دولة «أثينا»

كانت «أثينا» في بادئ أمرها كباقي الدويلات الصغيرة التي تتألف منها بلاد اليونان، غير أنها على مر الزمن فاقتها جميعًا. وإذا قرناها «بأسبرتا» وجدنا أن الأخيرة كانت محكومة بقوانين صارمة لا تتغير، إذ الواقع أنها كانت حكومة أقلية يدير شئونها حفنة من الرجال في حين أن «أثينا» قد صارت دولة حرة راقية، إذ كانت حكومتها ديموقراطية يدير شئونها مواطنوها على حسب إرادة الشعب، وسنرى فيما يلي كيف أنها وصلت إلى هذا الحكم الشعبي شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت مضرب الأمثال في كل تاريخ العالم. ففي حين نرى «أسبرتا» قد فتحت كل من «لاكونيا» و«مسينيا» بالقوة، وأبقتهما في يدها بالخوف والعنف، نجد أن «أثينا» قد حكمت «أتيكا» بإرادتها. والواقع أننا نجد في تاريخ أثينا المبكر أن المدن التي كانت يتألف منها إقليم «أتيكا» قد انضمت تحت لواء حكومة «أثينا» بالطرق السلمية دون عنف ما، وقد كان ذلك من حسن حظ «أثينا»، إذ قد أحاطت نفسها بأصدقاء وجعلت سلطانها يمتد على مساحة عظيمة تبلغ حوالي عشرة آلاف ميل مربع، وتحتوي على موارد طبيعية مثل المرمر والأحجار في جبالها والفضة والقصدير في مناجمها والطين في أنهارها لصنع الفخار، والزيتون والكروم الوفيرة وبعض الغلال مما تنبته تربتها، غير أن الغلال لم تعد كافية على مر الأيام وازدياد عدد السكان لسد حاجاتها.

وقد كان إقليم «أتيكا» من جهة اليابسة محميًّا بجبال، ولكن لم تكن تكنفها هذه الجبال لوجود ممرات عبرها يمكن استعمالها في وقت السلم. أما ساحل «أتيكا» فيبرز في البحر نحو جزر «إيجة» والشرق، وهذا كان مغريًا على ركوب المخاطر في عرض البحر، والواقع أنه لم تلبث طويلًا حتى أبحرت عدة سفن من مينائها محملة بزيت الزيتون والفخار للتجارة، ثم العودة بالغلال، وعلى ذلك كانت التجارة نشطة في بحر «إيجة» مع «أثينا». وكانت «أثينا» في بادئ أمرها محكومة بملوك، ولكن حوالي عام ٦٥٠ق.م حدث تغيير لم يأتِ عن طريق ثورة بل بالطرق السلمية، وذلك أن الملوك الذين فقدوا سلطانهم شيئًا فشيئًا قد انقطعوا عن الحكم حتى الاسمي منه، وأصبحت حكومة البلاد في يد عصابة من الأسر الشريفة يقودها حكام يطلق عليهم «أركون»، وكان عددهم في بادئ الأمر ثلاثة ثم ازدادوا إلى تسعة، وكان هؤلاء ينتخبون من أفراد هذه الأسر.

وكان الشعب مقسمًا طبقات على حسب الثروة، وكان لكل الطبقات حق التصويت إلا أحط طبقة في جمعية الشعب. وفي هذه الجمعية كان من الممكن الموافقة على انتخاب «الأركون» (الحكام) رسميًّا. وعند تولي هؤلاء الحكام زمام الأمور كانوا يحلفون اليمين على أن يحكموا على حسب القوانين وألا يقبلوا رشوة قط، وإذا لم يقوموا بهذه الالتزامات كان عليهم أن يهدوا لمعبد «دلفي» تمثالًا من الذهب، ومن المحتمل أن هذا التمثال كان بالحجم الطبيعي. ولكن لم يمضِ طويل زمن حتى قامت الصعاب وبوجه خاص بين الطبقة السفلى، التي لم يكن لها حقوق سياسية؛ وهكذا فإنه في مدة المائة والخمسين سنة التي تلت وضع هذا النظام عملت تغييرات من وقت لآخر، سارت بأثينا نحو الديموقراطية الحقة إلى درجة عظيمة.
  • دراكون: ففي عام ٦٢١ق.م طلب إلى «أركون» (حاكم) يدعى «دراكون» أن يضع قائمة بقوانين «أثينا». والواقع أن «دراكون» وتشريعاته القانونية ليست معروفة لدينا إلا بصورة مبهمة، ولكن يظهر جليًّا أن العقوبات التي توقع على المدنيين كانت صارمة جدًّا حتى إنه إلى أيامنا هذه يضرب بها المثل في القسوة والشدة، وقد ذكر لنا «بلوتارخ» المؤرخ الروماني أن الموت كان العقاب على كل الجرائم تقريبًا، فكان يوقع عقاب الموت من أجل سرقة تفاحة أو كرنبة، أو من أجل البطالة، أو من أجل قتل نفس. ولكن «بلوتارخ» كتب ذلك بعد عهد «دراكون» بنحو ٧٠٠ سنة، فيحتمل ألا يكون بيانه مضبوطًا؛ غير أنه مما لا شك فيه أن الإغريق أنفسهم اعتقدوا أن القوانين كانت صارمة جدًّا حتى قال عنها الخطيب الأثيني «دمادس»: إنها لم تكن مكتوبة بالحبر بل بالدم، وعلى أية حال فإنها كانت خطوة للأثينيين في أن يكون لهم قوانين يحكمون بها مكتوبة للجميع، ولكن لم تلبث هذه القوانين مدة طويلة حتى حلت محلها قوانين أخرى.
  • سولون: ننتقل الآن من عهد الأشخاص المبهمة في التاريخ مثل «ليكورجوس» وغيره من الأشخاص غير المعروفين لنا بصفة محسة، مثل «دراكون» إلى أشخاص عرفناهم معرفة أكيدة مدونين في تاريخ بلاد اليونان، ونخص بالذكر أولًا «سولون» الذي ينحدر من أسرة أثينية عريقة في الحسب والنسب، فكان أولًا تاجرًا ثريًّا لاحظ في أسفاره كيف كانت تحكم المدن الأخرى، ولقد رأى أن تشريع «دراكون» على الرغم من أنه قد وضع الحجر الأساسي للحكم المقنن يلمس جذور الفساد، فقد كان يرى كل عام ظلم الأغنياء القليلي العدد، والفقر الذي كان يتفاقم أمره بين صغار الزراع. ومن أجل ذلك عزم على أن يساعد «أثينا» ويعمل عملًا نبيلًا لبلاده، وقد أخذ اسمه يعلو إلى أن انتخب عام ٥٩٤ق.م «أركون» فأخذ يقوم بإصلاحاته. وقد نقل بعض القوانين عن مصر كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام عن الملك أحمس الثاني.

    والواقع أنه كان يوجد في «أتيكا» عدد كبير من صغار الفلاحين يئنون من الفقر، لدرجة أنهم كانوا يقترضون نقودًا بأرباح فاحشة من كبار الملاك وغيرهم من أثرياء القوم، بضمان ما ملكت أيديهم من أرض زراعية، وهذا يعني أنهم كانوا يرهنون أراضيهم؛ أي إنهم كانوا يسلمونها لدائنيهم، إذا لم يقوموا بتسديد ما عليهم من ديون. وهذه الأراضي المرهونة كانت محددة بأحجار — وتسمى أحيانًا أعمدة الرهن — وغالبًا ما كانت تبقى منتصبة هناك لا تزحزح إذا أخفق الدائن في دفع ما عليه. وعلى ذلك كان المدين يستمر يعمل في الأرض التي كانت يومًا ملكه، والظاهر أنه كان يدفع سدس محصولها فائدة لدائنه. والناس الذين ليس لهم أرض أو الذين لم يكن في مقدورهم دفع ما عليهم من ضريبة كان عليهم أحيانًا أن يرهنوا أنفسهم وأسرهم، وعندما يظل الدين قائمًا بعد ذلك يصبح هؤلاء الرهائن في موقف العبيد الذين يمكن بيعهم في داخل البلاد أو في خارجها على يد أسيادهم.

    وأول عمل قام به «سولون» أن خلع أحجار الحدود، وحرر العبيد وحرم على الناس أن يبيعوا أنفسهم، وألغى الديون التي فرضت بسبب ذلك. وهذا العمل كان يطلق عليه كلمة إغريقية معناها «نزع النبر»، وقد خلصت فعلًا «أثينا» في مدة وجيزة كل من كان حولها من رجال عوملوا معاملة سيئة، وكانوا خطرًا عليها خطر طبقة «هلوت» الذين كانوا شوكة في ظهر «أسبرتا» في كل أطوار تاريخها.

    وقد حاول «سولون» أن يجعل من الأثينيين مواطنين يدب فيهم روح شعبي عالٍ طيب، فقسم الشعب طبقات وأعطى أحقر طبقة وهم الكادحون حق التصويت في الجمعية العمومية للشعب، ووضع محاكم تشريعية تتألف من مواطنين محلفين ورحب بالأجانب الذين كانوا يفدون على «أثينا»، وشجع التجارة وشدد في ضبط الموازين والمكاييل، ولم يسمح لواحد أن يغتاب الأحياء في الأماكن العامة، كما كان محظورًا عليه أن يذم الموتى، وقرر أنه على كل والد ألا ينتظر معونة ابنه إذا لم يكن قد رباه ليكون صاحب تجارة أو حرفة، كما أنه لم يسمح لأي فرد أن يقف على الحياد؛ أي أنْ يقف بعيدًا عن الاشتراك في مصالح بلاده، إذا كان هناك أحزاب مختلفة في البلاد. وأخيرًا لم يسمح لأي امرأة أن تغالي في زينتها، وقد كتب «سولون» قوانينه هذه على ألواح من الخشب، وحفظت في قاعة المدينة Prytaneum، وحتم على كل مواطن أن يطبعها … وبعد أن أتم كل هذه الإصلاحات قام بأسفاره ثانية لمدة عشر سنوات، ثم مات في عزلته في «أثينا» عام ٥٥٩ق.م.

أثينا في عهد «بيزستراتوس» Pesistratus

وقبل موت «سولون» ظهر على مسرح الحياة الأثينية رجل عظيم آخر يدعى «بيزستراتوس»، وقد استمال إلى جانبه عامة الشعب بميوله الديمقراطية المتطرفة، وبخاصة سكان التلال الذين كانوا يقطنون الجهات المرتفعة بجوار «أثينا»، وكان لنفسه منهم حزب يدعى حزب التل، هذا بالإضافة إلى المواطنين الذين لم يعمل «سولون» شيئًا يرضيهم.

والواقع أن تشريعات «سولون» لم ترضِ كل طبقات الشعب؛ مما أدى إلى انقسام السكان ثلاثة أحزاب، وهم أهل الشاطئ، وأهل السهل، ثم أهل التلال الذين كان على رأسهم «بيزاستراتوس» منذ عام ٥٦١ق.م، ويقال: إنه ذات يوم كان يسير بعربته في مكان السوق، فأشار إلى الجروح التي أصابته كما قال من يد أعدائه، ولم يكن ذلك صحيحًا إذ إنه قد جرح نفسه ليضلل الناس، ولكن كلامه وجد أذنًا صاغية وصدقه الشعب وأُعطي حرسًا مؤلفًا من خمسين رجلًا، ولم يلبث أن زادوا إلى أربعمائة جندي، وبمساعدتهم استولى على «الأكروبوليس» Acropolis — وهو التل ذو الجوانب المنحدرة القائم في وسط «أثينا» — وبعد ذلك فرض نفسه حاكمًا مطلقًا على «أثينا» بوساطة حزبه المؤلف من رجال التلال.

وكلمة حاكم مطلق «تيرنت» لا تعني في الأصل حاكمًا قاسيًا طاغيةً، على الرغم من أن الحاكم المطلق يمكن أن يكون متصفًا بهذه الصفات. وكلمة «تيرنت» تعني هنا رجلًا يحكم دون أن يحاسب أو يراقب من الدولة. وقد حكمت عدة مدن إغريقية في أزمان مختلفة بحكام مطلقين كانوا سببًا في شهرة هذه المدن وعظمتها وثرائها. والواقع أن «بيزسترانوس» الذي أصبح الآن حاكمًا مطلقًا على «أثينا» كان بلا نزاع يبغي مصلحتها، وأراد أن يجعلها جميلة مثقفة قوية الجانب عزيزة السلطان، فأعاد إصلاح معبد الإلهة «أثينا» الذي كان على تل «الأكربوليس»، وأعاد نشر أشعار «هومر» وقراءتها في الأعياد العظيمة الخاصة بهذه الإلهة. هذا وقد أمد المدينة بالماء النقي الصافي من التلال بواسطة قنوات، كما شجع الأعمال في الحقول، وفي زمنه وصلت تجارة «أثينا»، ومستعمراتها إلى «الدردنيل» (هلسبونت)، ولا بد أن المدن الإغريقية كانت تلاحظ بعين الحقد والغيرة السفن وهي محملة بالبضائع إلى «أثينا»، ومنها مما يدل على ثرائها وأهميتها المتزايدة.

ولا نزاع في أن «بيزاسترتوس» كان له أعداء في «أثينا»، وهم الذين خرجوا عليه ونفوه مرتين؛ ولكن أنصاره أعادوه كذلك مرتين. وفي النهاية مات عام ٥٢٧ق.م، وقد خلفه ابنه «هبياس» حاكمًا مطلقًا، ولكن عندما أخذ يقسو على القوم وتحوم حوله الريب والشبهات نُفي. وقد كان ذلك عملًا مجيدًا؛ لأن الأثينيين قد خلصوا أنفسهم من حكم الفرد المطلق وأصبحوا أحرارًا.

«كليستنيز» Cliesthenes

رأينا فيما سبق أن «سولون» قد أنشأ المؤسسات وأقام الآلة التي تُدار بها الديمقراطية الأثينية، وقد رأينا كيف أن آلته لم يمكن إدارتها، فقد كانت العقبة الخطيرة في سبيل نجاحها هي القوة السياسية للعصبيات؛ لأنه بإبقاء «سولون» على العصبيات قد حافظ على نظام القبائل أساسًا للدستور الذي وضعه، ولكن لأجل أن تصبح الديمقراطية حقيقة واقعة كان لا بد من حرمان العصبيات من القوة السياسية، وإحلال نظام جديد محلها. والرجل الذي قام بهذا العمل العظيم هو «كليستنيز» الذي تولى زمام الحكم حوالي عام ٥٠٨ق.م، فقد أضاف أشياء جديدة على قوانين «أثينا»؛ مما جعل حكومتها ديمقراطية حقيقية، وذلك أن تقسيم «سولون» البلاد طبقات قد وضع النفوذ الأعظم للدولة في أيدي رجال المال وأصحاب الغنى، فكان أول عمل قام به «كليستنيز» أنه غير هذا النظام فقسم الشعب مراكز مجمعة من قرى مؤلفة بطريقة جعلت الأقسام القديمة تتمزق، وتجمع المواطنين الأحرار من كل الدرجات غنيهم وفقيرهم في صعيد واحد لأداء واجبهم نحو الدولة، وأصبحوا يعطون أصواتهم في انتخاب «الأركون» وفي انتخاب المجلس المؤلف من خمسمائة عضو — خمسون عضوًا لكل قبيلة — وهم الذين كانت قراراتهم لا بد أن يصدق عليها من جمعية الشعب، وعلى ذلك شعر كل مواطن بأن له نصيبًا حقيقيًّا في الحكومة، وكان مفروضًا على كل واحد أن يعطي ويأخذ. ولما كان المجلس مفتوحًا لكل رجل يزيد عمره على الثلاثين، فإن كل واحد قد عرف أنه في مقدوره أن يرقى إلى مكانة عليا في خدمة بلده.

وهذا النظام يقودنا إلى زمن مدهش في حياة «أثينا». وذلك أنها بدلًا من أن تبقى جامدة مثل «أسبرتا» قد تغيرت ونمت في اتجاه الحرية الصحيحة، وقد كان مهندسو العمارة والمثالون والصناع في عمل مستمر أدى إلى تجميل مدينتهم، وتحسين حالة أهلها، هذا بالإضافة إلى أنها في ذلك الوقت كانت قد شاركت المدن الإغريقية الأخرى في الوقوف على المدهشات والأعاجيب التي كشف عنها في تلك الفترة الأسفار، التي قام بها أهل الفضل وأصحاب المخاطرات من رجالاتها الذين جابوا الأقطار المجاورة لبلادهم، وبخاصة المستعمرات التي أسسها أهالي بلاد اليونان في آسيا وجزر البحر الأبيض المتوسط، هذا بالإضافة إلى أهل العلم والمؤرخين الذين زاروا مصر وبلاد فارس وغيرها، وتركوا لنا عنها المؤلفات الممتعة التي تصف أحوال تلك البلاد وتاريخها بشيء من التفصيل. وتدل البحوث العلمية الحديثة على أن فلاسفة اليونان وعلماءها، قد نقلوا الكثير من العلوم المصرية إلى بلادهم، مما سنتحدث عنه في فصل خاص يظهر فيه مقدار تأثير مصر في العلوم الإغريقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤