الفصل الثالث

التفكير

(١) لماذا التوافقية؟

يفترض أغلب الناس بالفطرة أن الحرية لا تتسق والحتمية السببية. فإذا كانت جميع أفعالنا المستقبلية قد تم تحديدها سببيًّا مسبقًا منذ لحظة مولدنا، فكيف سنكون أحرارًا في التصرف بشكل مختلف؟ إن التوافقية ليست شيئًا نعتقد فيه بفطرتنا، ولكنها أمر يجب أن نتعلمه؛ بواسطة فلاسفة محترفين، وفي كتب الفلسفة، ومن خلال تعلم الفلسفة.

إذن، لماذا يعتقد الكثيرون من الفلاسفة في حقيقة التوافقية ويدرِّسونها؟ هناك دافع واضح لهذا الأمر وهو: الحفاظ على حرية الإنسان من التهديد بأن تصبح الحتمية السببية حقيقة. ولكن هذا ليس الدافع الوحيد، أو حتى أهم الدوافع. فرغم كل شيء، يمكن إثبات أن الحتمية السببية ليست حقيقة في النهاية. بالتأكيد زادت الفيزياء الحديثة من احتمالية أن العالم ليس نظامًا حتميًّا، ولكن هذا الأمر لم يقلل من شعبية النظريات التوافقية للحرية بين جموع الفلاسفة. وعلى أي حال، حتى إن نظرنا إلى الحتمية السببية على أنها احتمالية جِدية، فإن هناك خيارًا بديلًا؛ فبدلًا من محاولة شرح كيف تتفق الحرية مع الحتمية السببية، يمكننا أن نحاول شرح أنه قد لا تكون الحرية مهمة في نهاية الأمر. يمكننا أن نسعى خصوصًا إلى إيجاد معنى في مبادئ الأخلاق والمسئولية الأخلاقية البشرية حتى في حالة غياب الحرية. وفي الحقيقة، كما سنرى، إن هذا بالضبط ما حاول فعله عدد من الفلاسفة.

لم تكن المشكلات التي تكتنف الحتمية السببية هي ما دفعت الفلاسفة لاعتناق التوافقية. في الحقيقة تكمن جاذبية التوافقية الحقيقية فيما هو أعمق، وهي ذات مصدرين منفصلين تمامًا، بل ومتناقضين. ويعتنق الفلاسفة التوافقيةَ بشكل عام؛ لأنهم يقبلون أحد رأيين مختلفين تمامًا عن الحرية.

أحد مصادر الاعتقاد في التوافقية هو ما سأطلق عليه «المفهوم العقلاني عن الحرية». رأينا في الفصل السابق أنه يبدو وجود صلة مهمة بين الحرية والتفكير؛ حيث إن الفاعل الحر يجب أن يكون قادرًا على التفكير أو أن يُمعن في كيفية تصرفه، وعلى أن يتخذ قراراته بشأن كيفية أدائه للأمور بناء على هذا الإمعان. هذه الأمور جعلت من الطبيعي أن نتعمق أكثر، وأن نرى حريتنا على أنها لا تعدو كونها تعبيرًا عن تفكيرنا. في الحقيقة، يكمن الإغراء ببساطة في مطابقة الحرية مع التفكير. من وجهة النظر هذه، أن تكون فاعلًا حرًّا هو ببساطة أن تكون عقلانيًّا في أفعالك؛ ومن ثَمَّ، كما سأشرح، فهذه النظرة العقلانية للحرية، وهي النظرة التي تطابق الحرية مع التفكير، ستقودنا إلى التوافقية. هذا الطريق العقلاني إلى التوافقية كان ذا أهمية خاصة في العالم القديم والعصور الوسطى، غير أنه لا يزال مهمًّا في الوقت الحالي.

هناك أيضًا مصدر ثانٍ مختلف تمامًا للاعتقاد في التوافقية؛ المصدر الذي زادت أهميته بدرجة كبيرة منذ القرن السابع عشر، والذي يعتبر جوهريًّا بالنسبة لمشكلة الإرادة الحرة الحديثة. يمكننا أيضًا أن نقول إن التوافقية الحديثة جاءت من مذهب «الطبيعية»؛ هو الاقتناع بأن الجنس البشري بأكمله جزء من طبيعة مادية أكثر اتساعًا، وأن البشر ما هم إلا شكل أكثر تعقيدًا من الحيوانات. لذا فإن تصرفات البشر يجب أن تشبه تصرفات الحيوانات الأدنى وتتوافق معها. وأن حرية البشر في الفعل يجب أن تكون قوة متحكمة في الفعل لا تختلف نوعيًّا عن القوى الأخرى الموجودة في الطبيعة، بما فيها تلك القوة التي تتحكم بها الحيوانات الأدنى في أفعالها.

من الواضح أن مصدرَيِ التوافقية هذين يختلف كل منهما عن الآخر اختلافًا جوهريًّا. إن التوافقية العقلانية تحتكم إلى وجود صلة بين الحرية والتفكير، والتفكير هو الأمر الذي يميز في ظاهره البشر عن بقية الموجودات في الطبيعة، وبالتأكيد عن الكائنات الأقل ذكاءً مثل أسماك القرش والجرذان. في حين لا تركز التوافقية الطبيعية على التفكير أو أي شيء قد يميز البشر عن بقية الحيوانات، بل العكس. يحاول القائلون بمذهب الطبيعية أن يمثلوا الحرية الإنسانية على أنها مجرد حالة أخرى من القوى والقدرات التي لا يتميز بها البشر وحدهم، بل التي توجد، بشكل أو بآخر، في الطبيعة بصورتها الأكبر. وفي الصورة المتطرفة للتوافقية الطبيعية — الصورة الموجودة في أعمال توماس هوبز، الذي سنناقش وجهات نظره لاحقًا — قد يصل الأمر إلى إنكار أن الحرية تستلزم مسبقًا أية قدرة على العقلانية على الإطلاق. يمكننا القول إن مذهب الطبيعية قد يسمح للحرية بأن تمتد إلى الحيوانات غير العاقلة. ولكن حتى وإن لم تصل الطبيعية إلى هذا الحد، فإنها ستواصل محاولة إبراز أن الحرية الإنسانية لا تتضمن أي انقطاع جذري بين الطبيعة البشرية والطبيعة بصورتها الأكبر، وأن فكرة وجود صلة أساسية بين البشر وبقية الطبيعة هي التي تشجع على التوافقية الطبيعية. سيلقي هذا الفصل الضوء على الطريق العقلاني إلى التوافقية، ثم سيلقي الفصل الرابع الضوء على الطريق الطبيعي المختلف تمامًا.

(٢) التوافقية العقلانية

إن حريتنا، كما ناقشنا من قبل، تعتمد بشكل واضح على تحلينا بالقدرة على التفكير العملي. وتحلي المرء بتحكم حقيقي في أفعاله يتطلب، على أقل تقدير، أن يكون قادرًا على منح أفعاله إرشادًا وتوجيهًا مقصودًا. ويعني هذا أيضًا أن يكون المرء قادرًا على التصرف على أساس إدراكه أن أفعاله تحتاج إلى هذا التوجيه. فإذا كان المرء يرغب في التحكم في كيفية تصرفه، فعليه أن ينظر إلى أفعاله على أنها بحاجة إلى تبرير، وأنها يجب أن يتم تبريرها طبقًا لبعض الظروف دون غيرها. وتتطلب الحرية أن يكون المرء قادرًا على أن يفكر في أفضل طريقة يتصرف بها، وأن يقرر ويؤدي أفعاله على أساس هذا التفكير.

إذن فالحرية مقيدة بالقدرات الخاصة بالتفكير المتأني واتخاذ القرارات؛ وهي القدرات التي تتمثل وظيفتها الأساسية في ضمان أننا نتصرف بعقلانية. أما بالنسبة لنقطة الاهتمام بالتفكير المتأني واتخاذ القرارات الصحيحة حيال أسلوب تصرفنا فهي واضحة بما يكفي. فهي تعمل على ضمان أننا في نهاية الأمر نقوم بالتصرفات الاختيارية الصحيحة؛ الأفعال الاختيارية المبررة بعقلانية دون غيرها.

لذا ربما تكون الحرية — القوة التي تأتي إلينا مع قدرتنا على العقلانية العملية — ما هي إلا القدرة على العقلانية ذاتها. فأن تكون فاعلًا حرًّا لا يعني سوى أن تكون فاعلًا عقلانيًّا. وفي هذه الحالة، لما كانت الحرية والعقلانية الشيء ذاته، فيجب ألا تتعارض حريتنا مع عقلانيتنا على الإطلاق.

ولكن وجهة النظر التي ترى أن حريتنا ما هي إلا تعبير عن تفكيرنا — أن الحرية والتفكير يمثِّلان الشيء نفسه — تتعارض تمامًا مع اللاتوافقية؛ حيث إن اللاتوافقية تنص ضمنيًّا على أن الحرية والتفكير قد يتعارضان بكل تأكيد، كما سنرى فيما بعد. وإذا كانت اللاتوافقية صحيحة، فإنه لا يمكن أن تكون الحرية والتفكير يمثلان الشيء نفسه.

لنفكرْ في حالة لا يوجد فيها، تحت ظروف معينة، إلا أمر واحد منطقي للقيام به؛ ربما يكون تناول عقَّار من شأنه — بالرغم من سوء طعمه — أن يعالجني من مرض عضال أصابني، في حين أن جميع الخيارات الأخرى، الخضوع لطرق علاج أخرى أو عدم الخضوع لأي علاج على الإطلاق، تبدو أقل منطقية. إذا كان الأمر على هذا المنوال، فكلما كنت أكثر عقلانية، قلَّتْ فرص امتناعي عن تناولي العقار. إن عدم عقلانية فاعل ما أو عدم تفكيره بعقلانية ما هو إلا ميل إلى الامتناع عن القيام بالأمور العقلانية، وقيامه بالأمور الحمقاء بدلًا منها. وكلما أصبحت غير عقلاني بدرجة أكبر، زادت هذه النزعة. وبالمثل، كلما زادت عقلانيتي، قلَّت تلك النزعة، وعندما أصل في النهاية إلى تمام العقلانية، فستختفي تلك النزعة تمامًا. فإذا كنتُ عقلانيًّا بالكامل، فلن توجد فرصة على الإطلاق لإحجامي عن القيام بالأمور المنطقية.

لذا، إن كنتُ عقلانيًّا بالكامل، فسوف أدرك تمامًا قبل كل شيء أن تناولي للعقار هو الأمر الصحيح، وإدراكي أن تناولي للعقار هو الأمر الصحيح سيؤكد أن أتناولَ العقَّار. لن تكون هناك أية فرصة لأن أتصرف بحماقة في هذه الحالة؛ حيث إن عقلانيتي ستحتم أن أقوم بالأمر المنطقي.

الحتمية السببية لقراري في ظل إدراكي لما ينبغي عليَّ القيام به (لا توجد فرصة لأن أحجم عن القيام بما أدركت أنه الصواب)
إدراك أن تناول العقار هو الأمر الصائب اتخاذ القرار بتناول العقار وتناوله بالفعل

لكن إذا كانت حقيقة عقلانيتي ذاتها تضمن أنني سأتناول العقار، فكيف، من منطلق اللاتوافقية، سأكون حرًّا في التصرف بشكل مختلف؟ هَب أنني عقلاني بشكل كامل. إذن إن كان مَرَضي في حاجة إلى علاج، ولا يمكن علاجه إلا من خلال تناول هذا العقار، فيجب أن أدرك هذا الأمر على الفور. إنَّ وَعْيي بأنه ينبغي عليَّ أن أتناول العقار لا بد أن يكون شيئًا لا يسعني سوى امتلاكه؛ حيث إن الموقف الذي أمرُّ به قد حدد سببيًّا معتقداتي بشأن ما ينبغي عليَّ القيام به. ويجب أن تحدد معتقداتي بخصوص ما ينبغي أن أقوم به بدورها ما سأقرر القيام به، وتضمن أنني سألتزم بقراري وأنفذه. وما إن أعِي ما يجب عليَّ القيام به، فلن توجد أية فرصة من أي نوع لقيامي بأي شيء آخر. ولكن كيف، عندما أقرر وأنفذ، يمكن أن أكون حرًّا في أن أقرر وأنفذ ما هو خلاف ذلك؟ إن الحرية اللاتوافقية تقوم على أن قراراتي وأفعالي لا تُحدَّد سببيًّا مسبقًا، في حين أن كون المرء عقلانيًّا بالكامل يعني أن تكون قراراته وأفعاله محددة مسبقًا.

وفي حالة كون اللاتوافقية صحيحة، فإنه كلما زادت عقلانيتي، قلَّت الحرية التي أمتلكها، وقل تحكمي في أفعالي. فإذا كنت عقلانيًّا بشكل كامل، فلا بد أنني سأفتقد بشكل كامل تقريبًا التحكم فيما أفعله. وذلك لأنني متى أدركت أن فعلًا ما هو الأمر الصائب للقيام به، فلن أمتلك أية حرية حيال هذا الأمر؛ فقناعتي بأن هذا التصرف هو الأمر الصائب للقيام به ينبغي أن تضمن أنني سأقوم بأدائه، فارضةً هذا الفعل عليَّ. الحالة الوحيدة التي أمتلك فيها التحكم في أفعالي ستكون في الحالات التي لا يكون فيها التحكم في الأفعال ذا أهمية كبرى. ستكون تلك الحالات التي أدرك فيها أن مجموعة الخيارات المتاحة أمامي منطقية بنفس الدرجة، وهكذا لا يكون مهمًّا من وجهة نظر التفكير أي الخيارات سأتبع.

إذن يبدو كما لو أن امتلاك الحرية اللاتوافقية الجوهرية يعتمد على أن أكون غير عقلاني إلى حد ما. فحتى عندما أدرك أن فعلًا ما هو الأمر الصائب للقيام به، إذا كان لي أن أمتلك الحرية اللاتوافقية فيجب أن تظل هناك فرصة ما لأن أقوم بالأمر الأقل منطقية مع ذلك. ولكن حينها ستكون الحرية اللاتوافقية بعيدة كل البعد عن كونها تعبيرًا عن التفكير المنطقي. فالحرية اللاتوافقية في حالة حرب دائمة مع التفكير المنطقي.

اعتقد الكثير من الفلاسفة أن الحرية لا يمكن أن تتعارض مع التفكير. وقادتهم هذه القناعة الراسخة بأن الحرية والتفكير لا يمكن أن يتعارضا إلى رفض اللاتوافقية، واعتناق شكل عقلاني من التوافقية. ومن السهل معرفة السبب. إن النزعة نحو اللاعقلانية ما هي إلا ضعف. ولكن أليست اللاتوافقية هي ما يربط امتلاك الحرية بهذا الضعف؟ أليس هذا الأمر هو ما يحوِّل الحرية إلى نوع من الضعف أيضًا؟ ولكن التوافقية العقلانية تُصر على أن الحرية إن فُهمت بشكل سليم — أي سيطرتنا الفعلية على أي أفعال سنؤدي — ليست ضعفًا بل نقطة قوة. إن الحرية هي «قوة» أصيلة؛ قوة نكتسبها من العقلانية. ولا يمكن أن تصبح من مَواطن الضعف بسبب اللاعقلانية. إن القدرة على التصرف بعقلانية هي ما يساعد على منحنا الحرية. ولكن إذا كان الأمر على هذا المنوال، فإن العقلانية الكاملة، تلك القدرة في أكثر صورها واقعيةً وكمالًا، لن ترقَى إلى ما يمكن أن يسلبنا هذه الحرية.

هناك بعض الفلاسفة المحدثين الذين لا يزالون مهتمين باستكشاف شكل من العقلانية بشأن الحرية. لذا تستعرض الفيلسوفة الأمريكية سوزان وولف، في كتابها «الحرية في حدود العقل» ما تدعوه رؤية العقل، وهي الرؤية القائلة إن الإرادة الحرة والمسئولية تتشكلان من «القدرة على التصرف بما يتناسب مع العقل» (ص٦٨)؛ أي إنك لكي تكون شخصًا حرًّا ومسئولًا عليك أن تمتلك «القدرة على التصرف بما يتناسب مع الصحيح والصالح» (ص٧٣). وقد اجتذبت رؤية العقلانية للحرية إليها كثيرًا من المفكرين المسيحيين؛ حيث إن التفكير والحرية كان ينظر إليهما على مدار التاريخ على أنهما من مظاهر الكمال. لذا فإن الله، على وجه الخصوص، بوصفه ذاتًا كاملة كلية، يجب أن يكون منطقيًّا وحرًّا تمامًا. ومن المؤكد والضروري أن الله يقوم منذ البداية بالأمور المنطقية والصائبة، وأنه يجب أن يظل حرًّا كليةً ومتحكمًا في جميع ما يفعل. أما نحن، فلا شك أننا لسنا مثل الله. ففي حالتنا توجد دائمًا احتمالية لأن نتصرف بطريقة خاطئة أو حمقاء. ولكن هذه الاحتمالية بأننا سنتصرف بطريقة خاطئة أو حمقاء ما هي إلا انعكاس لعدم كمالنا، وضعفنا. أما التحلي بالكمال — أن نصبح صالحين ومنطقيين مثل لله، وأن نكون ملتزمين مثله بالقيام بالأمور الصائبة — فهو المصير الذي ينتظرنا في الجنة. وبالنسبة للكثير من المفكرين المسيحيين، فإن هذا المصير سيكون تحررًا من الضعف وليس نهاية حريتنا، بل ستكون الحرية في أكمل صورها. إذا كان الأمر على هذا المنوال، فإن الحرية التي سنتمتع بها يجب أن تكون متسقة مع التحديد السببي المسبق لأفعالنا، وليست متناقضة معه. إذ يبدو الأمر وكأن الطريقة التي سنتصرف بها في الجنة ستتقرر مسبقًا، من خلال عقلانيتنا ذاتها.

(٣) هل تتماثل الحرية والتفكير بأي صورة؟

هل علينا أن نطابق الحرية مع التفكير المنطقي؟ إذا فعلنا ذلك فسينتهي بنا الأمر تابعين لمذهب التوافقية. وذلك لأن أي مستوًى جوهريٍّ من الحرية اللاتوافقية يعتمد — كما رأينا — على قناعاتنا بشأن الكيفية التي ينبغي أن نتصرف بها؛ لتكون الطريقة التي سنتصرف بها فعليًّا خاضعة للصدفة، وسيظل هناك احتمال لأنْ نتصرف بطريقة غير منطقية ونفعل ما لا ينبغي علينا فعله. وهذا الخضوع للصدفة — النزعة إلى التصرف بحماقة — يتعارض بشكل واضح مع التفكير.

ولكن من الخطأ مطابقة الحرية مع التفكير؛ إذ إن الحرية والتفكير لا يمكن أن يكونا متماثلين. والسبب هو أن القرار والفعل ليسا مجال الحياة الوحيد الذي نمارس فيه القدرة على العقلانية. فنحن نمارسها أيضًا في تشكيل معتقداتنا ورغباتنا، التي قد تكون منطقية أو غير منطقية كما يمكن أن تكون قراراتنا وتصرفاتنا. ولكن في حالة المعتقد، على سبيل المثال، فإننا بشكل عام لا نعتبر ممارسة عقلانيتنا ممارسةً للحرية؛ لأنه لا يمكننا أن نتحكم عامة بأي المعتقدات نشكل كما نتحكم بأي الأفعال نؤدي.

عندما أعتقد، مثلما أفعل عادة، بأنني جالس في غرفة مكتبي ومن حولي توجد المناضد والكتب والمقاعد، وأنَّ ما يوجد خارج غرفة مكتبي، ويتعدى حدود سمعي أو بصري حينها، هو مدينة كاملة بها الملايين من البشر؛ فكل هذا يمثل ممارسةً جيدة للغاية لقدرتي على العقلانية. إن تلك المعتقدات التي كوَّنْتُها ما هي إلا استجابة منطقية تمامًا من جانبي للدليل الذي تقدمه خبرتي الحالية وما يمكنني تذكره من الماضي. ولكن من المؤكد أنني لا أملك أي تحكم فيما إذا كنت أكوِّن هذه المعتقدات أم لا. إن اعتقادي بوجود المقاعد في غرفتي وأن هناك الملايين من البشر خارجها لا يئول إليَّ. إن قدرتي على التفكير تفرض عليَّ هذه المعتقدات. وهي تفرض هذه المعتقدات عليَّ بوصفها حقيقية واضحة، لذا ليس بوسعي أن أفكر بخلاف ذلك. وفي حالة المعتقدات، وبعيدًا عن كون الحرية والتفكير متماثلينِ، فإن الحرية — الحرية في الاعتقاد فيما يخالف ما أعتقد فيه بالفعل — أمر يمنعه التفكير.

ويشير هذا الأمر إلى أن الحرية لا يمكن مطابقتها بالتفكير؛ ولا حتى بالحالة الخاصة من التفكير عندما يتعلق بالفعل. وذلك لأنه لو كان التفكير يمنع الحرية عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات، فلماذا يتطابق التفكير بالحرية عندما يتعلق الأمر بالفعل؟

أحيانا ما يُطرح الزعم بأن هناك اختلافًا جوهريًّا بين التفكير النظري، أو التفكير الذي نمارسه أثناء تشكيل معتقداتنا، وبين التفكير العملي أو التفكير الذي نمارسه خلال الفعل. إن التفكير النظري دائمًا ما يترك الأمور محسومة بشأن ما علينا أن نعتقده حيال أمرٍ ما. فالتفكير لا يترك مطلقًا إن كان علينا تشكيل اعتقاد ما، وماهية هذا الاعتقاد، في متناول العقلانية. فكِّر في أي زعم واقعي؛ مثل وجود أربعة مقاعد بالغرفة. حينها إما أن يُظهر الدليل أن هذا الزعم صحيح — وفي هذه الحالة يتطلب منا التفكير أن نعتقد به — وإما أن يُظهر أن هذا الزعم خاطئ؛ وفي هذه الحالة علينا ألا نعتقد به. وأخيرًا، إذا كان الدليل غير واضح، فإن التفكير مرة أخرى يترك الأمور محسومة بشأن ما علينا الاعتقاد به. إن التفكير يتطلب منا أن نظل متشككين.

بينما في حالة التفكير العملي قد يُظهر الدليل وجود عدد من الأفعال البديلة المتساوية في درجة صلاحها، أو على الأقل لا يوضح أيٌّ من هذه الأفعال أفضلُ من الآخر. وإذا كان الأمر هكذا، فإن التفكير لا يقيِّد انتقاءنا للفعل الذي سنؤديه. ومع أنه في موقف محدد ووقت معين، لن يوجد سوى بديل نظري واحد من البدائل النظرية للاعتقاد أو عدم الاعتقاد أو الشك، يمكن أن يكون عقلانيًّا، فإن عددًا من الأفعال البديلة يمكن كثيرًا أن يكون على نفس الدرجة من العقلانية.

ولكن هذا الأمر لا يكفي لشرح كيف يمكن أن يصبح التفكير مكافئًا للحرية في حالة التفكير العملي، والسبب وراء ذلك واضح بما يكفي؛ فاعتقادنا في حرية الفعل لا يتحدد بالحالات التي يترك فيها التفكير العملي الخيارات محايدة. إن الحرية تمتد حتى إلى الحالات التي يكون فيها التفكير العملي مقيِّدًا ومحددًا مثل التفكير النظري. وحتى في الحالات التي تشير فيها جميع الأدلة دون لبس إلى فعلٍ بعينه بوصفه أفضل فعل يمكن أن نؤديه، ويكون باستطاعتنا أن نرى هذا الأمر بوضوح تام، يظل بإمكاننا أن نرى أنفسنا أحرارًا في التصرف بخلاف ذلك. يمكن أن يترك التفكير الأمور واضحة بالنسبة لنا كما في حالة أنه ينبغي علينا تناول العقَّار، أو حالة أنه ينبغي علينا الاعتقاد بوجود مدينة كاملة خارج حوائط غرفتنا. ولكن في حين يفرض علينا التفكيرُ الاعتقادَ المعقول، فإنه لا يفرض بشكل مُشَابِهٍ الفعلَ المعقول. ولا يزال التفكيرُ يتركنا أحرارًا في التصرف بطريقة مغايِرة وبما يخالف تفكيرنا؛ كما نفعل أحيانًا للأسف. ومع أننا مقتنعون بأن تناول هذا العقَّار المُر الطعم هو أفضل وأصح فِعلٍ نقوم به، فإننا قد لا نزال نمارس حريتنا في عدم تناوله. ولأننا نتوقع أن طعمه مُر للغاية، فإننا نمتلك الحرية في عدم انتقاء الخيار الرديء؛ بالرغم من اقتناعنا الكامل بأن هذا الخيار الرديء هو الخيار الأفضل. إننا نتحكم في كيفية تصرفنا ولكننا لا نستطيع التحكم فيما نعتقده، ويشمل هذا الحالات التي يُملي فيها علينا التفكير الأفعالَ التي يجب أن نؤديَها.

(٤) الحرية واللاعقلانية

يرغب مناصرو مذهب العقلانية في مطابقة الحرية بالتفكير، أو بالتفكير العملي بأي حال من الأحوال أو بالتفكير عندما يرتبط بالفعل. ولكن قد تكون العلاقة بين الحرية والتفكير أكثر تباعدًا في واقع الأمر. قد يكون الأمر أن الحرية والتفكير غير متماثلين بالمرة؛ وأن الحرية هي قدرة إضافية نمتلكها إضافة إلى قدرتنا على العقلانية؛ قدرة على التحكم نمتلكها فقط فيما يتعلق بالفعل. وفي هذه الحالة، ومع أن حرية الفعل قد تتطلب درجة من العقلانية — ومع أنها ربما تتطلب قدرة على التوجيه المتعمد لأفعالنا الاختيارية من خلال التدبر واتخاذ القرار — فقد لا توجد أية صلة أخرى بين الحرية والعقلانية أكثر مما سبق. في هذه الحالة، قد ينتهي الأمر إلى وجود علاقة متوترة بين الحرية والتفكير. ومن المحتمل جدًّا أن تتعارض الحرية مع التفكير.

وهاك طريقة أخرى للنظر إلى المسألة. قلتُ من قبلُ إن الحرية تقوم على امتلاكنا القدرة على العقلانية. وإذا كان هذا الأمر صحيحًا، فإن الحرية تعتمد أيضًا على قدرتنا على اللاعقلانية. ربما يبدو هذا الأمر متناقضًا تناقضًا شديدًا، ولكن في الحقيقة، ليس من الصعب تفسير سبب اعتماد الحرية على القدرة على اللاعقلانية بشكل مساوٍ لاعتمادها على امتلاكنا للقدرة على العقلانية. النقطة الأساسية هي أن اللاعقلانية الأصيلة، أو الحماقة المتناهية، أو السخافة، لا يحتمل وجودها إلا لدى الكائنات التي تمتلك قدرة أصيلة على العقلانية. خذ مثالًا أحد الحيوانات التي لا تمتلك أية قدرة على التفكير؛ مثل سمكة القرش. كما رأينا، لا تمتلك سمكة القرش القدرة على التفكير في طريقة تصرفها، أو حتى فهم أن بعض طرق التصرف قد تكون أكثر منطقية من غيرها. لذا فمن المؤكد أن سمكة القرش لا يمكن أن يقال عنها إنها قادرة على انتقاء خيارات حكيمة، أو التصرف بمنطقية. وفي المقابل، لا يمكن القول إن سمكة القرش قد انتقت خيارات سخيفة أو إنها تتصرف بحماقة. أن تكون أحمقَ أو سخيفًا لا يعني أنك تفتقد التفكير تمامًا، بل يعني أنك تهمل أن تستخدم القدرة على التفكير، أو لا تستخدمها بالشكل الصحيح، القدرة التي يمتلكها المرء بالفعل بالرغم من ذلك. إن أسماك القرش ليست كائنات غير عقلانية أو سخيفة. إنها كائنات لا عاقلة، تقل مرتبة عن أي شكل من أشكال العقلانية أو اللاعقلانية، وهي غير قادرة على إساءة استخدام التفكير؛ حيث إنها لا تستخدمه في المقام الأول.

إن قدراتنا على التدبر واتخاذ القرارات، التي تتيح لنا أن نكون عقلانيين، هي ذاتها القدرات التي تسمح لنا بأن نكون لا عقلانيين. وربما ساعدت هذه القدرات على منحنا الحرية لا لسبب إلا أنها ستسمح باللاعقلانية مثلما تسمح بالعقلانية. وبالتأكيد كثيرًا ما تكون الحرية ممكنة لا لسبب إلا إمكانية وجود اللاعقلانية أيضًا؛ وتحديدًا في تلك الحالات التي يكون علينا فيها انتقاء خيار، ويكون خيار واحد فقط هو المنطقي أو العقلاني؛ وذلك لأن الحرية، بطبيعتها الخاصة، هي الحرية في التصرف بطريقة مختلفة. عادة ما تشتمل الحرية على أكثر من خيار واحد لطريقة التصرف المتوفرة لنا. ويعني هذا أنه في جميع هذه الحالات التي لا يكون فيها سوى خيار منطقي واحد، لن نكون أحرارًا، إلا إذا كنا أحرارًا في أن نكون سخفاء مثل أن نكون منطقيين.

إن مطابقة الحرية بالتفكير هي في الحقيقة إنكار للطبيعة الخاصة بالحرية؛ إذ إنه في الكثير من الحالات لا يترك لنا اتباع التفكير، التحلي بالمنطقية، سوى خيار واحد فقط، ويتم استبعاد أي بديل لهذا الخيار. ولكن الحرية بطبيعتها تعتمد على وجود بدائل. فأن نكون أحرارًا يعني أن اختيار أي الأفعال نقوم بها يئول إلينا؛ وهكذا يكون الأمر بوجود أكثر من فعل متاحًا لنا القيامُ به، سواء أكان هذا البديل سخيفًا أم عقلانيًّا. لهذا السبب حاولت التوافقية العقلانية كثيرًا أن تفصل ما تطلق عليه «الحرية» عن أية فكرة لحرية التصرف بطريقة مغايرة. افترض العقلانيون أن حرية الله، القدرة في أكمل صورها، موجودة دون أن يكون الله حرًّا في التصرف بأية طريقة سوى الطريقة الأكثر كمالًا؛ الطريقة التي يتصرف بها بالفعل. ولكن فصل الحرية عن حرية التصرف بطريقة مغايرة هو في الحقيقة تغيير للموضوع. إنه طرح لفكرة الحرية جانبًا والاستعاضة عنها بفكرة مختلفة تمامًا عن التفكير والمعقولية. وكِلا الفكرتين مختلف تمامًا. فأن تكون منطقيًّا لا يعني بالضرورة أن تمتلك أية قدرة على التصرف بطريقة تخالف ذلك المنطق. في الواقع، من شأن عقلانية شخص ما في بعض الأحيان أن تستبعد تمام الاستبعاد قدرته على التصرف بطريقة مختلفة. انظر إلى حالة سيتعارض فيها التصرف بطريقة مختلفة مع التفكير. في مثل هذه الحالة قد يكون المرء منطقيًّا للغاية لدرجة أنه يكون غير قادر على القيام بالأمور السخيفة. ولكن أن تكون حرًّا يعني دائمًا أن تمتلك القدرة — الحرية — على التصرف بطريقة مغايرة. هذه هي الحرية؛ أن يكون الأمر متروكًا لنا في اختيار الفعل الذي نؤديه، وهكذا يئول الأمر إلينا في التصرف بصورة أو بأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤