الحضارة الإغريقية

لا نزاع في أن الإنسان إذا رغب في دراسة تاريخ أمة دراسة صحيحة، وجب عليه أن يعرف أحوال الأمم التي تحيط بها حتى يكون على بينة من الظروف السياسية والاجتماعية والحربية، التي تضرب بسبب إلى الأمة التي يدرس تاريخها. وقد اتصلت بلاد الإغريق بالأمة المصرية اتصالًا مباشرًا وغير مباشر من منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وقد ازداد هذا الاتصال في القرن السابع قبل الميلاد بصفة بارزة أي: من العصر الذي بدأت فيه البلاد الإغريقية تلعب دورًا هامًّا في تاريخ الشعب المصري إلى أن انتهى الأمر باحتلال «الإسكندر المقدوني» البلاد عام ٣٣٢ق.م.

من أجل ذلك نرى لزامًا علينا أن نورد هنا مختصرًا عن الحضارة الإغريقية منذ نشأتها حتى نهاية «عهد الإسكندر الأكبر»؛ لأن مصر بعد حكمه أصبحت محكومة بحكام إغريق، وإن كانت في ظاهرها مستقلة.

الأساطير الإغريقية الأولى

إن كل حوادث التاريخ قبل اختراع الكتابة وتدوين الحوادث قد وصل إلينا عن طريق الرواية، التي تعتمد على أسس واهية، ومن ثم نتجت الأساطير والأقاصيص التي أفعمت بالمعجزات مما جعلها تظهر كالخرافات وقصص الجان. ولا شك في أن مثل هذه القصص تحمل في تضاعيفها كثيرًا من الحقائق التاريخية، فإذا ما فحصت فحصًا علميًّا دقيقًا، وأُميط عنها ما نُسج حولها من خيال وما ابتدع فيها من أوهام برزت لنا نواة الحقيقة بصورة ما. وسنقص هنا قصة خرافية عن «جزيرة كريت» الواقعة في البحر الإيجي عن ملكها الشهير المسمى «مينوس».

وتقول الأساطير: إن «مينوس» هذا كان ابن «زيوس» أكبر الآلهة كلها، وقد أصبح ملكًا قوي السلطان، ولم يكن حكمه يقتصر على جزيرته «كريت» فحسب، بل كان نفوذه في الواقع يمتد على كل بحر «إيجة». وكان ابنه قد ذبح غيلة في «أثينا»، وانتقامًا لذلك أجبر ملكها على أن يرسل إليه كل تسع سنين جزية مقدارها سبعة من الشبان وسبع من العذارى، وهؤلاء كانوا يقدمون ضحية إلى «مينوتور» Minotaur، وهو مارد في صورة ثور ذي رأس ضخم قد وضعه الملك في التيه الذي كان صنعه له صانعه المسمى «دادالوس» Daedalus، وقد حملت السفينة في «أثينا» مرتين عبر البحر الإيجي بحمولتها المؤلفة من سبعة شبان وسبع عذارى، وقد كانوا في كل مرة يؤخذون ويذبحون في التيه، لكنه في المرة الثاثة عزم «تيسيوس» Theseus ابن «إيجيوس» ملك «أثينا» على أن يذهب بنفسه إلى «كريت» ويذبح هناك المارد، ثم يقضي قضاءً نهائيًّا على وصمة العار هذه التي كانت عالقة بمدينة «أثينا». وفعلًا أحضر أمام «مينوس» الذي وضعه بدوره في أعماق السجن انتظارًا لحتفه. ولكن لحسن حظ السجين وقعت «أريادني» Ariadne ابنة الملك في حب «تيسيوس»، وذهبت إلى السجن خفية وأعطته سيفًا ليقتل به المارد، كما أعطته كرة من الخيط ليسترشد بها إلى الخارج من منحنيات التيه ومنعطفاته. وفعلًا قتل «تيسيوس» المارد «مينوتور» ووجد سبيله إلى خارج التيه بوساطة الخيط، وخلص أصحابه ثم أقلعوا وبصحبتهم «أريادني» من «كريت» إلى «أثينا».

وكان قد وعد والده «إيجيوس» أن ينشر ملاحوه شراعًا أسود إذا كان هو قد هلك، أما إذا ظل على قيد الحياة فكان عليهم أن ينشروا شراعًا أبيض. ولكن مما يؤسف كثيرًا أن هذا الأمر قد نسي، ورفع الشراع الأسود فلما رآه «إيجيوس» اعتقد أن الكارثة قد حدثت فألقى بنفسه في الماء، وهذا هو السبب في تسمية هذا الجزء من البحر الأبيض المتوسط «إيجي». هذه هي قصة التيه وماردها وضحاياها من الشبان والعذارى.

وقد أطلق المؤرخ «هردوت» لفظة «لبرنته» — أي التيه — على المعبد الجنازي لهرم الملك «امنمحات الثالث»، الذي أقامه في الفيوم لكثرة ما كان يحويه من حجرات يضل فيها الزائر.١
وقد كشف حديثا أن «جزيرة كريت» كانت مملكة قائمة بذاتها لمدة طويلة، وصاحبة السلطان العظيم في بحر «إيجة»، وكانت عاصمتها «كنوسوس» Knossos، يضاف إلى ذلك أنه قد أميط اللثام عن حل لرموز لغتها بفضل العالم «بيدرخ هروزني».٢
وقد كان الإغريق يعتقدون بوجود ملك يدعى «مينوس». والمظنون أنه هو أو سلسلة من الملوك الذين كانوا يحملون هذا الاسم قد حكموا مدة من الزمن كانت فيها الجزيرة في رخاء عظيم وقوة ضخمة. وقد بلغ من قوة هذا الحكم أن مدنًا أجنبية دفعت له الجزية. وحضارة العصر البرونزي الذي عاش فيه كان يسمى العصر المنواني. ويمكن أن نتتبع الآن تفاصيل حياة «مينوس» وحالته وحال غيره من عظماء ملوك «كريت»؛ وذلك لأنه منذ بداية القرن العشرين الحالي أخذ الأثريون بقيادة «سير أرثر إيفانز» Sir Arthur Evans يقومون بعمل حفائر في آثار هذه الجزيرة؛ مما كشف لنا النقاب عن قصة المدينة منذ حوالي ٣٠٠٠ق.م أو حتى قبل ذلك بصورة جلية يمكن تصورها.

فيمكن أن نتصور أحد ملوك هذه الجزيرة في قصره بمدينة «كنوسوس» يحيط به الثراء ويزدان بالرزانة وبعد النظر، وهو متربع على عرشه ذي الظهر المرتفع بين نصائحه يأمر وينهى في مملكته مصرفًا أمورها بالعدل، وكانت له أوقات فراغ كذلك يتمتع بها فقد كان مغرمًا بمشاهدة مباراة الثيران الشهيرة في ميدان فسيح أقيم بجوار قصره. وكان يقف المدرب على هذا النوع من الرياضة من الشبان أو الفتيات وجهًا لوجه أمام الثور الضخم، وكان الثور ينقض برأس منحنية إلى أسفل في حين كان الشاب يتلافاه، ويقبض على إحدى قرنيه ويأرجح نفسه على راس الثور، ويقف عليه مدة، أو يضع نفسه عليه ظهرًا لظهر، ثم ينقلب على الأرض خلف الثور حيث ينتظره مدرب آخر ليتلقفه.

وكان بعض نواحي قصر «كنوسوس» يحتوي على ردهة عظيمة ذات أعلام، وبها حجرة تسع أربعمائة أو خمسمائة من النظارة تطل عليها درجات ومقعد ملكي على علو مرتفع في نهايتها. وفي هذه الردهة كانت تقام المصارعة والملاكمة وألعاب الكرة، كما تتخذ مسرحًا يموج بالراقصين والراقصات من الشبان والشواب، يؤدون رقصات شهيرة على أنغام القيثارة والصفارة. وكان من بين النظارة أسراب من سيدات الكريت، وقد خرجن في زي أنيق بأثواب طويلة تحلي أطرافها هدابات وأحزمة مشدودة، أما شعورهن فكانت مجعدة في صور خواتم صغيرة مصفوفة على رءوسهن. وكانت مساحة القصر كله تشغل ما يزيد عن أربعة أفدنة ونصف فدان، وتتألف من ثلاث طبقات في بعض جهاتها، وفي البعض الآخر من أربع طبقات عالية. ويحتمل أن يكون هذا القصر وما يضمه من حجرات عديدة منشأ قصة التيه أو اللبرنته، وهي كلمة صارت تعني فيما بعد التيه ذا الممرات المعقدة والمسالك الملتوية، التي لا يمكن الناس أن يجدوا فيها طريقهم بسهولة دون دليل يرشدهم. وكلمة «لبرنت» يمكن أن تعني في الأصل مكان البلط، وهي مشتقة من كلمة تعني بلطة ذات رأسين، وهي رمز استعمله أهل «كريت» ونقشوه على العمد وفي أماكن أخرى من القصر.

أما الثور فقد وجدت له صور على أجزاء مختلفة في الجزيرة بوصفه حيوانًا مقدسًا.

وها نحن أولاء قد بدأنا نرى آثار الحقائق التاريخية مختفية خلف قصة المارد «مينوتور» التيه (لبرنت).

ولا شك في أن الملك كانت له أشياء أخرى يهتم بها غير الرياضة. فقد وُجد في أجزاء من قصره في مدينة «كنوسوس» مصنع لعمل الفخار تصنع فيه الأواني الفخارية الكريتية الشهيرة ذات النماذج المحببة إلى النفس والألوان البهجة. وكانت مخازنه مملوءة بالجرار المصنوعة من الفخار تسع الواحدة منها رجلًا، كالتي نقرأ عنها في قصة «علي بابا» والأربعين لصًّا، أو كالسلات التي أعدها قائد «تحتمس الثالث»، عندما أراد أن يستولي على «يافا» خلسة ووضع فيها مائتي جندي.٣ وهذه الجرات الكريتية كانت تسع كميات هائلة من النبيذ والزيت والحبوب لاستعمال الملك وجنوده ومستخدميه، ومفتننيه ونحاتيه وصناع أسلحته وخدمه، وكذلك الأجانب الذين كانوا يفدون على بلاطه.

وكانت جزيرة «كريت» جميلة بما فيها من جبال ومرافئ وأشجار وأزهار — مثل السوسن والورد والزعفران — وكانت تحتوي على تسعين مدينة وعدد عظيم من السكان يشتغل بعضهم بالنسيج وصباغة الملابس أو بصياغة الحلي من الذهب، والأسلحة من النحاس المطعم. ويشتغل آخرون جوابين يعبرون البحار على ظهر السفن أو صيادين أو عاملين في زرع الأرض وحرثها.

وقد امتدت التجارة بين «كريت» والبلاد التي كانت في متناولها امتدادًا عظيمًا. فكان يأتي إليها النحاس من «قبرص». والقصدير يحتمل أنه كان يأتي من «كورنول». والكهرمان عن طريق أوروبا مخترقًا «البلطيق» إلى «البحر الأسود»، ومن ثم إلى البحر «الإيجي» والي «كريت». أما مصر فكانت تورد لها الأواني المصنوعة من الحجر والعاج والخرز، في حين كانت تصدر «كريت» في مقابل ذلك كميات من الزيت والنبيذ والقطع الفنية، هذا بالإضافة إلى الأدوات المصنوعة من المعدن الذي كانت مشتهرة به. ونرى ازدهار التجارة بين مصر وجزيرة «كريت» في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وقد تحدثنا عن ذلك بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا في كتاب مصر القديمة.٤

وقد كان تبادل التجارة بين «كريت» والبلاد الأخرى سهلًا ميسورًا؛ وذلك لأن «كريت» كانت قد فتحت أو أرسلت مستعمرين إلى أماكن عدة في جزر بحر إيجة وما وراءه، ولم تكن مصر على عظمتها وجبروتها وقتئذ لترفض التجارة مع «كريت» سيدة بحر «إيجة». والواقع أن حكام هذه الجزيرة وقتئذ كانوا يقبضون بيد من حديد على قرصان البحر فلا نهب ولا سلب، وقد بلغ بهؤلاء الملوك الكبرياء والاعتزاز بالنفس والجبروت إلى أن تركوا مدن جزيرتهم دون تحصين متكلين على الخوف من اسمهمم وأسطولهم، والبحر الذي يحرسهم لوقاية مملكتهم الفتية المزهوة بقوتها، غير أن الطبيعة لم تترك هذه الجزيرة تمرح في بحبوحة هذا السلطان والثراء، بل كانت تفجؤها بالزلازل التي تخرب قصورها، فيعيدها الأهلون ثانية بعد كل هزة أرضية بصورة أحسن مما كانت عليه من قبل.

وفي حوالي عام ١٤٠٠ق.م يظهر أنه قد أصاب البلاد زلزال مفاجئ قضى عليها، حتى إنه في مدينة «كوسوس» قد رئي الزيت الذي كان على وشك أن يصب في الأواني للأحفال الدينية، ولكن هول المصاب الداهم حال دون ذلك فلم يصب الزيت، وفي أماكن أخرى من الجزيرة عثر الحفارون على ما يثبت حدوث مصيبة مفاجئة حلت بالناس وهم منهمكون في أعمالهم، يضاف إلى ذلك انتشار الحرائق التي خربت البلاد. والمظنون الآن أن ذلك الحادث قد نجم عن زلزال، وإن كان من المحتمل أن أعداء للبلاد قد زادوا الطين بلة، فقضوا على ما غفلت عنه عين الزلزال بالسلب والنهب.

حقًّا قد أعيد بعض المباني في «كريت» غير أن الحياة في العاصمة لم تعد إلى ما كانت عليه من قبل تمامًا. والظاهر أن قوة الجزيرة البحرية قد استمرت بعد هذا الحادث مدة من الزمن، ولكن أسطولها أخذ في الضعف شيئًا فشيئًا، فظهر قرصان البحر يشقون عبابه ثانية، ويعيثون فسادًا في السفن التي تحمل المتاجر.

والجدير بالذكر هنا أن ثقافة «كريت» قد تركت أثرها في بلاد اليونان نفسها، ومن ثم لم تمت مدنيتها. وقد ظلت معلوماتنا عن مدنية هذه الجزيرة ترتكز على ما تخرجه يد الحفار من آثار لا على ما جد من نقوش؛ وذلك لأن العلماء الباحثين قد بذلوا مجهودات جبارة لحل رموز نقوشها، ولكنهم باءوا بالفشل، وظلت الحال كذلك إلى أن أماط اللثام عنها اللغوي العظيم «بيدرخ هروزني» في مقال له عن أسرار لغة هؤلاء القوم.٥ وقد حل كثيرًا من رموز هذه اللغة واستنبط أن سكان «كريت» على ما يظهر كانوا خليطًا من أقوام عدة، وأن الجزيرة كانت محكومة في بادئ الأمر بطبقة من الفاتحين وفدوا من داخل بلاد «آسيا» والجزء الأعظم منهم من أصل هندي أوروبي. فقد قال: لا نكون مخطئين إذا قلنا: إنه عند حدوث هجرة أقوام في آسيا الوسطى في البلقان كان يستقر بعضهم في جزيرة «كريت»، ومن ثم تألفت المدنية الخارقة المجاوزة للمألوف المعروفة بالمدنية المنوانية، وهي التي سبقت المدنية الإغريقية؛ وهي جدة المدنيات الأوروبية. وقد تألفت أولًا بالسكان الهنود الأوروبيين. وإن العالم ينتظر إتمام بحوث هذا العالم، ولكن على أية حال يمكن من الآن القول مما وصل إليه من الكتابات الكريتية أن جزيرة «كريت» ذات الشمس المشرقة كانت ذات يوم مهيمنة على البحر، وسكانها من المحبين للفنون والأناقة والملاذ، وهم من أصل هندي أوروبي من جهة وآسيوي من جهة أخرى. كل ذلك جعلها تمثل بجانب «سومر» و«أكاد» و«مصر» وبلاد «خيتا»، ووادي «نهر السند» و«بلاد الصين» القديمة مهدًا سادسًا هامًّا للثقافة القديمة، هذا بالإضافة إلى أنها الأقدم تاريخيًّا بين المدنيات الأوروبية.٦
١  راجع مصر القديمة الجزء الثالث.
٢  راجع: Bedrich Hrozny, Histoire de L’Asia Antérieure P. 278 etc..
٣  راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الأول ص١١٠-١١١.
٤  راجع مصر القديمة الجزء الرابع.
٥  راجع: Archivum Orientale Pragenese, (A. O. P.) XIV (1943) P. 1–117 & Ibid, XV (1945) P. 158.
٦  راجع: Hrozny, Ibid, P. 313.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤