الفصل الرابع

الطبيعة

(١) توماس هوبز

أشعل الفيلسوف توماس هوبز الذي عاش في القرن السابع عشر فتيل ثورة فكرية في نظرية الفعل البشري. وهذه النظرية الجديدة إضافة إلى تغييرها الرؤية المتعلقة بالفعل، غيَّرت أيضًا مشكلة الإرادة الحرة كاملةً. لقد غيرت أعمال هوبز طريقة تفكيرنا في الحرية، بل وتفكيرنا في مبادئ الأخلاق.

تركزت هذه الثورة على العلاقة بين الفعل والإرادة؛ إذ غيَّر هوبز الطريقة التي كانت تُفهم من خلالها هذه العلاقة. وكما شرحت سابقًا، فقد كانت الرؤية التقليدية تنظر إلى الإرادة البشرية — القدرة البشرية على اتخاذ القرار — باعتبارها قدرة خاصة جدًّا في الواقع. فقد كانت قدرة عقلانية، أو تنطوي على التفكير، تفتقدها تمامًا الحيوانات الأخرى والأدنى. وحددت الرؤية التقليدية موقع الفعل البشري في إطار هذه القدرة على الإرادة. كان يُفترض حدوث الفعل الإنساني من خلال ممارسة قدرتنا على اتخاذ القرارات.

ابتكر هوبز نظرية جديدة تمامًا عن الفعل البشري. وهذه النظرية قللت من منزلة الإرادة؛ حيث لم تعُدِ الإرادة قدرة خاصة تميِّز البشر العاقلين عن الحيوانات غير العاقلة، بل أصبحت بدلًا من ذلك قدرة أكثر تواضعًا بكثير؛ حيث أصبحت الإرادة بذلك لا تعدو كونها قدرة نهمة بسيطة؛ قدرة على الشهوات أو الحاجات يمكن أن يتشارك فيها البشر والحيوانات على حد السواء. حدد هوبز بعد ذلك موضع كل الأفعال، الإنسانية والحيوانية على حد سواء، خارج نطاق الإرادة تمامًا كما فُهمت على هذا النحو. لم يعد الفعل يحدث بوصفه ممارسة للإرادة بحد ذاتها، بل أصبح يحدث باعتباره تأثيرًا لاحقًا لممارسة الإرادة. ومنذ ذلك الحين تأثر جميع الفلاسفة تقريبًا بتلك النظرية.

إن الإنسان، في نظر هوبز، ما هو إلا جزء من الطبيعة المادية، والعالم لا يعدو كونه تجميعة من الأجسام المادية المتحركة، يتحدد فيها سببيًّا حدوث كل حركة نتيجة حركة ما سابقة. فالكون، عند هوبز، هو عبارة عن نظام حتمي مادي. والبشر عبارة عن أجسام أكثر مادية داخل هذا النظام، وإن كانت أجسامًا على درجة بالغة من التعقيد. ولكن، كما يقول هوبز، لا تزال حرية البشر موجودة. وبعيدًا عن الاستبعاد التام للحرية من قبل المذهبين المادي والحتمي، فإن ماهية الحرية يمكن تفسيرها بالكامل بالمصطلحات المادية والحتمية.

إن ما تدور حوله نظرية هوبز هو أن البشر لا يختلفون عن الحيوانات الأخرى إلا في كونهم نسخًا أكثر تعقيدًا من الشيء نفسه. فالاختلافات في الذكاء والقدرة بيننا وبين الحيوانات هي اختلافات في الدرجة، وليست اختلافات في النوع. وينكر هوبز أننا نمتلك أية ملكات نفسية تختلف اختلافًا جذريًّا عن أي قدرات لدى الحيوانات.

كانت هذه الفكرة الجديدة عن الطبيعة البشرية مختلفة كثيرًا عن الفلسفة القروسطية ونظريتها عن الفعل القائمة على الإرادة؛ إذ كانت الملكات الخاصة التي يتميز بها البشر هي تحديدًا ما تدور حوله النظرية التقليدية للفعل القائمة على الإرادة. ففي نظرية الفعل القائمة على الإرادة، يُفترض أن أفعال البشر تختلف تمامًا في نوعيتها عن أفعال الحيوانات، وهذا بسبب أن أفعال البشر يُفترض أنها تشتمل على قدرة خاصة على الاتخاذ الحر للقرارات؛ القدرة التي لا يمتلكها سوى البشر.

fig4
شكل ٤-١: توماس هوبز، في ١٦٦٩-١٦٧٠ تقريبًا، بريشة جيه إم رايت.

فكرْ مرة أخرى في منطق الرؤية التقليدية. فبموجبها، يتمتع البشر بقدرة متفردة عن بقية الحيوانات على ممارسة التفكير. لذا فإننا وحدنا من يستطيع التدبُّر واتخاذ القرارات حيال ما سنفعل. وإن قراراتنا سواء أكنا سنقوم بهذا الأمر أم ذاك — مثل أن نرفع أيدينا بدلًا من أن نخفضها — هي أفعالنا في صورتها الأولية. بمعنى آخر، إن بقية الأفعال التي نقوم بها تحدث بصورة غير مباشرة فحسب، من خلال أفعال اتخاذ القرار هذه. أما بقية أفعالنا، الأفعال الاختيارية المقررة التي بناءً عليها ننفذ قراراتنا — أفعال رفع أيدينا أو خفضها وما على شاكلتها — لا تعدو في حدوثها كونها مجرد تأثيرات لأفعال قرار أو إرادة سابقة. فإن كنت أُعتبر حرًّا في رفع يدي لأعلى، فإن هذا حَدَثَ لا لسبب إلا أن القرار الذي اتخذته بحرية من جانبي برفع يدي لأعلى تسبب في رفع يدي. ولما كانت جميع الأفعال تحدث بوصفها ممارسة للإرادة، فإن حرية تصرفنا يجب أن تأخذ بالمثل شكل حرية الإرادة. إننا نمارس حريتنا دائمًا من خلال الاتخاذ الحر للقرارات.

الفعل الإنساني مفهومًا من منطلق قائم على
فعل الإرادة الفعل الاختياري
(الشكل الأولي للفعل) (الشكل الثانوي للفعل)
أن يقرر المرء أن يرفع يده لأعلى رفع المرء يده لأعلى

تختلف الحيوانات جدًّا عن البشر من واقع الرؤية التقليدية؛ حيث إنها تفتقد لأي قدرة على التفكير أو العقلانية. وبعيدًا عن اتخاذ القرارات الحرة المقررة ذاتيًّا، تُدفع الحيوانات بفعل رغبات أو شهوات دونما تفكير. ولهذا فإن فعل الحيوان مقيَّد بما يعتبره البشر مجرد شكل ثانوي للفعل. إن أفعال الحيوانات مقيَّدة بالفئة التي أطلقت عليها الأفعال «الاختيارية». إن أفعال الحيوانات مقيَّدة بأفعال على غرار رفع يد لأعلى، أو رفع حافر، قد يقوم بها البشر على أساس اتخاذ القرار بحرية للقيام بها، في حين تقوم بها الحيوانات بناءً على دافع من رغبة بهيمية للقيام بها. إن أفعال الحيوانات لا تعدو كونها مجرد تحرُّك بناءً على رغبات أو حاجات تدفع الحيوانات إلى الحركة. وما يدفع أطراف الحيوان للحركة لن يزيد عن كونه شهوة أو رغبة؛ لهذا السبب، طبقًا للرؤية التقليدية، تفتقد الحيوانات غير المفكرة حريةَ الفعل تمامًا. فالحيوانات لا تتحكم في أي الأفعال تقوم بها مطلقًا، وإنما هي مدفوعة بفعل غريزتها.

فعل الحيوان
الرغبة السلبية الفعل الاختياري
الحاجة إلى رفع الحافر لأعلى رفع الحافر لأعلى

إن ما فعله هوبز في المقام الأول هو الإبقاء على النظرية التقليدية عن فعل الحيوان، ولكنه بَسَطَ نطاقها لتشمل الأفعال الإنسانية أيضًا. فهو يرى أن الفعل الإنساني مجرد صورة أكثر تعقيدًا من فعل الحيوان. فكل الأفعال، البشرية أو الحيوانية، تتخذ الصورة ذاتها بالضبط، بوصفها أفعالًا اختيارية، وتنتج عن دوافع أو رغبات دون تفكير. الفرق الوحيد في حالة الفعل البشري، بفضل ذكائنا الأكثر تطورًا، أن الرغبات التي تحث على أفعالنا تكون أكثر تنوعًا وتعقدًا في محتواها.

الفعل الإنساني في نظرية هوبز
الرغبات السلبية الأفعال الاختيارية
الرغبة في أن يرفع المرء يده لأعلى رفع المرء يده لأعلى

كان شاغل هوبز الأول — والأكثر جوهرية — هو تقليص الفجوة بين أفعال البشر وأفعال الحيوانات الأدنى. أراد هوبز أن يثبت أن أفعال البشر تتشابه بالكامل مع أفعال الحيوانات؛ حيث إنه لا يوجد أي فارق نوعي بين الفعل الذي يقوم به البشر والفعل الذي تقوم به حتى سمكة القرش. فتبدو أفعال سمكة القرش لا تعدو كونها شكلًا غاية في البساطة من الاختيارية. إن أفعال أسماك القرش تنطوي على أن سمكة القرش تُدفع للقيام بأشياء بوازع من رغباتها في القيام بهذه الأشياء. إن مطاردة سمكة القرش فريستها لا تتضمن أي شيء أكثر من اندفاع سمكة القرش للمطاردة والافتراس بسبب رغبتها في المطاردة والافتراس. فإذا كانت أفعال البشر تحمل الظاهرة ذاتها، فلا بد من أنها بالمثل لا تزيد عن كونها تأثير الحاجات أو الرغبات.

ومع ذلك ادعى هوبز أنه يسمح بوجود فكرة ما عن الإرادة؛ عن اتخاذ القرارات وعقد النيات. ولكن في حقيقة الأمر لم يتضح وجود قدر كبير من فكرة الإرادة. فلا يتضح أن هوبز قد آمن مطلقًا باتخاذ القرارات كما نفهمها نحن بشكل تقليدي. فعند هوبز، لا تتعدى القرارات والنيات مجرد كونها أشكالًا من الرغبة. فأن تتخذ قرارًا بفعل أمر ما أو أن تعقد نية ما لا يتعدى كونك قد اجتاحتك رغبة عارمة للقيام بهذا الأمر؛ رغبة من القوة لدرجة أنها تُلغي أي دافع عكسي قد يدفعك للتصرف على نحو مخالف، وتحتم عليك أن تتصرف بالضبط بما تمليه علينا. أن تتخذ قرارًا برفع يدك لأعلى لا يعني إلا أن رغبة عارمة اجتاحتك لأن ترفع يدك لأعلى؛ رغبة قوية بما يكفي لكي تضمن أنك سترفع يدك بالفعل لأعلى. يعني هذا الأمر أن الإرادة ليست أمرًا خاصًّا، بل إنها مجرد قدرة للرغبات أو الشهوات العادية. ولما كانت أسماك القرش تمتلك شهوات وحاجات، فإنها تمتلك أيضًا إرادة بقدر ما نمتلكها نحن البشر. ولا يوجد شيء حر أو مقرر ذاتيًّا فيما يتعلق بالقرارات، من وجهة نظر هوبز، أكثر مما يوجد فيما يتعلق بالحاجات أو الشهوات الدنيا. فاتخاذ قرار ما لم يعُدْ يمثِّل فعلًا متعمدًا — لم يعد يمثل أمرًا يمكننا القيام به بحرية، ويكون لدينا تحكم مباشر فيه — يزيد عن الشعور برغبة مُلحة.

إذن فالفعل، من وجهة نظر هوبز، مقصور فقط على الفعل «الاختياري»؛ على الأفعال — على غرار رفع الأيدي أو عبور الطريق — التي نؤديها على أساس أننا قررنا أو رغبنا في القيام بها. في الحقيقة، يعرِّف هوبز الأفعال بوضوح على أنها «ما نقوم به بشكل اختياري». وفي نظر هوبز، أن تقوم بفعل متعمد أو مقصود لا يعدو قيامك بأمر ما؛ مثل رفع يدك، على أساس أنك قد قررت القيام به، أو (وهو ما يعتبره هوبز الشيء نفسه) أنك دُفعت للقيام بأمر ما جراء رغبة أو حاجة سابقة للقيام به.

وهذا التطابق بين الفعل وبين ما نقوم به اختياريًّا أو على أساس الرغبات أو القرارات المسبقة للقيام به له نتيجة جوهرية. فقد سمح لهوبز بأن يفسر — كما يفترض — سبب استحالة كون القرارات أفعالًا مقصودة أو متعمدة في حد ذاتها.

وكما قال هوبز، فإن القرارات في حد ذاتها ليست أمورًا نقوم بها اختياريًّا. إن قراري بأن أرفع يدي لأعلى، على سبيل المثال، ليس شيئًا أقوم به على أساس قرار مسبق برفع يدي لأعلى. وكما يقول هوبز، مستخدمًا مصطلح القرن السابع عشر «يريد» بدلًا من مصطلح «يقرر» الحديث:

إني أقر بهذه الحرية؛ بأني أستطيع أن أفعل إذا أردت، ولكن أن أقول: أستطيع أن أريد إذا أردت، فهذا في رأيي كلام سخيف.

كان هوبز محقًّا دون أدنى شك في نقطة واحدة على الأقل. فقرارات القيام بالأفعال ليست اختيارية، وهي لا تخضع بشكل مباشر للإرادة. ولا يمكن القيام بها على أساس القرارات أو الرغبات السابقة فحسْب. على سبيل المثال، لا يمكنني أن أقرر أنه في غضون خمس دقائق بالضبط سأقرر رفع يدي لأعلى؛ وأن أتوقع بمنطقية أنه في غضون خمس دقائق، في الوقت المحدد، سوف أتخذ القرار الذي اتخذته، وأن أتخذه اختياريًّا، فقط بناءً على قراري المسبق أنني سأتخذه.

ويتصل هذا الأمر بسمة أخرى للقرارات من شأنها أيضًا أن تميزها عما يمكننا القيام به اختياريًّا؛ أي عما يمكننا القيام به على أساس قرار أو رغبة مسبقة للقيام بهذا الأمر. فمثلما لا تخضع القرارات بشكل مباشر للإرادة، فإنها بالتبعية لا تخضع لتحكمنا بشكل مباشر. لا يمكنني أن آمرك منطقيًّا بأن تتخذ قرارًا معينًا، مثل قرار أن ترفع يدك لأعلى، ثم أتوقع أن تتخذ القرار الذي أمرتك باتخاذه كما أمرتك بالضبط ولمجرد أن تطيع أمري فحسْب. هب، على سبيل المثال، أني أمرتك بالآتي: «في غضون خمس دقائق، قرِّرْ أنك سترفع يدك لأعلى غدًا، وبعد دقيقة أخرى، تخلَّ عن هذا القرار، وبدلًا منه قرِّرْ ألا ترفع يدك لأعلى غدًا. ثم بعد دقيقة أخرى، تخلَّ عن هذا القرار أيضًا.»

من المؤكد أنك ستتفاعل مع أمري بارتباك، ولن تتمكن أبدًا من تنفيذه. إن القرارات ليست مجرد أمور يمكننا اتخاذها بكل بساطة حتى نطيع أوامر بأن نتخذها. إن حقيقة أنه لا يمكن توجيه الأوامر لشخص ما باتخاذ قرارات، ترتبط بوضوح بحقيقة أنه لا يمكن اتخاذ القرارات بشكل اختياري. لأنه إذا كان من الممكن اتخاذ القرارات اختياريًّا، بناءً على قرار سابق باتخاذها، فإنك ستكون قادرًا تمامًا على اتخاذ القرارات لمجرد أن تطيع أوامري باتخاذ القرار. ولست بحاجة إلا لتقرر اتخاذ أيٍّ من القرارات التي أمرتك باتخاذها، ومن ثَمَّ سيكون إتْباع أوامري باتخاذ القرارات سهلًا. ومتى آمرك باتخاذ قرار بعينه، مثل قرار أن ترفع يدك لأعلى، فستتخذ هذا القرار اختياريًّا، على أساس قرار بالقيام به، وكوسيلة لتنفيذ أمري لك.

من الواضح جدًّا سبب عدم إمكانية إعطاء أوامر باتخاذ قرارات منطقيًّا. فإذا أردت أن أجعلك تقرر أن ترفع يدك لأعلى، فلن يمكنني أن آمرك: «قرِّرْ أن ترفع يدك». ولكي أدفعك لأن تقرر أن ترفع يدك، فعليَّ أن أقنعك بطريقة ما بأن تصرفك وفق القرار، بأن ترفع يدك، سيكون فكرة طيبة. إذن عليَّ أن أقنعك بسبب وجيه يجعلك ترفع يدك لأعلى. عليَّ أن أظهر أو أوضح لك بطريقة ما أن رفع يدك لأعلى سيعود عليك بمنافع.

وإحدى الطرق لفعل هذا الأمر، بالطبع، هي أن «أجعل» الأمر حقيقيًّا، وبشكل واضح، بأن رفع يدك لأعلى سيكون له منافع. على سبيل المثال، قد أعرض عليك جائزة إذا ما رفعت يدك لأعلى؛ مما يمكن أن يدفعك لأن تقرر رفع يدك. أو إذا كنت أمتلك السلطة الكافية لأوجِّهَ لك أمرًا، فكل ما عليَّ فعله هو توجيه الأمر إليك. ليس أمرًا لك بأن تقرر أن ترفع يدك، بل أمرًا يمنحك سببًا لأن تتصرف كما هو مطلوب وأن ترفع يدك لأعلى بالفعل. يمكنني ببساطة أن آمرك بأن ترفع يدك. وبناءً على هذا الأمر قد تكون هناك منفعة واحدة محتملة لرفع يدك لأعلى، سبب واحد لرفعها لأعلى؛ لا سيما أنك من خلال فعل هذا الأمر ستطيع أوامري. ومن خلال إعطائك هذا السبب لرفع يدك لأعلى، يمكنني مرة أخرى أن أدفعك لأن تقرر رفعها لأعلى.

إن ما يدفع المرء لاتخاذ قرار معين، لتقرير أداء فعل معين، ليس أمرًا صادرًا يدفعه لأن يتخذ القرار، أو أي قرار مسبق اتخذه المرء من جانبه بأن يتخذ هذا القرار، بل وجود سبب ما للتصرف كما تقرر؛ أمر جيد أو محبب بشأن الفعل المقرر. إن ما يدفع المرء ليقرر أن يرفع يده لأعلى ليس أي أمر صادر باتخاذ هذا القرار، أو أي قرار مسبق اتخذه المرء من جانبه بأن يتخذ هذا القرار، بل هو شيء مختلف تمامًا؛ شيء جيد أو محبَّب، لا يتعلق باتخاذ القرار ذاته، بل يتعلق بأداء الفعل المقرر، يتعلق في الواقع برفع المرء يده لأعلى.

إذن، كان هوبز محقًّا كل الحق بشأن عدم اختيارية القرارات؛ فلا يمكننا أن نتخذ قرارًا معينًا بالتصرف كيفما نريد لمجرد أننا قررنا أن نتخذه. ولا ينبغي أن نتشتت عن تقدير هذا الأمر بسبب حقيقة أن هناك أمرًا آخر يتصل باتخاذ القرارات يمكننا أن نقوم به اختياريًّا. فهذا ليس اتخاذ قرار معين للفعل بالتصرف، بل أمر يختلط به بسهولة ولكنه يختلف عنه اختلافًا جوهريًّا؛ وهو أن نحسم أمرنا بطريقة أو بأخرى بشأن ما يجب علينا فعله.

يمكنني أن أتخذ قرارًا أنه في غضون خمس دقائق سوف أحسم أمري بطريقة أو بأخرى فيما يتعلق برفع يدي لأعلى من عدمه، ثم في غضون خمس دقائق سأحسم أمري على أساس هذا القرار المسبق. أن يحسم المرء أمره بطريقة أو بأخرى أمر يمكن إجراؤه اختياريًّا، على أساس وجود قرار مسبق بأن يحسم المرء أمره. ولكن هذا لا يوضح أن اتخاذ قرار بعينه يمكن أن يكون اختياريًّا هو الآخر. فأن يحسم المرء أمره ما هو إلا عملية تتضمن مبدئيًّا تفكيرًا متأنيًا أو على الأقل استعراضًا جادًّا للخيارات؛ أمر يتم القيام به استعدادًا لاتخاذ قرار معين. هذا هو الأمر الذي يمكن القيام به اختياريًّا. ولكن تحديد أي قرار سأتوصل إليه في النهاية ليس أمرًا اختياريًّا. فعندما أحسم أمري أني سأرفع يدي بدلًا من خفضها، لا يعتبر هذا أمرًا كان يمكنني القيام به على أساس قرارٍ ما مسبق للوصول إلى هذا القرار بعينه بدلًا من قرار معاكس له. يمكنني أن أقرر مسبقًا «فكرة» أنني سأحسم أمري، ولكن لا يمكنني أن أقرر مسبقًا «كيف» سأحسم أمري. فأن أقرر القيام بهذا الأمر بدلًا من ذاك يعتبر أمرًا غير اختياري بالكامل، كما افترض هوبز، وأن أقرر أن أقوم بهذا الأمر بدلًا من ذاك هو أمر أقوم به استجابة للخيارات المتوفرة أمامي في ذلك الوقت — استجابة للمنافع المحتملة التي قد تعم عليَّ منها، الحقيقية أو الظاهرة — وليس على أساس قرار ما مسبق لتقرير التصرف بهذه الطريقة بدلًا من تلك.

إضافة إلى تعريف هوبز الجديد للأفعال المقصودة على أنها ما نفعله اختياريًّا، على أساس وجود قرار أو رغبة للقيام بهذه الأمور، فإن عدم اختيارية اتخاذ القرارات كان له نتيجة واضحة؛ فقراري القيام بهذا الأمر بدلًا من ذاك — أن أرفع يدي بدلًا من خفضها — لم يعد عملًا متعمدًا أو مقصودًا من جانبي. ولأنه ليس عملًا اختياريًّا، أن أقرر قيامي بهذا الفعل بدلًا من ذاك، سيكون أمرًا يحدث لي وليس أمرًا أقوم به عن قصد. ولما كانت القرارات غير اختيارية، فإنها لا يمكن أن تكون أفعالًا متعمدة في حد ذاتها. لذا، فإن ما تنظر إليه النظرية القائمة على الإرادة على أنه الشكل الأوَّلي للفعل المتعمد — اتخاذ القرار بالقيام بهذا الأمر بدلًا من ذاك — ينكر هوبز أن يكون فعلًا على الإطلاق. وإذا لم يكن فعلًا، وإذا لم يكن أمرًا نقوم به بشكل متعمد أو مقصود، فإن تقريرنا بأن نقوم بهذا الأمر بدلًا من ذاك لا يمكن كذلك أن يكون أمرًا نقوم به بحرية. لن يكون هناك أي شكل من أشكال حرية الإرادة، ولن يئول الأمر إلينا بشأن تقرير أي الأفعال سنؤديها.

في حقيقة الأمر، اعتقد هوبز أن نظرية الفعل القائمة على الإرادة غير متماسكة منطقيًّا بالمرة؛ إذ تشرح النظرية التقليدية ماذا يجعل رفع اليد لأعلى فعلًا متعمدًا من خلال الاحتكام إلى حقيقة أن ارتفاع اليد هو تأثير لقرار برفعها. ولكن، للأسف، يبدو أن النظرية التقليدية لم تمتلك أي شيء بالغ مقنع لتقوله عما يجعل اتخاذ هذا القرار المسبق من أفعال المرء المتعمدة هو الآخر. كان التفسير الوحيد المتاح، كما يرى هوبز، من نفس نوعية التفسيرات التي قيلت من قبل عن رفع اليد. إنه التفسير الذي يروق إلى مناصري الاختيارية؛ أن يكون الأمر تأثيرًا لاتخاذ قرار بالقيام به. ولكن، من وجهة نظر هوبز، ليس هذا بتفسير يمكننا به تفسير كيف تكون القرارات نفسها أفعالًا. وسبب هذا تحديدًا هو أن القرارات ليست اختيارية؛ فلا يمكنك أن تقرر أن ترفع يدك لأعلى بناءً على قرار اتخذته بأن تتخذ قرارًا بذلك.

يمكننا أن نرى الآن مدى اختلاف نظرية هوبز للفعل البشري عن النظريات القائمة على الإرادة التي ابتُكرت نظرية هوبز لتحل محلها. في نظرية هوبز، لا يكون التصرف كما تَقرَّر — التسبب الاختياري في النتائج — شكلًا ثانويًّا من الأفعال؛ فعلًا نؤديه من خلال فعل أوَّلي باتخاذ القرار بتأديته، بل يكون النوعَ الوحيدَ الموجودَ من الفعل. عندما أرفع يدي لأعلى اختياريًّا، يكون الفعل الوحيد الذي قمت به هو هذا الفعل الاختياري؛ رفع يدي لأعلى. إن قراري المسبق بأن أرفع يدي لأعلى لا يعتبر فعلًا على الإطلاق. إن القرار ما هو إلا رغبة قوية تتملكني خارجة عن إرادتي، ومن ثَمَّ تدفعني للإقدام على الفعل بالتسبب في رفع يدي لأعلى.

وهكذا فإن نظرية الفعل البشري القائمة على الإرادة، النظرية التي تنص على أن الفعل هو في الأساس ممارسة لحرية الإرادة، قد جرى الاستعاضة عنها بصورة هوبز المختلفة تمامًا. إن الفعل البشري لا يعني إلا كوننا مدفوعين للتحرك من قِبَل حاجاتنا، مما يغير بعمق الفكرة المأخوذة عن الحرية البشرية.

لم تعد الحرية البشرية، لدى هوبز، من ممارسات حرية الإرادة أو تبني الأهداف، ولا تعتمد على التفكير. فلا تتعدى الحرية لدى هوبز الآتي: عدم وجود أية عوائق أمام إشباع أية رغبات قد يحدث أن تنتابنا. لا ينتقص من حريتنا شيئًا أن تكون أفعالنا قد تحددت سببيًّا بشكل مسبق بواسطة رغباتنا، الرغبات التي تتملكنا وليس لنا فيها يد. كل ما يهمنا بشأن الحرية هو أنه بمجرد أن تنتابنا الرغبة فيجب ألَّا يوجد أي شيء يعوق تلبيتها. إن الحرية ما هي إلا إرادة لا يعوقها أي شيء؛ ويعني هوبز بالكلمات «إرادة لا يعوقها أي شيء» أنها رغبة لا يعوقها شيء:
الرجل الحُر «هو الرجل الذي … لا يعوقه شيء عن القيام بما يريد» … من استخدام كلمة «الإرادة الحرة»، لا يمكن الاستدلال على أي حرية بشأن الإرادة أو الرغبة أو النزعة، وإنما نستدل على حرية المرء، التي تتألف من هذا؛ بحيث لا يجد الإنسان أية عوائق لما تدفعه الإرادة أو الرغبة أو النزعة للقيام به.

إن الحرية، مفهومة على هذا النحو، تتوافق بشكل واضح مع الحتمية السببية. فنظرية هوبز عن الحرية من الواضح أنها توافقية. فإذا فرضنا أن جميع أفعالنا يتبين في النهاية أنها قد تحددت سببيًّا بشكل مسبق بواسطة الرغبات التي فرضها القَدَر علينا، فإننا نظل أحرارًا، من وجهة نظر هوبز. يمكننا أن نظل أحرارًا شريطة عدم وجود أي شيء يعوقنا عما نرغب في القيام به، بمجرد أن يقودنا القدر لأن نرغب في القيام به. ليست الحتمية السببية هي ما ينفي الحرية لدى هوبز، بل العوائق؛ مثل أبواب الزنازين المغلقة والحبال والسلاسل، العوائق التي تمنعنا عن القيام بما نرغب به.

هذا إلى جانب أن الحرية لا تخص البشر وحدهم؛ حيث إنها، من وجهة نظر هوبز، أمر مشترك تمامًا بيننا وبين الحيوانات الأدنى مثل أسماك القرش. إن أسماك القرش هي الأخرى تمتلك قدرة غير مقيَّدة لفعل ما تريد أو الحصول عليه. والقدرة غير المقيدة لفعل ما يريده المرء هي جُلُّ ما تئول إليه الحرية في أي وقت من الأوقات. ولا يعتبر هوبز توافقيًّا فحسْب، بل إن توافقيته تجعل من الحرية ظاهرة طبيعية تمامًا، ومشتركة بين البشر والحيوانات الأدنى على حد سواء.

إن نظرية هوبز عن الحرية مدهشة للغاية. فيبدو أنها قللت من شأن الحرية البشرية أكثر بكثير مما حسبنا من قبل. في الواقع، قد يقول البعض بأن الحرية البشرية تبدو وقد اختفت، وجرى الاستعاضة عنها بحرية الدُّمَى، حيث تتحرك أطرافها بناءً على رغبات تصل في الواقع إلى قوى تُعمِل تأثيرها عليها؛ قوى لا يمكنها التحكم بها. وقاسم كبير من التاريخ اللاحق لمشكلة الإرادة الحرة في الفلسفة الإنجليزية كان سلسلة من الاستجابات لتلك الصورة المصغرة تصغيرًا مجحفًا للحرية.

في حقيقة الأمر، يمكن اعتبار هوبز مخترع مشكلة الإرادة الحرة الحديثة. في العصور الوسطى، قبل هوبز، كانت مشكلة الإرادة الحرة في جوهرها مشكلة تدور حول كيف كانت علاقة حرية البشر بكل من العقلانية البشرية وبمعرفة وأفعال الله ذي القدرة المطلقة والعلم المطلق. كانت الأسئلة المحورية كالتالي: كيف يمكن أن تجعل القدرةُ على التفكير من البشر أحرارًا؟ وكيف تتسق الحرية البشرية والسلطان الإلهي على الكون، وعلم الله المسبق بكل ما سنفعل؟ بعد هوبز، تزايد تحوُّل مشكلة الإرادة الحرة إلى نوع جديد من المشكلات؛ مشكلة عن كيفية توفيق الحرية البشرية داخل صورة كلية من المذهب الطبيعي. وكان السؤال محور الجدل هو: إذا كان البشر موجودين باعتبارهم جزءًا من عالم مادي بالكامل قائم على العلة والمعلول، كيف تكون الحرية أمرًا ممكنًا؟

(٢) هوبز والمنطق السليم

اقتنع الكثير من الفلاسفة بوجهة نظر هوبز؛ حيث وافق هؤلاء الفلاسفة على أن الحرية من وجهة نظر هوبز — وهي قدرة غير مقيَّدة على الاختيارية، قدرة على التصرف كيفما نرغب — هي الحرية الوحيدة الممكنة بأي حال. وما يزيد عن ذلك من أفكار عن الحرية ما هو إلا محض ابتداعات. وفكرة أن الحرية قد تعتمد على قدرة خاصة على التفكير، أو قد تعتمد على ألا تكون أفعالنا غير مقررة مسبقًا؛ كل هذا محض خيال.

وقد تبدو وجهة نظر هوبز عما يمكن أن تئول إليه الحرية منطقية على نحو كافٍ بمجرد أن تتقبل نظريته الخاصة بالفعل. فهوبز يطابق الفعل بالاختيارية، مع أننا نفعل ما نرغب فيه لأننا نرغب في القيام به. هذا في الأساس هو كل ما يعتقد هوبز أنه يحدث عندما نتصرف؛ أن كياننا يندفع للحركة بفعل رغباتنا. إذن ماذا يمكن أن تكون الحرية، التقرير الذاتي الذي نمارسه في أفعالنا، غير أنها الاختيارية؟

طبقًا لهوبز، أن تتصرف هو ببساطة أن تفعل شيئًا على أساس رغبتك في القيام به، وهذه هي الطريقة التي نَخْبُر بها فاعليتنا. فالطفل يرغب في حمل الكرة المستقرة على الأرض، ويجد نفسه قادرًا على رفع الكرة عن الأرض كما أراد. وفي تمكنه من فعل ما يرغب في فعله، يَخْبَر الطفل نجاح خبرته الأولى للتقرير الذاتي، إن أردت تسميتها هكذا. ونحن لا نستوعب أو نفهم — بحقٍّ — ماهيةَ التقرير الذاتي إلا عندما نفكر فيما بعد في هذه الخبرة الخاصة بالقدرة على فعل ما نرغب في فعله. هذا ما تذهب إليه وجهة نظر هوبز. ولهذا الأمر نتيجة واضحة؛ إذا كان هوبز محقًّا فيما يتعلق بالفعل، فإن نوع التقرير الذاتي الوحيد الذي نَخْبُره في أفعالنا ما هو إلا نوع من الاختيارية؛ القيام بما نرغب في فعله لأننا نرغب في فعله. ويعني هذا أن أي فكرة عن الحرية تتجاوز هذا إنما هي فكرة غير مدعومة بما نمر به في الحقيقة.

ولكن الرأي العادي — ولنكن واضحين — يتخذ بكل وضوح جانب الخيال المفترض ويعارض هوبز معارضة قوية؛ إذ إن الحرية كما نفهمها بشكل عادي تحتوي على أمور أكثر من مجرد القدرة على التصرف كما نرغب.

تذكَّرْ أن الحرية من وجهة نظر هوبز لا تعدو كونها رغبة غير مقيَّدة. وطبقًا لهوبز، فإن الأمر الوحيد الذي يمكنه أن يسلبنا حريتنا هو عائقٌ ما يعترض سبيل إشباعنا رغباتِنا. فلا يمكن أن تُسلب منا حريتنا بفعل رغباتنا ذاتها. لكن المنطق السليم يفكر في الحرية بشكل مختلف تمامًا؛ إذ يرى الحرية على أنها أمرٌ ما يمكن أن يُسلب منا، ليس بفعل العوائق التي تعترض رغباتنا، بل بفعل رغباتنا ذاتها. فكِّر في مدمني المخدرات على سبيل المثال. إن مدمن المخدرات شخص مسجون، ليس بفعل العوائق التي تعترض إشباع رغباته مثل أبواب الزنازين المغلقة أو السلاسل، بل بفعل رغباته ذاتها. إن مدمن المخدرات يفتقد الحرية في عدم تناول المخدر الذي يدمنه، وهو يفتقد تلك الحرية في عدم تناول المخدر؛ لأن رغبته في تعاطيه تدفعه لتناول هذا المخدر، وليس أي قيد خارجي. ولكن بالرغم من عدم وجود أية عوائق للتصرف كما يرغب، فإنه لا يزال يتصرف بلا حرية، ولا يزال غير حر للتصرف بصورة مغايرة. إن رغباته الشخصية ذاتها هي ما سلب منه حريته.

إن رؤيتنا للإدمان تُظهر أننا نرى الحرية — امتلاك تحكم حقيقي في كيفية تصرفنا — أمرًا مختلفًا عن القيام بما نرغب فيه بشكل طبيعي. ولهذا السبب يمكننا بسهولة إنكار أن أسماك القرش، التي تمتلك رغبات هي الأخرى وعادة ما تكون قادرة على تنفيذها، يمكنها التحكم بأفعالها كما نفعل نحن.

يؤمن الرأي العادي أيضًا بحرية نابعة بشكل خاص من الإرادة. إن ما نؤمن به بشكل طبيعي عن الإرادة والحرية النابعة منها أمر واضح بدرجة كافية. إنه بالضبط ما تقتضيه نظرية الفعل البشري التقليدية القائمة على الإرادة. إن كيفية تقريرنا ما نفعله تئول إلينا، ونحن أحرار في فعل ما نقرر. علاوة على ذلك، فإن حرية الفعل تعتمد بشكل كبير على حرية القرار تلك. إننا نمتلك سيطرة على كامل أفعالنا لا لسبب إلا أنه يمكننا أن نقرر كيف نتصرف، وما نقرره يئول إلينا أو يقع في حدود تحكمنا. إن الفكرة البديهية العادية تجعل من الواضح بجلاء أن حرية أفعالنا تعتمد على حرية الإرادة، وحرية الإرادة هي ما يفتقده المدمن.

في حالة المدمن، قد نفكر بشكل عادي في أنه يفتقد الحرية بسبب أن أفعال المدمن الاختيارية لا تتحدد بواسطة قراراته الحرة، بواسطة إرادته الحرة. إن أفعال المدمن الاختيارية وكذلك أية قرارات تؤدي إليها تتحدد بدلًا من ذلك بواسطة رغباته، بواسطة دوافع خارجة عن إرادته. وعلى قدر ما تذهب إليه الأفكار البديهية العادية، فإن الرغبات تختلف تمامًا عن القرارات. فعلى العكس من القرارات، الرغبات أحداث تقع دون تفكير منا، أمور تعترينا دون أن تكون من أفعالنا بشكل مباشر. وهذا يجعل الرغبات تهديدًا لحريتنا لا مصدرًا لها.

ترك لنا هوبز والمنهج الفكري الذي خلفه رؤية واضحة للغاية ولكنها هزيلة للعالم؛ رؤية، في مجملها، قد تبدو غريبة للغاية على المنطق السليم، ولكن لا يزال الفلاسفة مقتنعين بها. إن العالم لا يعدو كونه تجمُّعًا من الأجسام المادية، وما تاريخه إلا سلسلة من الأحداث تشتمل على تغيير أو حركة في هذه الأجسام. قد تكون هذه الأحداث محددة سببيًّا، أو إن لم تكن محددة سببيًّا فستكون إذن عشوائية إلى حد ما. إن الأفعال ما هي إلا شكل آخر من هذه الأحداث. وحدوث الفعل يعني ببساطة أن تدفعنا للحركة أحداثٌ سابقة خارجة تمامًا عن إرادتنا؛ رغبات تعترينا دون تفكير. وفي غياب التحديد السببي المسبق للأفعال بواسطة رغبات سابقة، لن توجد مساحة لأي شيء سوى العشوائية. لا شك في عدم وجود أية مساحة في صورة هذا العالم لمفهومنا الليبرتاري عن الحرية. لا توجد مساحة للحرية لتكون شيئًا نمارسه من خلال إرادة غير محددة سببيًّا، أو شيئًا يمكن سلبه منا بواسطة رغباتنا.

في القرن الثامن عشر، اعتنق الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تصورًا يشبه تصور هوبز للعالم على أنه وصف للعالم كما نَخْبُره نحن؛ تصورًا للعالم كما يبدو لنا. إن العالم كما نَخْبُره نحن هو في الواقع عالم مكوَّن من أحداث محددة سببيًّا. والأفعال من واقع خبرتنا نحن ما هي إلا تحركات اختيارية ناتجة عن الشهوات أو الرغبات. ولأننا لا نَخْبُر أي شيء آخر، فإننا نمتلك معرفة وفهمًا نظريين للعالم من وجهة نظر هوبز فقط.

مع ذلك، اختلف كانط مع هوبز بشأن الحرية. فمن وجهة نظر كانط، لا يمتلك هذا العالم الذي نَخْبُره أي شيء ليقدمه في صورة حرية. وذلك لأن كانط كان لا يزال يعتقد بأن الحرية هي حرية الإرادة؛ الحرية التي تصورها من واقع ليبرتاري بالأساس. كانت هذه الحرية الليبرتارية من وجهة نظر كانط لا تزال ممكنة لأن عالم هوبز المحدد سببيًّا، العالم كما نَخْبُره، لم يكن الحقيقة الكاملة. إن العالم كما نَخْبُره ليس ما يبدو عليه العالم كما هو في حد ذاته. إن عالم الخبرة قد لا يكشف لنا عن حريتنا. ولكن حريتنا لا تزال حقيقية؛ أمرًا موجودًا وراء المظاهر بوصفها سمةً من سمات العالم كما هو في حد ذاته، بمنأًى عن الخبرة. لذا لا تزال حريتنا أمرًا علينا أن نؤمن بوجوده، وقد يكون هذا الإيمان صحيحًا. ولكن لا تزال الحرية أمرًا لم نجربه بشكل مباشر، ولا نمتلك أية معرفة أو استيعاب قائم على الخبرة.

تُرى هل فرَّط كانط كثيرًا؟ إذا كنا نؤمن بامتلاكنا للحرية الليبرتارية، فربما يتبين أن هذا الاعتقاد يعتمد على الخبرة في نهاية الأمر. ربما، وعلى العكس تمامًا مما افترضه كانط، تكون خبرتنا هي ما يكشف لنا قدرتنا على اتخاذ قرارات حرة؛ قرارات من صنعنا، قرارات يمكننا التحكم بها بشكل مباشر. وفي هذه الحالة لن يعدو عالم هوبز كونه أكثرَ من مجرد خيال دوجماتي؛ ابتكارًا تخيليًّا يستبعد بلا رحمةٍ كثيرًا مما خَبَرناه بشكل مباشر عن العالم. وهو ما سأدفع به في النهاية.

(٣) الحرية دون اختيارية

أنكر هوبز، كما رأينا، أن تكون القرارات اختيارية. فنحن لا نستطيع أن نتخذ قرارات معينة للتصرف إراديًّا، بناءً على قرارات سابقة باتخاذ هذه القرارات. ولما كانت القرارات غير اختيارية، فقد أنكر هوبز حرية القرارات. ولأننا لا نستطيع أن نقرر أية قرارات بعينها سنخلص إليها، فلا يمكننا أن نتحكم فيما نقرر أيضًا. وعلى قدر حديث هوبز عن الحرية، لم تكن الحرية تعدو الاختيارية. وإذا كان لا يمكن القيام بأي شيء بطريقة اختيارية، بناءً على رغبة أو قرار سابق للقيام به، فلا بد من أن يكون هذا الأمر خارجًا عن سيطرتنا، ومن المستحيل أن تئول مسألة تحديد قيامنا به من عدمه إلينا.

إن فهمنا العادي للقرارات هو أنها ليست اختيارية في الواقع؛ إذ يقول المنطق السليم إننا غير قادرين على اتخاذ قرارات بعينها إراديًّا، أو بناءً على اتخاذ قرار باتخاذها. ولكن لا يزال المنطق السليم مقتنعًا بشدة بأن اتخاذ القرارات أمرٌ حُرٌّ. إن الأمر يئول إلينا في اتخاذ القرارات؛ لذا فإننا أحرار في تقرير خلاف ذلك. إن ما نقرره يقع في حدود تحكمنا.

يُظهر هذا أنه بالرغم من أن هوبز قد طابق الحرية بالاختيارية، فإننا نميز إحدى الحالتين عن الأخرى بكل وضوح. إن فكرة المنطق السليم عن الحرية لا علاقة لها بالحرية كما يفهمها منهج هوبز التقليدي. إن الحرية كما يستوعبها المنطق السليم تختلف تمامًا عن أية قدرة لفعل الأمور إراديًّا أو اختياريًّا، على أساس إرادتنا أو قرارنا أو رغبتنا في فعلها. فالأمور، مثل قراراتنا، قد تئول إلينا أو تقع في نطاق سيطرتنا، دون أن نملك القدرة على فعلها إراديًّا. إن الفارق الجوهري من وجهة نظر المنطق السليم بين الحرية والاختيارية هو فارق يحمل الكثير من التبعات؛ تبعات سأبدأ في استعراضها في الفصل التالي، عندما أتناول محاولات الفلاسفة للاستغناء عن الحرية، وبشكل خاص، استخلاص معنًى لمبادئ الأخلاق دون حرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤