده، وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعود إلى الجهاد، لرجع الكرة، فأرسل حاشرين، وأرسل قواده إلى سواحل المغرب، لتجهيز الأساطيل، فتكامل له منها عدد معتبر، ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس، وقدم عساكره إليها مع وزيره عسكر بن تاحضريت، وعقد على الجزيرة الخضراء لمحمد بن العباس بن تاخضريت، من قرابة الوزير، وبعث إليها مددًا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليربناني من المرشحين للوزارة نيابة، وبلغ الطاغية خبره، فجهز أسطوله، وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته، وتلاقت الأساطيل، ومحّص الله المسلمين، واستشهد منهم أعداد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق فملكه دون المسلمين، وأقبل الطاغية من أشبيلية في عساكر النصرانية، حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء، مرفأ أساطيل المسلمين، وفرضة المجاز، ورجا أن ينظمها في مملكته مع جارتها طريف، وحشر الفعلة والصناع للآلات، وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار، واتخذ أهل المعسكر بيوتًا من الخشب للمطاولة، وجاء السلطان أبو الحجاج ابن الاحمر بعساكر الأندلس، فنزل قبالة الطاغية، بظاهر جبل الفتح، في سبيل الممانعة وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة يسرب إلى أهل الجزيرة المدد من الفرسان والمال والقوت، في أوقات النفلة من أساطيل العدو، وتحت جناح الليل وأصيب كثير من المسلمين في ذلك، ولم يغن عن أهل الجزيرة ذلك المدد شيئًا، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد، وأجاز السلطان أبو الحجاج إلى السلطان أبي الحسن يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية بعد أن أذن الطاغية له في الإجازة مكرًا به، وأرصد له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال، وخلصوا إلى الساحل بعد غص الريق، وضاقت أحوال أهل الجزيرة ومن كان بها من عسكر السلطان، فسألوا الطاغية الأمان، على أن ينزلوا له عن البلد، فبذله لهم، وخرجوا فوفى لهم وأجازوا إلى المغرب سنة ٧٤٣، فأنزلهم السلطان ببلاده على خير نزل، ولقّاهم من المبرَّة والكرامة ما عوضهم بما فاتهم، وخلع عليهم، وحملهم، ووصلهم بما تحدث الناس به، وتقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت، عقوبة له على تقصيره في المدافعة، مع تمكنه منها، وانكفأ السلطان أبو الحسن راجعًا إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده، والله متمم نوره ولو كره الكافرون. ا.ﻫ.

•••

وهذا كتاب آخر وجد تحت رقم ٢٨ من المجموعة البرشلونية:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا.

السلطان الأجل المرفع، المكرم المبرور، الأوفى المشكور، الأخلص دون الفنشُه، سلطان أراغون وبلنسية وقرسغة وقمط برجلونة وصاحب سردانية، وصل الله كرامته بتقواه، وأسعده بطاعته ورضاه، حافظ عهده، وشاكر مذهبه في المصادقة وقصده، مكرم مملكته، وشاكر قصده، في خلوص مودته، الحافظ لعهده وصحبته الأمير عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، أيده الله ونصره، أما بعد، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الأكمل واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومحلكم في سلاطين النصرانية معروف مشهور، وإلى هذا فإنه توجه في هذه الأيام خمسة أشخاص من التجار من أهل بلادنا ثقة بعهدكم، وركونًا إلى صحبتنا معكم، فتعرفنا أن النائب عنكم في قربليان ثقفهم، وثقف أموالهم، فخاطبناكم في شأنهم، وقصدنا منكم تسريحهم وتسريح أموالهم، وأن تنفذوا أمركم بذلك لمن ينوب عنكم تحفظوا بذلك عهدنا، وتقضوا لنا في ذلك … نشكركم عليها وهذا قصدنا منكم فعسى أن تعملوا فيه ما هو المعلوم منكم، والمضمون عنكم، والله يصل كرامتكم بتقواه ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا، كتب في الموفى ثلاثين لجمادى الأولى من عام ثمانية وعشرين وسبعمائة. (صح هذا).

هذا الملك المكتوب إليه هنا هو الفونس الرابع الأراغوني، تولى أراغون وملحقاتها بعد جقمى الثاني من سنة ١٣٢٧ إلى سنة ١٣٣٦.

وتحت رقم ٣٢ من هذه المجموعة كتاب من أبي النعيم رضوان وزير ابن الأحمر إلى هذا الملك نفسه وهو ما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

مولاي السلطان الأجل الأكرم، الأوفى المعظم، المشكور الأخلص، ذون الفنشُة، ملك أراغون، وبلنسية، وسردانية، وقرسغة، وقمط برجلونه. وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، خديمه موفي واجب البر بجانبه، ومكمل الثناء على مقاصده في الوفاء ومذاهبه، رضوان بن عبد الله، وزير السلطان، ملك غرناطة ومالقة، والمرية، ووادي آش، وما إلى ذلك. كتبه إليكم من باب مولاه، أيده الله ونصره، بحمراء غرناطة حرسها الله، وليس بفضل الله سبحانه، ثم بنعمة مولاي أبقى الله إحسانه، إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، وعن العلم بمحلكم في السلاطين الأوفياء، والشكر لما لكم في الوفاء من المقاصد والأنحاء، وإلى هذا فموجبه إليكم، هو أن الزعيم المكرم، جقمى شارقة، قريبكم، اجتمع في محلة جبل الفتح ببعض ناس هذه الدار النصرية، وعرفهم بما عندكم من القصد الجميل في الصلح معها، وأنه لو خاطبكم مولاي في ذلك لعلمتم فيه ما يعود بتجديد الصحبة والمدة، وتوكيد العهد، وقد كتب إليكم في ذلك مولاي الكتاب الذي يصلكم، ووجَّهه مع خديمه التاجر المكرم بَشْقَلِين سريجة، وهو يصلكم بكتابه، وإن كان لكم غرض في هذه الحال فعرفوني، وأعمل فيها ما يكون فيه الخير للفريقين إن شاء الله، والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا، وكتب في اليوم الثامن عشر لشهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. ا.ﻫ.

وهذا كتاب آخر تحت رقم ٣٣ من المجموعة البرشلونية من الوزير أبي النعيم رضوان نفسه إلى الملك الفونس نفسه:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

مولاي السلطان الأجل، المعظم المرفع الموقر، المبرور المشكور الشهير الأوفى، ذون الهنشة، ملك أراغون، وبلنسية وسردانية، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، معظم سلطانه، وموقر مكانه، وزير السلطان أيده الله ونصره، رضوان بن عبد الله، كتبه إليكم من باب مولاه بحمراء غرناطة، حرسها الله، ولا زائد بفضل الله، ثم ببركة أيام مولانا أدام الله إحسانه، إلا الخير الأكمل واليسر الأشمل، والحمد لله، وعن التعظيم لسلطانكم، والتوقير لمملكتكم ومكانتكم، وإلى هذا فقد وصلني كتابكم المعظم صحبة رسول مولانا أيده الله إليكم القائد الأجل، أبي الحسن بن كُماشة، أعزه الله تقررون معتقدكم الجميل، وقد شكرت ذلك أبلغ الشكر، وعرفت ما عندكم من القبول والعناية والكرامة، وقابلت ذلك بما يجب من الثناء عليكم، واعلموا أنني لا أزال أؤكد العهد بين مولاي وبينكم وأثبت الود وأعمل في ذلك ما أوفى به حق خدمته وكرامتكم حسب الواجب علي، وقد ألقى إلي القائد أبو الحسن أعزه الله في ذلك ما وافق مقتضى كتابكم ووصل صحبته رسولكم الحظي لديكم، المكرم المبرور المشكور رَمُون بيل، وحضر بين يدي مولاي، أيده الله، وأوصل هديتكم إلى مولاي، ووقف عليها واستحسنها، ووقعت عنده أحسن موقع، وشكر قصدكم في ذلك، وكذلك وصل ما تفضلتم إلى معظم مجدكم، فقابلت سلطانكم بالشكر الجزيل، والثناء الجميل، وسرني عنايتكم، وحسن اعتقادكم وما مُعَظمكم إلا على ما يرضيكم، من الاعتقاد فيكم، فكونوا من ذلك على يقين، وقد ألقيت في ذلك إلى رسولكم المذكور، ما يلقيه إليكم في هذا المعنى، والله تعالى يصل عزتكم بتقواه، ويسعد سلطانكم بطاعته، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا، كتب في السابع والعشرين لذي قعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة عرفنا الله بركته اختتامه بمنه وكرمه.ا.ﻫ.

وتحت رقم المجموعة ٣٤ الكتاب الآتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله.

مولاي الأفَنْت الكبير، الأعز المرفع، المبرور المشكور، ذُنْ بِذْرُه، أدام الله لنا أيامكم، ووصل هدايتكم وإكرامكم، يسلم عليكم مقبل يديكم وخديكم، علي بن كماشة، من باب مولانا، أيده الله ونصره، وليس بفضل الله سبحانه، ثم ببركة أيام مولانا، أدامها الله، إلا الخير واليسر، والحمد لله كثيرًا. والذي وجب به تعريفكم إنه وصل خديمكم رَمُون بُويل، وقضى رسالته كما يجب، وعمل أعمال الفرنسان الجياد، وأدخلني في محبتكم وخدمتكم، وأنا يا مولاي عملت في خدمتكم ما يعرفكم به خديمكم رمون بويل وتكلم أيضًا رمون بويل مع مولانا، نصره الله، وفي حق إن تلك الدار، وهذه الدار واحدة، فترى يصلكم كتاب مولانا السلطان، وهو كتاب محبة وصحبة، وترى يصلكم يا مولاي قوس إفرنجي، وكذلك يا مولاي نقبِّل بيد مولاي الأفَنت أخيكم، ذن جيميه، وكذلك يصل له قوس إفرنجي، وذلك يا مولاي في حقكم. ومعاد السلام عليكم ورحمة الله وهدايته، وكتب بتاريخ الخامس عشر لشهر ذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة. ا.ﻫ.

•••

وأردف ذلك الحاج محمد بنونة بقوله: ابن كُماشة١٧ هذا أظن أني رأيت الكلام عليه في أحد كتب ابن الخطيب، إما في اللمحة البدرية، وإما في الإحاطة. اما بِذْرُه (أو بتُره كما ترى اسمه مكتوبًا في رسائل أخرى ستصلكم بعده) فهو الذي توج ملكًا على أراغون باسم بتُره الرابع من سنة ١٣٣٦ إلى سنة ١٣٨٧.

•••

كتاب آخر من سلطان غرناطة إلى ملك أراغون تحت رقم ٣٣ في المجموعة:

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

السلطان الأجل الأكرم، الأوفى المعظم، المبرور المشكور، الأخلص دون الفُنشُه، ملك أراغون وبلنسية وسردانية وقرسغة، وقمط برجلونة، وصل الله عزته بتقواه، وأسعده بطاعة الله ورضاه، شاكر البر بجانبه، المثني على مقاصده في الوفاء ومذاهبه، الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أما بعد، فإنّا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة، حرسها الله، عن الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيرًا، وجانبكم مبرور، وقصدكم في الصحبة مشكور، ومنصبكم في بيت المملكة معلوم مشهور، وإلى هذا فموجبه إليكم، هو أنه ما زالت الصحبة من دار غرناطة تتجدد بين أسلافنا، وإنّا وقفنا الآن في العقد الذي كان قد أُخذ مع ملك قَشتلَّة على إشارة إلى صلحكم، فرأينا أن وجهنا كتابنا هذا إليكم، في شأن هذه القضية، فإن كان لكم في الصحبة والمصادقة غرض، فنحن نغتبط بذلك، وعندنا من المساعدة لكم عليه كل ما يرضيكم، فعرفونا بما عندكم في ذلك، ويصلكم بكتابنا هذا التاجر المكرم بُشْقَلِين شِريجه خديمنا أكرمه الله بتقواه، وقد ألقينا إليه في توكيد المودة ما يلقيه إليكم، وينصه عليكم، فاعلموا ذلك والله سبحانه يصل عزتكم بتقواه، ويسعدكم بطاعته ورضاه، والسلام يراجع سلامكم كثيرًا أثيرًا، وكتب في يوم الأربعاء الثامن عشر لشهر المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، عرف الله تعالى خيره وبركته. (صح هذا).

لا بأس بأن نترجم هنا سلاطين غرناطة الذين صدرت عنهم هذه المكاتيب إلى ملوك أراغون، وقد اخترنا لهذه التراجم لسان الدين بن الخطيب، أعلم الناس بهم، وأقربهم إليهم، قال في اللمحة البدرية:

إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن قصر بن قيس الأنصاري الخزرجي، أمير المسلمين بالأندلس، يكنى أبا الوليد.

كان رحمه الله كريم الخلق، حسن الرواء، رجل جد، سليم الصدر، كثير الحياء صحيح العقد، ثبتًا في المواقف، عفيف الإزار، ناشئًا في حجر الطهارة، بعيدًا من الصبوة، بريئًا من المعاقرة، نشأ مشتغلًا بشأنه، متبنكًا بنعمة أبيه، مختصًّا بإيثار السلطان، جده أبي أمه، وابن عم والده، منقطعًا إلى الصيد، مصروف اللذة إلى استجادة سلاحه، وانتقاء مراكبه، واستفراه جوارحه، إلى أن قضى إليه الأمر وساعدته الأيام، وخدمه الجد، وانتقل به إلى بيت الملك، وثوى في عقبه الذكر، فبذل العدل في رعيته، واقتصد في جبايته، واجتهد في مدافعة عدو الله وعدوه، وسد ثلم ثغره، وكان غرة في قومه، ودرة في بيته، وحسنة من حسنات ذهره.

تخلف من الولد أربعة: أكبرهم محمد ولي عهده، والأمير من بعده. وفرج شقيقه التالي له، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه، المتقلب أخيرًا في الإيالات المتوفي معتقلًا بالمرية، عام أحد وخمسين وسبعمائة، مظنونًا به الاغتيال. ثم أمير المسلمين أخوه أبو الحجاج، تغمده الله برحمته، أقعد القوم في الملك، وأبعدهم أمدًا في السعادة ثم إسماعيل أصغرهم، المبتلى زمن شبيبته بالاعتقال المخيف مدة أخيه المستقر بالمغرب.

  • وزراؤه: وزيره أول أمره القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح، نُصير بن إبراهيم بن محمد بن نصير بن أبي الفتح الفهري، وبيت هؤلاء القواد شهير، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة، ثم أشرك معه في الوزارة الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود المحاربي، من أعيان الحضرة، وذوي النباهة، فجاذب رفيقه حبل الخطة ونازعه لباس الحظوة، حتى ذهب باسمها ومسماها، وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح فخلص إليه شربها.
  • كتَابه: كتب عنه لأول أمره بمالقة، ثم بطريقه إلى غرناطة، وأيامًا يسيرة بها، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المالقي. ثم ألقى المقادة إلى كاتب الدولة قبل شيخنا أبي الحسن بن جيَّاب فاضل الخطة، وباري القوس، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.
  • قضاته: استقضى أخا وزيره الشيخ الفقيه أبا بكر يحيى بن مسعود بن علي، رجل الجزالة وفيصل الحكم، فاشتد في إقامة الحق، وغلظ بالشرع، واستعان بالجاه، فخيفت سطوته، واستمر قاضيًا إلى آخر أيامه.
  • رئيس جنده المغربي: ومن أول هذه الدولة نبهت هذه الرتبة، واستحقت إفرادنا إياها. الشيخ البهمة، لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، مشاركًا له في النعمة، ضاربًا بسهم في المنحة كثير التجني والدالة، إلى أن هلك المخلوع، وخلا الجو، فكان منه بعض الأنصار.
  • الملوك على عهده: أولًا بالمغرب ثم بفاس: السلطان الشهير، جواد الملوك، الرحب الجانب، الكثير الأمل، خِدن العافية، ومخالف الترفيه، ومتبحبح النعيم، السعيد على خاصته وعامته أبو سعيد عثمان ابن السلطان الكبير، المجاهد الصالح، المرابط أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. وجرت بينهما المراسلات، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه وصدرًا من أيام ولده الأمير أبي عبد الله، حسب ما يمر عند ذكره.

    وبتلمسان: الأمير أبو حمو موسى بن عثمان بن يغمر اسن بن زيان. ثم توفي قتيلًا بأمر ولده على عهده سادس عشر جمادى الثانية من عام ثمانية عشر وسبعمائة وولّي الأمر مغتاله ولده المذكور أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى، واستمرت أيامه بعد مهلك السلطان المذكور، واستغرقت أيام ولده الوالي بعده، إلى أن هلك في صدر أيام السلطان أبي الحجاج، وجرت بينه وبين السلطان أبي الوليد مراسلات ومهاداة.

    وبمدينة تونس: الشيخ الملقب بإمرة المؤمنين، أبو يحيى زكريا بن أبي العباس بن أبي حفص، المدعو باللحياني، المتوثب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي زكريا بن أبي إسحاق بن أبي حفص، وهو كبير آل حفص سنًّا وقدرًا. تملك تونس تاسع جمادى الآخرة من عام أحد عشر وسبعمائة وتم له الأمر واعتقل أبا البقاء بعد خلعه، ثم اغتاله، في شهر شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة. ثم رحل عن تونس لما ظهر له من اضطراب أمره بها، وتوجه إلى أطرابلس في وسط عام خمسة عشر وسبعمائة، واستناب صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي عمران، ولم يعد إليها بعد ذلك ثم اضطرب أمر أفريقية، وتناوبه عدة من الملوك الحفصيين، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمران المذكور، وأبو عبد الله اللحياني، والسلطان أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق، لَبِنَة تمامهم، وآخر رجالهم. واستمرّت أيامه إلى مدة ولده الأمير بالأندلس، ثم معظم أيام ولديه. رحم الله الجميع.

  • ومن ملوك الروم: أولا بقشتالة: كان كل عهده، وبالزمن القريب من ولايته وفاة الطاغية هرانده بن شانجه بن الفونش بن هرانده (المجتمع له ملك ليون وقشتاله وهو المتغلب على قرطبة وأشبيلية ومرسية وجيان) ابن الهونش (الجارية له وعليه وقمتا الأرك والعقاب) ابن شانجه (المسمى انبرذور وهو الذي أفرد صهره زوج بنته بملك برتقال) إلى أجداد يخرجنا تقصِّي ذكرهم عن الغرض.

    ومن ملوك رغون بشرق الأندلس: الطاغية جايمش ابن بيطرُه بن جايمش (الذي تغلب على بلنسية) ابن بيطره بن الهونش، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في آخر أيامه، فولى ملك رغون بعده الهونش بن جايمش إلى آخر أيامه.

    وببرتقال: الهونش بن ذونيش بن الهونش بن شانجه بن الهونش بن شانجه بن الهونش، وتسمى أولًا دوقا.

  • بعض الأحداث وبداية أمره: ولما تصير الأمر إلى السلطان نصر، مدبّر الوثوب بأخيه، تنازعت بطانته، وساءت سيرة ملكه، فأغرى بالرئيس الكبير صاحب مالقة، وبيده الجزيرة وسبتة ويعقِّب عليه كثير من التصرف فيما بيده، ثم لما وصل إلى الحضرة مبايعًا، داخله بعضهم محذرًا ومشيرًا بالامتناع، فاستعجل الانصراف، وأظهر الاستبداد في رمضان سابع عشر منه. وأقام رسم الملك بولده السلطان أبي الوليد هذا، وتحرك فنازل الحصون المجاورة لمالقة واستولى عليها.
    وفي أول شهر محرم من عام اثني عشر وسبعمائة تحرك فنزل بقرية العطشاء من مرجها. وبرز السطان نصر إليه، في جيش اخشن، مستجاد العدة وافر الرَّجْل فكان اللقاء ثالث عشر الشهر، فأظهر الله أقل الطائفتين، وانجرت على الجيش الغرناطي الهزيمة. وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقي لبعض الفدن، فنجا بعد لأي ودخل البلد مغلولًا، وانصرف الجيش المالقي ظاهرًا إلى بلده ثم وقعت المهادنة في ربيع الأول من هذا العام، وعادت الفتنة جذعة١٨ في العام بعده.

    وكانت في رمضان منه ثورة الأشياخ بغرناطة، ودعاؤهم بخلعان السلطان، ودعوة مخلوعه المعتقل، طالبين منه إسلام وزيره خِدن الروم، المتهم على الإسلام، محمد بن الحاج، ثم لحق الأشياخ المذكورون فارين بمالقة، عند اختلال ما أبرموه.

    وكانت الحركة الثانية إلى غرناطة، بعد أمور اختصرتها من استبداد السلطان أبي الوليد بنفسه، والانحطاط في القبض على أبيه إلى هوى جنده، والتصميم في طلب حقه، فاتصل سيره، واحتل ببلدنا لوشة سرار شوال فتملكها. ثم قصد غرناطة، وبرز إليه جيشها، وأبلى في الدفاع فكادت تقع به الدبرة، لولا ثبوت السلطان وأسلفهم الحملة، فولوا منهزمين، وتبعهم إلى سور المدينة. وقد خف اللفيف والغوغاء، والناعقون بالخلصان، الشرهون إلى تبديل الدعوات، إلى تسنم المآذن والمنارة والربى. وبرز أهل ربض البيازين الهافون إلى مثل هذه البوارق، إلى شُرُف بيوتهم كل يشير مستدعيًا مستقدمًا، إعلانًا بسوء الجوار، وملال الأيالات، والانحطاط في وهد التقلب والتلوُّن، وسآمة العافية: شنشنة معروفة، وخليقة في الخليقة مألوفة. وبودر غلق باب البيرة فنقض قفله، ودُخلت المدينة، ولجأ السلطان إلى معقل الحمراء، ودخله بأهله وذخيرته وخاصته، ونزل الدائل بالقصبة القُدمى تجاهها، ينفذ الصكوك، ويتألف الشارد، ويذيع العفو، وضعفت بصائر المحصورين وفشلوا — على وجود العاصمة، وتمكن المنعة، ووفور المال — فالتمسوا لأنفسهم ولسلطانهم عهدًا ونزلوا منتقلين إلى مدينة وادي آش، في سبيل العوض بمال معروف، وذخيرة، فتم ذلك، وخرج السلطان نابيًا به قرار جده وأبيه، جانبًا على ملكه الأخابثُ الأغمار، ليلة الثامن والعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، إلى أن هلك حسب ما تقدم ذكره، وخلا للسلطان أبي الوليد الجوّ، وضربت إليه المقادة، وأطاعه القاصي والداني، ولم يختلف عليه اثنان.

  • مناقبه: اشتد على أهل البدع، وقصر الخوض على ما تضطر إليه الملّة. ولقد تذوكر يومًا بين يديه أصول الدين فقال: أصول الدين عندي: (قل هو الله أحد) (السورة) وهذا (وأشار إلى سيفه).

    واعتنى بأهل بيت رسول الله ، فبذل في فداء بعض أعلامهم ما يعز بذله، ونقل منهم بعضًا من حرف خبيثة، فزعموا أنه رأى رسول الله يشكر له ذلك.

    واشتد في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات.

    وأخذ يهود الذمة بالتزام سِمة تشهرهم، وشارة تميزهم، ليوفوا حقهم، من المعاملة التي أمر بها الشارع في الطرق والخطاب.

  • جهاده وبعض الأحداث في مدته: التاثت أموره لأول مدته، فجرت عليه الهزيمة الشنيعة بوادي فرتونة. أوقع بجيشه الطاغية بمظاهرة السلطان المخلوع، ففشا في الأعلام يومئذ القتل في صفر عام ستة عشر وسبعمائة، وظهر العدو بعدها على حصن قنبل، وحصن متمانس، وحصن نجيح وحصن تشكر، وحصن رُوط، ثم صرفت المطامع عزمه إلى الحضرة، فقصد مرجها وكف الله عاديته، وقمعه، ونصر الإسلام عليه، ودالت للدين الهزيمة العظمى بالمرج على بريد منها. واستولى على محلاته النهب، وعلى فرسانه ورجاله القتل والإسار، وعظم الفتح، وبهر الصنع، وطار الذكر، وثاب السعد، واستقامت الأيام. وهلك المخلوع، فصفا الجو، واتحدت الكلمة، وأمكن الجهاد، فتحرك في رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وأعمل الحركة إلى بلاد العدو، ونازل اشكر الشجَي المتعرض في حلق مدينة بسطة، فأخذ بمخنقها، ونشر الحرب عليها ورمى بالآلة العظمى، المتخذة بالنفط، كرة محماة طاقة البرج المنيع من معقله، فعاثت عياث الصواعق السماوية، فنزل أهلها قسرًا على حكمه للرابع والعشرين من الشهر، وفي ذلك يقول شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل رحمه الله من قصيدة أولها:
    بحيث البنود الحمرُ والأسد الوردُ
    كتائب سكان السماء لها جندُ

    وفي وصف آلة النفط:

    وظنوا بأن الرعدَ والصعقَ في السما
    فحاق بهم من دونها الصعقُ والرعدُ
    غرائبُ أشكال سَما هُرمِس بها
    مُهنْدَمَةُ تأتي الجبالَ فتنهدُّ
    ألا إنها الدنيا تريك عجائبا
    وما في القُوَى منها فلا بد أن يبدو

    وأقام رحمه الله بظاهرها فصيرها دار جهاده، وعمل في خندقها بيده، وفي ذلك يقول شيخنا كاتب سره، نسيج وحده أبو الحسن بن الجياب، رحمه الله من قصيدة أولها:

    أمَّا مَداكَ فغايةُ لم تُسبق
    أعيت على غُرّ الجياد السبقِ
    فاشرح بسعدك كلَّ معنًى مشكلٍ
    وافتح بسيفك كلَّ باب مغلق

    في وصف عمله في خندق الحصن:

    لله منك مشاهِدُ مشكورة
    عند الإله بمثلها لم تُسبقِ
    مثل الحفير بها الذي باشرته
    فِعلَ الرسول وصحبهِ في الخندق

    وفي العاشر لرجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة تحرك إلى الغزو، وأخذ الأهبة، واستكثر من الآلة، واحتشاد المطوعة، وقصد مدينة مُرْتُش العظيمة الساحة الطيبة البقعة، فأضرب بها المحلات، وكان قصده إجمام الناس إلى الغد، فصرفت الحشود وجوهها إلى ما بها من شجر الكروم الملتفات، وأدواح الأشجار، فأمعنوا في إفسادها، وبرز حاميتها، فناشبت الناس القتال فحميت النفوس، وأريد منع الناس فأعيا أمرهم، وسال منهم البحر، فتعلقوا بالأسوار، وقيل للسلطان: بادر الركوب، فقد دُخِل البلد، فركب ووقف بإزائه، فدخل الحصن عنوة، واعتصم أهله بالقصبة فدُخلت أيضًا عنوة، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى، صغير أو كبير، فساءت القتلة، وقبحت الأحدوثة، ورفعت من الغد آكام من الجثث، صعدت ذراها المؤذنون، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاء له. وكان دخوله من هذه الغزاة في الرابع والعشرين لرجب المذكور.

  • وفاته: ولما فصل من مَرتُش، نقم على أحد الرؤساء من قرابته، وهو ابن عمه محمد بن إسماعيل المعروف بصاحب الجزيرة، أمرًا فقرّعه عليه، وبالغ في تأنيبه، وتوّعده بما أثار حفيظته، فأقدم عليه بالفتكة الشنعاء، التي ارتكبها منه بباب قصره، بين عبيده آمَنَ ما كان سِرْبًا، وأعز نفرًا، وأمكن امتناعًا، غدوة يوم الاثنين الثالث من يوم دخوله، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدام، ووثب به وهو مجتاز بين السماطين من ناسه، إلى مجلس العقود الخاص، فاعتنقه، وسل خنجرًا ملصقًا بذراعه فأصابه بجراحات ثلاث: إحداهن بأعلى ترقوته، فَرَت وَدَجَه، فخر صريعًا وصاح فكر الوزير، فعمّمته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك، ووقعت الرجة، وسُلت السيوف، وتشاغل كلُّ بمن يليه، واستُخلص السلطان من بين يديه، وحِيلَ بينه وبينه، فرُفع وظنت نجاته، فوقع البهت، وبادر الفرار، وقد سدّت المذاهب فقُتلوا حيث وجدوا.
وأخذت الظِنَّة قوما من أبريائهم، فاستُحلفوا ونهبت الغوغاء دورهم وعلقت بالجدران أشلاؤهم، واحتمل السلطان إلى بعض دوره وبه رمق، للزوق العمامة بفوهة وَدَجه المبتور، ففاض لحينه رحمه الله. ودفن غلس ليلة يوم الثلاثاء ثاني يوم وفاته، بروضة الجنان من قصر إلى جانب جده، وتنوهيَ في احتفال قبره نقشًا وتنجيدًا وإحكاما وحليًا وتمويهًا، بما يشذ عن الوصف، وكتب على قبره نقشًا من الرخام:

هذا قبر السلطان الشهيد، فتّاح الأمصار، وناصر ملة المصطفى المختار، ومحيي سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب والمحراب، الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة وأمضاهم في ذات الله صولة، سيف الجهاد، ونور البلاد الحسام المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن، المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن الهمام الأعلى، الطاهر الذات والنجار الكريم المآثر والآثار، كبير الإمامة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدس المرحوم أبي سعيد، فرج بن علم الأعلام، وحامي حمى الإسلام، صنو الإمام الغالب، ظهيره العلي المرابت، المقدس المرحوم أبي الوليد إسماعيل بن نصر، قدس الله روحه الطيب، أفاض عليه غيث رحمته الصيّب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحباه بالحسنى والزيادة، وصنع له في فتح البلاد، وقتل كبار ملوك الأعادي، ما يجده مذخورًا يوم التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فخُتِم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعد له من كرامته وثوابه، وغبار الجهاد غطى أثوابه، استُشِهد رحمه الله غدرة أثبتت له في الشهداء من الملوك قدمًا، ورفعت له في أعلام السعادة علمًا، ولد رضي الله عنه في الساعة المباركة بين يدي الصبح من يوم الجمعة، سابع عشر شهر شوال عام سبعة وسبعين وستمائة، وبويع يوم الخميس السابع وعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستُشهِد في يوم الاثنين السادس والعشرين لشهر رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة. فسبحان الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق.»

وبعده من جهة أخرى:

تخصُّ قبركَ يا خِيرَ السلاطين
تحية كالصَّبا مرَّت بدارِين
قبر به من بني نصرٍ إمامُ هدًى
عالي المراتب في الدنيا وفي الدينِ
أبو الوليد! وما أَدراكَ من ملكٍ!
مستنصرٍ واثقٍ بالله مأمونِ
سلطانِ عدلٍ وبأس غالبٍ وندى
وفضلِ تقوَى وأخلاقٍ ميامينِ
لله ما قد طواهُ الموتُ من شَرفٍ
وسِرِّ مجدٍ بهذا اللحدِ مدفونِ
ومن لسانٍ بذكر الله منطلقٍ
ومن فؤادٍ بحبِّ الله مَسْكون
أمّا الجهادُ فقد أحيا معالِمّهُ
وقام منه بمفروضٍ ومَسْنون
فكم فتوحٍ له تُزهَى المنابُر من
عُجْبٍ بهنَّ وأوراقُ الدواوين
مجاهد نال من فضلِ الشهادة ما
يُجبّى عليه بأجْر غيرِ ممنون
قضى كعثمانَ في الشهر الحرام ضُحى
وفاةَ مستشهِد في الدار مطعون
في عارضَيهِ غبارُ الغَزْو تمسَحُهُ
في جنةِ الخلدِ أيدي حُورِها العِين
يُسْقى بها عينَ تَنْسِمِ وقاتلهُ
مُرَدَّد بينَ زَقّوم وغِسْلِين
تبكي البلادُ عليه والعبادُ معًا
فالخلقُ ما بين إخوانٍ أفانين
لكنه حكُم ربٍ لا مردَّ له
فأمُره الجزمُ بينَ الكاف والنون
فرحمة الله ربِ العالمين على
سلطانِ عدلٍ بهذا القبر مدفون

وعظمت فيه فجيعة المسلمين، لما ثكلوا من جهاده وعزمه، وبلَوْه من سعده وعزة نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهقت في شجوه القرائح، وبكاه الغادي والرائح، فمن المراثي التي أنشدت على قبره قول كاتبه شيخنا أبي الحسن ابن الجياب:

أيا عَبرةَ العين امزجي الدمعَ بالدم
ويا زفرةَ الحُزْن احكمي وتحكْمي
ويا قلبُ ذب وجدًا وغما ولَوْعةَ
فإن الأسى فرضٌ على كل مسلم

وقول كاتبه الوزير الأديب أبي عبد الله بن اللوشيّ:

برّد بنار الشوق منك غليلًا
فالمجد أضحى شاكيًا وعليلا

منها — وهو غرض حسن —:

قلدتُ سيف الوجد فارس لوعتي
أسفًا وأجريتُ الدموع خيولًا
وبنيتُ أبيـات الرثـاءِ وقـد رأت
عيني بيوتَ الَمكْـرُمـات طلـولا

وقول كاتبه الفقيه القاضي أبي بكرين شيرين:

عزّ العزاء فما الذي نبديه
في الحزن إلا بعض ما نخفيه
يا أيها الفادي يَحُثّ فأوصه
إبهٍ عن الخَبَر المرَجَّم إبه
أودى أميرُ المسلمين فكيف لا
نأسى عليه، وكيف لا نبكيه؟!
قد كان للإسلام عينَ بصيرةٍ
فأصابت الإسلامَ عينٌ فيه

هوامش

(١) لا عجب من وجود هذه الكتب الصادرة من سلاطين غرناطة إلى ملوك أراغون أقماط برشلونة، وذلك في مجموعة وجدت في إحدى خزائن الكتب في برشلونة، كما أنه لا عجب أيضًا من اشتمال هذه المجموعة على كتب صادرة عن سلاطين أراغون إلى سلاطين المغرب، فقد كان بين الفريقين من علاقات الجوار ما يقتضي استمرار المراسلات.
(٢) نعم له: قال له: نعم
(٣) في الكتب التي تواريخها بعد تواريخ هذا يستعمل سلاطين غرناطة لفظة «القمط» لا «الكند» وكلتاهما ترجمة Comte.
(٤) يستعمل النفاق بمعنى الخلاف.
(٥) L’infante وهو عند الأسبان الولد الثاني من أولاد الملوك.
(٦) الأصل في الإسبانيولي هو «دون» بالدال المهملة Don وربما وضعوا لها النقطة فرارا من لفظة دون التي هي في العربي غير جائزة هنا واليوم نجد العرب في المغرب يكتبونها بالضاد فيقولون «ضون» فرارًا من المحذور نفسه.
(٧) كذا ولم نعرف المراد بهذا الاسم حتى الآن.
(٨) لنا في مجلة «المغرب الجديد» الصادرة في تطاون بحث في أن هذا الاصطلاح كان معروفًا في الأندلس.
(٩) الفارس الذي لا يُدْرَى من أين يُؤْتَى له من شدة بأسه.
(١٠) منزل قلعة بضم أوله أي لا بد من الرحيل عنه.
(١١) هنا كلمة غير مفهومة.
(١٢) الشبطي: يرجح أنها تعريب لفظة sabotar وهو رئيس العصابة، أو الغازي على رأس جماعة من الشجعان، كما علمنا ذلك ممن يحسنون اللغة الكتلونية، وكما هو رأي اللغوي العلامة الأب النسطاس الكرملي، الذي له التدقيق الفائق ما يقر له به كل منصف. وهو يظن أن هذه اللفظة مشتقة من فعل sabo باللهجة البروفنسية، ومعناها « سي» ويرجح أنها مأخوذة في الأصل من العربية. ولا يخفى أن اللغتين البروفنسية والكتلونية متداخلتان جدًّا، كما قد رأيت في كلامنا على بلاد الكاتالان فلا مراء في أن هذه اللفظة أخذها عرب الأندلس عن جيرانهم هؤلاء. والسين في كلام الأسبان تصير شيئا عند العرب إلا ما ندر.
(١٣) الجفن غطاء العين، والجمع أجفان، ويأتي بمعنى غمد السيف. ولم نجده في اللغة بمعنى السفينة كما يراد به هنا، وإنما استعمله العامة بهذا المعنى على تشبيه السفينة بجفن العين في شكلها، أو لأن الجفن يتضمن معنى الوعاء والله أعلم.
(١٤) السلطان أبو الحسن المريني المجاهد الشهير.
(١٥) المغاربة والأندلسيون يقولون لالفونس «اذفنش» وأحيانا «الفنش» وأحيانا يجعلون الفاء هاء فيقولون «لالفونسه» و«الهنشه» ولفردينانده «هرانده».
(١٦) لم نفهم المراد بهذه الكلمة هنا ولعلها تحريف ولكن الحاج محمد بنونة يقول إنها تامة الحروف واضحة الخط.
(١٧) نعم ورد في كتابنا هذا ذكر ابن كماشة وذكر آل كماشة وقد كان وزير السلطان أبي عبد الله بن الأحمر آخر ملوك الإسلام بالأندلس من هذا البيت.
(١٨) أي تجددت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤