الفصل الاول

– سليم!
– نعم يا أماه.
– سليم تعالَ، أسرع.
– …
– سليم! أسرع.
– …

ثم أعقب ذلك صراخ الأم وصوت عصا تقرقع هنا وهناك في زوايا الغرفة، ولكن الولد سليمًا، ما كاد يلمح شبح العصا، حتى هرب كالقطة الصغيرة واختبأ تحت الكنب الكبير القائم في زاوية المكان. وانتهت المعركة بتمزيق الورقة التي كان يرسم عليها الصغير سليم، والتي كانت تشغل باله وسبَّبت المشكلة.

جرى ذلك في البيت الذي كانت تسكنه هذه العائلة المتوسطة، وهو يقع في أحد أحياء مدينة بيروت، وهو بناء قديم نخر الدهر حجارته الرملية وأتى على نوافذه العتيقة، ولكن أجمل ما فيه بابه ذو القنطرة الشرقية، حيث تدلَّت من فوقه عريشة العنب تزخرفه بظلالها البنفسجية كما تزخرف جدرانه.

في هذا البيت الذي سُقِّف بالقرميد الأحمر، كأكثر البيوت البيروتية، كانت تسكن هذه العائلة المؤلَّفة من رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة.

وسليم هذا، ولد كثير الإحساس، دقيق الملاحظة، حَبَتْهُ العناية ذوقًا مرهفًا، فكان يُمضي وقته بالرسم والتزويق، خلافًا لأقرانه من الأولاد، مما كان يضايق أمه ويدفعها أحيانًا لضربه.

وكانت الأم هي المشرفة على البيت بعد وفاة زوجها، وكانت منصرفة بكلِّيَّتها لتدبير مستقبل عائلتها؛ فكان أول ما فكرت به بناء هذا البيت الصغير كي تستر عائلتها؛ إذ كانت تعتقد — كما كان يعتقد أكثر أهل عصرها — أن البيت سترة الإنسان، أما «اللقمة» — على حد تعبيرهم — فالله يدبرها، لا سيما إذا اقترنت بالقناعة والعمل وحسن التدبير.

وكان سليم أصغر أولادها، وله من العمر نحو السابعة، أرسلته إلى الكتَّاب القريب من البيت، حيث يتلقى بعض مبادئ القراءة والكتابة، وكان يحلق حوله الرفاق الذين كانوا يعجبون بما كانت تخطه أنامله الصغيرة من أشكال وصور.

كان والده قبل وفاته على رغم حبه له، يؤنِّبه على هذه الرسوم، ويخوِّفه من عذاب جهنم ونارها الهائلة، أما أمه فكانت أشد قسوة في هذه الناحية؛ فكانت تزجره ولا تتورع عن ضربه قبل أن يتمكن من الاختباء تحت الكنب العارم كي يقلع عن الرسم.

وكان لسليم الصغير صندوق صغير يضع فيه وريقاته وقلمه الصغير، وكانت أمه كلما أرادت إغاظته، وهي تدرك شدة ولع سليم وحبه لصندوقه الصغير، تأخذ هذا الصندوق وترمي به على دَرَج البيت حتى يترك ولدها الرسم، وقد ثار هذا الولد مرة وقال لأمه: لماذا تمزقين رسومي وتكسرين أقلامي؟ هل تؤذيك رسومي؟ أرجوك يا أمي وأتوسل إليك أن تتركي الرسوم، إني أحبها، أحبها كثيرًا مثلك يا أمي.

figure

ولكن الأم لم تكن تدرك ما تعني هذه الرسوم وما يعني تعلُّق الولد بها، وما تخبئ وراءها من موهبة. وللأم عذرها، وأنَّى لها أن تدرك معنى الرسم وتمسُّك الصغير به وما تنطوي عليه كل هذه القضية النفسية، وعصرها نفسه وبيئتها بأسرها كانت تجهل الفن والطفولة ونوازعها.

إن الأم كانت ترى في عمل ولدها شذوذًا عن غيره من الأولاد الذين تعرفهم، إن ولدها لا يلعب ولا يلهو ولا يصرخ ولا يعاشر، حتى إنه كان يُدفع إلى الطعام دفعًا، همُّه أن يرسم دائمًا؛ لذلك كانت تتضايق منه ومن مغايرته لحالة الأولاد أمثاله.

كانت ترى أولاد الجيران يملئون الزاروب الذي يصل إلى بيت سليم بصراخهم ولعبهم، بينما كان سليم همُّه تخطيط رسومه التي لا يفتر دقيقة عن مزاولتها بصبر ووَلَهٍ عجيبين، وما كان صوت الأولاد ولعبهم ليدفع فيه غريزة الاشتراك مع أمثاله من الصغار في اللعب والتسلية.

وكان بين أولاد الجيران العديدين ولدٌ وهبته العناية جسمًا ضخمًا وعضلًا قويًّا، وحنجرة رنانة، ولسانًا طلقًا، وقحة مزعجة، ولكنها إلى كل هذا قد ضنَّت عليه بالعقل والنباهة وحسن الذوق، فكان أشبه بالحيوان شكلًا وحركةً.

عندما كان يضايق أمه كانت هذه تشتمه مُرسِلة عليه اللعنات، ثم تقول له: «انظر ابن جارنا سليمًا فهو كالملائكة، نكاد لا نسمع له صوتًا ولا نرى له وجهًا، يقضي أوقاته بالدرس والرسم، وأنت تلعب وتلهو وتملأ الدنيا صراخًا وشتائم! تعلَّم من سليم الهدوء والاجتهاد وحسن السلوك.» ولكن ولدها — وكان يدعى معروفًا — يجيبها: «حطي بالخرج، اجتهاد تربية وعقل؟ بكرة منشوف مين منَّا بصير له قدر وقيمة، ومن منا بصير معه فلوس ويملك البنايات!»

إن معروفًا عندما كان يتكلم كان كمن يقرأ في لوح الغيب، رغم أن والدته كانت تلعنه وتقول له: «يا لك من أهبل مجنون، إن نهايتك ستكون مظلمة كوجهك!»

وكانت أم معروف ألحقت ابنها بالكتَّاب مع سليم، ولكنه كان يفرُّ منه ليذهب إلى شاطئ البحر أو على الرمل يقضي يومه مع أمثاله من الصبية المتشردين، ويعود المساء إلى البيت ملوث الثياب ممزقها، فكانت والدته تُنزل به القصاص الصارم، فيتعالى صراخه الذي يملأ الحي ويزعج الجيران، ولكن هذا القصاص ما كان ليؤثر بمعروف الذي امتاز بجلد سميك وشعور قليل يختلفان عن البشر، والطريف هو مشهد صباح ذهابه للكتاب.

كان والده جزَّارًا، وهو مضطر للذهاب باكرًا للمسلخ؛ لذلك كان من نصيب أمه أن تحمله حملًا للمدرسة، والأصح كانت تجره إليها وتضربه حتى تصل به للكتَّاب القريب من البيت.

كان الناس يتجمعون لمشاهدته على هذه الصورة المزرية المضحكة معًا، فمن يشاهده يظن أنه يقاد إلى المقصلة أو إلى الجلاد.

وبعد الظهر عند انتهاء الكتَّاب، كان رغم هربه منه كسولًا لا يحسن تهجئة الحرف أو لفظه، ولكنه كان في إرسال الشتائم والكلام البذيء أبلغ من قسٍّ، لذلك كان المعلم يهيئ له احتفالًا يليق بقلة اجتهاده وخلقه.

كان حسب عادة العصر، يحضر له عقدًا من «قباقيب» الأولاد، ثم يضعه في رقبته ويلبسه على رأسه «قبوعة» مزخرفة تثير الضحك، ثم يعد ولدين من الأقوياء يشدان على رجليه الآلة المعروفة «الفلق»، ثم يتقدم الأستاذ وينزل به ما فيه النصيب من ضرب العصي.

وعند خروج التلامذة من الكتَّاب، يأتي المعلم بمعروف ويوقفه أمام الباب، ويطلب من كل ولد أن يصفعه كفًّا على قفاه، على سبيل التحية والوداع.

وبالطبع فالأولاد كانوا يتبارون بهذه العملية المحببة إلى نفوسهم، أما معروف فما كانت كل هذه الحفلات التكريمية لتؤثر بقليل أو كثير على إحساسه وكرامته، فكان كلما سنحت له الفرصة للفرار من الكتَّاب اغتنمها، وراح مع أمثاله من الأشقياء يعبث هنا وهناك.

وبعد مضي سنوات ترك الكتَّاب، وكبر فصار يرتاد المقاهي وغيرها من أماكن اللهو والشقاوة. وفي هذه المدة كان سليم قد انتقل إلى مدرسة جديدة وجوٍّ جديد، عرف به مديرها الراقي، وعرف ما في نفس سليم من استعداد وما عنده من مواهب، لذلك كان الميدان للصبي أفسح من الكتَّاب حيث كان أولًا، ولهذا بدأت تتبلور مواهبه، وتظهر بشكل أوضح من قبل، وبات مشهورًا في بعض الأوساط بميله الفني على رغم حداثته. وما كانت هذه الشهرة إلا لتزيد في كثرة معارضيه المتهجمين عليه، وتزيد في اضطهادهم له. فأمه في البيت تضع العثرات في سبيله، وتمزق كل ورقة تراها بين يديه، وفي المدرسة كان معظم المعلمين يضايقونه، ويعدُّون عليه أنفاسه، وفي الطريق كان جماعة المشايخ والمتطفلين على الدين يوقفونه ويهددونه بنار جهنم وعذاب الآخرة، وهو لا يزال صغيرًا لا يفهم من أمر الآخرة ونار جهنم شيئًا، إنه طفل بريء وهبته العناية حب الجمال والشعور به، يعكسه بسذاجة وبراءة على وريقاته، هذا كل ما في الأمر.

لقد كثر أمثال هؤلاء في المجتمع العربي، وكثر ضررهم وعم بلاؤهم، وخدعوا الرجل البسيط بعذب حديثهم ومعسول أسلوبهم، فإذا بالجهل يمد بساطه، وبالفكر ينكمش ويكاد يتوارى.

وأخيرًا وقد ضاق هذا الولد ذرعًا بما يناله من تثبيط وتهديم، وتأثرت مشاعره الرقيقة من ترداد هذه الأشياء على مسمعه كل حين، أن توقف عن الرسم وعن التفكير به، وصادف أن زار المدرسة أحد الرجال الذين فتح الله عليهم، وأنار بصائرهم فتحرر عقلهم بالنسبة لأبناء جيلهم، فسأل الصبيَّ عن حال الرسم، فأخبره هذا بتركه، وبيَّن له ما سينتظره في الآخرة من عذاب أليم ونار شديدة أعدت خصيصًا لأهل الفن! وما إن سمع الرجل من الصبي هذا الحديث الطريف حتى انفجر من الضحك، وفكر بانتشار السخافة والجهل والشعوذة بين الناس، ثم التفت إلى سليم بلطف وطمأنه بمداخلته لدى رب العالمين بالعفو والمغفرة لأهل الفكر والأدب والفن إلى يوم الدين.

واقتنع الولد بهذه الوساطة، واطمأن قلبه، وأمن نار جهنم فعاد سيرته الأولى.

وشاءت العناية أن تهيئ لهذا الصبي طريق التقدم، فسلكت به على أيدي بعض الناس سبيل التعرف إلى أوساط أجنبية، قدَّرت فيه هذا الاستعداد فحدبت عليه وشجعته كل التشجيع، وليس هذا بعجيب، فمن يعرف شيئًا عن حقيقة الحضارة الأوروبية يدرك أسباب هذا التشجيع.

فالأمم كالأفراد تمامًا؛ لها طفولة، ولها شباب، ولها نضج، ولها شيخوخة، ولها خرف وموت. فأوروبا في مطلع القرن العشرين كانت في تمام نضجها وذروة حضارتها.

ومن غريب أمر سليم أنه كان في أوقات الفرص المدرسية والأعياد يذهب إلى شاطئ البحر، أو إلى الطبيعة حيث يقضي أوقاته منفردًا يتأمل ما حوله من جمال بعين واعية، ثم يعود للبيت يسجل ما علق في نفسه من مناظر الطبيعة الجميلة.

وعندما كانت تلامذة المدرسة تقوم بنزهة بإشراف المعلمين، كان يُرى سليم منتحيًا مكانًا منفردًا ينظر إلى الطبيعة، فلا يقترب من أحد ولا يعاشر أحدًا، وكان يلاحَظ عليه هذه الحالات سواء في البيت أو المدرسة، وصادف أن مرضت أمه وجاء الطبيب لمعاينتها، وهي أول مرة يرى سليم طبيبًا يفحص مريضًا بآلته، فيتناول قلمه ويرسم هذا المشهد خفية خشية الضرب، ولكن الطبيب لمح الصبي وهو يرسم، فتعجب لسرعة خاطره وقوة ملاحظته، وقد أخذته الدهشة لما رأى، فالتفت إلى الأم وهو يشير إلى الرسم: «من يكون هذا الولد؟» قالت: «ولدي.» قال: «عليك بالعناية به، فله موهبة نادرة.» أجابت الأم: «وما فائدة ذلك؟ إنها إضاعة للوقت، فلو أنه ينصرف لتعلُّم مهنة أو حرفة لكان أجدى له.»

أما الطبيب فلم يشاركها هذا الرأي، بل قال لها: «إنك مخطئة يا خالة، إنه لفن جميل، هو موهبة من الله، فلا يمنحه لأي كان، عليك بتشجيعه كي يتقدم ويصبح فنانًا تفتخر به البلاد …» فضحكت الأم من كلام الطبيب وهي تهز رأسها متمتمة: «إن ابن جارنا معروفًا خير منه، فهو لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك فهو يربح كل يوم ثلاثة غروش وأحيانًا بشلك.»

ومن طريف حوادث سليم في هذا العمر أن أمه ضايقته يومًا لكثرة ما أثنت وأطنبت بمهارة ابن جارهم معروف، ومعرفته في كسب المال وجلب الحلويات وغيرها لأهله، بينما هو لا فائدة ترجى منه ومن رسومه التي ليست سوى مضيعة للوقت، وقد حز هذا في نفس الصبي سليم، فعزم على إخراج صورة أحد بائعي الحلو المعروفين وقتئذٍ في البلد، وقد أبدع فيها، لا سيما في توسيع العيون وتكحيلها، ثم بالعناية في الشوارب التي كان للناس في ذاك العصر أهمية خاصة بها وولع شديد بتوقيفها، ثم قدمها له بواسطة ابنه الذي كان رفيقًا له، فكان إعجاب بائع الحلو بصورته بالغًا؛ لذلك أرسل لبيت سليم هدية ممتازة من حلوه، وكتب عليها: «إلى سليم أفندي.» فكان لهذه المفاجأة عند المساء أثرها، لا سيما عندما جلس جميع إخوانه يأكلون من طيباتها أثناء الحرب، وكان مجلس سليم هذه المرة في صدر المكان، بعد أن كان قبلًا في الزاوية.

وكان هذا الحادث انتصارًا عظيمًا لسليم وللفن؛ إذ برهن أن باستطاعته أن يأتي بفائدة محسوسة وحلوة، ولم تنسَ أم سليم أن تقدم في الصباح شيئًا منها لأم معروف.

وهذا الحادث رفع — ولا شك — من معنويات سليم، حتى ومن أسهمه في البيت؛ ولذلك كبر حجم وريقاته ورسومه.

وله حادث لا يقل طرافة عن الأول، ففي بدء الحرب، وكان الناس في حماس شديد للدولة والجيش المظفَّر، وكان أينما ذهب الصبي يسمع الناس يلغطون في حديث المعارك الدائرة في الجبهة، غير أنهم كانوا يشكون من قلة المدافع والطائرات عند الدولة، فتألم سليم لهذا النقص في المعدات وخشي خسارة المعركة و… لذلك أسرع يصور معركة عظيمة بين الجيشين أكثر فيها من الطائرات والمدافع الثقيلة؛ وبهذا حمل النصر الباهر إلى جيوشنا المظفَّرة، وقد أُعجب الذين شاهدوا صورة سليم لنشاطه وقوة خياله، وتمنوا لو أن للدولة مثلها وأن تقوم بتحقيق بعضها.

وكانت له أحيانًا مشاريع غريبة رغم هدوئه وانزوائه، مما يدل عن نفسية حساسة وشعور وطني عميق.

عندما كانت الحالة على أشدها أثناء الحرب الأولى، وكان هو على رغم صغره يشاهد الجياع يستغيثون ويطلبون لقمة، مما أثر عليه وعلى بعض أقرانه، فعقدوا مؤامرة رسم لهم خطتها، ولكن علم أخوه بذلك وكانت النتيجة «قتلة» من عصا أمه المعلومة، تركت آثارها على جوانبه اللينة، أنسته إلى حين أصول الرسم ولذة التصوير، وأنفخت الدف طبعًا.

ومن حوادثه أيضًا أن والدته كلَّفته مرة بشراء بعض أغراض لعمل الطعام، وذهبت في مهمة خارج البيت، وكان سليم منهمكًا في عمل رسم فنسي مشترى الأغراض، وقد تذكر ذلك في آخر دقيقة، ولكنه لم يجد منها لأنها نفذت من عند البقال، فعاد إلى البيت وصوَّر مثلها، وعندما عادت أمه وسألته عن الأغراض دل بيده المرتجفة على الصورة! وبالطبع كانت النتيجة معروفة، هي بضعة عصي مكينة.

وكان دأبه الرسم المستمر، طبعًا بعد أن يقوم بفروضه المدرسية، فهو لم يكن خاملًا بين أقرانه، ولكنه كان يقوم بهذه الرسوم في أوقات فراغه، وصادف أن مرض سليم مرة وعندما شاهده الطبيب قال لأمه: «إن ولدك لا يحمل علة، ولكنه بحاجة للانطلاق في قلب الطبيعة، فهو أشبه ما يكون بالعصفور والفراشة، وهو بحاجة للطبيعة حيث يشدو ويلعب.»

وقد أصبح سليم أحسن حالًا من قبل، فهو يملك الآن بدل الوريقات المبعثرة دفترًا ودفترين، يرسم بهما الحوادث التي كانت تقع في صفه وفي حديقة المدرسة، فهو يصوِّر بعينيه النافذتين بعض رفقائه في الصف في مختلف الحالات، من قصاص المعلم للبعض، أو يمثل الأستاذ وهو غاضب وتكاد عيناه تبرزان من محلهما، بينما تكون إحدى يديه مرفوعة فوق رأس التلميذ الذي يحاول ردها بيديه المتجمعتين أمام رأسه، وغيرها من المشاهد التي تحصل بالصف، فكانت هذه الرسوم الانتقادية بما فيها من صدق، أداة إصلاح لأسلوب القصاص في المدرسة، مما حدا بالمعلمين على الإقلاع عن عاداتهم غير اللائقة، وبالتلاميذ للهدوء حتى لا يُمثَّلوا بهذا الشكل المخجل، وقد كلفت هذه الرسوم سليمًا عند بعض المعلمين الضيِّقي الأفق ببعض الضربات على يديه الطريتين، وحرمته من مسك دفاتره وقلمه. وعلى الرغم من كل هذا فقد نشر هذا الصبي الهادئ في جو المدرسة نوعًا جديدًا من أنواع الفكر غير مألوف في العالم العربي وفي الذهنية العربية.

وعندما نعلم أن سليمًا كان يعيش في عهد متأخر، وفي عقلية قديمة، لا عهد لها بالفنون ولا في أمثالها من أسباب التأمل الرصين، يستطيع الإنسان أن يدرك أثر ذلك وتأثيره في النفوس.

ففي ساحة اللعب كان يجتمع حوله التلامذة من صغار ومن كبار، يعجبون بقلمه وهو يسجل بعض صور رفاقهم أو أساتذتهم، ويمثل بعض اللاعبين في كرة القدم أو ضرب الجريد أو القفز وغيره.

كان سليم يتدرج في المدرسة ويتلقى العلوم الابتدائية برغبة ونهم، وكان يشعر بحاجة إلى المال ليشتري بعض اللوازم لذلك، أخذ يرسم لرفاقه صورًا كبيرة وخاصة الأغنياء منهم، ولكن الأمور لم تدُم له طويلًا، فقد أقفلت المدرسة أبوابها وتفرق التلامذة، أما سليم فلم يقنط، بل تابع العمل بنشاط عجيب؛ ليجمع بعض المال ويتلقى العلم الذي كان يحبه في آنٍ واحد.

لقد أدرك الصبي، وقد بلغ الحادية عشرة من عمره، وبعد أن علَّمته الحوادث القاسية التي ابتلي بها، أن المال ضروري، وأنه العنصر الأساسي لإكمال دروسه ودرس الفن الذي أحبَّه، وأدرك تمامًا أنه بدونه لن يبلغ غايته في استكمال الفن حسب أصوله العريقة.

وقد علق بذهنه عندما كان يتردد إلى بعض الأجانب الذين يعيشون في الشرق، أن إيطاليا وفرنسا هي بلاد الفن ومهده، وهي موطن التصوير والنحت والهندسة والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة، وحدَّثوه أيضًا عن نوابغهم أمثال: ميكاليخ رامبرنت ودوفنسي ورفائيل وتيسيان وغيرهم، وحدثوه عن الصور العظيمة التي تزدان بها قصور الفاتيكان وبورغيزي وكولونا وبرباريني وكبجي، وفي المتاحف والقصور العديدة التي تحفل بها روما المدينة الخالدة، ونابولي وفنيس وفلورنسا وبولونيا أو باريس وآثارها العظيمة، فكان لهذه الأحاديث ولتلك الأسماء رنة طرب في نفس سليم، فإذا هو لا يحلم إلا بالذهاب إلى تلك البلاد لمشاهدة الآثار والتحف الفنية الرائعة التي حدثوه عنها، غير مدرك للصعوبات والتكاليف التي تتطلبها أمثال هذه الرحلات البعيدة، وهو الولد الذي يكاد لا يعرف بعدُ أحياء بيروت، ولكنه هوس الفن خلق له ودفعته العناية في سبيله.

بينما هو في أحلامه هذه، بعيد عما يجري حوله من اهتمام الناس للأكل وتفاخرهم في اللباس، من زنار أو مسدس وخنجر، أو طربوش مايل، أو التباهي بتفتيل الشوارب إلى آخر ما هنالك من المباذل والسخف.

كان سليم يقابل ابن جاره معروفًا بعض الأحيان وهو خارج من داره، وقد أصبح هذا شابًّا عظيمًا يفتل شاربيه الصغيرين ويرمي بطربوشه للوراء وسرواله يهتز وراءه عندما يسير يمنة ويسرة، والخيزرانة الصفراء ذات العقد يهزها بيده بكبرياء وتيه كأنه عنترة أو أبو زيد الهلالي.

أما سليم فكان يبدو أمامه كالحَمَل الوديع، وهو عنه وعن هذه المظاهر الفارغة في شاغل، بل هو في عالم آخر.

figure

وكان معروف يرميه بنظرة كلها الإشفاق وبعض الهزء، وكأنه يقول في نفسه: «مسكين هذا الصبي! لعله معتوه أو به مسٌّ، فهو يحرم نفسه لذائذ العيش وهو لا يسيء إلى أحد، ولا يعرف أن يضرب بالخيزرانة، ولا يحسن أن يصفع كفًّا أو يلفظ جملة واحدة من الشتائم المختارة، ولا يعرف أن يعتدي على أحد! مسكين سليم! كيف يستطيع العيش بيننا؟ وكيف سيكون مستقبله؟» ويستمر في نزول درجات سلم الزاروب وهو يهز رأسه متمتمًا: «قلم، دائمًا يحمل هذا القلم! مرحبا، قلم! أليس الأفضل له أن يستعيض عنه بهذه الخيزرانة القوية التي تغني عن كل الأقلام والعلوم والفنون؟! كم من الناس يخضعون لي ويهابون ضربات عصاي، ويقدمون لي الفلوس والهدايا ثم يبادرونني بالتحية ومظاهر الاحترام.

الويل ثم الويل لمن يجسر أن يخالفني، أو من تحدِّثه نفسه بالخروج عن طاعتي، أو يرد لي كلمة أو يعارضني برأي، فإني أبادره بوابل من الشتائم بصوت كالرعد، فإن لم تسفر عن شيء هددته بهذه العصا.» ثم هز عصاه بعد ذلك كأنه يقوم ببعض التمارين أو يمثل دورًا في إحدى الروايات المضحكة!

ثم يتابع سيره وقد أحس بنشوة الظفر باختيار مهنته، فيرفع عقيرته بموَّال من تلك المواويل البغدادية المشهورة، فتدوي لها أنحاء الحي بأجمعه.

وكان يقاطَع بتحية المارَّة وهو يسير بينهم كالطاووس، أو كأنه أحد الأبطال المغاوير والعلماء المبجلين.

وما مضى على خروج معروف من بيته غير ساعة حتى كان العتَّال يدق باب بيته قائلًا: «يالله، نزلوا الأغراض، باعتهم معروف.» فإذا بالسل الكبير مملوء بالخضار المختلفة يتلوها فخذ لحم، وبضعة دجاجات وكمية من الفاكهة.

واستمر الحال مع معروف على هذا الشكل، كل يوم يبعث بسل محشو بالأغراض، أو يحمل الخادم صدرًا من الحلو، من بقلاوة أو كنافة أو عثملية وغيرها.

وكانت أمه، وقد غيَّرت رأيها فيه تقول: «الله يرضى عليه، معروف الله هداه وصار آدمي وشغيل، وهو يرسل لنا الخيرات والطيبات.»

ومضت ليالٍ لم يأتِ معروف فيها إلى البيت، وقبيل انبثاق الفجر داهمت الشرطة ومعها المحقق بيت معروف الذي أصبح في السجن منذ أمس بسبب اقترافه سرقة أحد المحلات الهامة في المدينة.

وعندما خرج المحقق ومن معه، وقد سمع الجيران الضجيج والجلبة، قالت أم معروف للجيران، وهي تحاول ستر الطابق، وقد خجلت من هذا اللقب الجديد الذي أتاهم به ولدهم، قائلة: «الحمد لله، ما في شي أبدًا، جاءوا بالغلط، معروف بألف خير.»

وبالطبع فإن معروفًا بألف خير في سجنه وقد وَجد مكانه اللائق ونهايته المحتمة؛ لأن أمثاله يجدون في هذا الجو المكان الصالح والتربة الملائمة لنمو مواهبهم وظهور مؤهلاتهم؛ لذلك ما إن دخل معروف إلى السجن حتى تلقَّاه زملاؤه بالترحاب، وأفسحوا له المقام اللائق به، وكالعادة أخذ يقص عليهم سبب حلوله ضيفًا بينهم، ساردًا مغامراته في عالم البطولة، وكان لا ينسى أن يفتل شاربيه بين الحين والحين وهو يقص حوادثه الجريئة، ومعروف كأمثاله من هذه الطبقة، ذو خيال خصب في ابتداع القصص والمبالغة فيها وسرد ما كان وما لم يكن، هو فنهم الذي برزوا فيه، وتربيتهم التي نشئوا عليها، فإذا كان مثلًا ارتكب سرقة، قال إنه قام بضرب من ضروب البطولة، وإذا اعتدى على بعض الأبرياء، زعم أنه قام بمأثرة إنسانية أو عمل خيري، وإذا قتل فأرًا راح يملأ الدنيا صورًا عجيبة عن بطولته، حتى يصير الفأر في خياله أسدًا رهيبًا.

وعندما طالت غيبته ولم يعد يأنس الجيران بصراخه وشتائمه، التي تبدأ بسب الدين عند الصباح والظهر والمساء، كانت أمه تجيب عند سؤال الجيران عن أخباره (بأنه يقبر أمه) مسافر إلى حلب لمشترى أغنام، ولكن إحدى جاراتها عرفت من زوجها الموظف عن محاكمته بتهمة السرقة، وقد أعياها امتداد حبل الكذب، فقالت لها مرة بخبث: «لعل معروفًا وهو عائد من حلب بأغنامه قد تعب، فعرَّج ليستريح قليلًا في بيت خالته،١ على الرمل!»

لنترك معروفًا يبني مجده في السجن، ولنتابع سليمًا، فهو ما زال يكمل دروسه بجد ليلًا، ويصوِّر في النهار لبعض الناس ليظفر بالمال الحلال؛ لأنه وطَّد النية على السفر إلى فرنسا أو إيطاليا لإكمال دروسه فيها، وإنه لمن العسير على الإنسان أن يتصور كم لاقى هذا الشاب من الصعوبة والإرهاق من الزبائن وطباعهم وحيلهم وإقناعهم بضبط صوره كي يدفعوا له أجره، كم مرة ترك الزبون الصورة ولم يعد، وكم مرة تآمروا عليه بأساليب شيطانية، وفازوا مجانًا بالصورة التي أضاع فيها نور عينيه وبذل حشاشة قلبه، وأخيرًا عندما تجمَّع لديه مبلغ من المال، عرض فكرة السفر على والدته؛ لأنه كان يعتقد لصفاء نفسه، أن رضاء الوالدين هو أمر أساسي وعنصر من عناصر النجاح؛ لذلك ما كاد يعرض فكرة الرحيل على والدته حتى غضبت قائلة: «إياك والسفر، بلاد الإفرنج تفسد عليك أخلاقك وتضيع بينهم، وأنت لا تزال فتى لا تعرف شيئًا ولا تستطيع إنقاذ نفسك، فالأحسن يا بني أن تبقى في بلدك وأن تفتح دكانًا تربح منها بعض الدراهم مثل قرايبك خليل وجارنا فؤاد وابن صديقنا حسن، ثم منين طالع لنا بآخر هالزمان بهذه الأفكار؟ لا أبوك ولا جدك ولا أحد من أهلك سافر قبلك لباريس، أو روما أو … ما بعرف بعد … الأحسن قعود في بلدك …»

وقد انتشر خبر سفر سليم لأوروبا في الحي، والنساء عندنا معلوم حالهن، فعندهن من المقدرة في سرعة نشر الأخبار ما تعجز عنه أعظم وكالات الأخبار العالمية، كما أن لديهن من الوقت لاستطلاع أخبار الناس ودس أنوفهن في مصالح الغير، وتحليل أمور الناس الخاصة بدقة وتفصيل عجيبين، نشاطًا لو صرفن جزءًا صغيرًا منه في أمورهن الخاصة لكانت حالة المجتمع العربي بألف خير.

ولكن سوء التربية الاجتماعية والجهل يدفعان بالإنسان أن يتدخل في أمور غيره ناسيًا شئونه الخاصة، فتحصل البلبلة ويقع الشجار وتسوء الحالة وتعم الفوضى.

وقد أصبح لسليم معارف ومعجبون، لا سيما بين الأجانب، ومن المواطنين المسيحيين الذين كانوا يتوسمون فيه الاستعداد ويرجون له المستقبل اللامع. وصادف أن اثنين من معارفه قابلا صديقًا لسليم وسألاه عن أخباره، فأعلمهما لأمر ما أن سليمًا ترك الفن وفتح دكانًا قرب بيته يبيع الخضار والفجل، ولأمر ما أكَّد لهما ذلك بعد الإلحاح، عندئذ لم يريا بدًّا من الذهاب لبيته ليجلوا الحقيقة بعد أن صعب عليهما الاعتراف بالخبر، فقصدا منزله، وهناك وجدا سليمًا منكبًّا كعادته على عمله، فوقفا وقد بدت عليهما الدهشة، وقد قرأ سليم على وجهيهما هذه الدهشة، وعندما سألهما أخبراه بالواقع.

فابتسم سليم كعادته في مثل هذه المواقف، وقد علَّمته الأيام منذ أبصر النور ما يضمر الناس لبعضهم في هذه البلاد من نوايا قد لا تنفعهم، ولكنها على كل حال لا تفيد غيرهم أبدًا وقد تلحق بهم الضرر في بعض الأحيان.

وكأن هذه الأشياء ما كانت إلا لتزيد فتانا نشاطًا وعزمًا، فإذا هو يصل ليله بنهاره جادًّا عاملًا يتلقى العلم ويجمع المال لتلك الغاية.

ومعلوم أن لكل شيء حدًّا ولكل أمر نهاية، ولا بد للصبر أن ينفد، فقد ضاق سليم ذرعًا بتطفل الأقارب والجيران والغرباء ومداخلاتهم في شئونه، فقد دخل يومًا للبيت فإذا به يرى جمهورًا من النساء يلتففن حول أمه وهن يأتزرن بالملاءات السود ويكلِّمن والدة سليم دفعة واحدة وبصوت عالٍ.

وما إن أبصرن سليمًا داخلًا حتى أنزلن المناديل على وجوههن تحجبًا، ثم بادرنه بالكلام وهن غريبات عنه قائلات: «شو يا ابنا، أنت لساك شاب صغير، حرام تسافر وتترك أمك، وإذا كان في ما شاء الله غيرك في البيت لكن شو بدك بالسفر، بلاد بعيدة ما بتعرف فيها حدن، أحسن لك تشوف لك بنت ناس تتزوج بها بهالمصاري أو بتعمل لك بيت بتنستر فيه و… و…»

أما سليم، هذا الفتى الوديع الرقيق، فقد أضاع وعيه وأصبح كالذئب، فالتفت إليهن وقال بلهجة حازمة: «أنا ما بعرفكن ولا عمري تداخلت معكن؛ لذلك فالأحسن أن تذهب كل منكن لبيتها وتهتم بشغلها!» ثم التفت لأمه، وقد أخذ منه الغضب مأخذه وقال: «يا أماه، أنا استشرتك بالسفر احترامًا لك، فأنا لم أطلب منك مالًا ولا شيئًا، فالمال مالي جمعته بعرق الجبين وسهر الليالي، لهذا أطلب الكف عن الحديث، وأنا مسافر لتحقيق غايتي التي سأشرِّف بها أهلي وبلادي، ولن أفعل كغيري أسرق ثم أدخل السجن.» ثم بعد هذا الكلام أبرز لهم بطاقة السفر.

وقد ساد سكوت رهيب؛ إذ انتصر الفكر على الجهل، والحق على التدجيل، والجد على الثرثرة، ثم خرج توًّا لإكمال عمله.

وعند المساء جاء سليم يرافقه الحمَّال ووضع حقائب السفر، ثم أخذ بإعدادها وتنظيمها دون أن ينبس بكلمة واحدة، وقد أدرك الجميع أن الأمر جد ولا مجال للشغب والجدل.

وفي المساء جاء بعض الأصحاب فأعادوا الحديث وكرروا النغمة لإرجاعه عن غايته في أمر السفر، ولكن سليمًا لم يَفُه بكلمة، بل ذهب وعرض عليهم حقائب السفر، فكان ذلك أفحم جواب وأبلغ حجة، وكان بين الحاضرين شاب نيِّر الذهن فقال: «الحمد لله، لقد انتصر العلم على الجهل …»

وفي الصباح الباكر وكان موعد السفر، تقدم من والدته وقبَّل يدها مقدمًا هدية لها ولبعض المقربين، فانقشعت الغمامة وارتفعت الأدعية له بالتوفيق في الحل والترحال، سُرَّ سليم لهذه النتيجة؛ لأنه كان يهمه رضاء والدته، لذلك حرص كثيرًا على أن ينال هذا الرضا، لا سيما وهو قادم على سفر طويل ومستقبل محفوف بالأسرار.

وفي صبيحة أحد أيام تشرين الأول كانت سيارة تقله وبعض الأهل والأصحاب المقربين إلى المرفأ؛ حيث كان في انتظاره بعض الأصدقاء المخلصين ممن يقدرون أهدافه، فكان يبدو بينهم رغم الابتسامة التي كانت لا تفارق فمه، الانشراح والغبطة فكأنه في نعيم؛ لأن أحلامه تجسدت وسبقته إلى باريس، وكأنه أخذ يسير في شوارعها العظيمة.

إن سليمًا لا ريب، بعد الذي ابتلاه، والشوق العظيم الذي به للعلم والتحصيل، بات الآن منطلقًا، وهذا رد فعل للكبت والضيق؛ لذلك كان يلاحظ في عينيه كثير من صور نفسه وما كان يعتلج فيها من شتى المعاني. وجدير بنا أن نقول إن سفر سليم هو الأول من نوعه عندنا، وإن عمله كان مغامرة بالنسبة لعصره وعقلية زمنه، فأي شاب من طائفته ووسطه خطر له أن يسافر لأوروبا رغبة في تحصيل الفن؟

إن الفن نفسه غير مرغوب فيه أصلًا، فكيف السفر في سبيل تعلمه في بلاد غريبة بعيدة؟ إنها كما قلنا كانت مغامرة جريئة من سليم لم يسبقه إليها أحد، لا سيما متى علمنا أن السفر إلى دمشق أو بعلبك القريبة كان يعد جرأة، ويعد الذي يقوم به شجاعًا وبطلًا مغوارًا.

الخلاصة بعد القيام بالمجاملات التي تقتضيها مراسيم الوداع، نزل سليم الفلك الذي نقله إلى ظهر الباخرة، وقد رافقه بعض الأهل والأصدقاء، وكانت دلائل البِشْر تبدو بجلاء على وجهه كلما دنا من الباخرة.

وبعد قضاء بعض الوقت على ظهر السفينة دوَّى صفيرها إيذانًا بالرحيل، فأخذ المودِّعون يغادرونها تباعًا، وكانت القبلات تتبادل من ناحية وكان نصيب صاحبنا سليم منها لا بأس به.

figure

وسليم الذي كان يرتقب هذه الدقيقة الحاسمة في حياته منذ سنوات ويعمل لها بكل كيانه، وقف في مقدمة الباخرة يتأمل مدينته لأول مرة من البحر، هذه المدينة التي أحبها من كل قلبه ويريدها أن تكون حقيقة لا اسمًا «درة البحر المتوسط» كي ينطبق جمالها الطبيعي على جمال جهد أبنائها وتقدمهم ورقيهم العقلي.

وقد تكاثرت عليه الذكريات وازدحمت الخواطر وعجَّت الأفكار والمشاعر، وكانت تدور كلها حول نقطة واحدة، هي أن يرى هذا الوطن الجميل بطبيعته، جمالًا آخر يسود مجتمعه وآدابه وخلقه ومعاملاته، ويتفق وهذا الجمال الطبيعي الفتان.

وكانت خيالاته الفتية وأحاسيسه المتوثبة تصوِّر له أن كل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الفن الذي هو أس الحضارة ونشر الثقافة الفنية عن سبيل المعارض والدعوات والمحاضرات وما إليها، وكان سليم الشاب الطيب مفعمًا بهذه النظرية، مأخوذًا برونقها، مؤمنًا أنها طريق الإصلاح والسبيل الأوحد لإسعاد وطنه وخلاصه من التأخر والانحطاط والأخذ به إلى السمو والرقي وبلوغ المدنية والحضارة، فيصبح كسائر الأمم المتمدنة.

وكانت هذه الأفكار وما شاكلها تملأ قلب الشاب الصغير سليم وتسيطر على أفكاره، وكان المسكين يظن — لطيبة قلبه وصفاء سريرته وجهله لحقيقة مجتمعه — أنه اكتشف «البارود» أو أنه وقع على طريقة فذة جديدة لم تخطر ببال سواه، وأنها ستحقق بسهولة بمجرد عمل لوحتين أو بنشر مقالين، أو بإلقاء محاضرتين في مدرسة أو نادٍ يُصَفَّق لها ثم يُنسى بعدها كل شيء!

كانت الباخرة تمر بقرب الساحل اللبناني في تلك الساعة الهادئة الجميلة، ساعة الصباح الحلوة المطمئنة، تبدو فيها الطبيعة أغنية عذبة وأنشودة منسجمة، وتبدو الأشياء كالطيف وقد استحالت لونًا ونغمًا وسحرًا.

كان كل هذا يساعد في اتساع خيال الفتى المتهوس؛ فإذا هو يبني منها قصورًا خيالية في إسبانيا وباريس.

وفجأة يحس بيد تربت على كتفه وتقطع عليه أحلامه، فيلتفت كي يتعرف إلى صاحبها، فإذا به يرى أحد مواطنيه، وهو وإن لم تكن تشده إليه في الوطن صداقة متينة، إنما كان يعرفه، وهي عادة أبناء الشرق العربي الذين يحبون بعضهم عن بعد، وعندما يتركون أرض الوطن، ولكنهم ما إن يعودوا ويسكنوا أرضه حتى تأخذهم التفرقة ويفترسهم العداء والحسد، وتنفخ فيما بينهم ريح الانقسام والبغضاء.

وكان هذا المواطن من الذين عُرِفوا بالمهارة والنباهة في جلب الثروة عن أي طريق كانت، وله في هذا الميدان يد طولى وباع أطول؛ فهو لا يرى في كل ما تقع عينه عليه من أشياء سوى ناحية المنفعة والاستثمار، فهو عريق في هذه الخلة، ممزوج دمه بهذه الغريزة، وبعبارة أوضح، إن بينه وبين الجمال والفن شقة بعيدة، وواديًا سحيقًا، وقد اشتهر عنه أنه من أهل الاختصاص في كافة مهن التهريب، وممن له فهم عميق في زراعة الحشيش وتصريفه … ولكن ذلك كله لم يمنعه من أن يتقدم من مواطنه الشاب الذي عرف عنه حبه للفن وأن يحييه ويتحدث إليه بعض الوقت، لا سيما وهو أيضًا وحيد على ظهر السفينة، وقد أحب مداعبته، لا سيما وهو يعرف حبه الشديد للطبيعة وغرامه بجمالها، فقال له بخبث، ليثير إعجابه ويطلق لسانه ويستدرجه في الكلام عما يشاهده من المناظر الرائعة، لينتهي به للكلام عن الفن فيسخر منه بعض الوقت، فسأله: «مناظر مدهشة حقًّا، ما هذا الجمال يا عزيزي؟» فراح سليم الطيب يصف إحساسه بها بسذاجة وتأثر عميق، طبعًا بعد أن مزجها بكمية من الفن الذي ما كان سليم لينسى ذكره وعلاقته بالجمال، وبالطبع عرض بعض نظرياته التي سبق وذكرنا عنها شيئًا، وقد أحب تاجرنا الخبيث أن يثير الفتى وأن «يزرك» له فقال له: «ولكن هل يمكننا يا عزيزي، أن نعيش من الخيال والجمال والفن فقط؟ ألا ترى أن الجمال لا يشبع البطن ولا يروي العطش؟ ثم ألا ترى أن هنالك وسائل أخرى توحي الخيال وتلهم وتسرح في أجواء قد تجعل الإنسان يبلغ بخياله عرش الملوك؟»

فأدرك سليم رغم صفاء سريرته ما يرمي إليه صاحبه، فهو لم يكن ضعيف النباهة ولا قليل الذكاء؛ لأن طهارة القلب لا تنفي الذكاء، كما أن الشقاوة لا ترافق دائمًا الذكاء! لذلك التفت إلى محدثه قائلًا: «إن الفن والجمال يا صديقي لا يعنيان قط الخيال والشرود والجلوس تحت شجرة ظليلة، والاسترسال للأحلام الذهبية التي لا طائل تحتها، وليس يعني قط أنه يملأ البطن، فكل شيء له دوره في الحياة، فالإنسان مخلوق من جسد وروح، وهو بحاجة لأن يغذيهما ليكون إنسانًا بالمعنى الصحيح، وإن الجمال يظهر حقيقة الإنسان ومؤهلاته للحياة والعمل لها، كما أن الفن هو الذي يرسم له مظاهر هذه الحياة وتصاميمها للانتقال بها من الدور النظري إلى العملي على أسس منطقية جميلة، تنقله من مراحل متدرجة وتفهمه في الدرجة الأولى قيمة الحياة وما تضمه من ثروات، وأنها جديرة بالعمل والجهد كما هي جديرة أن تحيا بكل نواحيها ومعانيها، وبالطبع متى عرف الإنسان هذا، عمل وأنتج وابتكر وأبدع، وهذا بالنهاية الاقتصاد والثروة التي تبحث عنها، ولكن هذه عن طريقها الصحيح وليس على هامشها، أما الخيال، خيالك الذي عنيتَ، فهذا سجن وفناء وانحلال، وهو ليس له علاقة ببحثنا، لندع يا صديقي الأموات في قبورهم ولننطلق في جوانب الحياة الطاهرة الخلَّاقة؛ لأن فيها من الجمال والبهاء ما يقربنا من الله ويحببنا إلى الناس أجمعين …»

طبعًا كانت هذه الكلمة كافية لرفيق السفر كي يتأدب ويلزم حده، فإذا به يدور بالحديث مع سليم عن الهدف من سفره والبلد الذي يقصده. وكان جرس الطعام أخذ يدوي في جوانب الباخرة؛ فأخذ الركاب يقصدون المائدة، ولحسن حظ صديقنا سليم أن صادف جلوس أحد الأساتذة الأجانب إلى جانبه، ومقابله جلس المواطن الكريم واسمه إبراهيم. والباخرة ذات رقعة محدودة تفرض على المسافرين شبه تعارف عائلي، فإذا بجار الأستاذ يتعارف وسليم وهذا قدم له إبراهيم، ويعرف كل منهم وجهة الآخر ومهمته، والثقافة تشد أهلها إلى بعض، وهي من نوع الأرواح، لذلك فهي سريعة الائتلاف، لا سيما بعد أن لاحظ الأستاذُ سليمًا يرسم أحد المسافرين النهمين على المائدة، ويسجله بسرعة خاطفة، فأكبره وأجلَّه، والمثل يقول: «الفن يفرض نفسه»، وماذا يرغب الناس من بعضهم غير تلك المواهب الخاصة التي تتجلي عند أفراد قلائل فيشركون الناس مجانًا بها ويشيعون في نفوسهم اللذة والبهجة، فأخذ هذا الأجنبي يثني على موهبة سليم، وأحاطه بالكثير من التجلة والتقدير شاكرًا للظروف التي أتاحت له فرصة التعارف، قائلًا: «هنيئًا لبلادك بك.» وكأن هذا التمجيد الذي جاء عفوًا من هذا الأجنبي كان درسًا صامتًا للمواطن إبراهيم الذي أخذ يدرك عمليًّا أن هناك أمورًا لا تشرى بالمال، بل هي أمور معنوية تميز بين الناس والحيوان، كما تميز بين الأمم.

وعلى هذا الأساس اشتدت الصداقة بين هذا الأجنبي وسليم، وقد باتا لا يفترقان، مما يثبت أن الروابط الفكرية هي أشد الروابط وأصدقها؛ لأنها مجردة عن كل غاية إلا غاية الحق والحب والخير.

وبعد مضي بضعة أيام في البحر بلغت السفينة مرفأ مرسيليا الشهير، وكان سليم قليل الخبرة في الأسفار ومشاكلها، كتدبير الفندق والمطعم والجمرك والانتقال في القطر الحديدية، وهي في الغرب ذات حركة عظيمة مدهشة يضيع فيها الغريب القليل الخبرة والمران، وقد لاحظ الأجنبي على سليم أثر هذا الارتباك وأحس عليه هذا التهيب، فطمأنه وخفف عنه؛ لأنه كان أكثر خبرة في الأسفار ومتاعبها.

وقد نشأ سليم على الوفاء ومحبة الواجب، فهرول نحو مواطنه إبراهيم ليودعه فلم يَرَ له أثرًا، خلا رائحة الحشيش الذي خلَّفها وراءه.

وكان الأستاذ الأجنبي سبق حسب العادة وقدم لسليم بطاقة تحمل اسمه وعنوانه في باريس، وهو يدعى مسيو «دورييه»، وبعد إكمال المعاملات غادرا السفينة معًا، وما كاد يبلغ مسيو «دورييه» الرصيف حتى أخذ بتدبير البحارة ونقل الأمتعة للجمرك وملاحقتها بمهارة أذهلت سليمًا، ولم يفتر دقيقة عن شكر الله الذي هيَّأ له هذا الرفيق الغيور الذي أنقذه من هذه الحالة المضطربة الكثيرة الصعوبات.

وبعد أن اجتازا كافة الحواجز وأنجزا المعاملات الرسمية واطمأن بالهما من كل هذا، كان دنا وقت الغداء، فذهب مسيو «دورييه» بصحبة سليم إلى مطعم سبق للأستاذ معرفته، وقد اشتهر بالنظافة والجودة والمهاودة، وقد سُرَّ سليم من جودة الطعام ومن الخدمة، وبعد الانتهاء من الغداء قال الرفيق لسليم: «علينا الآن حجز غرفة في فندق أعرفه ولي ثقة بصاحبه؛ لأن أمر الفنادق في هذه المدينة الكبرى يدعو للحذر والانتباه، فقد يقع الغريب بين يدي جماعة تغرر به وتنتهي بفاجعة.» فشكره سليم لاهتمامه، واختار غرفة تطل على منظر المرفأ الجميل، ثم أودع حقائبه واطمأنت نفسه.

وبعد أن أخذا قسطهما من الراحة خرجا عند الأصيل إلى مقهى هناك، قضيا فيه بعض الوقت، ثم باتا ليلتهما في الفندق، وعند الصباح كان سليم يحتل مكانه في القطار؛ لأن رفيقه مسيو «دورييه» اضطرته أعماله للبقاء بعض الوقت في مرسيليا، وقد أعطاه عنوانه في باريس محددًا له وقتًا للاجتماع بعد أن زوَّده بكل المعلومات، ومنها اسم فندق يعرفه، أما سليم فقد بات مطئن البال من ناحية وصوله إلى تلك المدينة العظيمة الصاخبة؛ ذلك لأن له صديقًا حميمًا من بيروت قضى أعوامًا في مدينة النور، وقد كتب له مسبقًا يخبره عن موعد وصوله لباريس، وكان شديد الثقة به، ومع ذلك فقد احتفظ بعنوان رفيق السفر مسيو «دورييه». سار القطار يقطع الحقول والقرى، وكان سليم يعجب بالعناية بها والتنظيم العجيب الذي يطغى على كل شيء، ولفت نظره خاصة كثرة الاهتمام بالزهور وولع القوم بها، حتى إن الكوخ ما كانت لتنقصه بعض قطع الزريعة تتدلى منه، فتنشر حوله هالة من الأنس والذوق. وكان يتساوى في هذا الذوق، الكوخ والقصر، فالحضارة لا تقف دونها المادة، فهي ثقافة وتهذيب.

وعند ظهر اليوم التالي كان القطار في «محطة ليون» العظيمة، وهي تعج بالقطر الكثيرة والخطوط المختلفة، فتبدو كالشرايين المتشابكة، وقد أُرْتِجَ على سليم لهول المنظر فما كانت عيناه تدري أين تستقر وعلى أي اسم من أسماء المدن تقف، وكان مشهد الدخان المتصاعد من كل مكان، والصافرات الداوية من هنا وهناك، ومئات المسافرين والقادمين، وباعة الصحف والشكولا كلاسه وغيرها كله مما يزيد في رهبة المشهد، لا سيما وأن سليمًا المسكين قادم حديثًا من بيروت ومن أحد أحيائها المتواضعة. وكانت عينا سليم تتفحص وجوه الناس ليرى وجه صديقه وابن بلده أمين، الذي كان له كخشبة الإنقاذ؛ لأن سليمًا أحس في هذه الساعة كأنه غريق في لجة هذا البحر الصاخب. ولكن كانت نظراته في البحث عن رفيقه تذهب خائبة، غير أنه رغم الصدمة لم يحب أن يستسلم لليأس، فاعتمد على الله، ونادى أحد الحمالين الذي نقل له حقائبه إلى إحدى سيارات «التاكسي» بعد أن أعطى للسائق عنوان الفندق. تقدمت السيارة خلال المطر المنهمر تشق شوارع باريس العظيمة التي لا نهاية لها، وكانت الحركة الهائلة والفخامة الماثلة والاتساع الجليل تزيد من دقات قلب الفتى المسكين، الذي اعتراه الذهول بما كان يراه حوله، لا سيما وهو — كما قلنا — قادم من بلد صغير، فإذا به أمام مدينة باريس إحدى عواصم الدنيا العظيمة.

وها هي السيارة تقف أمام الفندق، ونظر سليم إلى ساعة التاكسي وأضاف إلى المبلغ بخشيشًا، وهي عادة متأصلة هناك ونقده المبلغ، ولكن السائق وهو من هؤلاء الفرنسيين الهرمين، التفت إليه قائلًا: «آلو مسيو، أين «البوربوار»؟» أي البخشيش. فأجابه سليم فورًا وكان متأثرًا بغياب صديقه: «أواه، لقد أعطيتك لتشرب وتأكل معًا، هيا!» ويبدو أن هذه النكتة قد أعجبت الفرنسي، وهو من الذين يتذوقونها، فضحك لها وتابع سيره مقهقهًا.

وفي صباح اليوم الثالث، إذا بالكرسون يعلمه أن في الصالون سيدًا يريده، وقدَّم بطاقته فإذا به صديقه مسيو «دورييه» الذي عاد من السفر، فهرع لاستقباله، وقد سُرَّ كلٌّ منهما بالآخر، ثم خرجا معًا للبحث عن غرفة للسكن مع عائلة؛ لأن الإقامة لطالب كسليم في فندق لا تتفق وفن الاقتصاد، لا سيما وهو يريد البقاء عدة سنوات، وكان مسيو «دورييه» وهو ابن باريس، خبيرًا في أحوال المدينة، لهذا قصد وإياه عائلة يعرفها الباريسي، حيث الهدوء والجو الملائم لطالب كسليم.

figure

وبعد أن تم الاتفاق واطمأن بال سليم من ناحية السكن، خرج ورفيقه ليتعرف إلى مكان الدرس والمراسم في حي «مونبرناس»، ثم أخذه إلى متاحف اللوفر الشهيرة المعروفة باسم «باله رويال»، وقد دهش سليم بما رأى من عظمة البناء وجمال الهندسة والحدائق المنظمة والأفنان المنمقة بالزهر والبرك المائية وأقواس النصر التي تتوسط هذه الحدائق، فتجمع إلى جمال الطبيعة جمال الفن وعبقرية الإنسان. وقد دفع الشوق سليمًا لزيارتها غير أن الوقت كان لا يسمح بالزيارة لانتهائه، لذلك أُرجئت الزيارة للغد، وقد بلغ منهما الجوع لكثرة التجوال في نواحي المدينة التي يبلغ كل شارع منها عدة كيلومترات، لذلك دخلا أحد المطاعم وأخذا طاولة، والمطاعم في باريس ككل شيء فيها على درجات، ومن له بعض الخبرة يمكنه أن يتناول وجبة طيبة بقيمة معتدلة، ثم تناول الصديق قائمة الطعام المحددة السعر، وأخذ يقرأ لصديقه، وبعد هنيهة أقبل الكرسون وسجل طلبهما، وما هو إلا بعض الوقت حتى جيء بالطعام، والجدير بالذكر أن المطعم مكتظ بالناس، ولكن الهدوء يكاد أن يكون كاملًا والنظام تامًّا.

وبعد أن انتهيا من الطعام صفَّق أحدهما للخادم الذي قدَّم الحساب، وخرجا من المطعم، وكان سليم مسرورًا من هذا الترتيب ومن جودة الطعام. خرجا من هناك وهدفهما حدائق «تويلري» القريبة، بعد أن مرا بشارع «ريفولي» واستعرضا مخازنه الزاخرة بأجمل البضائع والنفوته والمجوهرات وما إليها مما تفردت به باريس مدينة الأناقة والذوق. وفي نهاية الشارع بلغا قصور «تويلري» الفخمة المتناسقة التي بناها المهندس «ديلورم» في عهد فرانسوا الأول وهنري الثاني، ومن ثم دخلا الحدائق الفسيحة من قرب قوس النصر الذي بناه نابليون الأول، وسارا يتأملان جمال هذه الحدائق وحسن تنسيقها، وقد استقامت على شمالها قصور «اللوفر» ذات الفخامة والجلال. وكانا يمران أثناء تسيارهما بسيدات جلسن إلى أطفالهن، يشتغلن في الصوف أو يطالعن الكتب أو الصحف، ثم هناك الأولاد يُسبحون زوارقهم في البركة الواسعة، وبدت من هنا وهناك بين الأشجار الباسقة أو بين الأزهار اليانعة حسناء في عمر الزهر جلست إلى جانب فتاها يهمسان ويتمتعان بما جال في الخاطر من أناشيد الحب والصبا، ومنهما من يبحثان في مشاريع «كوبيدون» ويرسمان مواعيد لقاء.

إن الجميل في أمر باريس أنها تحوي كل شيء، فهي للتقي معبد، وللفنان متحف، وللأديب قصيدة، وللعالم مكتبة، وللفاسق مفجرة، وللسكير حانة، وللنهم الأكول مطبخ، إلى آخر القائمة، كلٌّ يجد فيها مبتغاه، ولكن كل ذلك في جو من الأنس والظرف والكياسة.

وكان الرفيقان أثناء مسيرهما يتأملان التماثيل الرائعة على اختلاف مواضيعها من نوابغ وعلماء وفنانين وشهداء، تسترعي كلها الانتباه لتحدِّث عن مجد أمة وجهاد شعب. وبينما كان الرفيقان يتنزهان في هذه الفسحة الحلوة، إذا بسليم يلتقي فجأة ووجهًا لوجه مع صديقه ومواطنه أمين، الذي كان في قديم الزمان كتب له سابقًا ليلقاه في المحطة ساعة وصوله وتخلَّف، فإذا به يهجم على سليم معانقًا وقد أغرقه بسيل من القبلات وبكمية عظيمة من الأشواق الشرقية، والعبارات القلبية، والأعذار الخنفشارية لعدم تمكنه من الحضور للمحطة، وقد دهش سليم لهذه المسرحية كما دهش رفيقه الأجنبي لهذا الغرام الجنوني المخيف الذي لفت أنظار المارة وكاد يعرقل السير؛ لأنه لا توجد في الغرب مثل هذه العادات، ولو علموا ما تخفيه تحتها من رياء لكرهوا بعدها العناق وملوا القبل وترحموا على «يوداص»، وبعد أن قدمه سليم لرفيقه وأخذ عنوانه، تركه على موعد جديد ليشم من خلاله — على حد قوله — رائحة الوطن، ثم ودعهم ورحل.

figure

وقد أحب مسيو «دورييه» أن يزيد في دهشة سليم بجمال مدينته الساحرة، فخرج به من الباب الذي يطل على ساحة «الكونكورد» الفسيحة وبركتها العجيبة، حيث يقيم في وسطها الأثر المصري «المسلة»، وقد دهش سليم أمام هذه الساحة حيث امتد بصره إلى ذلك الشارع اللامتناهي بالطول، ويسمى «شانزيلزه» الذاهب بخط مستقيم نحو ساحة النجمة وقوسها الضخم، حيث يرقد تحته قبر الجندي المجهول، وامتدت الأشجار أيضًا على طرفي الشارع الفسيح العظيم، فزادت في روائه وروعته، ثم التفت إلى الناحية الأخرى من الساحة فإذا ببناء روماني جليل يقف بعظمة وكبرياء، ذلك هو القصر المعروف «قصر البربون» هو الندوة النيابية بيت الأمة وحامي الدستور. ثم التفت للجهة المقابلة فشاهد بعيدًا بناء مماثلًا هو معبد «المدلين»، وفي الوسط قصور «مارنيون» ووزارة البحرية وفنادق الدرجة الأولى وغيرها. وقف سليم هنيهة وقد أُرْتِجَ عليه لهول ما رأى، وزاد في دهشته تلك الحركة العظيمة من سيارات ومارة ودنيا عظيمة من النشاط والحركة، ولكن رائدها النظام والطاعة، فكأن هناك حركة ولا حركة، وجماهير ولا ضجيج. ونظر الصديق إلى الساعة وقد داهم الوقت، وسليم لا يشعر بالوقت والزمن لشدة انجذابه بما حوله، وقد أحب رفيقه ابن باريس زيادة دهشته، فاقترح عليه العودة في «المترو»، وهو قطار كهربائي يسير تحت الأرض ويمر تحت نهر السين أحيانًا، وجميع جدرانه مغطاة بالصيني الأبيض اللماع، لذلك نزل به بضعة أمتار تحت الأرض ثم عرج به على شباك التذاكر، فأخذ تذكرتين استطاعا بهما اجتياز اللولب الحديدي أو الباب، وهو محكم الضبط، واستمر بعدها الرفيق في سيره نحو المجهول المظلم وسليم يتبعه وهو مسلوب اللب مأخوذ الفكر، وقد انقطعا عن الكلام متابعَيْن سيرهما في الدهاليز المغطاة جدرانها بالصيني أيضًا، وكانا طورًا يسيران يمينًا وطورًا يسارًا، والناس هناك في زحمة وهرولة، كلٌّ يأخذ ناحية، وأخيرًا شاهد سليم الخط الحديدي وبدا الطرف الآخر من المحطة حيث يغص بالناس الذين ينتظرون القطار الآتي بالهدف المعاكس، وبينما سليم يجول بنظره في وجوه القوم وهو مندهش بهذا العمل الهندسي الجبار والنظام العبقري، إذ به يرى شابًّا يقبِّل فتاته على مرأى من الناس دون أن يأبه لشيء ودون أن يهتم الناس بعمله.

figure

وبعد مضي برهة من الزمن قدم القطار وفتحت الأبواب بشكل أوتوماتيكي، فهرع الناس للدخول وأقفلت الأبواب بنفسها أيضًا، وكان مسيو «دورييه» يشير إلى سليم عن أسماء المحطات التي كان يمر بها، وعندما بلغ إحداها نزلا واتجه الصديق نحو يافطة كهربائية حمراء الضوء كتب «مبادلة» وذلك للاتجاه لخط آخر، وسليم يتبع رفيقه وكأنه في حلم، كيف لا، وهو يقدِّر المجهود العظيم والعبقرية الفذة التي تقوم بتحقيق أمثال هذه المشاريع الجبارة، بينما هو لا يرى في الشرق العربي غير كلام ودس وحقد وغرور ومحاربة للعاملين وسيطرة المشعوذين المضللين، فلا يأتون بعمل مفيد، ولا يدعون غيرهم يعمل، وعندما يأتي الأجنبي بمشاريعه ويقبضون عليها يسكتون إلى حين، ثم هم يبدءون بالشغب ليقبضوا من جديد. هذا هو عملهم وهذا أسلوبهم، والبلاد في تأخر وجمود بينما العالم يسير قدمًا نحو الرقي، وإذا جاء مستعمر قوي قاموا يتشدقون ويندبون، ناسين أن الدنيا هي للقوي العامل النشيط، وأن الجاهل الكسول لا حق له في الحياة، هذا هو ناموس هذه الدنيا منذ وجدت الدنيا.

ثم تقدم سليم ورفيقه واستقلا قطارًا آخر حملهما إلى الناحية التي يرغبان، فإذا هما قد قطعا مسافة عظيمة من المدينة الواسعة، وقد عرف ذلك من أسماء المحطات، وعند مخرج كل محطة توجد خارطة يستدل المسافر بها عن الاتجاه الذي يريده قبل النزول تحت الأرض، ولم يُخفِ سليم عن صديقه الدهشة التي اعترته والتي كادت تفقده رشده من كثرة ما رأى وبرم ولفت، فضحك رفيقه قائلًا: «سيكون العشاء هذا المساء حسنًا مكافأة على صبرك هذا اليوم، ولكن إياك أن تفكر بالنوم هذه الليلة قبل منتصف الليل، واعلم أنك في باريس، هي فرصة نادرة عليك أن تقتنصها فلا تقضِها في النوم والكسل، بل عليك الاستفادة من كل دقيقة تمر.»

كانت وجهتهما هذه الليلة هي حي «مونبرناس»، وهذا الحي هو ملتقى العالم بمختلف أممه وأجناسه وألوانه ولغاته وعقائده.

وقد أوصى الرفيق سليمًا أن يصطحب معه دفتره وقلمه؛ لأن الصيد هناك كثير، وعند الساعة الرابعة كان سليم ورفيقه في هذا الحي الشهير يحتلان مكانهما في إحدى مقاهيه الشهيرة وأعذبها «له كوبول» «والروتند» وغيرها كعبة الفن والمتعة والجمال، وكانت عينا سليم تجول كالزئبق في أنحاء المقهى الفخم الكبير تتأمل هذا وتنظر ذاك، وتكاد نظراته المتوقدة تلتهم كل ما تقع عليه من أناس وأشياء، إن روحه الفنية وجدت مقرها ولقيت تربتها، والمجال هنا؛ أي في باريس، رحب لمن يريد التقدم ويهوى العمل ويسعى وراء المعرفة. إن عند سليم ظمأً غريبًا لهذه المعرفة، ولذلك تراه حيثما كان يدرس ويبحث ويتأمل ثم يسجل، فلا تكاد تفوته مسألة، فهو شديد الملاحظة دائم الرقابة، لذلك ما كاد يستقر به المقام حتى تناول دفتره وراح يسجل ما كان يمر أمامه وبسرعة فائقة، فكانت بعض وجوه الموجودين هناك ممن لفتوا نظره تحتل مكانها في دفتره إلى الأبد، وكان الطعام قد حضر فناداه رفيقه لتناوله؛ لأنه أحس أن صاحبه قد نسي نفسه. ولندع الآن سليمًا يتكلم: المطعم هنا أنيق، سواء في الصحاف والشراشف وما إليها من كافة وسائل الخدمة؛ أي إن المظاهر كانت تغري وتجعل العين وكافة الحواس تتهيأ للاشتراك بالطعام، كما أن كل ما كان حولنا جميل مرح أنيق مهذب يحبب المرء بالاستمتاع بلذائذ الحياة، فلا ضجة ولا جلبة ولا صراخ ولا خصام ولا روائح كريهة ولا مشاهد مؤذية، كل ما حولك جميل بهيج، والسكوت يخيم على المكان الذي يعج بالناس، فكيف لا تكون هناك شهية للأكل؟ وقديمًا قيل: «العين تأكل قبل الفم.»

والذي يلفت النظر في هذا المقهى أنه معرض لأجناس البشر، فترى الإنكليزي جلست بقربه فرنسية تغازله وهو بقربها كلوح الثلج جامد كالمومياء، ثم الأميركي وبقربه زنجية تتقد نارًا وهو ينظر إليها باهتًا، وترى الفرنسي يتأبط ذراع فتاة صينية صفراء، والإيطالي يتحدث إلى ابنة مراكشية، وهلمَّ جرًّا.

قضينا في جبل «البرناس» موطن الأدباء والشعراء وأهل الفن، ساعات هي من أحلى أيام العمر، وعدنا عند منتصف الليل كلٌّ إلى داره، وكنت أنا أهجس طول ليلي بما رأيت من الأمور الملاح والأشياء العذاب وما عساي سألقاه في غدي برفقة الصديق، وهو الخبير بأسرار باريس ومخبآتها، وهو كان يهيئ المنهاج سلفًا، لذلك قال لي قبل أن يتركني: «إنني أخبئ لك مفاجأة تنسيك «مونبرناس» وروعته.» «ماذا تقول؟ وهل يوجد بعدُ أروع من مونبرناس؟» «أجل يا عزيزي، إنك في باريس، نعم في باريس.»

وفي الغد مساءً جاءني وقال: «هيا بنا.» وكانت الساعة التاسعة عندما كنا نقف أمام مدخل مسرح «فولي برجير» ثم أخذنا مقاعدنا، وكان المكان غاصًّا بالجماهير، ولكنه كالعادة هدوء وسكون ونظام، وفي الوقت المحدد ارتفع الستار على أنغام الموسيقى، تلك الموسيقى المرحة الراقصة التي تدفع في النفس البهجة والحب والحياة، فتشعرك أن الدنيا جميلة ساحرة، وأنها ملك لك، وأنك يجب أن تنعم بها وتتلذذ بجمالها، وأن تسعد ما أمكنتك السعادة، لا أن تحزن وتبكي وتموت.

الخلاصة، ارتفع الستار، فإذا بنا نرى عجبًا، باقة عظيمة من الزهر تملأ المسرح لونًا وجمالًا، ثم أخذت تتفتح رويدًا رويدًا عن أضواء الفجر بزهرات مصغرة بتدرج ونعومة، كأنوار الفجر تمامًا، ثم ألوان جديدة زادتها روعة وارتعاشًا، ولكن هذه الزهرة العظيمة التي ملأت باحة المسرح وتلك الأزهار الأخرى التي تفرقت عنها، ليست في الحقيقة سوى باقات رائعة من ألحان انتظمت إلى بعضها بفن وانسجام يسحر الألباب.

وبالطبع فإن الناظر إليَّ في تلك اللحظة كان يرى الدهشة مرتسمة كلها على وجهي، وهنا يحسن القول: «ليس من سمع كمن رأى، وليس الخبر كالعيان.»

يالله من روعة الفن ومن قوة سحره! تاج عظيم مرصَّع بشتى الألوان المنسجمة، يطفو عليها عطر غريب وغشاء بهي، ليس هو من نتاج هذه الدنيا، ولا هو من جواهرها وورودها المعروفة، إذن ما هذا الذي نرى؟ وما هذا الماس العجيب؟ وما هذه اليواقيت الغريبة؟ بل، ما هذا النور المتلألئ المتحرك على هذا التاج السحري؟ ولكن لم يلبث بعد هنيهة أن انقشع السر العجيب عندما أشرقت علينا الشمس بوهجها الذهبي وسنائها السحري، عندما انبثق من قلب هذا التاج حسناء شقراء كالذهب الخالص تحمل بيديها، وهي شبه عارية، الكرة والصولجان، ومن حولها انتشرت الحسان بأوضاع رائعة من الجمال، وكلهن شبه عاريات، يمثلن الرعية التي تقدم خضوعها واحترامها لتلك التي تجلس على سدة الملك؛ ملك لويس الرابع عشر «ملك الشمس» العظيم كما كان يدعى يومذاك، ثم أخذت تنفخ من هنا وهناك الأبواق وتخفق من حولها الرايات وتنثر الزهور والعطور.

هكذا كانت تتوالى علينا المشاهد، وتتقلب اللوحات الحية، وكل واحدة منها أشد روعة من سابقاتها من حيث الجمال والسحر والفتنة، ومن حيث الفن والإبداع والأسلوب، ومن حيث التأثير، ولكن جميعها تنضح بالحب والأنس والفتنة، ولا ريب أنني كنت في هذه الساعة من عام ١٩٣٥ في دنيا غير التي كنت أعرفها في بيروت عام ١٩٢٣ وما قبلها.

figure

وقد أحب صاحبي مداعبتي بعد ما ظهر عليَّ من الدهشة والإعجاب، فقال: «كيف رأيت، هنا أجمل أم بيروت؟ ومتى تريد العودة؟» فمددت يدي إلى جيبي، فضحك وسكت عن الكلام المباح.

وفي الغداة كنا أمام قصور «اللوفر» أي المتاحف الشهيرة، وكنا طبعًا في طليعة الزائرين، وفي الوقت المعين فُتح الباب، فإذا بتمثال «فكتوار دوسومطرا» يقف على رأس الدرج العظيم يستقبل الزائرين بلهفة، وكأنه يكاد يطير بأجنحته الرخامية.

ثم بدأنا نمر في المقاصير الكثيرة الواحدة تلو الأخرى، حيث لوحات المدرسة الفرنسية الأولى في القرن الثامن عشر، ويظهر في الطليعة «لونان وده شامبان ولوران وغيرهم».

ثم بعدهم بوشه وفراغونار وكروزوبرودن وشاردن وغيرهم، ثم وصلنا إلى زعماء المدرسة التأثيرية وفي مقدمتهم «مونه ومانه وبيزارو ورينوار وديغاس» وغيرهم كثير.

ثم عدنا إلى المدرسة الإيطالية للنهضة فرأينا عجبًا في تحف زعيمهم ليونارده فنسي، ثم روفائيل وتيسيان وكوريج وفيرونيز وكويدريني ودللاميسنا وبروجينو وماساتشو وكثير غيرهم، ثم نصل إلى المدرسة الهولاندية أو الفلمنكية، فيبرز لنا في الطليعة نابغة الفن التصويري «رامبرنت»، وفرانس هالس وروبنس وفانديك وغيرهم من نوابغ هذه المدرسة التي يلعب الظل والنور في أرجائها، والدقة والبحث في أجزائها، وها هي المدرسة الإسبانية، حيث يطالعنا زعيمها «فيلاسكيز» ثم موريللو وغويا وغريكو وريبيره إلخ. ثم ندخل إلى الصالون الكبير حيث لوحات كبار نوابغ المدرسة الفرنسية للفن في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ويأتينا في المقدمة «ده لا كروا وقوربيه وأنكر وجيريكو ومونه». ثم نرتد إلى الصالون الآخر حيث أعلام نفس المدرسة الفرنسية لعصر الأمبير وعهد نابليون، وتظهر علينا لوحة «تتويج نابليون» لزعيم المدرسة «دافيد» ثم مدام ريكاميه «لدافيد» أيضًا ثم «له كرو» بلوحاته الحربية التي تمثل عظمة بونابرت وأمجاده، التي خلدها له الفن باللون والرخام والعمارة والكتاب، فإذا بهذا العبقري والزعيم الحكيم يعرف كيف يفرض نفسه على التاريخ والخلود.

وقبل أن نهبط للطابق حيث الفن القديم من إغريقي ومصري وروماني وآشوري وفنيقي وعربي، مررنا بغرفة الجواهر المتلألئة، وصولجان نابليون، وتيجان ملوك فرنسا العظام، ثم ماسة عظيمة قدر بيضة الدجاجة، ثم سيف وساعة سلطان مراكش، وكلها مرصعة بالماس والجواهر الثمينة وهي من الذهب الخالص، وهناك غيرها من الآثار الملكية، ولكن هذه لم توحِ لنا سوى المادة العابرة فحسب، بينما التحف الفكرية التي استعرضناها أولًا هي من جواهر الفكر، تلمع بأنوار العبقرية الإنسانية، فأفدنا منها الشيء الكثير.

وها هي آثار المصريين تطلع علينا من تماثيل طيور وحيوانات ووجوه بشرية منها «الكاتب» الشهير ثم تماثيل كبيرة، فإذا هي حقًّا تتحدث عن عبقرية القوم وفي إدراكهم كنه الطبيعة والأشياء، فأبرزها لنا الفنان المصري القديم بأجمل شكل وأبسط أسلوب وأروع طراز، لا سيما البساطة التي بلغها، فهي ميزة لم يجارِه فيها أحد. ولهذا نجد أن الفنانين المحدثين ينقلون عنه هذه البساطة، ثم يدَّعون أنهم أتونا بالجديد المبتكر وقد مررنا بقسم الفن الروماني وشاهدنا الحلي من قروط وأساور وعقود وغيرها، وأعجبنا بالدقة والابتكار وقد بصرنا بعض الصياغ الباريسيين ينقلون عنها هناك ليضعوا للعالم الحديث حليًّا ويطلقون عليها: آخر ما ابتكره الفن الحديث، ثم بلغنا القسم الخاص بالفن الآشوري، وتأملنا النمر الجريح والثور المجنح، وأخذنا نعجب بروعته وتأثرنا لإهمال الشرق اليوم للفنون وغيرها من ألون الفكر للتلهي بقشور السياسة، فتأخرت فنونه بعد أن كان في الطليعة.

بعد أن مُلئنا إعجابًا بهذا الفن العظيم، نزلنا إلى الطابق الأسفل، حيث بدا لنا في الصدر تمثال «فينوس دوميلو» آلهة الجمال تقف بقامتها السامقة وحركتها الجميلة ورصانتها الساحرة.

وكنا نرى على الجانبين معروضات كثيرة من الفن الإغريقي والروماني، كتمثال «النيل» رجل جليل منبطح وهو يتكئ على آنية يتفجر منها الماء، وعلى جوانبه النبات والفاكهة دليل الخصب والثروة، ثم أطفال تحيط به رمز لفروع النيل العظيم، وهنا ضرب جرس المتحف إيذانًا بالخروج.

ما كدنا نترك المكان حتى شعرنا بالتعب الشديد، بينما قبل دقائق ما كنا نشعر بشيء منه؛ لأن سحر الفن كان يحوطنا، لذلك سرنا على مهل بين حدائق «الشانزليزه» الفخمة لنقف أمام محطة الأتوبيس «أو آب» لينقلنا إلى شارعنا العزيز، حيث المطعم المتواضع، ولكنه نظيف يعد ألذ المآكل وفي رأسها «الاسكلوب السمين» أي العجل اللذيذ الذي طعمه والغريبة سواء بسواء، وها هي الآنسة مارغريت تستقبلنا بابتسامتها الرقيقة التي تأتي بالشهية من آخر الدنيا، وتفتح القلب والنفس والروح وكافة الجوارح، فتقبل على هذا «الاسكلوب» بشهية عجيبة ومخيفة أكثر الأحيان.

لقد صدق ذلك الفيلسوف يوم قال: «الابتسامة أعظم فلسفة» فما معنى الحياة بدونها؟ وما معنى الزهر والريحان والنهر والشجر والظل والثمر بدون ذاك السحر العجيب الذي يسمونه: ابتسامة؟

أجل، استقبلتنا مارغريت اللطيفة بابتسامتها، فإذا المكان يشع بالأنس والمحبة، وتطفو على الطاولات والصحون وما حول الطاولات، بل يشع الأنس على العالم بأجمعه، لله درك أيها الفيلسوف الإغريقي! يا ليتك قلت هذه الآية في اللغة العربية، لكان تبدل الحال وتغير وجه التاريخ!

وما كدنا نأخذ أماكننا حتى كان كل شيء قد حضر، «سرفيس» تام ونظافة أتم، ولكن لعمري ما ألذ قطع الخبز، هذا الخبز الرفيع الطويل ذو اللون الذهبي، الذي يزاحم بلونه الذهبي الجميل شعر مارغريت المنسدل على كتفيها، انسدال شاغور حمانا أو نهر العسل.

إننا هنا نغوص ببحر من الشقرة المحببة، فالآنسة شقراء، واللحمة شقراء، والخبز أشقر، فالحمد لله على نعمته الشقراء.

انتهينا من تناول الحساء، ثم حضر طبق اللحم العجلي، فانبعثت منه رائحة تملأ جوارح النفس، قابلية ولذة، وبقربه البطاطة الفرنسية المحمرة، ومتى قلنا بطاطة، قلنا فرنسا، كما نقول إيطاليا يعني معكرونة، ولبنان يعني كبَّة، ولا بأس بذلك لأن الطهي فن، وهو يدل على الذوق أيضًا، حقًّا إن لكل شيء جماله، فنحن لا نزال نسبح في بحرين من الجمال، حدائق «الشانزليزه» وروائع الفن في اللوفر، إلى جمال شوارع باريس، ومن يسير فيها من الحسان، إلى المطعم الذي يقدم لنا ألذ وأطيب المأكولات وأنظفها، ثم أولًا وأخيرًا الجمال والأنس والكمال.

آه من ذلك الشاعر الذي يقول:

ما العمر إلا ليلة
كان الصباح لها جبينه!

تالله لقد نطق بالحق، إن الحياة لفن كل الفن، أما أن يعدد المرء أيامًا ويقبض راتبًا فهي فلسفة الأغبياء.

إن الحياة كما قال بعض العقلاء، تحسب في عمقها وليست في طولها، أجل ألف مرة أجل! أعطني عشر سنين أعيش بها سعيدًا في مثل هذا الجو الزاخر في ألوان الجمال والمعنى حتى في الطعام، وخذ بدلها عشرين؛ إذ لا معنى لتلك السنين العجاف، يقضيها المرء في قيل وقال، وشقشقة لسان، وطعام ثقيل، وفكر خامل، ودَس لئيم.

بالله! ما معنى هذه الحياة الرتيبة المملة القائمة على الرياء والكبت والملق؟ وما معنى هذه الحياة التي يدور محورها على صغائر الأمور من طعام ممرغ بالوحل، وبيع للنفس والكرامة، وتمريغ للوجوه على الأعتاب، والتملق صباح مساء لمن تعتقد بدناءتهم وكذبهم وضلالهم؟ بل، ما معنى تلك الحياة التي تقوم على لقمة خبز وإغفاءة عين وبيع وكرامة؟

إن الحياة الحقة، هي حياة الفكر أولًا وحياة الروح والتمتع بأوسع ما يمكن من الحرية الشخصية والاحترام المتبادل، إن الحياة هي كتاب وزهرة ولوحة حب خالص، هذا هو الإنسان وهذه حياته، وما تبقى فحيوانية لا تعرفها النفوس الكبيرة.

الخلاصة: إن مواطني وصديقي العزيز، قد عاد وتذكَّرني، فتَلْفَنَ لي كي أوافيه في مقهى «كابولاد»٢ ولم أشأ أن أرفض طلبه حبًّا بالوفاء والقومية، فاعتذرت من رفيقي مسيو «دورييه»، وذهبت لمقابلته، فوجدته برفقة بعض أبناء العرب البيروتيين، فسلمنا وبثثنا الأشواق وحار العواطف، وما إليها من المنتجات العربية وهي كثيرة عندنا ولله الحمد، وكانوا يلعبون النرد ويتحدثون، وكان صراخهم يملأ المقهى وإشارات أيديهم تظهر عن بعد، وكان منهم من يناقش في السياسة فينرفز ويزعق ويثور، وذاك قد خسر «البرتيتة» فيغضب ويعربد، وكانت هذه الزاوية من المقهى المكان الوحيد الذي تعلو منه هذه الضجة، ويثار النقاش، ولذلك لا يصعب على أحدنا أن يعرف حالًا أن هؤلاء من أبناء قحطان الأشاوس.
figure

سلام وكلام وبث لوعج الأشواق، ثم عودة إلى النرد ثم الصراخ، وبعد مدة سئمت وبدت لي الحالة مزعجة كأغنية الشيطان ليس لها نهاية، وقد ضاق صدري وشعرت بالفرق العظيم بين الحياة الأولى، اتنقل بها من متحف لآخر، ومن أوبرا لمسرح، ومن حديقة لمكتبة، وكانت المعرفة تأتيني من كل صوب، أما هنا فأحسست كأنني عدت إلى موطني الأول، ثم خسارة الوقت وتلاشي الأعصاب، ولذلك استأذنت وانصرفت وقد أخذت طريقي نحو حديقة «اللكسمبرج» القريبة من المقهى، حيث وجدت في الحديقة العائلات تسرح وتتنزه، وحيث الزهور تملأ جوانب المكان تقطعها بعض البرك الجميلة، يلعب بقربها الأولاد، وهناك أكوام من الرمل أعدت ليلعب بها الأطفال وبقربهم أمهاتهم اللواتي يرعينهم ويعملن في شَغل الصوف، وهناك بعض الناس مدوا أيديهم ببعض الحَب الذي يباع هناك، فتأتي العصافير وتتناول الحب منها دون خوف؛ لأن روح الأذى والضرر للطير والحيوان أو الزهر ليست معروفة هناك، فلا أحد يفكر بأن يقطف زهرة عن غصنها أو يقتل عصفورًا، أو يؤذي حيوانًا، لقد نشأ القوم على حب الزهرة والحيوان وصداقة الطير، وهذا من تأثير الثقافة الفنية والمدنية الصحيحة التي يدور محورها على الجمال، وهذه من لب الجمال، فلا هو يقتل عصفورًا يغرد على شجرة، ومن أحب الجمال فلا يستطيع أن يؤذي حيوانًا أو يشوه زهرة.

figure

وهكذا ترى أن هذه الروح منتشرة في الغرب بشكل واضح، لذلك ترى كل شيء جميلًا لطيفًا نظيفًا، وهذه التربية في الشعب تساعد الحكومات في رسالتها التمدينية ونهضتها العمرانية، بينما نرى في الشرق العربي جهل الشعب لروح الجمال، وفقده للتربية الجمالية هذه يعرقل، بل يقف سدًّا منيعًا في طريق الحكومات فيه، فنرى مثلًا أن بلدية بيروت أنشأت حديقة، فإذا بالرواد يقطفون الأزهار ويشوهونها، ويكسرون المقاعد، ووضعت سلالًا من حديد للفضلات، رأينا أفراد هذا الشعب يبادر لكسرها، حتى إن السلاسل الحديدية التي وضعتها مصلحة السير في المدينة قد كسروها، أما الأشجار التي تنصبها البلديات في المدينة أم في قرى الاصطياف فكثيرًا ما يحطمونها حبًّا بالأذى، لذلك أرى أنه يجب أن يبدأ بالتربية الجمالية مع سَن قوانين شديدة تطبق بقوة، حتى يصبح عند الشعب روح المحافظة على هذه الأشياء، والشعور بأنها له ومنه ولمصلحته، فيحبها ويغار عليها.

وبينما أنا في نزهتي في هذه الحديقة الجميلة رأيت بناء ضخمًا جميلًا، خصص لعرض الصور والتماثيل الحديثة، وهو يحمل اسم الحديقة «متحف اللكسمبرغ»، فقصدته وكانت الجماهير تملأ ردهاته تتأمل روائع الفن الحديث، وتتثقف بأسلوبه الجديد، وتتبع الحركة الفنية وتطورها، لذلك فالجماهير هناك تفهم ما يجري في عالم الفن من حركات وما يحدث فيه من أدوار ومناقشات، فليس هو يعيش على هامش الحياة الفكرية، يدفن في مهنته ويموت في عمله اليومي، كلا، فهو إلى جانب أشغاله الخاصة دائم الاتصال في ما يحصل في الحياة من شتى الأمور والتطورات.

والمتاحف في الغرب هي كالمكاتب العامة، لها أثرها ولها اعتبارها عند مجموع الشعب، فهو يُقبل عليها بلذة؛ لأن له من ثقافته الصحيحة ما يؤهله لتذوق ما فيها، فيصقل معلوماته الأولية التي لا تنفصل بانفصاله عن المدرسة، ففي الغرب يظل الإنسان تلميذًا في الحياة، كما قال لي أحد رواد بعض المكاتب العامة في يوم شتاء عاصف وكان رجلًا هرمًا.

إن الحكومات الأوروبية تعرف واجبها أمام شعوبها وتقدر مسئوليتها نحو من ائتمنها على إدارة شئونه، فهي تخلص له وتمنحه الود، وتسعى جهدها لتقدم له ما ينفعه في حياته، لتخلق من كل فرد من أفراده رجلًا اجتماعيًّا صالحًا، فيؤلف بالتالي مجتمعًا صالحًا.

وكم كان يؤلمني وأنا أشاهد كل ذلك ثم ألتفت نحو بلادي فأرى العكس، حيث الإهمال وتشجيع الفوضى ونشر الجهل والمحسوبية وإفساد الأخلاق وتبذير الأموال على أهل الشر والمفسدين، ثم تبعد فوق ذلك أصحاب الكفاءات والمواهب، وتنظر في كافة أعمالها بمنظار الطائفية والرجعية البغيضة والعائلية الضيقة. وها هو أحد الأصدقاء يناديني قائلًا: «ما لك سارح مهموم وأنت في قلب الجنة؟» أجبته: «أفكر في حالة بلادي.» أجاب: «ولكن ما الفائدة من كل ذلك؟ ولماذا التحرق والألم؟ فهذا هو الشرق ولن يصلحه سوى رجل قوي صارم، فأين هو؟ وهل سيدعونه يظهر؟! دعك من كل هذا ومن البكاء والنحيب ومن توجيه اللوم والانتقاد لبلادك، دعك من المثل العليا ومن الشِّعر والخيال، اسرح وامرح، تعالَ الآن ندخل المتحف، إن الوقت ضاق ويجب إلقاء نظرة سريعة على هذه اللوحات التي تنادينا، هذه لوحة «الفتاة تستحم» لبول شاه باس، وهي تمثل الحياء والطهارة، وتمثل ألوانها وظلالها جرأة وتجددًا بالنسبة لزمنها، وهذه لوحة «درس الموسيقى» طفلة تلعب على البيانو وبجانبها الأستاذ العجوز يصغي، إن قوة التعبير واضحة فيها، وكذلك الألوان وهي تمثل جوًّا موفقًا فيه حب العمل وفيه الوداعة وفيه الهدوء.

وهذه صورة «نحو المجهول» مركب صيد فيه بحارة نورمنديون يتقدمون بزورقهم بجو تتأهب فيه العاصفة للثورة، إنها لوحة قوية بلونها الأسحم الرصين، ثم بتعبيرها الذي يمثل قوة الإرادة في مجابهة الأخطار في سبيل الحياة والعيش والواجب.

وهذا قسم الفن الحديث المتطور وأخصه التنقيطي، أمامنا منه لوحة للفنان «سينياك» منظر على نهر السين، فيه جو وفيه مرح وفيه لون يشع في الغرفة كلها، وهذه لوحة ثانية للفنان هنري «مارتن» من المدرسة نفسها، منظر طبيعي حيث أضواء الشمس تشع في كافة جوانبه، وهذه لوحة من الفنان «سورا» تمثل «السرك»، فيها كثير من الابتكار والتجدد والزخرفة والجرأة.»

figure

خرجنا من هذه الزيارة الممتعة وقد أفدنا من الطبيعة أولًا، ثم من الفن، ودَّعني صديقي وانصرف.

انتهت الامتحانات ونال سليم الدبلوم بامتياز، وقد ابتهجت رفيقته في المدرسة بهذا النجاح، لذلك دعته لتناول العشاء مع أهلها، حيث استقبل بكل إعجاب لما كانت تحدثهم فتاتهم عن مقدرته وحسن سلوكه، وأنه صورة عن الشرق العربي الذي طالما قرءوا عنه في الأساطير، وقد أمضى بين هذه العائلة ليلة جميلة، محاطًا بالعطف والتكريم، دل فيها عما كانت أخبرتهم عنه فتاتهم من رقة وبساطة وكياسة، وقد اغتنم سليم الفرصة وطلب من والد الفتاة أن يعمل له صورته، وقد جاءت موفقة ونالت إعجابهم جميعًا، كما دلت عن ذوقه السليم، وكانت الفتاة أشدهم إعجابًا وسرورًا بصديقها لهذه الهدية الفنية الرفيعة.

وعلم سليم أن الأوبرا تقوم بتمثيل مسرحية شهيرة، فطلب من والد الفتاة السماح لها بمرافقته، وهناك أمضيا سهرة من أجمل الليالي في جو من الفن والعاطفة، وكانت الفتاة لا تفتر في كل مناسبة تمر من إظهار إعجابها بالصديق ومرافقته إلى بعض الحفلات الساهرة بعد أن لمست منه المودة والإخلاص.

وكان لهذه الصداقة مع رفيقة المدرسة أثرها في ثقافة وبلورة مواهب هذا الشاب، فكان كثيرًا ما يخرج برفقتها، وأحيانًا يصحبهما صديقه المسيو «دورييه» إلى المتاحف ومسارح التمثيل والموسيقى والحفلات، ويتبادلون الآراء الفنية والأدبية مما ساعد سليمًا على استكمال ثقافته وتطوره.

figure

ولم ينسَ سليم أن يعمل قبل سفره لصديقه مسيو «دورييه» صورته، واضعًا فيها كل ما يحس في نفسه نحوه من تقدير وعرفان جميل، فجاءت آية من آيات الفن امتازت بالعاطفة والمعاني النفسية وعرفان الجميل.

لقد أدرك سليم أن ليس للفن نهاية، وأنه بحر عظيم، فهو قد أتم دروسه ونال شهادته، وقد عرض عليه أستاذه مشاركته في العمل، وبدأ يشق طريقه في الحياة، لا سيما والمجال هنا في الغرب رحب لأمثاله، ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي الإنسان، ذلك أن برقية وصلت إليه من أهله أقضت مضجعه، وعكرت صفو آماله، وبعد أن كان يعمل مع أستاذه بحماس عجيب، وهمة فائقة، إذ به مضطرب البال، شارد الفكر، وقد بدأت تظهر عليه حالات القلق وعلى وجهه الشحوب، وقد فارقه هذا الابتسام والمرح الذي كان يلازمه ويكسبه تلك العذوبة.

ظل مدة على هذا الحال ولازم غرفته ولم يخرج منها إلا في القليل النادر، بعد أن تلقى من ساعي البريد برقية أهله.

وقد شق ذلك على أصدقائه وهم لا يعرفون سبب هذا التغير المفاجئ، وقد حاولوا أكثر من مرة الكشف عن هذا السر الدفين فلم يفلحوا.

وهنا لا يسعنا إلا أن نقف قليلًا مع أصحابه نستطلع سر هذا التبدل العجيب في هذا الشاب الذي كان لوقت قريب جدًّا يمرح وتملأ البهجة نفسه، ونحاول على قدر المستطاع الوقوف على دخيلته لنعلم أسباب هذا الانقباض وعلة هذا الشحوب، تُرى هل أصابه ضر، أم هل داهمته علة، أم ماذا؟

وبالطبع، كان في طليعة من أقلقه حال سليم صديقته «مارغو» لما بينهما من صداقة وود، فجاءته يومًا وطلبت إليه القيام بنزهة في الحديقة القريبة، حيث تعوَّدا أن يلجآ إليها الحين بعد الحين، وقد حاولت أثناء النزهة أن تعرف سر هذا الأمر الذي استعصى على الجميع، وما زالت به تسأله أن يبوح لها عما في نفسه من ألم، أو عما يشكوه من علة حتى تساعده في التخفيف عنه، وكان طيلة الوقت مطرقًا برأسه إلى الأرض، لا يبدي ولا يعيد، إلى أن خرج عن صمته الطويل بعد إلحاحها الشديد وتوسلها المؤثر، فقدَّم لها البرقية التي تسلَّمها من أهله، تعلن عن مرض أمه الشديد وترجوه الحضور بسرعة، ثم كشف لها عن حكايته، وأطلعها على موقفه الحرج من قضاياه المعقدة، مرض أمه، رسالته الفنية لبلاده، وما ينتظره هناك من مستقبل قاتم، ثم وأخيرًا.

إن هذا الفتى الذي أقام مدة طويلة في بلاد الغرب، واطلع على ما هو عليه من رقي وتقدم، وما يحفل به من عمران، وما يسوده من نظام، وما في جوه من حرية وصراحة، وما ينعم به الفرد من تحرر ويتمتع به من حقوق لا تتأثر بالزعامات والعصبيات والطائفية والمحسوبية، وما إليها من العلل التي يتألم منها الشرق العربي، وتنخر في صميم كيانه وتعيق من تقدمه ونهضته، ثم فكر سليم في وضعه كفنان في بيئته وما ينتظره هناك من عقبات، فكر سليم في هذا ثم فكر في أهله ووالدته العجوز التي تكتب له باستمرار تنتظر عودته بحرارة، وهو يعرف تمامًا ما ينطوي عليه قلبها من حب وحنان، وهي اليوم تعاني المرض، وهو في خوف عليها، لا سيما أنه لم يفقد شرقيته، ثم فكر أيضًا في واجبه نحو وطنه الجميل الذي يدعوه للعمل، هذا الوطن الذي له عليه حق الوفاء وهو بحاجة للفن، ثم جاء أخيرًا، وهو المهم، وهنا تلعثم لسان سليم، وساد صمت مؤثر.

ولكن «مارغو» تشجعت وقطعت هذا السكون المؤلم بأن مرت بيدها برفق على شعر سليم الأسود المتجعد قائلة: «تشجع يا عزيزي ولا تحزن، أجل إن في موقفك لحراجة قاسية، وأعلم أن حبنا لا تحده الأبعاد ولا تقف دونه المسافات، وسأحافظ بأمانة على صداقتنا، وسأذكرك كلما نظرت إلى آثار ريشتك في صورة والدي، إنني أقدر موقفك وأشعر معك، فالفن كان دومًا أشد من الحب، إني أرجو لك النجاح في رسالتك في وطنك الجميل.»

وهكذا فإن سليمًا الشاب المثالي، الذي لا يزال يتمسك بتقاليد بلاده الأولى، قدم برهانًا جديدًا عن مثالية عالية، إذ إنه ضحى بقلبه في سبيل أمه وفنه ووطنه.

وأخيرًا عقد العزم على العودة إلى الوطن إلى بيروت، بل إلى أحد أحيائها الغاصة بالسكان ذات البيوت المشوشة التي لا يُعرف لها لون من ألوان الهندسة، هي بنت الفوضى، كلٌّ يبني على هواه، فلا تخطيط ولا تصاميم ولا بلدية تراقب ولا من يحزنون، ولقد صدق من قال: «إن الهندسة تمثل عقلية أصحابها.» ومن يعود من جو أوروبي ويشاهد الانسجام في البناء والنظام بين أجزائه والوحدة في طرازه، يسهل عليه أن يدرك سبب التأخر الشديد والفوضى الضاربة في محيطنا العجيب.

وصل سليم إلى بيروت، وقصد توًّا إلى داره وشاهد أمه وأهله واطمأن على أنهم بخير كما تركهم تمامًا فلا تقدم ولا تغير، فالتطور دليل الحياة.

وفي الصباح الباكر سمع صراخًا يتعالى من عند الجيران، فتذكر جاره العزيز معروفًا، وقد عرف من الأهل أن معروفًا أصبح من زعماء المحلة، وأنه بنى طابقًا رابعًا جديدًا في الدار التي اشتراها في السنة الماضية، وأصبح عنده سيارة خصوصية، يزوره كبار الحكام، وأصحاب المصالح يخطبون وده، ويلتمسون مساعدته في أيام الانتخابات، فهو ممن يشار إليه بالبنان في هذه الأزمان، وعلم سليم أن لجاره مكتبًا، ولما سأل عن نوع الأعمال التي يتعاطاها مكتبه الكريم، ومعروف كما هو معروف رجل أمي، كان الجواب علامات استفهام مرفوقة بقلب الشفة السفلى! وقد أدرك سليم أن التهريب على أنواعه، هو اختصاص هذا المكتب المحترم.

صبيحة ذات يوم، عندما كان سليم خارجًا من داره إذا به يرى سيارة فخمة تقف أمام الزاروب، وينزل منها أحد الوزراء في الحكومة الجديدة، فوقعت العين على العين فابتسم معاليه لسليم، وهو أحد أبناء المحلة ويعرفه تمامًا، فبادله سليم الابتسامة وحياه بأدب، وقد اعترى صاحب المعالي بعض الارتباك لهذه المصادفة غير المنتظرة، فمعاليه لم يأتِ لزيارة شاب مثقف ترك في ديار الغرب اسمًا عطرًا وصيتًا حسنًا لبلاده، إنما هو يأتي الآن لزيارة من خرج حديثًا من السجن، ولماذا؟ لسرقة موصوفة!

لقد احمر وجه معاليه، نوعًا فانحنى سليم محييًا وملقيًا بنظرة نحو باب معروف، ثم تابع كل منهما طريقه، إن سليمًا لم يتأثر لهذا الحادث، فهو الرجل الذي ابتلته الأيام بالمصائب الكثيرة، وعلمته طبائع أهل هذه البلاد وحوادثهم وعقليتهم، ومتى عرف السبب بطل العجب، والعاقل له من معرفته سلوى تخفف عنه قسوة الأحداث ومرارة الفواجع، فسار في سبيله يستعرض في خياله وبسرعة تاريخ العلماء والأدباء وأصحاب المواهب الذين قدر لهم أن ينشئوا في هذه البلاد، فكان محصول ما بدا له مما لاقاه هؤلاء في حياتهم من بؤس وشقاء وجحود ومشاكسة خير عزاء وأجلَّ سلوى، ثم تذكر جملة كان قرأها: «الشرق مقبرة العلماء وجهنم المفكرين.»

وكانت تبدو على وجهه رغم كل ذلك، بعض المرارة والألم، فهو يرى بأن العلم الحق، والأدب الحق، والفن الحق، لا يعرف التهريج ولا يحسن التدجيل، بينما يرى أن البلاد لا تؤمن إلا بمن ارتدى ثياب المشعوذين، وأتقن أسلوب أهل الدجل وبرع في فن الكذب والخداع وكان في أعماله مثال الخيانة، فإذا بهذا الشعب المخدوع المتسكع في ضلال العبودية يمرغ وجهه على أعتاب من باعه ويلثم اليد التي لطمته وأذلته، فلا عجب فهو كما قال شاعره:

لا تلمه عشق الذل قديمًا فهو في الذل عريق …

لا ريب في أن سليمًا ما كان ليستطيع الانفلات من المقارنة بين روح الشعب الذي عرفه في أوروبا، وما هو عليه من وعي وجرأة وصراحة ونظام، وبين هذا الشعب المخذول المقسم الذي يديره بعضهم طورًا بالطائفية، وحينًا بالمذهبية، وحينًا بالحزبية الشخصية والعائلية الضيقة، فهو لا يفهم أين حقه وأين مصلحته ولا يدرك أنه هو عماد البلاد وأن على أكتافه تقوم هذه الطواويس، وهو لم يعرف يومًا ما قاله الشاعر:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر

هو عبد، أنفه أبدًا في التراب، يردد دومًا: شو منعمل؟ ماشي الحال.

ومعلوم أن من نشأ وعاش زمنًا بين أمة راقية تفهم حقها في الحياة التي لا بد له أن يتأثر ببعض مزاياها، فالإنسان مقتبس بالفطرة، لا سيما ما كان أمامه من جميل مهذب، ورائع منظم فلا يمكنه تركه ليتمسك بأشياء بشعة ينفر منها الذوق.

١  بيت خالته تعبير بيروتي يعني السجن.
٢  هو مقهى مشهور في شارع سان ميشال يتردد إليه الشرقيون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤