الفصل الثاني

الحرية باعتبارها إرادة حرة

(١) لا حرية للحيوانات

حتى الآن كنا نتحرى العلاقة بين الحرية والحتمية، ولكنْ هناك جانب آخر للحرية لم يُناقَش بعدُ: وهو العلاقة بين الحرية والتفكير. ولكي نرى إلى أي مدًى قد يكون التفكير مهمًّا، فإننا بحاجة لأن نتدبر بعض الكائنات التي من المؤكد أنها تؤدي أفعالًا، ولكنها تقوم بذلك دون أن يكون لديها تحكم في طريقة تصرفها مثلما نتحكم نحن — البشرَ — في أفعالنا. نحن بحاجة إلى إلقاء نظرة على الحيوانات.

أنا لا أدَّعي أن كل الحيوانات تفتقر إلى الحرية. فعلى سبيل المثال، لا يزال المدى الحقيقي والدقيق لمستوى ذكاء قردة الشمبانزي والدلافين محل خلاف، وربما نكتشف في نهاية الأمر أنهم فاعلون أحرار هم أيضًا. وإنني، في الواقع، أظن أن قردة الشمبانزي والدلافين لا تتحلى بالذكاء الكافي في الجوانب الخاصة المطلوبة للحرية، ولكن هذا ليس الموضع المناسب لمناقشة هذه المسألة. نحن لا نعلم حتى الآن ما يكفي لكي نحدد بشكل دقيق قدرة هذه الحيوانات العليا في الواقع. ومع ذلك، فهناك حيوانات أخرى أقل تعقيدًا، وتمتلك قدرات أدنى بكثير من قدراتنا، ومن الواضح أنها تفتقر إلى حرية الفعل نتيجة لذلك.

فكِّرْ في أسماك القرش كمثال. تبدو أسماك القرش أنها تؤدي أفعالًا، أفعالًا على الأقل مشابهة جدًّا لأفعالنا. على سبيل المثال، إحدى السمات المشتركة بين أفعال البشر وأفعال أسماك القرش هي الغائية؛ السعي وراء هدف أو غاية. إننا نمد أيدينا إلى أحد رفوف المحلات التجارية من أجل ذلك الرغيف الذي رأيناه للتوِّ، وسمكة القرش تعود أدراجها من أجل أن تفترس تلك السمكة الصغيرة السريعة الحركة التي رصدتها توًّا. وكلٌّ من الإنسان وسمكة القرش يتصرف بشكل غائيٍّ، وكلاهما يحاول أن يحصل على شيء يريده.

ومع وجود هذه الغائية، يأتي نوع من القدرة على الاقتناع والرغبة، حتى وإن كانت هذه القناعات والرغبات، في حالة أسماك القرش، بدائية إلى حد بعيد. وهل هناك طريقة أفضل لتفسير ارتداد سمكة القرش إلى الوراء لكي تقتنص هذه السمكة سوى افتراض أن هناك هدفًا ما تريده — أن تأكل السمكة — وأن هناك شيئًا أدركته للتو أو اقتنعت به؛ وهو أن السمكة قد صارت في ذلك الموضع الآن؟ وموجَّهة بقناعاتها بشأن الموضع الذي توجد فيه السمكة الصغيرة، فإن رغبة سمكة القرش في الطعام تدفعها للدوران في هذا الاتجاه وذاك؛ وتأثير الرغبة هذا على حركة سمكة القرش هو ما يجعل من الحقيقي أن سمكة القرش تتصرف بشكل غائي، وأن ارتداد سمكة القرش للوراء موجَّه نحو الهدف المتمثل في التقاط السمكة الصغيرة.

إن سمكة القرش قد تحمل قناعات ورغبات، وربما تؤدي أفعالًا موجَّهة نحو هدف معين، كما نفعل نحن البشر. ولكن هل سمكة القرش متحكمة في أفعالها مثلما هو حالنا؟ هل سمكة القرش حرة حقًّا في التصرف على نحو معاكس لما تفعله في العادة؟

من الطبيعي جدًّا أن نفترض أنها ليست كذلك. ولكن لماذا؟ إذا كنا بشكل طبيعي نميل إلى رفض فكرة أن سمكة القرش فاعل حر، فلا يمكن أن يكون سبب ذلك هو أننا ببساطة نؤمن بأن أفعال سمكة القرش محددة سببيًّا بشكل مسبق؛ وذلك لأننا لا يمكن أن نتأكد من أن الرغبات والغرائز المدمجة بداخل سمكة القرش هي بالفعل ما تحدد أفعالها بشكل مسبق. وعلى أي حال، فإن التحديد السببي المسبق لأفعال سمكة القرش ليس القضية المهمة هنا. وحتى إذا علمنا أن تحركات سمكة القرش كانت في وقت ما غير مقررة، فإننا لن نستنتج من هذا أنه لا بد أن تكون أسماك القرش حرة. سوف نستنتج ببساطة، في هذا الحالة، أنه في بعض الأحيان تكون الحركات التي قد تقوم بها سمكة القرش من باب الصدفة أو عشوائية محضة. والانتقال من مكان لمكان بشكل عشوائي محض، كما رأينا أسماك القرش تفعل، لا يشبه من قريب أو بعيد ممارسة التحكم في الطريقة التي يتصرف بها المرء.

(٢) الحرية والتفكير العملي

هناك تفسير آخر أكثر منطقية لعدم كون سمكة القرش فاعلًا حرًّا، وهو يتعلق بقدرة سمكة القرش على التفكير، أو بالأحرى افتقارها الواضح إلي هذه القدرة. فالتحلي بتحكم أصيل في طريقة تصرفنا يتطلب أن نتحلى بالقدرة على أن نتصرف بعقلانية؛ أن نتصرف على أساس من التفكير المدروس بشأن الطريقة التي ينبغي أن نتصرف بها. ولكن أسماك القرش تفتقر إلى أي قدرة كهذه للتفكير في كيفية التصرف. إن أفعال أسماك القرش مبنية على الغريزة لا التفكير. ولهذا فإن اختيار أيُّ الأفعال تقوم بها ليس أمرًا متروكًا لها.

إن القدرة على التفكير أو التدبر في الطريقة التي نتصرف بها تنطوي على ما هو أكثر مما تمتلكه سمكة القرش من رغبات بسيطة في الطعام، وقناعات سمكة القرش البسيطة بشأن الموضع الذي فيه الطعام. أولًا: هي تنطوي على قدرة على التعلم؛ بمعنى أن يكون الكائن مرنًا في الطريقة التي يستجيب بها للمشكلات العملية، من خلال التكيف مع المشكلات غير المتوقعة، وكذلك الاستجابة بطرق جديدة وأفضل لمشكلات قديمة ومألوفة بالفعل. وأسماك القرش من الواضح أنها ليست كائنات متعلمة تتسم بالفضول والابتكار. ومن الواضح أيضًا أن أسماك القرش لا تمتلك قدرًا كبيرًا من هذه المرونة الفكرية.

ثانيًا: هذه المرونة الفكرية لا بد أن تكون مرتبطة بقدرة على فهم المشكلات العملية والاستجابة لها بوصفها مشكلات عملية. عندما يواجهنا سؤال حول ما يجب أن نفعله، يكون بإمكاننا أن نفهمه على هذا النحو؛ أي كمشكلة عملية، وهي مشكلة تتعلق بكيفية تصرفنا. فنحن قادرون على أن نفكر في أنفسنا كأشخاص يمتلكون خيارًا من بين مجموعة متنوعة من الأفعال الممكنة، ومن ثَمَّ يواجهنا سؤال عن التصرف الأفضل لنا كي نؤديه؛ وهو السؤال الذي قد تكون له إجابة صحيحة مدعومة بالحجة.

إذن فنحن بالفعل نستطيع أن نفكر فيما يخص طريقة تصرفنا. ونحن في الواقع نستطيع أن نسأل أنفسنا: أيُّ الأفعال أكثرُ استحقاقًا لأن نؤديها؟ ثم نبحث عن مُسَوِّغات أو أسباب لوجوب قيامنا بهذا الفعل بدلًا من غيره. وهذه المُسَوِّغات سوف تأتي من مختلف الأهداف أو الغايات الممكنة؛ وهي أهداف تستحق الوصول إليها، وسيمكِّننا قيامنا بالفعل الصحيح من الوصول إليها. ولذا فإننا، كأشخاص مفكرين، قادرون على دراسة أي الأهداف هي الأكثر استحقاقًا للوصول إليها، وأي الأفعال ستمكننا بأفضل شكل من الوصول إلى هذه الأهداف. وبهذه الطريقة فإننا نتفكر في أفعالنا ونُقَيِّمها باعتبارها أكثر استحقاقًا أو أقل استحقاقًا لأدائها، وبوصفها مبرَّرة أو غير مبرَّرة.

وإن هذه القدرة على إدراك مبرِّر للقيام بفعل معيَّن على أنه مبرَّر، والاحتكام إلى هذه المبررات حينما نستغرق في التساؤل عن أي الأفعال تكون الأكثر استحقاقًا لأدائها، هذه القدرة هي التي تمنحنا مقدرتنا على العقلانية. وهذه هي المقدرة التي تفتقد إليها أسماك القرش. فأسماك القرش بالتأكيد لا تفكر في مبرِّرات تُعَضِّد الأفعال التي تقوم بها أو تُفَنِّدها.

ولكن من منظور الحرية، ما الفارق الذي سيُحدثه إن كنا نستطيع التفكير في كيفية تصرفنا، وإن كنا نمتلك هذا الفهم التأملي للمشكلات العملية بوصفها مشكلات عملية وليست شيئًا آخر؟ والإجابة بسيطة؛ أن ممارسة التحكم في شيء ما تتطلب على أقل تقدير إعطاءه إرشادًا وتوجيهًا مقصودًا. إذن فلا بد أن تكون أفعالنا على وجه الخصوص أشياءَ يمكننا — بوصفنا فاعلين أحرارًا — إرشادها وتوجيهها بشكل مقصود. ولكن هذا الإرشاد المقصود سيكون مستحيلًا إذا لم نستطع أن نفكر في أفعالنا على أنها تحتاج إلى ترشيد وتوجيه، ولم تكن لدينا أدنى فكرة عما ينطوي عليه مثل هذا الترشيد والتوجيه. يجب أن يكون الفاعلون الأحرار قادرين على أن يفكروا في وجود طرق مبرِّرة للتصرف، وأن يتفهموا ما الذي ينطوي عليه جدالهم بشأن استحقاق أداء شيء ما عوضًا عن شيء آخر. يجب أن يكون الفاعلون الأحرار قادرين على أن يفكروا بشأن ممارستهم، بشأن طريقة تصرفهم. إنهم يحتاجون، كما يقولها الفلاسفة، إلى قدرة على التفكير العملي.

(٣) الحرية والإرادة

إلى جانب قدرتنا على أداء الأفعال، فإننا نتحلى أيضًا بمقدرة على الوصول إلى قرارات واتخاذها بشأن الطريقة التي سوف نتصرف بها. وكما وصفت الأمر في الفصل السابق، فإننا أيضًا نمتلك «إرادة». وهذه المقدرة على اتخاذ القرارات أو الإرادة مرتبطة بوضوح بمقدرتنا على التفكير العملي؛ فهاتان المقدرتان تسيران يدًا بيد. إن ما يتطلبه الأمر لكي تكون صانعَ قراراتٍ أصيلًا هو كونك قادرًا على التفكير المتأني بشأن كيفية التصرف على أفضل نحو، ثم التصرف على أساس هذا التفكير المتأني. وهذه القدرة على اتخاذ القرارات — هذه القدرة على حسم أمورنا — تنبع من قدرتنا على إدراك وتدبر المشكلات العملية بوصفها مشكلات عملية وليست شيئًا آخر. إذن فإذا كانت الحرية تتوقف على العقلانية العملية، فهي أيضًا تعتمد على ما هو مرتبط بالعقلانية العملية؛ امتلاك إرادة. وأسماك القرش التي هي غير حرة لأنها تفتقر إلى مقدرتنا على التفكير العملي هي أيضًا تفتقر إلى مقدرتنا على اتخاذ القرارات. وعلى النقيض منا، فإن أسماك القرش غير حرة لأنها لا تستطيع أن تحسم أمرها بشأن اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله.

وفكرة أن البشر يمتلكون إرادة تنشأ إذن من الفكرة نفسها القائلة إننا، بوصفنا بشرًا، لدينا قدرة على العقلانية. فأن نمتلك إرادة، أن نكون قادرين على اتخاذ القرارات، معناه أن نكون قادرين على التحرك نحو الفعل بواسطة تفكيرنا، بواسطة مقدرتنا على فهم بعض الأهداف باعتبارها أشياء جيدة أو تستحق الوصول إليها، وبواسطة مقدرتنا على رؤية الأفعال بوصفها أشياء توفر طرقًا أفضل أو أسوأ للوصول إلى هذه الأهداف.

وهذه هي الطريقة التي استخدم بها الفلاسفة مصطلح «الإرادة» في الماضي. ففي فلسفة القرون الوسطى، على سبيل المثال، كان المصطلح اللاتيني voluntas (الإرادة) يُستخدم للتعبير عن قدرتنا على اتخاذ القرارات، تلك القدرة التي لا بد أن يحركها التفكير لإتيان الفعل. وهذا هو السبب في أن هناك مصطلحًا لاتينيًّا آخر استخدمه كثير من فلاسفة القرون الوسطى للتعبير عن الإرادة وهو appetitus rationalis؛ أي الشهية العقلانية، أو القدرة الدافعة المشتملة على التفكير. وأن تكون صانع قرارات معناه أن تمتلك «شهية عقلانية»؛ أي قدرة المرء على اتخاذ القرار أو دفع نفسه للقيام بأمر ما بدلًا من آخر على أساس إعمال التفكير بشأن كيفية التصرف.

وقد رأينا في الفصل السابق كيف أن الفلاسفة ظلوا وقتًا طويلًا يشيرون لحرية الفعل على أنها الإرادة الحرة؛ وكأن حريتنا في الفعل كانت حرية خاصة بالإرادة، تحكُّمٌ في اختيار القرارات التي نتخذها. سبب هذا هو أنه في القرون الوسطى، كان الكثير من الفلاسفة يؤمنون حقًّا بوجود تطابق بين حرية الفعل وحرية اتخاذ القرارات، وهو اعتقاد يقل شيوعه منذ ذلك الحين. فهل كانوا محقين في اعتقادهم هذا؟

بالتأكيد يبدو الرأي الاعتيادي وكأنه يؤيد مثل هذا التطابق؛ لأن الرأي الاعتيادي يقول إننا بوصفنا فاعلين أحرارًا لا بد أن نكون أيضًا صانعي قرارات أحرارًا. فكِّرْ — من خلال تمرير المسألة على تفكيرك البديهي — عند أي نقطة من عملية التقرير والتصرف تبدأ حريتك. على سبيل المثال، هَب أنك في الصباح، وأنت تنهض من سريرك، تتخذ قرارًا بشأن ما ستفعله في فترة الظهيرة. أنت تقرر أن تذهب إلى البنك في الظهيرة، بدلًا من البقاء في المنزل والقراءة. إذن فهذا القرار المتَّخَذ في الصباح يحدد أو يقودك للذهاب فعليًّا إلى البنك في الظهيرة. فما الذي تتحكم فيه في هذه العملية؟

بشكل منطقي، لا يقتصر الأمر على ذَهابك في فترة الظهيرة، إلى البنك فعليًّا أو عدمه؛ فقرارك، المتخَذ في الصباح، بالذهاب إلى البنك يئول إليك أيضًا، وهو بالمثل تحت تحكمك. فعندما استيقظت، يئول الأمر إليك بالكامل — تحت تحكمك — إن كنت ستقرر الذهاب إلى البنك أو تقرر البقاء في المنزل. فالطريقة التي تقرر أن تتصرف من خلالها تئول إليك بشكل بديهي — وتحت تحكمك — تمامًا مثل الأفعال اللاحقة التي تنشأ عما تقرره.

وليس هذا فحسب، بل إنه من الصعب أن نرى كيف يمكن لك أن تتحلى بالتحكم في التصرف دون التحكم في القرار. تخيل أن القرارات التي توجه وتحدد أفعالك كانت مجرد حوادث تجري دون تفكير من جانبك، مثل المشاعر، وخارجة تمامًا عن نطاق تحكمك. ومع تخيلك لهذا، من الصعب أن تظل متمسكًا بالفكرة القائلة إن الأفعال التي تنتج عن قراراتك لا تزال خاضعة لتحكمك. إذا كان قرارك بالذهاب إلى البنك أشبه بشعور — شيء يحدث لك فحسب — بحيث لا يكون لديك تحكم في اتِّخاذه، وهذا الشعور الذي لا تسيطر عليه هو الذي يحدد أتذهبُ إلى البنك أم لا؟ فكيف يكون ذهابك إلى البنك من عدمه أمرًا تحت تحكمك؟

وأخيرًا، الأمر التالي مجرد فكرة طبيعية نفكر فيها؛ شيء نؤمن به بشكل اعتيادي. بالتأكيد نحن نفكر في هذا؛ أن طريقة تصرفنا تئول إلينا بشكل أصيل لا لسبب إلا أننا نستطيع أن نقرر بأنفسنا كيف سنتصرف، والأمر يئول إلينا أيضًا في اختيار أيٌّ من هذه القرارات سنتخذه.

إذن يبدو، كما ندرك الأمور بشكل اعتيادي، أن حريتنا في التصرف تعتمد على حريتنا في اتخاذ القرار خاصة. غيرَ أن مقدرتنا على اتخاذ القرار — إرادتنا — هي مقدرة عقلية أو نفسية. وهذا يعني أن إدراكنا الاعتيادي لحرية الفعل هو ما سأطلق عليه إدراك «التأويل النفسي»؛ فهو يجعل الحرية حتى في التصرفات البدنية؛ مثل إن كنا سنسير إلى البنك أم لا، معتمدة على حرية نفسية بالكامل وسابقة للفعل؛ على حرية إن كنا سنقرر الذهاب إلى البنك من الأساس.

ويتبع ذلك أيضًا أنه يوجد مشكلة جوهرية في إدراكنا الاعتيادي للفعل. فقد رأينا أن الحرية أو التحكم يُمارسَان في الفعل ومن خلاله. ولكن إن كان بالفعل باستطاعتنا — وقبل تأدية ما سنختاره من هذه الأفعال — التحكم فيما سنتخذه من القرارات، إذن فلا بد أنه من الواقعي أن هذه القرارات هي في حد ذاتها أفعال. فلو أنني مثلما أتحكم في ذهابي إلى البنك من عدمه، أتحكم أيضًا في أن أقرر أن أذهب إلى البنك من عدمه، إذن فلا بد أن يكون اتخاذ قرار معين بالتصرف هو نفسه نوع من الفعل؛ فعل متعمد أقوم به. وإلى جانب الأفعال التي نقرر الاختيار من بينها؛ مثل الذهاب إلى البنك أو المكوث في المنزل، هناك أفعال أخرى نؤديها أولًا؛ أفعال تخص الإرادة، أفعال تولِّد قرارات أفعال، كأن أقرر أن أذهب إلى البنك أو أقرر المكوث في المنزل.

في بقية هذا الكتاب، سوف أستخدم مصطلحًا مهمًّا: «الفعل الاختياري». و«بالأفعال الاختيارية» أعني ببساطةٍ تلك النوعية من الأفعال التي نقرر الاختيار من بينها. فالأفعال الاختيارية هي تلك الأفعال — مثل الذهاب إلى البنك أو البقاء في المنزل — التي نستطيع تأديتها، ونؤديها بالفعل، بناء على رغبة مسبقة أو قرار مسبق بتأديتها. وهي تسمى بالاختيارية لأنها أفعال مرغوبة أو مرادة ومقررة؛ لأنها يمكن أن تنشأ، بل وتنشأ بالفعل؛ نتيجة لعمل سابق لإرادة القيام بها.

ويبدو إذن أنه إضافةً إلى أفعالنا الاختيارية — الأفعال التي نؤديها لأننا رغبنا أو قررنا القيام بها — يوجد أيضًا فئة مسبقة من الأفعال. وهذه الفئة تتشكل من أفعال الإرادة ذاتها؛ أفعال تقرير القيام بهذا الفعل الاختياري أو ذاك؛ مثل فعل اتخاذ قرار بالذهاب إلى البنك، مثلًا.

فعل الإرادة فعل اختياري
اتخاذ قرار بالذهاب إلى البنك الذهاب إلى البنك

نحن بحاجة إلى فهم علاقة هذه القرارات، هذه الأفعال الخاصة بالإرادة ذاتها، بالأفعال الاختيارية التي تنتجها وتفسرها.

(٤) تناول الإرادة الحرة في العصور الوسطى

في العصور الوسطى، طابَق الفلاسفة، مثل توما الأكويني وسكوتس، في الواقع بين حرية الفعل وحرية الإرادة. فحرية تصرفنا مبنية على حرية اتخاذ القرار، استنادًا إلى فكرة أن الأمر يئول إلينا في الكيفية التي نقرر أو نختار بها أن نتصرف. وهذا التوطيد لحرية الفعل على حرية الإرادة جرى شرحه في نظرية للفعل «ترتكز على الإرادة» وتتسم بالتميز الشديد. اعتبر فلاسفة القرون الوسطى أن الفعل الإنساني وحريته يكتنفان ممارسة مقدرتنا على التفكير العملي، وبشكل خاص على تحلِّينا بالإرادة وممارستنا لها. والممارسة الحرة للإرادة — لمقدرتنا على أن نتحفز من خلال التفكير — تستقر في جوهر كل فعل بشري متعمد.

لقد أطلقتُ على الأفعال التي ربما نريد أن نؤديها، والتي نقرر في النهاية من بينها — الأفعال التي نستطيع تأديتها بناء على رغبة أو قرار بأن نفعل ذلك، كأن يرفع المرء يده إلى أعلى، والتفكير فيما سيفعله بالصيف المقبل، والذهاب إلى البنك، وغيرها — أطلقت عليها الأفعال الاختيارية. إذن، طبقًا لنظرية الفعل القائمة على الإرادة هذه، فإنه عندما تكون أفعالنا الاختيارية متعمدة أو مقصودة على نحو كامل، فإنها دائمًا ما تنشأ عن أفعال الإرادة السابقة، عن أفعال قرار أو اختيار نقرر من خلاله أن نؤدي هذا الفعل أو ذاك. وطبقًا للنظرية القروسطية، لا يقتصر الأمر على أن كل فعل اختياري يسبقه فعل الإرادة ذاتها — فعل قرار أو اختيار يتسبب في وقوع ذلك الفعل الاختياري — بل إن أفعال القرار أو الاختيار المبدئية هذه هي التي تشكل فعلنا في شكله الأولي واللحظي. إن الأفعال الاختيارية تحدث فقط من خلال تأثيرات أفعال الإرادة المبدئية هذه.

fig2
شكل ٢-١: القديس توما الأكويني، نحت على قالب خشبي يرجع لعام ١٤٩٣.

دعونا نأخذْ مثالًا على فعل اختياري بسيط؛ السير إلى البنك. طبقًا للنظرية القروسطية القائمة على الإرادة، فإننا عندما نؤدي فعلًا مثل هذا، فنحن نؤديه على النحو التالي؛ أولًا: نحن «نريد»، فنقرر أو نختار أن نسير إلى البنك؛ وهو قرار أو اختيار يعتبر في طبيعته فعلًا بشريًّا متعمدًا أو مقصودًا تمامًا. ثم يكون لهذا القرار تأثيراته المناسبة؛ وهي نفس التأثيرات التي قررنا أو اخترنا لها أن تحدث. فالقرار يدفع أرْجُلنا لكي تتحرك بالطريقة التي يجب أن تتحرك بها إذا أردنا السير إلى البنك. ولأن هذه التأثيرات تنشأ عن قرار يوجب عليها ذلك، فإننا نعتبر السير إلى البنك فعلًا متعمدًا. وتأديتك لفعل متعمد مثل السير إلى البنك يعني أن تؤديه استنادًا إلى فعل متعمد، ومن خلال تأثيراته، بأن تقرِّر أن تتصرف على هذا النحو.

تبدأ الأفعال المقصودة أو المتعمدة بأن تقرر أن تتصرف؛ ويعتبر القرار، على نحو فوري وأصيل، فعلًا من أفعالنا. وما نفعله اختياريًّا يُعتبر إذن فعلًا من أفعالنا فقط لكونه أحد تأثيرات فعل القرار السابق ذلك. فالفعل بصورة عامة يؤدَّى على نحو تام من خلال تأدية الأفعال الخاصة بالإرادة.

وينتج عن هذا التفسير للفعل أن الفعل لا يمكن أن يكون حرًّا إلا إذا كانت الإرادة حرة. ولما كانت كل الأفعال تُؤدَّى من خلال تأدية أفعال الإرادة، فإن تحكمنا في أفعالنا يُمارَس كليًّا بوصفه تحكمًا خاصًّا بما نقرره أو نريده. وعليه فإن حرية التصرف، في جوهرها، هي حرية الإرادة.

ولكن ماذا عن فعل الحيوان؟ طبقًا لتناول فلاسفة القرون الوسطى للإرادة الحرة، يختلف تمامًا فعل الحيوان عن الفعل الإنساني. كان فعل الحيوان غير حرٍّ، وتحديدًا لأن الحيوانات بوصفها كائنات غير عقلانية من المفترض أن تفتقر إلى الإرادة. ومعنى هذا أن كل أفعال الحيوانات كانت مجرد نُسَخ من أفعال سمكة القرش. أما حركات الحيوان فكانت تحدث فقط كنتيجة لرغبات غير عقلانية أو إحساسات؛ نظرًا لكون الحيوانات موجهة بإدراكات أو قناعات حسية. فلا يوجد تفكير سليم؛ ومن ثَمَّ لا يوجد بالتأكيد اتخاذ للقرارات؛ ومن ثَمَّ لا يتضمن الأمر أي حرية على الإطلاق.

fig3
شكل ٢-٢: دونس سكوتس.

(٥) القرارات والنيات

لكي نفهم هذا التناول للإرادة الحرة بتفصيل أكبر، دعونا نُلْقِ نظرة أقرب على القرارات. للقرارات خاصيتان مهمتان. الخاصية الأولى والأكثر وضوحًا هي أنها تحدد أي الأفعال الاختيارية سنقوم بتأديتها في نهاية الأمر. والفكرة وراء اتخاذ قرارات بشأن كيف سنتصرف هي أن نقرر أو نحدد بدقة ما الذي سنفعله، على مستوى الفعل الاختياري.

أحيانًا نتخذ قرارات في الوقت ذاته الذي نؤدي فيه الفعل الاختياري المقرر تأديته. أنت تقدم لي عرضًا، الآن، استنادًا إلى قاعدة «اقبلِ الأمر كما هو أو ارفضْه»، وفي الحال سأنفذ قراري بإيصال الموافقة على العرض أو رفضه من جانبي في الحال. إنني أقبل أو أرفض بناء على ما أقرره، على الفور.

ولكننا نتخذ القرارات الأخرى قبل وقت طويل من شروعنا في فعل ما قررنا فعله. فنحن نتخذ قرارات في الشتاء بخصوص أين سنذهب في إجازة الصيف المقبل. وهذه القرارات تسمح لنا بأن نخطط لأفعالنا بفاعلية. ومن خلال قراري الآن بأنني في هذا الصيف سوف أذهب إلى إسبانيا بدلًا من ألمانيا، فإنني أهيئ نفسي لأكون قادرًا على تكريس مواردي ووقتي للتجهيزات الضرورية لإجازة إسبانيا؛ فأقوم بالحجز في الفنادق الإسبانية، وأشتري دليلًا إسبانيًّا وقاموسًا للعبارات الشائعة، وأيضًا خرائط لإسبانيا. أستطيع أن أفعل كل ذلك وأنا مطمئن لمعرفتي بأنني لا أضيع وقتي ومواردي؛ وأنني، بفضل قراري، سوف أقضي عطلتي في إسبانيا.

إننا نتخذ القرارات مسبقًا لأننا نحتاج لتنسيق أفعالنا الاختيارية عبر الوقت. نحن نحتاج لأن نتأكد من أن الطريقة التي نتصرف بها في الحاضر تتوافق، أو تتلاءم، والطريقةَ التي نتصرف بها في المستقبل. نحن بحاجة للتأكد من أننا، إذا اشترينا دليلًا إسبانيًّا الآن، بدلًا من دليل ألماني، فإننا سنسافر إلى إسبانيا لا ألمانيا في المستقبل.

ولكن كيف لقرار مسبق أن يحدد الطريقة التي سنتصرف بها؟ الإجابة هي، مثلما يفعل أي قرار، أنه يترك لدينا النية في التصرف. واتخاذ القرار بالذهاب إلى إسبانيا في وقت مسبق على الذهاب الفعلي إلى هناك يترك المرء ولديه النية على الذهاب إلى إسبانيا. والاحتفاظ بهذه النية يتطلب أن يحافظ المرء على قراره أو حافزه للذهاب إلى إسبانيا؛ وهي حالة نستمر عليها حتى يحين وقت تأدية الفعل المقرر تأديته. فالقرار إذن هو صياغة لنيةٍ ما، وهي نية تظل مُلحَّة على المرء حتى يقوم، في النهاية، بتأدية الفعل الاختياري المقرر.

وبالطبع، فإن القرار لا يضمن أن أتصرف مثلما قررت، مهما كان ما سيحدث في المستقبل. فلا بد أن أكون قادرًا على تعديل قراراتي أو التخلي عنها إذا اكتشفت أن الافتراضات التي بُنيتْ عليها تلك القرارات كانت خاطئة أو غير مكتملة على نحو خطير. ويجب عليَّ أن أكون قادرًا على تغيير رأيي بشأن الذهاب إلى إسبانيا إذا علمت فجأة أن قطاع الفنادق الإسباني سوف يشترك في إضراب عام طوال الصيف. ولكن في حالة عدم وصول معلومات جديدة من هذا النوع — معلومات كانت ستؤدي بي إلى اتخاذ قرار مختلف لو أني حصلت عليها من البداية — يجب أن يحدد قراري أنني سأتصرف فعليًّا مثلما قررت. فهذا، على كل حال، هو الهدف من اتخاذ القرارات مسبقًا؛ أن أحدد أو أقرر الآن ما الذي سأفعله في المستقبل.

والخاصية الثانية للقرارات هي أنها لا تحدد النتائج الاختيارية التي ستجلبها فحسب — على سبيل المثال كوننا سنذهب فعليًّا إلى إسبانيا أم لا — ولكنها ستحدد أيضًا أهدافنا ومقاصدنا؛ أي ما نرمي إليه، من حدوث هذه النتائج. وبالفعل، فإن أهدافنا أو مقاصدنا هي ما تحدده قراراتنا فوريًّا؛ أما تحديد النتائج الاختيارية النهائية فيكون لاحقًا لذلك.

والتأثير الفوري لقراري بالذهاب إلى إسبانيا — وهو تأثير يحوزه القرار حتى قبل أن يدفعني للذهاب فعليًّا إلى إسبانيا — هو أن يترك لديَّ هدفًا أو غاية محددة، هدفًا صار من الآن مقصدًا لي. وهدفي الآن هو (تمامًا مثلما قررت) أن أذهب إلى إسبانيا. وقد قلت من قبل إن القرارات تُنتج نياتٍ، وإن اتخاذ قرار بالذهاب إلى إسبانيا معناه عقد نية بالذهاب إلى إسبانيا. وهذا المصطلح، «النية»، هو اسم آخر لحالة وضع المرء لشيء ما هدفًا. وعندما يؤدي قراري بي إلى عقد النية بالذهاب إلى إسبانيا، فإنه يؤدي بي إلى الذهاب إلى إسبانيا كهدف لي. وفقط من خلال توجهي على هذا النحو إلى الهدف أو الغاية المتمثلة في الذهاب إلى إسبانيا — فقط وأنا أعقد النية على الذهاب إلى إسبانيا — فإنني أنتهي إلى الذهاب إلى إسبانيا بالفعل؛ ومن ثَمَّ، فإن هذا الهدف أو النية في الذهاب إلى إسبانيا تتناقله وتتشارك فيه الأفعال الاختيارية — أيًّا كانت — التي أؤديها من أجل تنفيذ القرار. إذن فعندما أشتري تذكرة طيران لإسبانيا، تنفيذًا لقراري بالذهاب إلى هناك، فإن هذا الفعل المتمثل في شراء التذكرة سوف يكون بالمثل موجهًا نحو الهدف المتمثل في ذهابي إلى إسبانيا.

والآن نستطيع أن نفهم بشكل أفضل فكرة أن حرية التصرف تتم ممارستها مبدئيًّا ومباشرةً بوصفها حرية للإرادة. والفكرة هي أن حريتنا، ومقدرتنا على الفاعلية (أن يكون المرء فاعلًا)، تجري ممارستها مبدئيًّا في اتخاذ القرار، وفي الفعل الحر المتمثل في تبني الأهداف والغايات. وهذا الفعل المبدئي المتمثل في تبني الأهداف والغايات هو الذي يحدد حينها فِعْلنا الاختياري في المستقبل؛ أي النتائج الاختيارية التي سنحققها في النهاية.

(٦) مبادئ الأخلاق باعتبارها مبادئ تخدم الأهداف والمقاصد

إذا كانت حرية الفعل تتشكل من حرية الإرادة، فإن هذا يعني أن تحكمنا في أفعالنا الاختيارية يكتنف أيضًا تحكُّمًا في غاياتنا، في المقاصد التي من أجلها نتصرف. وليس الأمر فقط أننا نمتلك تحكمًا في كوننا سنساعد الآخرين أم لا. فقبل ذلك، لا بد أن يكون لدينا أيضًا تحكم في كوننا نهدف إلى مساعدة الآخرين أم لا؛ وفي كونِ غايتنا الأساسية هي مصلحةَ الآخرين، أم مصلحتنا الخاصة فقط. وهذه القناعة بأننا نتحكم في مقاصد أو أهداف الفعل، لا نتائج الفعل فقط، تُعَدُّ فكرة مهمة للغاية. وقد مثلت هذه الفكرة أهمية كبيرة جزئيًّا للنظرية الأخلاقية القروسطية؛ بسبب أنها كانت — ولا تزال — مهمة جدًّا للمنطق السليم الأخلاقي.

تعاملت النظرية الأخلاقية القروسطية مع فكرة مسئوليتنا الأخلاقية عن أفعالنا بِجدِّية بالغة. فقد كانت تنظر إلى مبادئ الأخلاق باعتبارها تقدم لنا التزامات أو واجبات؛ التزامات أو واجبات تخاطب مقدرتنا على الفعل الحر، وأننا يمكن أن نُلام ونتعرض للمساءلة عن عدم وفائنا بتلك الالتزامات. وكان من المتفق عليه بشكل عام أننا قد نكون خاضعين لهذه الالتزامات لا لسبب إلا أننا نتمتع بتحكم أصيل في الطريقة التي نتصرف بها؛ وأننا مجبرون على الالتزام بممارسة هذه الحرية بشكل جيد، لا سيئ.

وقد استوعبت الفلسفة الأخلاقية القروسطية تمامًا مبادئ الأخلاق هذه التي تكتنف الالتزام في إطار نموذجها للفعل الإنساني القائم على الإرادة. وحيث إن الممارسة المباشرة لحريتنا تكون في اتخاذ القرار — في تبني الهدف أو الغاية — فإن الالتزام الأخلاقي الأول والأساسي الذي كنا خاضعين له كان التزامًا بتبني الأهداف أو الغايات الصحيحة.

عملت الفلسفة القروسطية داخل إطار الديانة المسيحية. وهكذا فقد كانت الديانة المسيحية هي التي تُمْلي على الناس فهم ماهية تلك الأهداف أو الغايات الصحيحة. وقد كانت «أحبوا بعضكم» هي العبارة الشهيرة التي أوجز فيها السيد المسيح، في العهد الجديد، التزاماتنا الأخلاقية بشكل عام تجاه بعضنا. وفي إطار تناول هذا الالتزام بالحب في القرون الوسطى، كان مفهومًا أنه يتضمن التزامًا بتبني مصلحة الآخرين كهدف أو غاية لنا؛ أن نقرر مساعدة الآخرين وإفادتهم.

وتُعدُّ هذه نظرية أخلاقية مختلفة للغاية عن تلك الحالية في الفلسفة الإنجليزية الحديثة؛ فهي تعتمد على إيماننا بأننا نمارس حريتنا بوصفها حرية إرادة. وهذه النظرية، كما سنرى، هي رؤية لحريتنا غير مقبولة عمومًا، سواء من قِبَل التوافقيين المحدثين أو اللاتوافقيين المحدثين.

ولكن يجب أن نتذكر أن الفكرة البديهية التي يمليها علينا المنطق السليم ليست ببعيدة عن نظرية القرون الوسطى. فنحن في العادة نفكر في اتخاذ القرارات، وتبني الأهداف، كأفعال حرة في حد ذاتها. وفي الحياة العادية، فإن الالتزام يستوعب بالفعل الأهداف والمقاصد مثلما يستوعب النتائج الحقيقية. وبالفعل، فإننا من ناحية مبادئ الأخلاق نهتم، وهذا محل أخذ وَردٍّ، بأهداف الناس ومقاصدهم بشكل أساسي.

لنفترض أن شخصًا يُدعى فرِد، بأنانية ونكران للجميل، لم يساعد والدته. يمكننا ببساطة أن نلومه على عدم تحقيقه للنتيجة الاختيارية الصحيحة؛ أي على عدم المساعدة: «كان عليك أن تساعد والدتك. فمن الخطأ ألا تساعدها.» ولكن يمكننا بالمثل أن نلوم فرِد بوضوح على عقوقه الأناني، على عدم التحلي بأي اهتمام نحو والدته بعد أن فعلت من أجله الكثير؛ وربما تقول: «أيها الوغد متحجر القلب. أنت لا تهتم بوالدتك. لكن عليك أن تكون مهتمًّا بحال والدتك. فبعد كل ما فعلته من أجلك، من الخطأ أن تهتم بنفسك فقط. عيب عليك أن تكون أنانيًّا إلى هذه الدرجة.» في الحالة الثانية، نحن ننبِش بعمقٍ داخل ما يجعل فرِد مستحقًّا للَّوم، وأعني بذلك أنه لا يقتصر الأمر على أن فرِد لا يساعد والدته، بل إنه في فعلته هذه مدفوع بافتقار أناني للامتنان، بلامبالاة مخزية أخلاقيًّا تجاه والدته. إن غاية فرِد الوحيدة في الحياة هي مصلحته الشخصية؛ فهو لا يهدف إلى مساندة مصلحة والدته على الإطلاق. وهذا هو ما نلوم فرِد عليه؛ أنانيته، أو حقيقة أن هدفه أو مقصده النهائي الوحيد هو مصلحته الشخصية.

لاحظ أننا نستطيع أن نستمر في لوم فرِد لكونه أنانيًّا حتى لو أنه، في النهاية، قام بشيء ما ليساعد به والدته. هب أن فرِد ساعد والدته بالفعل في نهاية الأمر. فربما يكون فرِد قد قدَّم هذه المساعدة فقط من أجل أن يعزز مصالحه الشخصية؛ لكي يضمن مثلًا أن والدته لن تحذف اسمه من وصيتها. لو أن هذا بوضوح هو مقصد فرِد الحقيقي من المساعدة، فسوف نستمر في لوم فرِد «لكونه وغْدًا»، مع أنه قام أخيرًا بمساعدة والدته. وهذا لأن ما نلومه عليه بشكل أساسي — أنانيته — لا يزال موجودًا. إننا في الأساس نلوم فرِد لكونه أنانيًّا للغاية، وهي الأنانية التي كان عدم مساعدة فرِد المبدئي والدته مجرد عَرَض لها.

في الحياة العادية، نحن نلوم الناس على سعيهم نحو الأهداف الخاطئة، وعدم سعيهم نحو الأهداف الصحيحة. إننا نلوم الناس لمجرد أنهم أنانيون، ولأنهم غير مُبالين بالآخرين. وإدراك المعنى وراء هذا اللوم المرتبط بالهدف أو الغاية يجب ألَّا يمثل مشكلة، إذا استطعنا أن نفهم — كما فهم فلاسفة القرون الوسطى من قبل — تبني الأهداف أو المقاصد بوصفه ممارسة للحرية. يمكن اعتبار فرِد مسئولًا بشكل مباشر عن أنانيته وأن يلام عليها إذا كانت هذه الأنانية من صنع يده وتقع ضمن نطاق تحكمه؛ إذا كانت مصلحة الآخرين لا تشكل جزءًا من نيته الحرة، وإنما مصلحته الخاصة فقط.

(٧) تناول الإرادة الحرة وميتافيزيقا القرون الوسطى

طابَق تناول الإرادة الحرة في القرون الوسطى بين حرية التصرف وحرية الإرادة. وكما رأينا، فإن هذا يرجع إلى أن الإرادة الحرة كانت تمتلك نموذجًا مميزًا للفعل الإنساني يتبلور بشكل أساسي من ممارسة القدرة على الاختيار، وعلى اتخاذ القرار. وقد هيمن هذا النموذج على نظرية الفعل القروسطية؛ وهو يبدو في بعض جوانبه شبيهًا بالمنطق السليم. وعلى أي حال، فنحن أيضًا نرى أنفسنا فاعلين أحرارًا لا لسبب إلا أننا نستطيع أن نقرر أو نختار كيف سنتصرف، ولأن الأمر يئول إلينا في اختيار أي الأفعال سنقوم بأدائها.

ولكن في الكثير من الجوانب الأخرى، تختلف نظرية الفعل القروسطية اختلافًا كبيرًا عن الكثير مما نؤمن به الآن. أولًا: كان الجزء العملي من الفعل يقع بالكامل في حيز الإرادة. وطبقًا للنظرية القروسطية، فإن كل ما نفعله مباشرة هو أن نقرر أن نؤدي هذا الفعل بدلًا من ذاك. أما بقية ما نفعله فيُعتبر من عملنا المتعمد والمقصود، لكنه غير مباشر؛ أي لا يزيد عن كونه تأثيرًا مقصودًا لكوننا قد قررنا بشكل مسبق القيام به.

ولكن ليس هذا تمامًا ما نؤمن به في العادة. فما إن أتَّخذ قرارًا، لِنَقُلْ مثلًا بعبور الطريق، فإن انخراطي المباشر في الفعل لا يتوقف عند هذا الحد، ويكون الباقي متروكًا للطبيعة. وذلك لأنني عندما أتصرف أخيرًا مثلما قررت وأقوم بعبور الطريق بالفعل، فإن عبوري لا يدفعه قراري السابق بالعبور دون تفكير. فبينما أعبر الطريق فعليًّا، فإنني أكون مرة أخرى منخرطًا مباشرة في عمل شيء متعمدًا، وهو ما يعد ممارسة أعمق لفاعليتي فيما يتجاوز — ويضاف إلى — ما فعلته من خلال قراري السابق بأن أتصرف على هذا النحو. وهذا لأن تحكمي في كوني سأعبر الطريق لا أمارسه فقط بطريقة غير مباشرة وبشكل مسبق — فقط من خلال قرار مسبق بعبور الطريق وتأثيراته — ولكنني أمارسه أيضًا بشكل مباشر من خلال عبوري للطريق. وهذا يعني أن الفعل الاختياري أكبر من مجرد تأثير لفعل سابق جرى تنفيذه بالكامل داخل عقلي. فهو يعبر أيضًا عن انخراط مباشر وأعمق من جانبي في الفاعلية، وهو شيء أمارس عليه تحكمًا مباشرًا حينما أقوم به، أو هكذا يبدو الأمر من منظور المنطق السليم. ويجب أن يحافظ أي تفسير مقبول لتصورات المنطق السليم بخصوص الحرية والفاعلية على هذه الفكرة. وربما يكون حقيقيًّا أنه من أجل امتلاك الحرية على أي حال، فلا بد أن تكون قابلة للممارسة من خلال قرارات الإرادة، من خلال أفعال اتخاذ القرارات وعقد النيات. ولكن الحرية لا يمكن ممارستها من خلال القرارات وعقد النيات فقط؛ فهي تُمارَس أيضًا وبنفس الشكل المباشر في الأفعال الاختيارية، في الأفعال المقصودة التي تفسرها قراراتنا ونياتنا. وهكذا فلا بد أن تعامَل الأفعال الاختيارية كأفعال أصيلة ومميزة وفقًا لسماتها الخاصة. وهي لا تحدث كمحض تأثيرات مقصودة لأفعال إرادة أُديت في السابق.

إذن حينما ننصف فاعلية اتخاذ القرارات وصياغة النيات — أي فاعلية الإرادة ذاتها — فإننا كذلك نحتاج إلى أن نعطي فعلنا الاختياري حقه. فنحن لا نريد أن ينتهي بنا الحال إلى رؤية للفعل تكون — كما سأطلق عليها — «إرادية»؛ رؤية تقول بأن انخراطنا الحقيقي في الفاعلية، الفعل تحديدًا، هو انخراط عقلي بالكامل ويحدث فقط داخل نطاق الإرادة، وأن الأفعال الاختيارية تحدث فقط كتأثيرات لاحقة لهذا الانخراط. ومع ذلك، فقد كانت نظرية الفعل القروسطية بشكل عام إرادية في الأساس. فبالنسبة لمعظم فلاسفة القرون الوسطى، كان انخراطنا المباشر في الفعل المتعمد والمقصود يحدث كاملًا عند مرحلة تقرير القيام بهذا الفعل بدلًا من ذاك.

وكان هذا الرأي مرتبطًا بالسمة الثانية من النظرية النفسية القروسطية. فالإرادة — أي مقدرتنا على اتخاذ القرار — كان يُنظر إليها باعتبارها شيئًا غير مادي وغير متجسد. وكان هذا بسبب أن الإرادة كانت بالنسبة لهم تمثل مقدرةً على الاستجابة للتفكير؛ وكان فلاسفة القرون الوسطى عامةً يفترضون أن التفكير والقدرات المستجيبة له مباشرة لا يمكن تجسيدها في شكل مادي. وهذا يشمل قدرتنا على الفعل المقصود أو المتعمد، القدرة التي ارتأى فلاسفة القرون الوسطى أنها بشكل أساسي وضروري قدرة على الاستجابة للتفكير العملي، وللمعايير المنطقية للفعل. وهذا يعني أن انخراطنا المباشر في الفعل المقصود كان بطريقة مماثلة يحدث خارج أي عضو جسدي. فهو لا يستطيع إلا أن يتخذ شكل القرارات أو أفعال الإرادة؛ أفعال ذهنية أو نفسية محضة. وكل شيء آخر نفعله بشكل مقصود لا يمكن اعتباره فعلًا مقصودًا إلا بشكل اشتقاقي، من خلال كونه تأثيرات مقصودة لأفعال الإرادة هذه. وكان من الواجب أن تكون هذه القرارات أو أفعال الإرادة المبدئية غير مادية بالكامل؛ ولا يمكن لها أن تكون، مثلًا، من أحداث الذهن. أما ما قادت إليه هذه القرارات أو أفعال الإرادة من أفعال اختيارية فهي تحدث ماديًّا، مثلما تتحرك أقدامنا ونحن في طريقنا إلى البنك. ولكن كان يتعين أن تكون أفعال الإرادة المبدئية التي أوجدت تلك الأفعال الاختيارية روحيةً بالكامل وغير مادية.

ولكن من الصعب علينا أن نتشارك هذا الإيمان باللاجسدية أو اللامادية الكاملتين لقدرتنا على اتخاذ القرار؛ فنحن لدينا اليوم معارف عن المخ لم تكن متاحة في القرون الوسطى، ويمكننا أن نفهم — حتى ولو كإطار عامٍّ — الكيفية التي يكون بها المخ عضو تفكير واستدلال؛ عضوًا ملموسًا أو ماديًّا. إننا نعرف أن المخ يتكون من عدد كبير للغاية من الشبكات العصبية المركبة، التي ترسل كمًّا ضخمًا من الشحنات والإشارات الكهربية، ويبدو أن التغييرات في توزيعها ذات علاقة بالتفكير والعقلية. لذا، فإننا نميل إلى التفكير في أن القدرة على اتخاذ القرار — مثل كل القدرات العقلية الأخرى — يجب أن تكون بشكلٍ ما مجسدةً في المخ.

واعتقاد فلاسفة القرون الوسطى في كون اتخاذ القرارات عمليةً لا مادية مَنَعَهم من رؤية مشكلة الإرادة الحرة مثلما نراها؛ مشكلة تتعلق في الأساس بكيفية إجراء توفيق بين الحرية وبين احتمالية أن تكون الأفعالُ هي أحداثًا تقع داخل العالم المادي، وخاضعة لقانون السببية المادية مثل أي نوع من الأحداث. ولكن بدلًا من ذلك، رأى فلاسفة القرون الوسطى بشكل عام العالم باعتباره هرمية كونية؛ هرمية تسبق الروحُ أو اللاماديُّ فيها المادةَ. ولأن الروح أو اللامادي يسبق المادةَ، فإن العمليات اللامادية — عمليات مثل التفكير أو الفعل الإنساني المقصود — لا يمكن أن تتقرر أو تتحتم بالأسباب المادية أو الملموسة.

فإذا كان هناك أحدٌ أو شيء يستطيع دون خطأ أن يدفعنا إلى اتخاذ قرار، فلا يمكن أن يكون ذلك سوى الله. وجزء كبير من سبب رؤية فلاسفة القرون الوسطى لحريتنا كمشكلة كان يتعلق بفكرة الذات الإلهية. فقد رأوا أن ثلاثة جوانب في الله بصفة خاصة تشكل تهديدًا لحرية مخلوقاته البشرية. وهذه الجوانب هي أولًا: العلم المطلق؛ أي العلم بكل شيء بما يشمل العلم بالمستقبل، وثانيًا: عدم تأثر الله بأي شيء؛ وهي الفكرة التي فُهِمَت على نطاق واسع بأن الله لا يمكن أن يتأثر سلبًا بأي سبب خارجي، وثالثًا: تدبير الله ذي القدرة المطلقة؛ وهو ما يعني أن كل شيء يحدث بإرادة الله باعتباره حاكمَ الكون مطلق القوة.

ولنأخذ العلم المطلق أولًا؛ فالله يعلم كل شيء بما في ذلك أفعالنا المستقبلية كافة. ولكن كيف يتسق هذا وحريتنا في التصرف؟ فإذا كان الله قد سبق في علمه أننا سوف نقوم بالفعل (أ)، والله على الدوام منزَّهٌ عن الخطأ، فكيف يمكننا إذن أن نكون أحرارًا في القيام بالفعل (ب) بدلًا من الفعل (أ)؟ ليس الأمر كأننا الآن في موقف يمكننا من خلاله أن نغير الماضي. ليس الأمر كأنه، رغم علم الله السابق على الدوام أننا سوف نقوم بالفعل (أ)، بإمكاننا في أي وقت تغيير التاريخ لكي نجعل من الصحيح بدلًا من ذلك أن الله سبق في علمه أن نقوم بالفعل (ب) منذ بداية الأمر. وسوف تتعمق المشكلة، إذا ما أضفت إليها عنصر أن الله لا يتأثر بأي شيء. فإذا كان الله قد سبق في علمه أنك سوف تقوم بالفعل (أ)، وفي الواقع أنك سوف تقوم بالفعل (أ)، فلا يمكن أن تكون هذه مصادفة؛ فلا بد أن هناك رابطًا بين ما سبق في علم الله أنك سوف تفعله وما سوف تفعله بالفعل، وإلا فسوف يصبح العلم الإلهي هنا ليس علمًا مسبقًا، ولكن مجرد تخمين يحالفه الحظ. ولكن ما هذا الرابط، إذن؟ لا يمكن أن يكون الرابط كما يلي: إن قيامك بالفعل (أ) جعل الله يعلم هذا الفعل، وهذه هي الكيفية التي يعلم بها الله علمه. ففي هذه الحالة لن يكون الله غير متأثر بأي شيء، وسيتأثر سببيًّا بعوامل خارجية. هنا يبدو الأمر وكأن الرابط يجب أن يكون بالعكس: من خلال تأثير الله في العالم باعتباره خالقًا لهذا العالم، وليس لأن العالم يؤثر في الله. لذا، فإن علم الله السابق أنك سوف تقوم بالفعل (أ) ليس مصادفة، ولا تخمينًا يحالفه الحظ؛ لأنه مؤسَّس على القضاء الإلهي بأنك سوف تتصرف بهذه الطريقة؛ القضاء الذي سوف تقوم حتمًا بتنفيذه، وهو ما يرجع الفضل فيه إلى طلاقة القدرة الإلهية.

هذه الجزئية تقودنا إلى مشكلة الحرية الناجمة عن تدبير الله ذي القدرة المطلقة. فإذا كان كل ما يحدث ناجمًا عن قضاء الله بأنه ينبغي أن يحدث — وهو قضاء سينفذه الله حتمًا، وقضاء يستند إليه كل العلم الإلهي بالمستقبل — وإذا كانت الأفعال الإنسانية ليست استثناء من ذلك، فكيف يمكننا إذن أن نكون أحرارًا في أن نفعل خلاف ذلك؟ كيف يمكن أن تكون الكيفية التي نتصرف بها شيئًا يئول إلينا، إذا كان الله قد قضى وقدَّر مسبقًا بشكل حتميٍّ الكيفيةَ التي سوف نتصرف بها بالضبط؟

إذن، يتضح أن مشكلة الإرادة الحرة في القرون الوسطى كانت لاهوتية المنطلق لا ماديته، ولكنها قادت إلى قدر من التشكك الصريح في الحرية أقل كثيرًا من ذلك الذي نراه في الفلسفة الحديثة. كانت النظرة إلى الله وماهيته تفرض صعوبات فكرية فيما يتعلق بالإيمان بالحرية الإنسانية، ولكن لم يكن يُنظر عمومًا إلى هذه الصعوبات باعتبارها شيئًا أكثر من ذلك، وابتُكر العديد من النظريات المبدعة للتغلب على هذه الصعوبات.

وفي هذا السياق نجد بصفة خاصة أن مفكري القرون الوسطى لم ينظروا إلى تدبير الله ذي القدرة المطلقة على أنه تهديدٌ لحريتنا، ولكن على العكس نظروا إليه باعتباره مصدرًا للحرية. فباتخاذك قرارًا بأنك سوف تقوم بفعلٍ ما، يعلم الله يقينًا بما لا يرقى إليه الخطأ أنك سوف تفعله، ولكن هذا لا يمثل تهديدًا لحريتك؛ لأن الله خلقك كائنًا حرًّا بطبيعتك. كذلك فإن تأثير الله فيك باعتباره خالقَك لن يهدد طبيعتك، ولكن على العكس، فإن هذا التأثير سوف يدفعك إلى إدراكها. لذا، فإنه من خلال قضاء الله بأنك سوف تقوم بالفعل (أ) لا الفعل (ب)، فإن الله يعلم يقينًا أنك لن تقوم بالفعل (أ) فحسب، بل يعلم أيضًا أنك سوف تقوم به بما يتفق وطبيعتك؛ وهو ما يعني أنك سوف تقوم بالفعل (أ) بحرية. هذا التأثير السببي فيك والناجم عن سبب مادي محدد سوف يكون مختلفًا تمامًا في تبعاته بالنسبة لحريتك؛ فهذا النوع من التأثير السببي الملموس أو المادي سوف يمثل — حال حدوثه — تهديدًا حقيقيًّا لحريتك. ولكن بعد ذلك، لم يعد يُنظر عمومًا إلى الأسباب المادية باعتبارها قادرة على تقرير أفعال الإرادة المعنوية. كما أن التأثير السببي الإلهي على هذه الأفعال، مثلما سبق أن قلت، كان يُنظر إليه أحيانًا على أنه لا يمثل تهديدًا للحرية بأي شكل، بل العكس في الواقع.

إذن، كانت مشكلة الإرادة الحرة في القرون الوسطى في كثير من جوانبها مختلفةً تمامًا عن المشكلة التي نعالجها حاليًّا؛ فقد عكست معتقدات مختلفة تمامًا بشأن العقل البشري وبشأن موقعنا في الكون. ولكي نفهم بشكل تفصيلي ودقيق كيف نشأت مشكلة الإرادة الحرة الحديثة، علينا أن نلتفت إلى القرن السابع عشر. ففي ذلك القرن، تغيرت مشكلة الإرادة الحرة؛ وظهرت التوافقية في شكلها الحديث لأول مرة. إذن نحن بحاجة أولًا للنظر إلى التوافقية بشكل عام؛ وبعد ذلك ننظر إلى الشكل الخاص جدًّا الذي تتخذه التوافقية في الوقت الحالي، في مشكلة الإرادة الحرة الحديثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤