الفصل الثامن

إن الموقف حقًّا كان مثيرًا ودقيقًا، إنها كانت شبه معركة فكرية خرساء بين نفسيتين متناقضتين، معركة بين المادة والفكر، بل بين العلم والجهل، بين النهضة والانحطاط.

وفجأة قطع معروف هذا السكوت، وهو يرسل ابتسامة المتهكم الظافر، قائلًا لجاره المجتهد الصامت والمهذب العالم: «إيه! أين أنت يا صاحب المثل الأعلى؟! ألا زلت في أحلامك وقصورك الخيالية تدرس وتبحث وتمحص وتكد في سبيل إصلاح مجتمعك وتقدم أمتك ورفع اسم بلادك؟ ألا زلت في أوهامك تعمل في الفن وتبحث في مفاهيم الجمال، وترويض النفوس لترق وترهف ثم تسمو وترفع، وما هناك من الترهات؟ مسكين أنت يا جار …! لقد ذهب الزمن بنضارة شبابك ونور عينيك وبعد همتك وأفقدك صحتك، ها أنت اليوم ضعيف تتجرع مر الدواء.

أجل ها أنت تسير على قدميك رغم علمك وفنك، رغم درسك وسهرك، رغم صبرك وجهادك، رغم بذلك وعطائك!

وبعد، ماذا جنيت بعد كل ذلك؟ فلا قصور ولا جنائن ولا تجارة ولا عمارة، حتى ولا سيارة بسيطة تحملك وتخفف من تعبك وتقلل من سقمك!

أين علمك وفهمك؟ ألم تعلم يا هذا أنك تعيش في الشرق؟ ألم تقرأ في ما قرأته من الكتب الكثيرة أن هذا الشرق ما عرف يومًا قدرًا لعالم ولا فضلًا لأديب ولا احترامًا لمفكر؟

ألم تعلم أن الشرق لا يقدر غير الغني الغبي، ويحتقر الأديب اللوذعي؟ ألم تعلم أنه لا يقر لأحد بفضل ولا يعرف قدرًا إلا لحامل المال؟ فهو في نظره الأديب الأريب، وهو الذكي اللبيب، وهو العالم القدير، وهو الوجيه الكبير، وهو سيد البلغاء، وأمير الأمراء؟

لقد سلكت أنت يا سليم طريق الفضيلة والمعرفة والشرف، فإذا هذا حالك من سقم ونسيان وانزواء.

أما أنا، أنا معروف، فقد سلكت طريق الرذيلة واللصوصية، طريق التعدي والفجور، طريق الجهل والاحتيال والتهريج، وهذا حالي من نفوذ وسلطة وثروة وحظوة لدى الحكام وأهل الوجاهة، أدخل المجالس فيقف لي الناس مقدمين لي شتى ضروب التقدير والاحترام، وينادونني بالوجيه الكريم، والزعيم الخطير، والمجاهد العظيم، ويجلسونني في صدر المكان، وأنا، أنا أعرف نفسي، لص محتال، وزنديق أفاك، تعرفني السجون وأصحاب السوابق وأسياد الجريمة.»

ولكن سليمًا وهو المثالي، فقد هز رأسه وتابع طريقه وهو يقول: «الحمد لله! لقد انتصر العلم على الجهل والخير على الشر، لقد أرسلت لي العناية من جاء يعترف، رغم قوته، أنه لص محتال وجاهل أفاك.

وإني أحمد الله، أن أمتي، رغم ما بلغته من انحلال وتفسخ وجهل، لا يزال فيها بقية من تلك الأخلاق الطيبة والجوهر الإنساني، حتى في قرارة نفس لص جاهل، إنه حقًّا لمما يبعث الثقة ويجدد الأمل بأنه لا يزال هناك مجال للعمل والإصلاح، أما ما تبقى فهو تراب وإلى التراب.»

ولنختم مرددين قول الشاعر:

فكن رجلًا إن أتوا بعده
يقولون مر وهذا الأثر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤