الفصل السادس

التشكك في الحرية الليبرتارية

(١) التقرير الذاتي والحرية الليبرتارية

يبدو أن التقرير الذاتي؛ أي قدرتنا على أن نحدد لأنفسنا كيف نتصرف، يجب أن يأخذ صورة الحرية. وهذه الحرية — أي أن يئول إلينا اختيار الأفعال التي نؤديها — لا يمكن أن تكون مثلها مثل الاختيارية؛ حيث إن هناك بعض الأفعال التي يمكننا التحكم بها والتي لا يمكننا القيام بها اختياريًّا على أساس تقريرنا أو رغبتنا في القيام بها. هذه الأفعال هي قرارات نابعة من إرادتنا.

ولكن هل الحرية ممكنة من الأساس؟ إن تصورنا الطبيعي للحرية ذو طبيعة لا توافقية، بالأحرى هو تصور ليبرتاري. إنه تصور لا توافقي من منطلق أن تحكمنا في أفعالنا يعتمد على ألا تكون أفعالنا محددة سببيًّا بشكل مسبق بواسطة أحداث سابقة خارجة عن تحكمنا. وهو ليبرتاري من منطلق أننا نؤمن بأن الحرية، المشروطة على هذا النحو، هي الحرية التي يمكننا امتلاكها، بل ونمتلكها بالفعل.

تاريخيًّا، اعتنقت التوافقية وجهة النظر التالية عن الحرية والقدرة على التقرير الذاتي التي تشكلها. فطبقًا للتوافقية، عندما نتصرف بحرية، فإننا نحدد بأنفسنا كيف نتصرف؛ ولكن بشكل غير مباشر أو من خلال وسيط، كيفما كان. ليس نحن — إلى حدٍّ بعيد — من يحدد طريقة تصرُّفنا في حقيقة الأمر، بل أمور مختلفة عنا؛ شتى الرغبات وغيرها من الدوافع المسبقة التي تنتابنا. هذه هي الرغبات التي تسبق أفعالنا بوصفها أسبابًا لها؛ وهي رغبات تقع خارج نطاق تحكمنا؛ إذ إنها نفسها ليست من أفعالنا.

أما الليبرتارية فتختلف مع هذا. فالليبرتارية تقول إننا، بوصفنا فاعلين أحرارًا، عندما نقرر طريقة تصرفنا فلا بد أننا نحن أنفسَنا من يقوم بهذا التقرير. فلكي يكون التحكم في كيفية تصرفنا حقيقة، يجب أن يكون نابعًا منَّا، لا من أسباب سابقة منفصلة عن ذواتنا. وباعتبارنا فاعلين أحرارًا، يجب أن نكون نحن، لا أي شيء آخر، المحدِّدين المطلَقين للكيفية التي نتصرف بها. والسؤال المحوري هنا هو: أنمتلك بالفعل هذه القدرة على التقرير الذاتي المستقل أم لا. فما الذي تنطوي عليه بالفعل هذه الصورة المضنية من التقرير الذاتي؟

قلت في البداية إن الكثير من الفلاسفة يتشككون في إمكانية وجود الحرية الليبرتارية. فهم يفترضون أن الحرية كما يفهمها الليبرتاريون — هذه القدرة على التقرير الذاتي المستقل — مستحيلة من الأساس. وقد رأينا سابقًا، في إطار عام موجز، سبب ذلك. والآن حان الوقت لتناول هذه الانتقادات الموجهة للِّيبرتارية بتفصيل أشمل.

(٢) مشكلة العشوائية

ثمة مشكلة تواجه الليبرتارية، هي تهديد العشوائية. أعني ﺑ «العشوائية» هنا عامل الصدفة المحضة. ويفترض الكثير من الناس حسب فهمهم للعشوائية على هذا النحو أنها النقيض التام للحرية. فإذا كان هناك حدث أو عملية ما تحدث عشوائيًّا أو بالصدفة المحضة، فلا يمكننا أن نتحكم في طريقة حدوثه أو حدوثها. ولكن يدَّعي النقاد أن الحرية من منظور الليبرتارية تنذِر بأنها لا تعدو أن تكون صدفة؛ لأنه لا يوجد سوى بديلين اثنين؛ فإما أن الفعل يجب أن يكون محدد سببيًّا بشكل مسبق، وفي هذه الحالة سينكر الليبرتاريون أنه فعل حر؛ وإما أنه بقدر ما يكون الفعل غير محدَّد سببيًّا، يجب أن يعتمد حدوثه على الصدفة. ومن خلال نفي التحديد السببي المسبق، حاولت الليبرتارية أن تفسح المجال لما تعتبره الحرية الأصيلة. ولكن نظرًا لغياب التحديد السببي المسبق، فإن كل ما نجده هو الصدفة، التي لا ترتقي إلى مرتبة الحرية الأصيلة بأي حال من الأحوال. سأطلق على تلك المشكلة التي تواجه الليبرتاريين «مشكلة العشوائية».

لا شك في أن المشكلة تعتمد على فرضية واحدة رئيسية، وهي أن البدائل الوحيدة المتوفرة هي: إما أن الحدث قد حدث بشكل محدد سببيًّا، وإما أنه حدث بناءً على الصدفة المحضة. ولكن من المؤكد أن الإيمان بالحرية الليبرتارية يبدو أنه يقودنا إلى وجود احتمالية ثالثة؛ أن هناك بعض الأحداث لا تحدث بناء على التحديد السببي ولا بناء على محض الصدفة؛ لأنها تحدث داخل نطاق تحكمنا، بوصفها نوعًا من ممارسة حريتنا. والآن من الواضح أن نقاد الليبرتارية يريدون أن يتجاهلوا النظر لهذا الاحتمال بوصفه احتمالًا ثالثًا أصيلًا، ولكن من غير الواضح سبب تجاهل هذا الاحتمال.

فعلى أي حال، ما الافتراض الذي يمكن أن يكون معقولًا أكثر من الأمر السابق؟ هناك بعض الأحداث التي قد تم تحديدها سببيًّا بشكل مسبق بالفعل بواسطة أحداث سابقة، ولذا تكون خارجة عن تحكمنا، ومن المحتم حدوثها على أي حال. وهناك أمور أخرى تعتمد على الصدفة البحتة. ولما كانت هذه الأحداث تقع بمحض الصدفة، فلا بد أن هذه الأحداث تقع دون أن نكون متحكمين فيها. هذه هي حالات العشوائية الأصيلة. ولكنْ هناك أحداث أخرى تقع داخل نطاق تحكمنا؛ وفي حالتها لا تكون محددة سببيًّا مسبقًا ولا عشوائية. وعندما تقع هذه الأحداث ينطوي الأمر على أكثر من مجرد الصدفة، لا لسبب إلا أن الأحداث تقع داخل نطاق تحكمنا. إن الأمور لا تحدث بشكل عشوائي؛ إذ إننا نتحكم في كونها ستحدث أم لا، ومتى ستحدث. وإذا كان الأمر هكذا، فما الذي قد يكون أكثر طبيعيةً من التمييز بين هذه الاحتمالات الثلاثة المتمايزة تمامًا والمتساوية في أصالتها؟

محدد سببيًّا بشكل مسبق غير محدد سببيًّا غير محدد سببيًّا
لذا و و
غير متحكم فيه غير متحكم فيه متحكم فيه
(عشوائي أو محض صدفة)

لحل مشكلة العشوائية هناك إذن أمر واحد سنحتاج إلى فهمه: لماذا نظرنا إلى هذا الأمر على أنه مشكلة في المقام الأول؟ إننا بحاجة إلى أن نفهم لماذا اعتقد هذا العدد الكبير من الفلاسفة بشكل شبه يقيني بأنه لا يوجد احتمال ثالث، وأن التحديد السببي المسبق أو الاعتماد على الصدفة المحضة هما الاحتمالان الوحيدان المتوفران.

(٣) مشكلة الممارسة

هناك مشكلة أخرى تواجه القائل بالليبرتارية. هل تعتبر الحرية الليبرتارية شيئًا يمكننا ممارسته، بالطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ممارسة الحرية، من خلال ما نقوم به بشكل متعمد من أفعال أصيلة ومفهومة؟ المشكلة أنها ليست كذلك؛ فهذه الحرية الليبرتارية مختلفة عن أي شيء يمكن تمييزه بوصفه فعلًا أصيلًا. يبدو أن الحرية الليبرتارية تختزل ما نفعله بحيث لا يزيد عن كونه حركة غير موجهة تجري دون تفكير، ما يعادل الارتجافات والتشنجات. والحرية — التحكم الأصيل — ليست أمرًا يمكننا ممارسته من خلال مجرد الارتجافات والتشنجات. وسأطلق على هذه المشكلة «مشكلة الممارسة». دعوني أشرح فيما يلي بالتفصيل كيف تنشأ مشكلة الممارسة.

تذكر أن الحرية هي أمر نمارسه من خلال الفعل المتعمد أو ترك الفعل. وهذا بالتحديد هو فعلنا؛ الوسيلة التي نمارس فيها ومن خلالها تحكمنا فيما يحدث.

ولكن ما هو الفعل؟ إنه شيء يُنفَّذ لغرض ما، من أجل الوصول إلى هدف ما. ولكل فعل أصيل غرض ما، أمر يجعل الفعل مفهومًا بوصفه فعلًا متعمدًا، ويسمح لنا بتفسير سبب أداء الفعل. والأفعال ليست استجابات لا إرادية تجري دون تفكير. فالأفعال دائمًا ما تكون أحداثًا يمكن إلى حد ما فهمها من منطلق أهداف الفاعل المؤدي لها. فيسألني أحد الأشخاص: «لماذا عبرت الطريق؟» فإذا كان عبور الطريق أمرًا قمت به عن عمد، وإذا لم يكن أمرًا حدث نتيجة حادث خارجي (انهيار صخري دفعني لعبور الطريق) أو من خلال استجابة لا إرادية تجري دون تفكير (حدثت تشنجات في ساقيَّ)، فدون شك ستوجد إجابة عن هذا السؤال. ستأتي الإجابة من غرضي في عبوري الطريق، فربما أكون قد عبرت الطريق من أجل مجرد عبور الطريق، أو ربما كان غرضي من العبور الوصول إلى بائع الصحف على الجانب الآخر من الطريق.

في الواقع، إن الفعل والغائية؛ القيام بأمر ما كوسيلة للوصول إلى هدف، حتى وإن كان للأمر في حد ذاته؛ يبدوان في النهاية الشيء نفسه. وإضافة إلى أن جميع الأفعال تمتلك أهدافًا أو أغراضًا، فمتى تجدِ الغائية، فستجدُ الفعل أيضًا. فأن تعمل أمرًا ما من أجل الوصول إلى هدف ما، أو من أجل تلبية غرض ما، يعني أن تكون دائمًا منخرطًا في «العمل»؛ أن تكون مؤديًّا لفعل ما.

من أين تأتي وجهة الهدف الخاصة بفعلنا؟ تمنحنا رؤية هوبز عن الفعل إجابة بسيطة. إن المقاصد التي نتصرف من أجلها تأتي من رغباتنا السابقة؛ رغبات تدفعنا للتصرف اختياريًّا بالكيفية التي نتصرف بها. خذ عبور الطريق مثالًا. هبْ أنني أعبر الطريق من أجل الوصول إلى بائع الصحف على الجانب الآخر. فإن ما سيلي سيكون حقيقيًّا: إن ساقيَّ لن تتحركا بالصدفة، جراء تشنج أصابهما، ولكن نتيجة لسبب سابق. وهذا السبب السابق سيأتي، لا من خلال أمر خارج نطاقي؛ مثل الانهيارات الصخرية، بل من خلال رغباتي الخاصة. إنني أرغب في الوصول إلى بائع الصحف، وأن أصل إلى بائع الصحف من خلال عبور الطريق. ولهذا السبب عبرت الطريق.

يُحسب فعلي فعلًا أصيلًا من خلال حدوثه، لا بمحض الصدفة، أو من خلال سبب ما خارجي، ولكن بوصفه تأثيرًا من رغبتي في الوصول إلى هدف ما من خلال قيامي بما أفعل. والهدف أو القصد من فعلي يأتي من «الغرض» وراء هذه الرغبة الدافعة؛ من الشيء الذي أرغب في فعله. ينطبق هذا التفسير حتى عند أداء الفعل، فأنا أعبر الطريق، لمجرد عبور الطريق في حد ذاته. وهنا أيضًا لم تتحرك ساقاي بمحض الصدفة ولكن نتيجة لسبب ما، وسيكون السبب مرة أخرى هو رغبتي في الوصول إلى هدف ما. في هذه الحالة، لن يكون الهدف غاية أو مقصدًا «آخر». سيكون الهدف مجرد القيام بما أفعل؛ أي عبور الطريق. إن عبور الطريق شيء أرغب في فعله من أجل فعله فحسْب.

إذن بالنسبة لهوبز، يحدث الفعل فقط كتأثير اختياري لرغبات سابقة. ومن خلال هذه الأسباب السابقة — من الرغبات ومن الأغراض وراء هذه الرغبات — تحصل هذه الأفعال على مقاصدها، وكذلك تحصل على هُويتها بوصفها أفعالًا متعمدة أصيلة.

ومن ثَمَّ فإن الفعل، طبقًا لنظرية هوبز، يكون بطبيعته تأثيرًا لأحداث سابقة خارجة عن نطاق تحكمنا. وهذا هو الشكل الوحيد الذي يمكن للفعل أن يكون عليه. تكون الأفعال على هذا النحو، وتكتسب توجيه الهدف الذي هو ضروري للفعل، فقط كتأثيرات لرغبات سابقة؛ رغبات عبارة عن أحداث ليست من فعلنا جرت دون تفكير. ولهذا لا يمكننا التحكم فيها. وفي حالة غياب هذه الأسباب، لن يكون هناك شيء يمكن اعتباره فعلًا غائيًّا مفهومًا. ولا يمكن أن يزيد الفعل عن كونه مجرد حدث عديم الهدف. وكما اتفقنا بالفعل، فإن الحرية، التحكم الأصيل، لا يمكن أبدًا ممارستها من خلال مجرد أحداث عديمة الهدف.

أصبحت المشكلة التي تواجه الليبرتارية واضحة. تقول الليبرتارية إن الفعل الحر لا يمكن أن يُحدَّد سببيًّا من خلال أحداث سابقة خارجة عن نطاق تحكمنا؛ مثل الرغبات السابقة. ولكن نظرية هوبز عن الفعل التي نتناولها حاليًّا تقول إن الفعل لا يعتبر فعلًا على الإطلاق إلا إذا كان تأثيرًا لهذه الرغبات السابقة. وهذا يَفصِل الحرية الليبرتارية عن طبيعة الفعل، وهو ما يمثل معضلة عميقة إلى حد ما.

إن الحرية أمر يُفترض بنا أن نمارسه من خلال الطريقة التي نتصرف بها، من خلال قدرتنا على الفعل. ولكن طبقًا لنظرية هوبز، فإن قدرتنا على الفعل تتطابق مع نوع معين من القوة السببية. إن قدرتنا على الفعل تتطابق مع قوة سببية خاصة برغباتنا، هذه الرغبات القادرة على دفعنا للتصرف على النحو الذي نرغب فيه. وهذا هو مضمون الفعل طبقًا لنظرية هوبز؛ التمكن من القيام بما نريده لأننا نريد القيام به.

ولكن بعيدًا عن ممارسة الحرية الليبرتارية من خلال هذه القوة السببية، فإن الحرية الليبرتارية أمر تهدده في الواقع هذه القوة السببية. فعلى كل حال، لسنا أحرارًا من منظور الليبرتارية إذا ما أتت هذه القوة السببية في صورة قوية بقدر كافٍ؛ إذا ما حددت رغباتُنا فِعْلَنا سببيًّا بشكل مسبق. إن القوة السببية للرغبات المسبقة في التأثير على ما نفعل — هذه القوة السببية التي، في نظرية هوبز، تشكل قدرتنا على الفعل — يجب أن تكون محدودة إذا ما أردنا ممارسة الحرية الليبرتارية.

يبدو إذن أن الحرية الليبرتارية نوع من الحرية التي لا يمكن ممارستها من خلال قدرتنا على الفعل. فالحرية الليبرتارية بدلًا من ذلك تتعارض مع هذه القدرة ذاتها، بل وتُهدَّد من قِبَلها. ولكن بالنظر إلى هذه الرؤية عن الحرية، فإن هذا أمر عبثي. إن أية حرية ممكنة لنا — الحرية التي يمكننا أن نمتلكها ونمارسها — يجب أن تكون ممارستها ممكنة من خلال الفعل. وهكذا سيكون لدينا مشكلة الممارسة. لا يبدو أن الليبرتارية تخلط بين الحرية والعشوائية فحسْب، بل أيضًا يبدو أنها تجعل الحرية في صورة شيء لا يمكننا ممارسته من خلال الطريقة التي نتصرف بها. ولكن الحرية الحقيقية — الحرية التي يمكننا التمتع بها — يجب أن تكون ممارستها ممكنة من خلال الطريقة التي نتصرف بها.

عند هذه النقطة، قد يتساءل بعض الفلاسفة عما إذا كانت هناك مشكلة بالفعل. إنهم مستعدون لأن يفترضوا، إلى جانب هوبز، أن جميع الأفعال يجب أن تحدث نتيجة أسباب سابقة، كتأثيرات للرغبات. ولكن بافتراضهم هذا، فإنهم يصرون على أننا بحاجة إلى وضع فارق؛ إن ما يسلبنا حرية الفعل ليس الأسباب السابقة لأفعالنا، بل التحديد السببي لها. وحريتنا لا تُسلب من خلال الأسباب السابقة فحسْب، بل بالأسباب السابقة التي تحدد أن تأثيراتها يجب أن تحدث، والتي لا تترك أية فرصة لاحتمالية أننا سنتصرف بأية صورة مغايرة لما تدفعنا للتصرف على نحوه. ولكن لا شك في أن التأثير السببي يمكن أن يكون متدرجًا. فبعض الأسباب تحتم أن تأثيراتها يجب أن تحدث وسوف تحدث. قد لا تكون بعض الأسباب الأخرى على نفس درجة القوة؛ فهي قد تؤثر فحسب على حدوث نتائجها من عدمه، دون تحديد أن هذه النتائج يجب أن تحدث. وقد توجد أسباب تترك مساحة من الفرصة لنتائجها لكي لا تحدث.

خذ مثلًا التدخين باعتباره مسببًا لمرض السرطان. ربما، في بعض الحالات، يحدد التدخين سببيًّا لدى بعض الأشخاص إصابتهم بالسرطان. فبناءً على تدخينهم، لا توجد فرصة لأن يتجنبوا مرض السرطان. ولكننا لا نعلم يقينًا أن هذا الأمر سيحدث في يوم من الأيام. فمن المحتمل جدًّا أن يؤدي التدخين إلى السرطان في أغلب الأحيان، ولكن دون تأكيد حقيقي بحدوث السرطان. ربما يزيد التدخين بشكل ملحوظ من احتمالات الإصابة بالسرطان، ولكنه لا يصل بهذه الاحتمالات إلى مرحلة التأكيد. لا تزال هناك فرصة ألا يحدث السرطان. لا شك في أن السرطان قد يحدث في النهاية، ولكن هذا لن يتم تحديده.

مثل هذه الأسباب التي تؤثِّر دون تحديدٍ عادةً ما يُطلق عليها الأسباب الاحتمالية، وهي تعطي فحسب لتأثيراتها بعض الاحتمالية دون أن تضمن أنها ستحدث. وإذا ما قمنا بإجراء هذا التمييز بين أنواع مختلفة من الأسباب، فسيتضح أن الحرية الليبرتارية لا تزال متسقة تمامًا مع وجهة نظر هوبز عن الفعل. إن ما يتطلبه الفعل هو أن يكون تأثيرًا لرغبات سابقة. ولكن لا يجب أن تحدد الرغبات في الواقع كيفية تصرفنا. فهي قد تكون مجرد مؤثرات على أي الأفعال سنؤدي. كما أن المسببات قد تكون احتمالية وليست محدَّدة.

ولكن هذا التمييز بين الأسباب المُحدِّدة والاحتمالية لا يساعد فعليًّا. فالتنافر بين الفعل والحرية الليبرتارية لا يمكن أن يُعالَج بسهولة. وسبب هذا الأمر واضح للغاية. الواقع أن الحرية الليبرتارية تتسق اتساقًا كبيرًا مع الأفعال ذات المسببات غير الحرة المسبقة، شريطة أن يكون تأثير تلك المسببات ضعيفًا بدرجة كافية، بحيث تؤثر هذه الأسباب على أسلوب تصرفنا بدلًا من أن تحدد تصرفاتنا. ولكن هذا التأثير السببي، حتى وإن لم يكن يُقصي الحرية الليبرتارية، لا يزال يمثل تهديدًا لها. فمع زيادة كافية في هذا التأثير السببي — التأثير نفسه الذي يُفترض به أن يجعل أفعالنا متعمدة — سوف تُقصى الحرية الليبرتارية.

وهذا يعني أنه إذا أضفنا المزيد مما يجعل أفعالنا أصيلة — إذا ما زدنا من التأثير السببي للرغبات السابقة — فإن الحرية ستنتهي. وسيكون هذا بالتأكيد أمرًا لا يُحتمل. فليس من المحتمل أن ما يجعل الفعل فعلًا، ويشكِّل منه وسيلة لممارستنا الحرية، يمكن أن يكون في الوقت ذاته أمرًا مهددًا للحرية. وليس من المحتمل أن ما يعطي الفعل هويته يجب أن يكون محدودًا كي تكون الحرية ممكنة بأي حال من الأحوال. إن الحرية أمر نمارسه من خلال كيفية تصرفنا. لذا لا يمكن أن تكون أمرًا مهددًا بطبيعة الفعل ذاتها.

لذا فإن المشكلة ليست أن الأفعال الحرة لا يمكن أن تكون ناتجة عن أسباب، فحتى الليبرتاريون يقرون بأن الفعل الحر قد ينتج عن أسباب، شريطة ألا تكون هذه الأسباب السابقة محددة للفعل. بل المشكلة عوضًا عن ذلك هي، كما افترض هوبز، أنه إذا كان ما يجعل الفعل فعلًا هو كونه تأثيرًا لأسباب سابقة، فإن هوية الفعل تأتي من نوع من التأثير السببي المهدد للحرية، وهو التأثير الذي يجب أن يكون محدودًا كي تكون الحرية ممكنة. وهكذا أصبحت الحرية الليبرتارية شيئًا مهدَّدًا بطبيعة الفعل ذاتها. إن مثل هذا التهديد للحرية أمر عبثي. فالحرية شيء تسمح لنا قدرتنا على الفعل بأن نمارسه. لذا فإن القدرة ذاتها لا يمكن على نحو معقول وبطبيعتها أن تهدد الحرية وتتعارض معها.

إن مشكلة الممارسة تبدو خطيرة، ولكنها مثل الكثير من المشكلات لها أكثر من حل ممكن. يمكننا أن نعالج المشكلة بلا شك، من خلال التخلي عن المفهوم الليبرتاري للحرية. يمكننا أن نتبع هوبز ونطابق الحرية بشكل من أشكال الاختيارية، مع القدرة على التصرف كما نرغب أو نريد. وهذا، بكل تأكيد، من شأنه أن يعالج التوتر بين الحرية والفعل. وبعيدًا عن وجود تنافر بين الحرية وقدرتنا على الفعل، فإنهما قد تكونان متماثلتين إلى حد ما. ويمكن تفسير كل منهما من منطلق القدرة العامة ذاتها، القدرة على الاختيارية.

ولكن لماذا نتخلى عن المفهوم الليبرتاري للحرية؟ لماذا لا نتخلى بدلًا من ذلك عن مفهوم هوبز عن الفعل، الذي يتسبب في هذه المشكلة؟ فعلى كل حال، لقد رأينا بالفعل أن المنطق السليم لا يقيِّد الفعل بالاختيارية؛ أي لا يقيِّده بما نفعله، باعتباره تأثيرًا لدوافع سابقة، كما يحدث مع رغبة سابقة للقيام بالفعل. ومثل النظرية التقليدية القائمة على الإرادة، يبسط المنطق السليم نطاق الفعل ليشمل بعض الدوافع السابقة نفسها أيضًا، عقد النيات والقرارات السابقة التي نقوم على أساسها بالكثير من الأمور اختياريًّا؛ مثل عبور الطريق. هذه القرارات الدافعة تعتبر أفعالًا حتى وإن لم تكن في حد ذاتها تأثيرات لقرارات أو رغبات في اتخاذ قرارات. في حقيقة الأمر، كما سأدفع، من الممكن، من حيث المبدأ على الأقل، أن تُتخذ هذه القرارات دون سبب على الإطلاق؛ دون أن تكون تأثيرات لأي شيء على الإطلاق.

ربما نجد إذن في القرارات الفعل الأصيل — أي التوجه الأصيل نحو الهدف — ولكن في شكل مستقل تمامًا عن السببية المسبقة. ربما تعتبر القرارات أفعالًا أصيلة موجهة نحو الهدف، ولكن دون رغبات سابقة تعمل على دفعنا لاتخاذ تلك القرارات. في هذه الحالة، سيختفي التوتر بين الحرية الليبرتارية والفعل؛ إذ سنتوقف عن تفسير طبيعة الفعل من منطلق يمثل تهديدًا للحرية الليبرتارية.

(٤) مقارنة بين مشكلتَي العشوائية والممارسة

يقول خصوم الليبرتارية إنها نظرية غير متماسكة عن الحرية. ولكن تذكر أن هناك طريقتين مختلفتين لعرض هذا الزعم. قد يضع خصوم الليبرتارية في اعتبارهم مشكلة العشوائية، ويمكن أن يزعموا أن الليبرتارية تحوِّل الحرية إلى شيء لا يعدو كونه صدفة. أو قد يضعون مشكلة الممارسة في اعتبارهم، ويمكن أن يدَّعوا أن الليبرتاريين يفصلون ممارسة الحرية عن الفعل. وقد يدَّعون أن الليبرتاريين يحولون ممارسة الحرية إلى أمر يجري دون تفكير وغير مدفوع، من خلال فصلها عما يجعل ما نفعله فعلًا غائيًّا مفهومًا بشكل أصيل. وهذان الاتهامان مختلفان تمامًا، وهما يحتاجان إلى الإجابة عنهما بطريقتين مختلفتين تمامًا.

للرد على الادعاء أن الليبرتارية تخلط بين الحرية والعشوائية، قد نحتاج إلى إرساء أن الحرية الليبرتارية تتضمن شيئًا أكبر من مجرد الصدفة؛ أي إنها تتضمن أكثر من مجرد غياب التحديد السببي المسبق. للرد على الاتهام الثاني قد نحتاج إلى إرساء وجود بعض الأفعال المفهومة — أفعال متعمدة وموجهة نحو الهدف بشكل أصيل — غير المسببة. وبلا شك قد ننجح في إظهار أحد هذين الأمرين دون النجاح في إرساء الأمر الآخر. على سبيل المثال، قد نكون قادرين على أن نظهر أنه حتى القرارات غير المسببة على الإطلاق قد تكون أفعالًا أصيلة موجهة نحو الهدف. ولكن هذا لا يزال يترك احتمال أن هذه القرارات، باعتبارها غير مسببة، أو على الأقل غير محددة سببيًّا، تُتخذ بشكل عشوائي؛ إذ إنه بسبب كونها غير محددة فحدوثها لم يتضمن شيئًا سوى الصدفة. ولكن لا يزال علينا أن نفسر كيف أن ما يطلِق عليه الليبرتاريون حرية يزيد عن مجرد الصدفة.

إن إمكانية وجود الحرية الليبرتارية قَيْد التهديد؛ حيث يوجد التهديد من مشكلة الممارسة. ويبدو أن الحرية الليبرتارية في حالة حرب مع طبيعة الفعل ذاته الذي ينبغي ممارستها من خلالها. ثم هناك مشكلة العشوائية. فالحرية الليبرتارية مهددة بأن تتحلل لتصبح مجرد صدفة، أو هكذا يزعمون. وليس من الواضح على الإطلاق مدى جدية هذه الانتقادات. وخلال الفصلين التاليين سأحاول حل هاتين المشكلتين، متناولًا مشكلة الممارسة أولًا، ثم متحوِّلًا إلى مشكلة العشوائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤