تمهيد

وصل بنا المطاف في الجزء الأخير من هذه الموسوعة عن تاريخ أرض الكنانة إلى نقطة تحول في الحياة المصرية في الداخل والخارج. فقد كانت مصر منذ باكورة النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد نهبًا مقسمًا بين دولة الكوشيين في الجنوب وبين دولة الآشوريين في الشمال، وقد كانت مصر وشعبها في يد القدر آنذاك، فقد رأيناها تارة في يد ملوك كوش وتارة أخرى في يد الآشوريين، وكان هوى المصريين أنفسهم أحيانًا مع ملوك كوش وأحيانًا مع حكام آشور، غير أن ميولهم الحقيقية كانت مع قوم كوش. ولا غرابة في ذلك فقد كان يجمع بين المصريين والكوشيين رابطة الدم والدين، لكن ذلك لم يجد نفعًا أمام جحافل الآشوريين الذين اجتاحت جيوشهم جند الكوشيين الذين كانوا يسيطرون على البلاد المصرية جملة. وعلى أية حال لم تبقَ مصر في قبضة الآشوريين فترة طويلة من الزمن؛ وذلك بسبب الاضطرابات الداخلية التي كانت متفشية في أنحاء الإمبراطورية الآشورية ممَّا آذن بقرب أفول نجمها، واختفائها من بين الدول صاحبة السلطان في العالم.

وقد انتهز أحد أمراء مصر العظام تلك الفرصة السانحة الفذة؛ لتخليص بلاده من الحكم الآشوري بعد أن خلصت آشور مصر من الحكم الكوشي.

وهذا الأمير الذي حرر مصر مرةً أخرى من محبسيها في الشمال والجنوب هو «بسمتيك الأول» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين حوالي عام ٦٦٣ق.م، حقًّا كانت الفرصة مواتية لهذا الأمير من كل الوجوه فقد زال عنه خطر الكوشيين الذين انزووا في عقر دارهم بنباتا عاصمة بلاد كوش ورضوا من الغنيمة بالإياب، ولم نسمع عنهم بعد ذلك حتى عهد الملك «بسمتيك الثاني». أما الآشوريون فقد شغلتهم الثورات والاضطرابات التي كانت متفشية في أنحاء إمبراطوريتهم، ورضوا عن طيب خاطر بالتحالف مع «بسمتيك الأول» الذي لم يلبث أن انتهز الفرصة وحرر بلاده نهائيًّا من الحكم الآشوري على أن يبقى حليفًا لمليكهم.

وقد دخلت مصر في عهد «بسمتيك الأول» في طور جديد من أطوار حياتها كان لملوك كوش فضل المبادرة فيه، غير أن «بسمتيك» وأسرته من بعده قد ساروا بهذا التطور إلى غايته وزادوا عليه حتى اكتمل. وهذا التطور أطلق عليه المؤرخون المحدثون عصر النهضة. وكانت نهضة مصر في تلك الفترة نسيجَ وَحْدِها، إذ لم تكتفِ بإحياء مجد مصر القديم وبخاصة بعث ما كان للكنانة من حضارة يانعة سامية في عهد الدولتين القديمة والوسطى في فنون الأدب والدين والعمارة، بل بدأت فضلًا عن ذلك صفحة جديدة في تاريخ حياتها من حيث الفنون الحربية والعلاقات الخارجية. ولقد أراد ملوك الأسرة الساوية أن يعيدوا لمصر مجدها الغابر، ويحافظوا على كيانها وحدودها حتى لا تعود لقمة سائغة في أفواه الدول المجاورة التي كانت تتنمر لها وتتحفز للوثوب عليها.

وقد كان أول ما قام به «بسمتيك» من إصلاح أن جمع شمل البلاد، وجعلها وحدة متماسكة بعد أن كانت ممزقة مقاطعات مستقلة وشبه مستقلة، وقد اضطر — ليصل إلى هذه النتيجة — إلى استخدام الجنود الأجانب من الإغريق والكاريين وغيرهم ممن برعوا في فنون الحرب بدرجة عظيمة لم تكن معروفة في مصر، وقد كان من نتائج دخول هؤلاء الأجناد الأجانب مصر أن نشأت علاقات تجارية بين مصر وبلاد اليونان وبلاد بحر إيجة، ولم تلبث هذه العلاقات أن تطورت إلى علاقات أسمى وأرفع، إذ في هذا العهد بدأت العلاقات الثقافية والعلمية تضرب بأعراقها في بلاد اليونان ومصر، ومنذ ذلك العهد بدأ علماء الإغريق وكتابها يفدون على مصر، وكانوا ينظرون إليها على أنها مهد الحضارة والعرفان فنقلوا إلى بلادهم من مصر كل أنواع العلوم من رياضة وفلك ودين وهندسة وقوانين؛ فهضموها وأدمجوها في علومهم بما يتفق وأساليبهم وطرائق تفكيرهم.

والواقع أن مصر كانت قبلة علماء اليونان في تلك الفترة من تاريخ أرض الكنانة، وكان حكام اليونان ينظرون إلى مصر على أنها مثلهم الأعلى، ولا أدل على ذلك من أن «سولون» مشرع اليونان الأعظم قد أخذ بعض تشريعاته عن القانون المصري. والغريب المدهش أن علماء أوروبا المحدثين قد ظلوا إلى عهد قريب جدًّا ينكرون ما أخذه اليونان عن مصر إلى أن وضعت الكتب التي تثبت ذلك بما لا يتطرق إليه أي شك.

سارت مصر بعد عهد مؤسس النهضة فيها إلى مدارج الرقي بخطًا واسعة في شئون التجارة والحرب، فقد خلق «نيكاو» بن «بسمتيك» لبلاده أسطولًا تجاريًّا سيطر على البحار المعروفة وقتئذ وقهر به ملوك بابل، وعلى الرغم من أن سياسة «مصر» التي وضعها مؤسس الأسرة كانت دفاعية، فإن «نيكاو» الثاني (٦٠٩ق.م) فكر في إعادة إمبراطورية «تحتمس الثالث» المترامية الأطراف في آسيا، فزحف على فلسطين واستولى عليها وليس ببعيد أن يكون «نيكاو» قد فكر في إعادة إمبراطورية «تحتمس الثالث» إذ نراه قد انتحل لقب هذا العاهل لنفسه، بل يُظَن أن أطماعه قد تخطت أطماع «تحتمس» إذ على ما يبدو خيل إليه أن يسيطر على كل الشرق بأسطوله وجيوشه. ولا أدل على ذلك من أنه بدأ في حفر قناة نيلية تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض، وتلك هي قناة السويس مصدر أطماع الأمم الاستعمارية الحديثة، غير أن الأحوال لم تساعد على إتمام مشروعه فقد ناداه هاتف إلهي أن قف لا تُلقِ ببلادك إلى التهلكة، ولكن طموحه لم يقف أمام هذا التهديد إذ نراه اتجه وجهة أخرى لتنمية تجارته، ومد نفوذ سلطان بلاده، فحاول أن يلف حول بلاد «أفريقيا» عن طريق «الرجاء الصالح» بأسطول مصري، وقد أفلح في محاولته للمرة الأولى في تاريخ العالم. وهكذا سار «نيكاو» ببلاده شوطًا بعيدًا في سبيل التجارة والفتوح، غير أن «بابل» وقفت حجر عثرة في سبيله فعاد بجيشه إلى مصر مهزومًا، ولكنه حافظ على حدودها الأصلية. ولما تولى «بسمتيك الثاني» مقاليد الأمور كانت مصر مهددة بخطرين حربيين؛ أحدهما من الشمال والآخر من الجنوب، فقد كانت «بابل» مرابطة على حدود «فلسطين» ترقب مصر وتتحفز لغزوها من الشمال، كما كان ملوك كوش قد بدءوا يفكرون في غزو مصر مرة ثانية وإعادتها إلى سلطانهم. وقد خرج «بسمتيك الثاني» من هذين الخطرين المداهمين بسلام إذ تغلب على البابليين في الشمال، وهزم الكوشيين هزيمة منكرة في الجنوب لم تقم لهم بعدها قائمة، وقضى على كل ما كان لهم من بقايا نفوذ في البلاد المصرية، وذلك على الرغم من أن ملوكهم استمروا يلقبون أنفسهم بلقب ملك الوجهين القبلي والبحري، كما سيرى القارئ في الجزء الذي خصصناه لتاريخهم في هذا الكتاب. كل ذلك كان بفضل الجنود المرتزقة الذين أتى بهم من بلاد اليونان وغيرها.

لم يمكث «بسمتيك الثاني» طويلًا على عرش مصر، فقد وافته المنية بعد حكم دام حوالي ست سنين وتولى بعده ابنه «إبريز» مقاليد الحكم (٥٨٨ق.م) وقد كانت الأحوال الدولية في تلك الفترة تنذر بالخطر، وذلك أن مصر كانت دائمًا تخاف شر «بابل» التي كانت جيوشها مرابطة في فلسطين التي كانت تحتلها وقتئذ، وكانت يهوذا تنظر إلى مصر لتخلصها من نير البابليين، وقامت الحرب بين الفريقين وساعدت مصر «فلسطين» ودارت الدائرة على الجيوش والأساطيل البابلية، واستولى المصريون على «صيدا» والمدن الساحلية الأخرى وبذلك حقق «إبريز» ما كانت تصبو إليه نفس «نيكاو»؛ غير أن «إبريز» لم يتمتع كثيرًا بهذا النصر المبين، إذ قامت بينه وبين إغريق بلاد لوبيا حرب طاحنة انتهت بخلعه على يد قائده «أمسيس»، الذي تولى عرش الملك بعده على الرغم من أنه كان لا يجري في عروقه الدم الملكي.

وقد سار «أمسيس» بالبلاد سيرة عطرة بما أوتي من ذكاء وحسن تدبير، وقد عده الإغريق أحد عظماء الملوك المشرعين في مصر؛ وفي عهده أخذ اختلاط الإغريق بالمصريين يزداد زيادةً مطردةً حتى إنهم أسسوا لأنفسهم مستعمرات في مصر مما أغضب المصريين وأحفظهم عليهم، ولكن «أمسيس» بحسن سياسته وفق بين مصالح الإغريق الذين كان يعتمد عليهم في مد جيشه بالرجال المدربين وبما تربحه مصر من تجارتهم، وبما كانت تجنيه مصر من الضرائب التي كانت تفرض على السلع الداخلة مصر والخارجة منها، وبين المصريين الذين كانوا يكرهون وجود الأجانب في مدنهم، وبخاصة أنهم كانوا يعتبرون كل ما هو غير مصري نجسًا، ومن أجل ذلك حصر «أمسيس» إقامة الإغريق في مدينة واحدة وهي «نقراش» — كوم جعيف الحالية — وبذلك منع كل احتكاك أو اصطدام بين الفريقين.

لم يتخذ الملك أمسيس خلال حكمه سياسة هجومية، بل اتبع سياسة الدفاع بالنسبة لما حوله من البلاد المجاورة، وفضلًا عن ذلك عقد معاهدة دفاعية مع عاهل «بابل» وكذلك مع ملك لوبيا، غير أنه في هذا الوقت كانت دولة الفرس قد أخذت تظهر في الأفق، ولم تلبث طويلًا حتى اكتسحت ما حولها من الممالك ثم جاء الدور على مصر التي لم يكن لها قبل بمقاومتها والوقوف في وجهها. وقد زحف «قمبيز» ملك الفرس بجيشه على مصر، وفي أثناء ذلك الزحف عاجلت «أمسيس» المنية فتولى بعده حكم البلاد ابنه «بسمتيك الثالث» عام ٥٢٥ق.م فقاوم الغزاة بكل شجاعة وإقدام، غير أن جيوش الفرس الجرارة، والخيانة التي حدثت في قلب الجيش المصري على يد أجنبي اضطرت بسمتيك إلى التسليم بعد هزيمة نكراء، وهكذا قُضي على استقلال مصر نهائيًّا، وظلت بعد ذلك تتقلب على حكمها أسرات أجنبية لا تمت إلى مصر بصلة، اللهم إلا مدة قصيرة بعد العهد الفارسي الأول فقد هبت مصر خلالها واستعادت استقلالها، ثم وقعت في قبضة الفرس ثانيةً، ولم تتخلص بعد ذلك من النير الأجنبي منذ عام ٣٤١ق.م إلا عام ١٩٥٢م. عندما هب الشعب المصري كله ونقض عن نفسه غبار وأوساخ آخر طاغية من دم أجنبي، ومن ثم بدأت لأول مرة مصر تحكم بمصريين من دم مصري خالص، وتشعر بكيانها وعزتها وكرامتها بين دول العالم الحرة.

هذا وقد اتبعنا تاريخ هذا العهد بلمحة في تاريخ بلاد اليونان لارتباطها بمصر في تلك الفترة، والتي ستأتي بعدها في الجزء التالي إن شاء الله.

وإني أتقدم هنا بعظيم شكري لصديقي الأستاذ محمد النجار المفتش بوزارة التربية والتعليم لما قام به من مراجعة أصول هذا الكتاب وقراءة تجاربه بعناية بالغة، كما أتقدم بالشكر للأستاذ أحمد عزت لما قام به من قراءة التجارب، وعمل الفهارس بكل دقة. ولا يسعني إلا أن أشكر السيد زكي خليل مدير مطبعة الجامعة على ما بذله من جهد في طبع هذا الكتاب، والله اسأل أن يوفقني إلى ما فيه خير مصر ومجدها.

أول مايو سنة ١٩٥٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤