الفصل الثالث

لقد أبصر سليم بالحلم يوم كان في باريس أنه بينما كان يستعرض في المتاحف لوحات أئمة الفن ويتهذب بفنهم، أجل قد أبصر في الحلم ذات ليلة جاره معروفًا القبضاي الشهير في مدينة بيروت عاصمة الشرق العربي ومدينة العلوم والجامعات ومبعث النهضة في العالم العربي و… و… و… أبصره يتنقل من حانة إلى حانة ومن مقهى لمقهى ترعاه عناية الزعماء، حلم به يدير الصفقات ويجمع الأموال، ويصبح بعدها سيدًا من أسياد البلاد، وعينًا من أعيانها.

ورآه يقوم ببعض البطولات العنترية فيضرب ويعتدي، وأصبح له بفضل أعماله التي ذكرنا بعضها مداخلات، وبات رغم دخوله السجن سنوات من أصحاب النفوذ، يدخل على الكبراء بدون كلفة، ويفاوضهم، يهش لهم ويبشون له، بينما المهذبون من الناس ينتظرون ساعات ليؤذن لهم بالدخول، ثم هم يخرجون بالنتيجة صفر اليدين.

وعندما نهض في الصباح قص على أصدقائه ذلك الحلم المزعج، فضحكوا له قائلين: «إن هذا ناتج لا ريب من عشاء البارحة الثقيل، إنه أضغاث أحلام، إن بلادك من فضل الله بألف خير.»

figure

لقد أكمل سليم دروسه وعاد يحمل دبلوم الفنون، وهو يعتقد أنه سيعمل عملًا فكريًّا محسوسًا، تهتم له البلاد وتقبل عليه، فيرتفع مستواها الفكري، وتنعم بثقافة صحيحة أسوة بالبلاد الراقية، وما درى المسكين أنه بتفكيره هذا، كان كمن يكتب على صفحة الماء أو … أو كمن ينفخ في رماد، وأنه يعمل في بلاد المادة، بلاد بدائية في فكرها وروحها، وإن طليت بدهان المدنية الزائفة.

جاء سليم إلى مدينته بيروت، وقد تغيرت عليه الأشياء وتغير الناس والأهل منهم والأصدقاء، المتعلمون والجهلاء، فعندما غادر سليم البلاد يافعًا كان الناس يؤمنون بشيء يسمى الصدق والأمانة والوفاء، وكان يوجد ما يدعى الحياء والإخاء، فإذا بهذه الألفاظ الشعرية باتت في نظر أهل اليوم، وقد تمدنوا وتطوروا، سخافة وضربًا من البلاهة، وحلَّ مكانها الخدعة والرياء، حتى الجريمة، فمن تحلى بها ونجح عد ذكيًّا لامعًا موفقًا، وبعض الأحيان عد عبقريًّا.

ومنذ أن حل سليم في بيروت، أحاط به رهط ممن تظاهروا له بالمحبة والغيرة فخدعوه واستغلوه، ومن الأصدقاء من استغلوا إخلاصه، فكانوا ينعمون عنده باسم الصداقة، ومنهم من كان يسمسر بأشغاله ويكسب المال، ومنهم من كان يروي لزملائه على لسانه الأحاديث الملفقة ليخلق له العداوة، وأخيرًا ضج واتخذ مكانًا نائيًا لينعم بالعزلة، وقد أصابه نوع من كره المجتمع، حتى إن مَن علَّمهم من تلامذته مجانًا حبًّا بالفن، كانوا يدسون عليه ويطعنون به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤