بلاد الإغريق في القرن الرابع قبل الميلاد

رأينا فيما سبق أن «أثينا» قد أصبحت تحت سلطان «أسبرتا»، غير أن الأخيرة لم تقنع بذلك، فأخضعت كل المدن الأخرى الإغريقية وفرضت عليها حكامًا من عندها بعد أن كانت تمنيها بالاستقلال والحرية بعد هزيمة «أثينا».

تدخل الفرس

وكانت بعض المدن الإغريقية، وبخاصة «أسبرتا» قد طلبت إلى الفرس مد يد المساعدة، وكانت لا تزال دولة قوية البطش ذات ثراء ضخم، وكانت النتيجة أن صار في مقدور «فارس» عام ٣٨٧ق.م أن تجبر بلاد الإغريق على عقد معاهدة معها هي و«أسبرتا». وهاك الكلمات التي فاه بها الملك «أكزركزيس» ملك الفرس: «إن الملك «أكزركزيس» يعتقد أنه من العدل أن مدن آسيا١ تكون ملكه، وفضلًا عن ذلك فإن المدن الإغريقية الأخرى الصغيرة والكبيرة تكون حرة لتحكم نفسها، وإذا رفضت أية واحدة منها قبول هذا الصلح، فسأعلن عليها الحرب برًّا وبحرًا بالسفن والمال.» وهذا ما يُدعى «صلح الملك». وهذا الصلح كان يعد معرة لبلاد الإغريق؛ لأنه سلم الفرس بلاد آسيا الصغرى التي كانت في الواقع إغريقية الصبغة، وكانت دائمًا على اتصال وثيق بأرض الوطن، أما بلاد الإغريق نفسها وما تحتويه من حكومات، فقد حاولت عبثًا منع تسلط بعضهم على بعض، ومن قيام أحلاف فيما بينها، ولكن الحلف الهبلاني العام على الفرس كان كالحلف الذي يدعو إليه باستمرار «أسقراطيس» الخطيب فلم يلقَ قبولًا قط.
وقد ظل الشجار بين مختلف المدن سائرًا على قدم وساق. فنجد أولًا أن «أسبرتا» قد نالت القيادة وبعد ذلك في عام ٣٧١ق.م أصبحت «طيبة» قوية السلطان تحت حكم ملكها «أبا مبنوداس» Epaminodas لدرجة أنه هزم «أسبرتا» هزيمة منكرة في موقعة «لوكترا» Leuctra في «بوشيا». وبعد تسع سنين من ذلك قتل ملك «طيبة» في واقعة، وبموته ماتت كذلك قوة «طيبة» وانتهت سيادتها.

وقد بدأت في تلك الفترة «أثينا» تسترد قيادتها في بلاد الإغريق، ولكن لما كانت حكومات مدن الإغريق لا تريد بأية حال الانضمام في حلف مع «أثينا» أو غيرها، فإنه كان لا بد من قيام حروب جديدة واضمحلال وضعف في البلاد. وحقيقة الأمر أن زمن حكومات المدن المستقلة كان قد ولى وانقضى، وحان عصر ظهور ممالك قوية في عالم الوجود، ففي شرقي بلاد اليونان كانت تقع إحدى الدول العظمى وأعني بلاد الفرس عدو اليونان القديم وكان يخشى بأسها، في حين كان في الشمال مملكة «مقدونيا» الفتية، وهي التي صارت بعد قليل من القوة بحيث لا يمكن تجاهل أمرها وخطرها.

الحياة في «أثينا» في تلك الفترة

من المدهش حقًّا أن نجد في هذا الوقت المليء بالاضطرابات والحروب الداخلية أن الحياة في «أثينا» كانت لامعة مزدهرة، فسفنها كانت تمخر عباب البحار قاصيها ودانيها محملة بالسلع، وهذه التجارة مع البلاد الأخرى كانت تدر عليها الثروة، كما كانت تمدها بالمعلومات الجديدة والآراء المستحدثة، حتى إنها أصبحت مركز الفكر والثقافة، ووفد عليها الناس لدراسة فن الخطابة وتلقي الفلسفة.

أفلاطون وأرسطو

وفي هذا العهد عاش كل من «أفلاطون» و«أرسطو»، وكان «أفلاطون» أعظم تلميذ نهل الحكمة عن «سقراط» (٤٢٧–٣٤٧ق.م) وهذا الفيلسوف كتب بلغة إغريقية بليغة حياة أستاذه وتعاليمه، كما أضاف الكثير من فيض علمه فكتب أفكاره عن الحكومة والتعليم وعقل الإنسان وروحه، وعن طبيعة الصدق والطيبة والجمال، وعن الأسباب الإلهية لكل الأشياء. ومن أحسن مؤلفاته الذائعة الصيت «الجمهورية» التي يصور لنا فيها حكومة مثالية، وقد وضعها لتعبر عن آرائه الفلسفية.٢ وقد درس «أفلاطون» في «الأكاديموس» Academus، وهي مدرسة «جمنازيوم» على مقربة من «أثينا» تحليها أشجار وارفة الظلال ومياه جارية، وتعرف مدرسته باسم «أكاديمي».
وبعد وفاة «أفلاطون» في الستين من عمره كان تلميذه «أرسطو» قد اشتهر اسمه في عالم الفلسفة، وكان يعلم في طرقات «ليسيوم» Lyceum الظليلة، وهي مدرسة على مشارف «أثينا». وكان يبحث في كل نوع من المعرفة، فضرب بسهم في العلوم بكل فروعها. وبخاصة علم النبات وعلم الحيوان وعلم الأخلاق وسلوك الإنسان والمنطق والسياسة وصناعة الشعر. ولا نزاع في أن العالم كان متأثرًا في كل الأزمان بهذين المفكرين العظيمين، فيُنعت «أفلاطون» بأنه والد الفلسفة الحديثة، ويُلقب «أرسطو» بوالد العلوم الحديثة.

وفي هذه الفترة لم تقم مبانٍ كثيرة في «أثينا»، ولكن نحتت تماثيل كبيرة غاية في الجمال، وكثيرًا ما كان المغنون الإغريق يسيحون في الخارج، ويعملون في المدن الأجنبية، وبذلك نشروا الثقافة الإغريقية والفن الإغريقي.

وعلى الرغم من كل هذا الازدهار فإن السخط وعدم الاستقرار والفقر أمور كانت ضاربة أطنابها في «أثينا» وغيرها من المدن الإغريقية، وقد ترك كثير من الرجال المخاطرين مدنهم، وانخرطوا جنودًا مرتزقين في جيوش بعض الأمم المجاورة، ونخص بالذكر من بينها مصر وفارس. وأشهر فرقة من هؤلاء المرتزقة تلك التي قامت بأكبر مخاطرة في التاريخ القديم، وهي المخاطرة المعروفة «بموكب عشرة الآلاف» وهؤلاء كانوا يؤلفون فرقة من الإغريق في خدمة أمير فارس يدعى «كورش» كان قد أراد أن يستولي عنوة من أخيه على عرش فارس الذي كان يعتليه «كورش» الأكبر منذ مائة وخمسين سنة مضت. وقد حدثنا «أكزنوفون» أحد تلاميذ «سقراط» عن أعمالهم العظيمة، فيخبرنا عن انتصارهم في موقعة بالقرب من «بابل» على ملك الفرس، ثم يذكر لنا هربهم من المكيدة التي كانت قد نصبت لهم بقيادة «أكزنوفون»، وتقهقرهم في أراضٍ مجهولة لهم عابرين الأنهار وسائرين على الثلوج الكثيفة وشاقين طريقهم في مضايق الجبال التي كانت محروسة بأعدائهم، وأخيرًا عندما وصلت مقدمة هؤلاء الشجعان إلى قمة جبل صاحوا على حين غفلة قائلين: البحر! البحر! وذلك لأنهم وقتئذ كانوا قد وصلوا في سفرهم الشاق إلى البحر الأسود، ومن ثم وجدوا طريقهم بسهولة إلى وطنهم. وهذه المخاطرة الهائلة قد برهنت مرة أخرى على أن الإغريق جنود أحسن من الفرس. وقد ترك لنا «أكزنوفون» نفسه تاريخ هذا الحادث في كتاب ممتع.

١  يقصد المدن التي على الشاطئ الغربي لما نسميه الآن آسيا الصغرى والجزر القريبة منها.
٢  وقد وضع الكتاب المحدثون كتبًا خيالية على غرارها، نذكر من بينها كتاب «يوتوبيا» (أي: لا مكان) لصاحبه «سير توماس مور» وكتاب «أخبار من لا مكان» News from Nowhere لصاحبه «وليم موريس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤