الفصل الخامس

هل توجد مبادئ أخلاق بدون حرية؟

(١) المسئولية والتقرير الذاتي

يتعامل التفكير الأخلاقي العادي مع الناس على أنهم مسئولون أخلاقيًّا عما يقومون بفعله أو يمتنعون عن فعله. ويقتضي المنطق السليم أن يتحلى المرء بالالتزام الأخلاقي والمسئولية الأخلاقية تجاه فعله أو تركه الفعل وتبعاتهما. فلا يمكننا إلا أن نكون خاضعين لالتزامٍ بفعل أشياءَ ما أو بالإحجام عن القيام بها. فلا يمكننا أن نكون خاضعين لالتزام بأن تحدث الأمور بشكل مستقل عن فعلنا، أو أن نتحمل مسئولية هذه الأفعال المستقلة.

وفي هذا الموضع تحديدًا تصبح فكرة الحرية مهمة. لماذا يجب أن نكون مسئولين عن أفعالنا أو ترْكنا الأفعالَ؟ إن الفكرة الطبيعية، كما رأيناها، هي أننا نتحمل مسئولية أفعالنا وتركنا الأفعال؛ لأننا قادرون على أن نحدد لأنفسنا أي الأفعال نقوم بها. إن تصرفنا هو مسئوليتنا — فالطريقة التي نتصرف بها قد تكون خطأً يُنسب إلينا — لأن فعلنا هو شيء يمكننا تقريره بأنفسنا. ويرتكز التفكير العادي عن المسئولية الأخلاقية على فكرة التقرير الذاتي. وأكثر التصوُّرات طبيعيةً عن التقرير الذاتي هو التصوُّر الذي يعتبره حريةً. ففعلنا هو شيء نحدده بأنفسنا ما دمنا نتحكم في هذا الفعل، إن كنا قادرين على التحكم في أي شيء. وعندما يتعلق الأمر بالفعل، فسنكون مسئولين لأننا سنكون في موقع التحكم في هذا الفعل.

(٢) الحرية والاختيارية

ولكن ليست الحرية هي التصوُّر المحتمل الوحيد للتقرير الذاتي. فقد اقتنع الكثير من الفلاسفة بأن هناك أمرًا آخر يكمن خلف مسئوليتنا الأخلاقية. اتفق هؤلاء الفلاسفة على أن المسئولية الأخلاقية لا تزال بالتأكيد على صلة بطريقة تصرفنا. ولا يزال هذا الاعتقاد قائمًا؛ لأن المسئولية الأخلاقية تفترض مسبقًا وجود قدرةٍ ما على التقرير الذاتي؛ قدرة على أن نحدد بأنفسنا الأمور التي نمارسها من خلال طريقة تصرفنا. ولكن الفلاسفة ادَّعَوْا أن التقرير الذاتي لا يمُتُّ إلى الحرية بصلة، بل إنه مرتبط بأمر مختلف تمامًا. إن التقرير الذاتي يُمارَس على أنه اختيارية.

كما شرحت من قبل، فإن الاختيارية هي فعل ما يريده المرء أو ما قرر القيام به لأنه أراد أو قرر القيام به. وقد رأينا أن هوبز أراد أن يعرِّف الحرية من منطلق الاختيارية. فالمرء يكون متحكمًا في فعلٍ ما إذا كان يمتلك القدرة على القيام بالفعل أو عدم القيام به كما يريد أو يرغب. ولكننا رأينا من قبل أن هذه المطابقة بين الحرية والاختيارية أمر لا بد أن يكون خاطئًا. وذلك لأننا نعتقد بأننا نتحكم في قراراتنا — أننا أحرار في أن نقرر شيئًا يخالف ما نقرره في العادة — مع أن قراراتنا لا يمكن اتخاذها اختياريًّا. فنحن لا نستطيع أن نتخذ القرارات على أساس أننا قررنا أن نتخذها.

في حقيقة الأمر، تختلف الحرية عن الاختيارية اختلافًا كليًّا. فكِّرْ فقط في الاختلافات بينهما.

تربط الحرية بين أداء فعل ما والبديل المتمثل في أن نحجم عن القيام به، وتقول إنَّ كِلَا البديلين متاحان. فأن تقول إن الفعل يتم أداؤه من خلال ممارسة الحرية هو أن تقول إن الأمر يئول للفاعل في ألا يؤدي هذا الفعل. لذا فإن الحرية ما هي إلا قدرة واحدة يمكن ممارستها بشكل متساوٍ بواحدة من طريقتين؛ القيام بالفعل أو الإحجام عن القيام به. وامتلاكك لهذه القدرة على الحرية أو التحكم فيما يتعلق بأداء فعل ما يكافئ أن تمتلكها فيما يتعلق بترك الفعل. ومن جانب آخر، لا يُذكر أي شيء عما تسبب في أداء الفعل.

يختلف الأمر تمامًا في حالة الاختيارية. فأن تقول بأن فعلًا ما قد جرى بشكل اختياري يقترب كثيرًا من أن تقول شيئًا عن سبب حدوث الفعل؛ تم الفعل على أساس رغبتنا في القيام به أو اتخاذنا لقرار بالقيام به. وعلى النقيض، لم يُذكر أي شيء عن القدرة على الإحجام عن أداء الفعل. إذا كان الفاعل يمتلك القدرة على الإحجام اختياريًّا عن القيام بالفعل، فهذه قدرة أكثر عمقًا وتميزًا؛ قدرة قد نمتلكها أو لا نمتلكها. نعرض فيما يلي مثالًا من القرن السابع عشر من فلسفة الفيلسوف الإنجليزي جون لوك؛ يمكنني أن أمتلك وأن أمارس قدرتي على البقاء في غرفتي على أساس أني أرغب في ذلك. فأنا باقٍ في الغرفة لأن هذا بالضبط ما أرغب في فعله. ولكنني قد لا أعلم أن باب الغرفة مُوصَد، فحتى إن أردت أن أخرج، فلن أكون قادرًا على ذلك. فقد أكون قادرًا على البقاء في الغرفة اختياريًّا، ولكنني لا أستطيع مغادرتها اختياريًّا.

يمكن استخدام الاختيارية من أجل تقديم وصف للحرية — لمسألة أن الأمر يئول إلينا في كوننا سنقوم بأداء فعل ما من عدمه — ولا يحدث ذلك إلا بالاحتكام إلى امتلاك الفاعل قدرتين مميزتين على الاختيارية؛ القدرة على القيام بالفعل اختياريًّا، وأيضًا القدرة الأكثر عمقًا وتميزًا على الإحجام اختياريًّا عن أداء الفعل. فالحرية، وفقا لمنظور هوبز، لا بد أن ترقَى، لا إلى اختيارية بسيطة وحدها، بل إلى اختيارية خاصة ثنائية الاتجاه.

ولا تبدو الاختيارية مختلفة عن الحرية بدرجة ما فحسب، بل إنها تبدو مختلفة لدرجة تكفي لكي تقدم طريقة مميزة ومختلفة جدًّا لفهم التقرير الذاتي؛ بديل أصيل للحرية عندما يتعلق الأمر بإدراك التقرير الذاتي الذي يمثل القاعدة الأساسية لمسئوليتنا الأخلاقية. كانت هذه هي الطريقة التي يُنظر بها للاختيارية قبل أن تتجلى لهوبز فكرة الربط بين الحرية والاختيارية، وقبل محاولة تفسير الحرية من منطلق الاختيارية. إن الأشخاص الذين لا يؤمنون بالحرية البشرية لسبب أو لآخر حاولوا بالفعل أن يفسروا مسئوليتنا الأخلاقية عن أفعالنا بناءً على هذا الأساس المختلف؛ حيث افترضوا أن أفعالنا هي مسئوليتنا، لا لأننا نمتلك أية حرية للتصرف بشكل مختلف، ولكن لأننا عندما نتصرف بطريقتنا العادية فإننا نتصرف اختياريًّا. إننا نقوم بما ترغب أنفسنا في القيام به أو ما نقرر القيام به.

(٣) هل توجد مسئولية أخلاقية بدون حرية؟

تؤسس الاختيارية، في نهاية الأمر، ما يشبه إلى حد كبير شكلًا من أشكال التقرير الذاتي. لا شك في أنه إن كان قرار المرء أو إرادته هو ما يحدد أفعاله، فإن المرء يكون هو من حدد لنفسه ما يفعل. يمكننا أن نجد احتكامًا إلى هذه الفكرة عن التقرير الذاتي بوصفه من باب الاختيارية في عصر حركة الإصلاح الديني لدى جون كالفن. وهو يقول إننا قد لا نكون أحرارًا في التصرف بشكل مختلف عما نفعل، ولكن تظل أفعالُنا مسئوليتَنا؛ لأننا من خلالها نقوم بما قررنا أو أردنا نحن أنفسنا أن نقوم به.

عندما اتخذ البروتستانتي كالفن في القرن السادس عشر وجهة نظر كئيبة عن الحرية الإنسانية، دفع بأننا، بسبب عصاية آدم لله وما نتج عنها من الهبوط إلى الأرض وفقدان الحياة في الجنة، وقعنا في شَرَك الخطيئة الأولى، لدرجة أن جميع مظاهر الحرية الأخلاقية قد فُقدت. ومن المحتم مسبقًا أن نأثم أو أن نرتكب الأفعال الخاطئة بالضرورة، ونفتقد أية حرية لفعل الصواب. وبوصفنا آثمين، لم نعد نتحكم في أفعالنا. ولكن حتى في ظل غياب الحرية لفعل الصواب، قد نظل مسئولين أخلاقيًّا عن ارتكابنا الخطأ الحتمي الحدوث؛ إذ إن ارتكابنا الخطأ لا يزال مقررًا ذاتيًّا من إحدى الزوايا. فقد لا تكون أفعالنا حرة، ولكننا لا زلنا نقوم بها اختياريًّا، بدافع من إرادتنا أو رغبتنا الأصيلة للقيام بها:

إذن فالنقطة الأساسية في هذا الاختلاف لا بد أن تكون أن الإنسان، المدنَّس منذ الهبوط إلى الأرض، يأثم بإرادته، لا رغمًا عنها أو إجباريًّا؛ من خلال نزعة قلبه التوَّاقة، وليس من خلال القسْر؛ من خلال دفع شهواته لذلك، وليس من خلال الإرغام من مصدر خارجي. (ص٢٩٦) … إن المقدَّر له أن يأثم لا يفعل ذلك مكرَهًا. (ص٣١٧).

fig5
شكل ٥-١: جون كالفن، ١٥٥٠ تقريبًا، المدرسة الفرنسية.

في أيامنا الحالية، يوجد عدد من الفلاسفة — من بينهم الفيلسوف الأمريكي هاري فرانكفورت — يرغبون، مثل كالفن، في أن يفصلوا مسئوليتنا الأخلاقية تجاه طريقة تصرفنا عن أية حرية للتصرف بشكل مغاير. إن الاختيارية التي نتصرف من خلالها — حقيقة أنه من خلال أداء فعل ما بشكل مقصود فإننا أنفسَنا نفعل ما قررناه أو أردنا فعله — هي ما يجعلنا مسئولين أخلاقيًّا. أما الحرية في التصرف بطريقة مغايرة، فلا صلة لها بالأمر.

من الواضح سبب رغبة بعض الفلاسفة في تأسيس مسئوليتنا الأخلاقية على الاختيارية بدلًا من الحرية؛ حيث إن الاختيارية سهلة الاستيعاب والفهم. فتبعاتها لا تتعدى أننا نتصرف كما قررنا أو رغبنا، في حين أن الحرية فكرة أكثر إثارة للجدل بكثير. ولما كنا ننظر بشكل طبيعي إلى الحرية من منطلق الليبرتارية، فإن ما نخلص إليه، من وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة، غامض للغاية. فليس من الواضح وجود أية مساحة للحرية في عالم تكون أحداثه إما محدَّدةً سببيًّا أو عشوائيةً؛ وحيث يُفترض عمومًا بأفعالنا ألا تزيد عن كونها مجرد تأثيرات لرغباتنا السابقة. فلماذا لا نترك فكرة الحرية، ونُقِيم مسئوليتنا الأخلاقية عن أفعالنا على أساس الاختيارية بدلًا من ذلك؟

إلا أن هناك سببًا واضحًا لعدم قدرة المنطق السليم على التخلي عن الحرية، ولعدم صلاحية الاختيارية لأن تكون بديلًا لها. فالمنطق السليم يؤمن بأننا لسنا مسئولين عن أفعالنا التي نقوم بها اختياريًّا فحسْب — على أساس أننا قررنا القيام بها — بل أيضًا عن قراراتنا السابقة بالتصرف أيضًا. إننا نعتقد أن ما نقرر فعله يكافئ تقريبًا تصرفنا المتعمد ويكافئ تقريبًا أفعالنا ومسئوليتنا، بقدر ما نقوم به على أساس القرارات التي اتخذناها. ولكن كما رأينا بالفعل، لا يمكننا اتخاذ القرارات اختياريًّا؛ حيث إن ما نقرره لا يخضع لقراراتنا أو إرادتنا.

وتحميل الناس المسئولية المباشرة، ليس عما يرغبون به، ولكن عما يقررون ويتعمدون في الواقع، هو جزء من أخلاقية المنطق السليم. تذكَّرْ حالة فرِد الأنانيِّ، الذي بالرغم من كل ما قامت به أمه من أجله لم يكن يكترث لمصلحة أمه وكان يعمل لمصلحته هو فقط. إننا نلومه، لا على عدم مساعدته لأمه فحسْب — فالاهتمام بمصلحته الخاصة قد يؤدي به في بعض الأحيان إلى تقديم المساعدة — بل أيضًا على أنانيته. فهذه الأنانية ليست مجرد شعور أو حاجة مُلحة تنتاب فرِد دون تفكير منه. إن هذه الأنانية تتشكل من طبيعة إرادة فرِد؛ من قدرته على اتخاذ القرار. نحن نلوم فرِد لأنه قرر وقصد البحث عن مصلحته وحدها، ولأنه لم يقرر مطلقًا الاهتمام بمصالح والدته إضافة إلى مصلحته.

يمكننا أن نلوم فرِد على هذا؛ لأننا نعتبر ما يقرره فرِد ويقصده هو من فعله المباشر، وكان لومنا له سيظل بنفس القدر حتى لو أنه لم يؤدِّ الأفعال التي قصدها. وعلى النقيض مما افترضه هوبز، فإن الإرادة ليست سببًا أو دافعًا للأفعال؛ للأفعال الاختيارية المرادة، ولكنها قدرة على القيام بالفعل ذاته. لهذا السبب فإننا نحمِّل الناس مسئولية المقاصد أو الأهداف التي يتبنونها أو لا يتبنونها، وما يقررونه وينوونه. إننا نعتقد أن الوصول إلى قرار معين، وعقد نية محددة — وهو ما يمثل في النهاية تبني الفاعل لهدف أو غاية معينة — يمكن أن يكون أمرًا يفعله الشخص بشكل مقصود ومتعمد. إن قراراتنا ليست أمورًا تنتابنا دون تفكير منا، كرغبة عارمة، أو إدراك مفاجئ. إن ما نقرره هو في حد ذاته فعل متعمد من قِبَلنا.

ولكن بما أن القرارات لا يمكن أن تُتخذ اختياريًّا، وأن ما نقرره لا يخضع للإرادة، فإن لهذا الأمر تبعات واضحة على مبادئ الأخلاق. فهو يعني أن نوعية التقرير الذاتي الذي يربط بين المسئولية الأخلاقية وطريقة تصرفنا، بما فيها طريقة اتخاذنا القرار، لا يمكن أن تكون الاختيارية. لا بد إذن أن تكون الحرية عوضًا عن هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤