الكنز

من وحي المال والحب

(المنظر صالون في منزل أسرة متوسطة الجاه والثراء … الأب والأم والخطيب مجتمعون حول مائدة الشاي.)

الخطيب (يشير إلى الفنجان الرابع) : شاي الآنسة درية برد.
الأب (ملتفتًا إلى الأم) : ماذا جرى لها؟ ذهبت تحضر منديلها ولم تعُد!
الأم : مشاغل البيت … مسكينة … إنها نشيطة أكثر من اللازم … لا تريد أن تترك للخدم أبسط الأمور. تحب دائمًا أن يتم كل شيء بإشرافها! لحظة واحدة، سأرى ماذا تصنع.

(تنهض وتخرج من القاعة.)

الأب (للخطيب) : حقيقة، هذه البنت نادرة المثال … ولا أقول ذلك لأنها ابنتنا الوحيدة … ولكن الحق يجب أن يُقال … إنها هي روح بيتنا!
الخطيب : وأنا يسرُّني أن آخذ روحكم … وسترون كيف أدخلها جنة مفروشة بورق البنكنوت … وهذا طبعًا ليس بكثير على صاحب ثروة تُقدَّر الآن كما تعلمون بستين ألف جنيه!
الأب : ونحن يسرُّنا أن نعطيَك فلذة كبدنا … لا من أجل الثروة ولكن من أجل ذوقك ولطفك وخفة ظلك …
الأم (بالباب منادية زوجها) : محمود!
الأب (للخطيب وهو ينهض) : عن إذنك.
الأم (همسًا للأب على عتبة الباب) : «درية» في حجرتها تبكي، إنها ترفض هذا الخطيب، ولا تريد أن تجلس إليه أكثر مما جلست.
الأب (همسًا للأم) : ترفض هذا الخطيب … ترفض هذا الكنز؟
الأم : إنها لا تريد أن تبيع نفسها من أجل ستين ألف جنيه.
الأب : ومن قال إننا نقصد مال الرجل … إني أقصد أنه كنز من الخلق العصامي، والأدب الجم، والذوق السليم.
الأم : إنها ترفض هذا الكنز وكفى.
الأب : مغفلة … وما العمل الآن؟
الأم : فلنعتذر له الساعة عن مجيئها … ثم نحاول بعد ذلك إقناعها.
الأب : نعم … لا بد من إقناعها … تقدَّمي واعتذري!
الأم (تتقدَّم إلى الخطيب وتجلس) : لا تؤاخذنا … «درية» شعرت بصداعٍ خفيف جعلها تعتكف …
الأب (يأتي ويجلس هو الآخر) : حقًّا … جهودها المنزلية ترهق جسمها الرقيق.
الخطيب : لا بأس … لا بأس … في منزلي سوف أوفِّر عليها كل مجهود؛ فالخدم والحشم سيكونون بعدد شعرات رأسها؛ فأنا كما تعلمون جمعت ثروتي أثناء الحرب من «مشابك الغسيل»، فمن حقِّي على جسمي أن أشبك نفسي على الأقل بزواجٍ سعيد.

(يقهقه لنُكتته.)

الأم (تتناول من يده الفنجان) : فنجانًا آخر باللبن أيضًا؟
الخطيب : وأربع قطع من السكر.
الأب (يقدِّم له الفطائر) : لا تنسَ هذا الصنف الذي تحبُّه من «الجاتوه».
الخطيب : لا تخف … ذاكرتي قوية.
الخادم (يدخل معلنًا) : رجل بالباب يطلب مقابلة سيدي البك في أمر مهم.
الأب : ما اسمه؟
الخادم : سألته فقال إن الاسم لا يفيد شيئًا وإن الموضوع هو المهم!
الأب : أي موضوع؟ … أنا الآن مشغول، ولا أقابل أحدًا.

(الخادم يخرج.)

الأم : من يكون هذا الرجل؟ … لعله أحد أهالي دائرتك الانتخابية يطلب مساعدتك في أمرٍ يهمه.
الأب : ربما … ولكن ألا يفهم هؤلاء الناس أن منزل النائب ليس حانوتًا مفتوحًا لطلباتهم في كل الأوقات؟!
الأم : رفقًا بهم … إنهم على كل حال لم يفهموا إلا ما وعدتهم به من قبل.
الخادم (يظهر) : إنه يقول إن الموضوع يهمكم، ويتعلَّق بثروة ضخمة، يريد أن يدلَّكم عليها!
الأب : ثروة ضخمة! … مَن هذا الرجل؟
الأم (تنهض) : انتظر … حتى أتحرَّى لك بنفسي.

(تخرج.)

الخطيب : اسمح لي يا «محمود بك» أن أنصحك نصيحةً لوجه الله؛ لقد كثر في هذه الأيام من يظنون أن الثروة تأتي من السماء كالهواء … أنا رجل ابن سوق … وأعرف كيف تُصنع الثروات، ولم أنَل هذه المعرفة إلا بعد دروس قاسية، فليست كل المشروعات قابلة للنجاح ماية في الماية … خذ مثلًا حجر الولاعة، كانت سوقه نارًا حارة في أول الحرب، من اتجر فيه نجح وأفلح … فما كادت تخبو نيران الحرب حتى خبت نار هذه السوق … كذلك مشابك الغسيل … كانت فكرة هبطت على رأسي النير، في الوقت المناسب، فأمسكت بتلابيبها … وأراد غيري تقليدي بعد ذلك … ولكن الفرصة كانت قد فاتت … المسألة يا سيدي مسألة فطنة وذهن ودماغ … وهذه أشياء والحمد لله كانت متوافرة عندي من قبل الحرب … إنما العبرة بإخراجها في السوق عندما يشحُّ الطلب.
الأم (تدخل) : هذا رجل يقول كلامًا غريبًا … يجب أن تقابله على كل حال!
الأب : ماذا يقول؟
الأم : يقول إنه يوجد في هذا المنزل كنزٌ مخبوء يقدَّر بأموال طائلة!
الأب : كنز! … كنز!
الأم : قال لي ذلك همسًا … وهو مستعد للاتفاق معك على إخراجه … وإذا رفضت مقابلته، فإنه سيذهب إلى جهات الاختصاص ويبلغ عن وجود هذا الكنز فورًا!
الأب (ينهض على قدمَيه) : أهذا معقول؟ … في بيتنا هذا كنز؟
الأم : شيء لا يصدَّق بالطبع، ولكن كل شيء جائز … قابل الرجل وناقشه.
الأب : ما شكل هذا الرجل؟ وكيف عرف ذلك؟ … أهو ساحر؟ … أهو مغربي؟ … أهو هندي؟ … ماذا يلبس؟
الأم : لا تضيِّع الوقت في هذه الأسئلة التي لا طائلَ تحتها … الرجل بالباب استدعه إذا شئتَ، واعرف منه ما تريد … ولا تدَعْه ينتظر أكثر من ذلك … أدخِله أو اصرفه.
الأب : كيف أصرفه؟ … بل يدخل … أدخِلوه … لا ضرر من سؤاله ومناقشته على كل حال … هذا موضوع مسلٍّ وطريف … أليس كذلك يا «أبو العز بك»؟
الخطيب : طبعًا … من ذا يرفض الفرجة على «شمهورش» بالمجان.
الأم (للخادم) : قل للرجل يتفضَّل.
الخطيب : نصيحة لوجه الله يا «محمود بك» … احذر أن تُعطي هذا الساحر مليمًا قبل أن يُخرج كنزه الموهوم … فقد كثرت في هذه الأعوام حوادث النصب والاحتيال على الوجهاء والأعيان.
الأب : صدقتَ، لا بد من الحيطة التامة مع أمثال هذه الطائفة … وها أنت ذا معنا أيضًا تشملنا بيقظتك وفطنتك.

(الخادم يظهر بالباب يقود شابًّا أنيقًا، تبدو عليه البيئة المثقفة والبيت الطيب.)

الشاب (للجميع) : مساء الخير!
الأب : من هذا؟ … (للخادم) قلنا لك نريد الساحر.
الأم : إنه هو.
الأب (يفحصه بنظرة) : أنت الساحر؟
الساحر : هل خيَّبتُ ظنَّك يا سيدي؟ … ماذا كنت تتوقَّع أن ترى؟
الأب : ما علينا … هذا موضوع ثانوي؛ فلنطرق مباشرةً الموضوع الأهم … هل أنت واثق من وجود كنز في هذا البيت؟
الساحر : ثقتي من وجودك الآن أمامي.
الخطيب : هل تسمح لي أن أسألك كيف عرفتَ ذلك؟
الساحر : رأيتُ …
الخطيب : رأيتَ في ورقة الكوتشينة، أو في الرمل، أو في الودع، أو في المندل، أو في الفنجان؟
الساحر : لا حاجةَ بي إلى هذه الأشياء … إني أرى بعيني.
الخطيب : إذا كانت عين حضرتك تستطيع أن ترى المال المخبوءَ في الحيطان، فهل تستطيع أن ترى المال المخبوءَ في جيبي؟
الساحر : عيني لا ترى نقودًا ولكنها ترى كنوزًا!
الأب : إذن ما الكنز الذي في بيتي؟
الساحر : جواهرُ كريمة.
الأب : طبعًا لا بد أن تكون ذاتَ قيمةٍ نقدية … كم تقدِّرها على وجه التقريب؟
الساحر : عشرات الألوف من الجنيهات.
الأب : خمسين ألفًا مثلًا؟
الساحر : أكثر!
الأب : ستين ألفًا؟
الساحر : أكثر … أكثر … لن تقلَّ عن مائة ألف!
الأب : مائة ألف … مائة ألف جنيه؟
الخطيب : مائة ألف جنيه! … في هذه الحيطان! … هل هذا معقول؟!
الأب : الماء يكذب الغطاس، كما يقول المثل السائر، والحيطان تكذب الساحر، وها هي ذي الحيطان موجودة … والساحر موجود!
الساحر : أنا قابل للتحدي، ولكن قبل كل شيء … لي عندكم طلب بسيط.
الخطيب (للأب) : تنبَّه يا «محمود بك» … جاءت ساعة الطلبات.
الأب : ماذا تطلب؟ … نقودًا مقدمًا؟ … مستحيل!
الخطيب : نعم مستحيل … حتى ولا ثمن خروف أسود بدون إشارة، أو فرخة رزي أو شمع أو بخور … كل هذه الأساليب مفهومة، فوفِّر على نفسك الكلام … وانسحب إذا شئت بانتظام.
الساحر : ألا تسمعون أولًا ما هو طلبي البسيط؟
الأب : تكلم!
الساحر : هو أن تكفوا عن اعتباري ساحرًا، فأنا مع الأسف لا أفقه شيئًا في السحر.
الأب : وماذا تفقه إذن؟
الساحر : اسمح لي أن أقدم نفسي حتى يكون كل شيء واضحًا … أنا اسمي «مراد عبد الله» مهندس إخصائي في مصلحة المناجم «M. S.» من «جامعة كمبردج».
الأب (باحترام) : حصل لنا الشرف.
مراد : إني آسف لاقتحامي منزلكم على هذا الوجه، ولكني رأيت من واجبي أن أختصر الإجراءات، وأتصرف على هذا النحو السريع تحقيقًا للفائدة المنشودة.
الأب : هذا على كل حال من حسن حظنا … تفضل يا «مراد بك»، واسترح على هذا المقعد.
الأم : هل يسمح «مراد بك» أن نقدم إليه فنجان شاي؟
مراد : شكرًا يا «هانم» … ليست بي رغبة الآن للشاي … في فرصة أخرى إن شاء الله.
الخطيب : أظن حكاية الكنز فهمناها خطأً … ولعل المقصود منجم … تشتبه حضرتك مجرد اشتباه في وجوده داخل أرض هذا المنزل … منجم فحم أو بترول أو ملح أو صودا … وقد يُعثر أو لا يُعثر عليه.
مراد : لقد قلت إنه كنز من الجواهر الكريمة، وإنه موجود فعلًا … لا أتراجع في تقديري.
الخطيب : ربما كنت حضرتك …
الأب (متبرمًا) : يا «أبو العز بك» الأستاذ إخصائي في فنه … وهو أعلم منا جميعًا بما يقرر.
الخطيب : عجبًا! … هو حرٌّ في تقريره … لكن أنا حر في عقلي.
الأب : تكلَّم يا «مراد بك» وابسط مشروعك.
الخطيب : هل حضرته يتكلم رسميًّا باعتباره موفدًا وممثِّلًا لمصلحة المناجم؟!
مراد : لا يا سيدي، أنا جئت بصفتي الشخصية، وما أقرره هو نتيجة معلوماتي الخاصة.
الخطيب : إذن اسمح لنا يا حضرة أن نتشكك وأن نطلب الضمانات.
الأب : مهلًا يا «أبو العز بك» … مهلًا … الأستاذ — أكثر الله خيره — يتقدَّم بمعلوماته، ويضيِّع وقته ليدلنا على أمر فيه لنا منفعة كبرى … فهل من اللائق أن نضايقه، ونأمره وننهاه، ونثقل عليه؟!
الخطيب : إذا صدقت المزاعم فهذا مشروع من حقك أن …
الأب (في ضيق) : تكلَّم يا «مراد بك» … إني مُصغٍ إليك!
مراد : الأمر يتلخَّص في كلمتين: يوجد كنز في هذا البيت، وكل مهمتي هي أن أستخرجه لك … وليس لي شروط ولا طلبات … والأمر موكول إليكم!
الخطيب : يا «محمود بك» حَكِّم عقلك؟ … أهذا كلام يقبله العقل؟
الأب : عقلك لا يقبله، ولكن عقلي يقبله!
الخطيب : اسأل حضرة المهندس الإخصائي أن يشرح لك الطريقة التي رأت بها عينه الكنز داخل الحائط … لو كان ساحرًا كنا على الأقل صدَّقنا … ولكنه يقول إنه لا يعرف السحر … فما الطريقة إذن؟ … فَهِّمونا يا ناس!
مراد : العلم يا سيدي البك … العلم هو سحر العصر الحديث.
الأب (للخطيب) : نعم العلم.
الخطيب : اشرح لنا هذا العلم من فضلك، وأقنعنا كيف ترى كنزًا من خلف الجدران.
مراد : سأقرِّب المسألة إلى ذهنك على قدر الإمكان … هل سمعت عن «أشعَّة رنتجن»؟ … طبعًا لا بد أنك لجأت إلى هذه الأشعَّة يومًا لتكشف لك عمَّا وراء جدران جسمك … هنالك نوع من الأشعة الكشَّافة تستطيع أن تشعَّها بعض الأجسام النادرة … ذلك أن كل الأجسام تنبعث منها إشعاعات مختلفة … هذه الظاهرة العجيبة شاء الحظ أن توجد عندي؛ فأنا أحسُّ وجود الجواهر والمعادن في المباني أو الأراضي بمجرَّد الدنوِّ منها … ولطالما استغنيت عن الآلات الحسَّاسة الخاصة بالكشف في عملي المصلحي؛ ارتكانًا على حاسَّتي الغريزية … وهذا يعلمه كل زملائي، ولقد مررت اليوم أمام هذا البيت القديم فشعرت في الحال بهزَّة خاصة في نفسي، أدركت معها أنه لا بدَّ أن يكون في المنزل كنز، ولما كنت أعرف هزَّتي أمام المعادن، فهذه الهزَّة قطعًا تدلُّ على وجود جوهر أرقى من المعدن وأنفس! … هل اقتنعت الآن؟
الخطيب : لا أقتنع إلا إذا فسَّرت لي.
الأب : أنا اقتنعت … نحن تحت تصرُّفك يا مراد بك … بماذا تأمر؟
مراد : لا شيء على الإطلاق … بعد نصف ساعة على الأكثر يخرج لكم الكنز … لا تحتاج إلا إلى إجراء واحد.
الأب : ما هو؟
مراد : البحث عن الشخص الذي يُفتح عليه الكنز.
الخطيب : ما شاء الله! … أهذا أيضًا من العلم يا حضرة الإخصائي في مصلحة التنجيم، أقصد المناجم؟
الأب : يا «أبو العز بك» … بالله عليك دع الأستاذ يعمل … إنه أدرى بفنه.
مراد : لا بأس من أن نشرح له ونريحَه … نعم هذا من العلم يا سيدي! … لقد قلت لك إن لكل شخص نوعًا من الإشعاع؛ فإشعاعي مثلًا من النوع الكشَّاف فقط … فأنا أعلم مثلًا أن في هذا المنزل كنزًا … ولكني لا أستطيع أن أحدد مكانه … وليس من الصواب أن أشير بهدم هذا البيت حجرًا حجرًا لنهتدي إلى مكان الكنز … خصوصًا ونحن في أزمة مساكن … فلنلجأ إذن إلى طريقة علمية مضمونة، عرفها السحرة الصادقون من قديم، ثم انتقلت إلى أيدي الدجالين والكاذبين … تلك هي استخدام شخص ذي إشعاع حساس بالجواهر، ومراقبة هزات نظراته واتجاهها وتعيين المسافات والأبعاد، إلى أن يتحدد لنا بالضبط مكان الكنز … وليس هذا باليسير؛ لأن فصائل الإشعاع مثل فصائل الدم في جسم الإنسان … كثيرة … منوعة … منها ما هو حساس بالمعادن، ومنها ما هو حساس بالسوائل وبالغازات … وهلمَّ جرًّا … لذلك لا بد لنا من شخص إشعاعه من الفصيلة المطلوبة!
الأب : وكيف نأتي بهذا الشخص؟
مراد : اسمحوا لي بفحص الموجودين في هذا المنزل أولًا … ربما وجدنا من بينهم مَن يصلح.
الأب : تحب أن نحضر إليك هنا كل من بالمنزل؟
مراد : هذا عين الصواب.
الأب (للأم) : من فضلك نادي الموجودين كلهم هنا!
الأم : لا يوجد الآن غير الخادم هنا … أما الطباخ فلا يأتي إلا ساعة العشاء كما تعلم … والخادمة ذهبت تزور أمها المريضة.
الأب : فليحضر الموجود … انتظري … أنسيتِ «درية»؟
الأم : درية! … إنها …
الأب : اسأليها أن تحضر ثانيةً واحدةً.

(الأم تخرج مسرعة.)

الخطيب (بسخرية) : ابدأ بفحصي يا حضرة الإخصائي … من يدري … ربما بقدرة قادر ينفتح عليَّ الكنز!
مراد (بكل جد) : تفضل … تقدم أرني حدقتَي عينَيك قليلًا … (يحدق فيهما) لا يا سيدي … مستحيل … حضرتك ينفتح عليك منجم نفط.
الخطيب (بغضب) : زفت؟
مراد : نفط … نفط … النفط غير الزفت!

(الأم تدخل وخلفها «درية» والخادم.)

الأم (لمراد) : «درية» بنتي!
مراد : لي الشرف … تسمحين يا آنسة … (يحدق في عينَيها) الحمد لله … حظ سعيد حقًّا … ها هي ذي مَن تصلح أن يُفتح عليها كنز الجواهر.
الخطيب (بتهكم) : طبعًا يا سيدي!
الأب (يكظم غيظه) : سبحان الله في طبعك يا «أبو العز بك»!
الخطيب : ولماذا يا حضرة الإخصائي لا يختار الكنز أن يُفتح إلا على عيون الآنسة؟
الأب (نافد الصبر) : ولماذا تريد أن يعمى الكنز، ويُفتح على عيون حضرتك؟
الخطيب : يعمى … لا … هذا كثير … يظهر أن وجودي أمسى غير مرغوبٍ فيه! … سلام عليكم!

(يخرج بسرعة.)

الأب : سلام ورحمة الله! … اشرع في إجراءاتك يا «مراد بك».
مراد : حضرته ذهب غضبان!
الأب : حضرته يذهب إلى داهية لا ترجعه! … حضرته تحملنا كثيرًا ثقل ظله، وقلة ذوقه، وسخف عقله! … حضرته لا يهمنا، ولا تسرنا معرفته، ولا شبكته، ولا مشابك غسيله الوسخ … حضرته أضاع وقتنا النفيس في مشاغباته … ما علينا … تفضل يا أستاذ طلباتك؟
مراد : ليس لي بعد ذلك من طلب إلا أن تبقى هنا الآنسة التي سيُفتح عليها الكنز … أراقبها نصف ساعة على انفراد تام … إلى أن أستطيع تعيين اتجاهات إشعاعها وتحديد موقع الكنز.
الأب : إذن ننسحب نحن جميعًا من هذه القاعة؟!
مراد : أكون شاكرًا! … لمدة نصف ساعة على الأكثر … أو ربما أقل من هذا الوقت كما أرجو.
الأب : وهو كذلك … إلى اللقاء القريب … حظ سعيد إن شاء الله.

(يخرج الجميع، ويتركون «مراد» و«درية» وحدهما.)

مراد : تفضَّلي يا آنسة … استريحي في هذا المقعد الكبير.
درية : إني دهشة … إني مذهولة … إني …
مراد : لماذا؟
درية : هذه الحوادث التي تجري في بيتنا منذ العصر … (تمسك رأسها بيدها) هل أنا أحلم؟ … هل أنا مجنونة؟ … هل أصيب كل من في المنزل بالجنون؟ … ما كل هذا؟
مراد : ماذا؟
درية : خطيب سخيف يحسبني ثوبًا فارغًا لا روح فيه ولا جسد، يريد أن يأخذه ليربطه على حبل الزوجية بمشبك غسيل! … فإذا اعترضت قالوا لي إنه كنز … ولم تمضِ لحظة حتى تركوا الكنز يهرول غاضبًا … وإذا أنا أمام رجل يحملق في وجهي … والكل ينفضُّ من حولي … ويتركونني مع هذا المجهول، من حضرتك؟
مراد : أنا … أنا … ألم يقولوا لكِ عن الكنز؟
درية : أنت أيضًا؟
مراد : لا … لست أقصد ذلك … أعني … ألم تعرفي بعد من أكون ولماذا أنا هنا؟
درية : قالت لي والدتي على عجل إنه جاءنا مهندس مناجم ليُخرج جواهر مدفونة في البيت، وجذبتني من يدي قبل أن أُعطَى وقتًا للتفكير! … أظنُّك توافقني على أن كل هذا عجيب … وأن لي الحقَّ إذا حسبت أنهم جنُّوا؟!
مراد : لكِ كل الحق … يكفي دائمًا أن يوجد مجنون واحد بإخلاص ليستطيع أن يجنَّ الآخرين بسهولة.
درية : نعم … التاريخ مملوء بهؤلاء … إليك أغلب المشاهير وأكثر الشعراء والعلماء والفنانين.
مراد : لست بالطبع واحدًا من هؤلاء.
درية : أيُّ صنفٍ من الناس أنت؟
مراد : مجنون فقط … مجنون بإيمان … مجنون مؤمن بفكرة واحدة! … هي أن في هذا البيت كنزًا!
درية : إن الإيمان حقًّا يصنع المعجزات، ولكني أشك في أنه يستطيع أن يخرج من الحائط قرطًا من ماس أو عقدًا من لؤلؤ …
مراد : ليس ذلك بعسير إذا كانت هذه الجواهر موجودةً بالفعل.
درية : أنت إذن متأكد من وجودها؟
مراد : ليس مجرد تأكُّد … إنه الإيمان!
درية : الإيمان شيء، والوجود شيء آخر … ربما استطاع الإيمان أن يوجد الشيءَ بالنسبة إليك، ولكن العبرة أن يوجد بالنسبة إليَّ أنا على الأقل.
مراد : من غير شك!
درية : هل أفهم من ذلك أنك ستُوحي إليَّ إيحاءً خفيًّا … أو أنك ستنقل إليَّ إيمانك، فأرى ما ترى … وأعتقد ما تعتقد، على النحو الذي كان يأتيه بعض الأنبياء والكُهَّان في غابر الأزمان؟
مراد : ليست لي هذه القدرة. ما أنا إلا شخص عادي، ولقد كذبت الساعة على أهلك؛ إذ زعمت لهم أنه ينبعث من جسمي إشعاعات كشافة.
درية : كما كذبتَ بالطبع إذ زعمتَ لهم أن عينيَّ تصدران إشعاعات حساسة.
مراد : صدقتِ، هو ذاك.
درية : إذن ليس لي أن أتوقع الآن انشقاق جدران القاعة وظهور الجواهر.
مراد : لن ينشق شيء … اللهم إلا جدران قلبي.
درية : ربما كانت جدران قلبك هي التي تضم الجواهر!
مراد : لا تسخري مني … هذا معنًى لم يدُر بخلدي قط!
درية : أسخر منك؟ … حاشا لله! … إني أبذل مجهودًا ظاهرًا؛ لأكون جادَّة معك.
مراد (بمرارة) : أشكرك.

(يطرق … ويسود بينهما صمت وهما بلا حراك … يظهر رأس الأب، وخلفه رأس الأم، يطلان عليهما من الباب لحظة ثم يختفيان.)

درية : أخشى أن أكون قد أسأتُ إليك، عن غير قصد، أو صدر مني ما جرح شعورك!
مراد : لا … على الإطلاق!
درية : أتسمح أن أقدِّم إليك فنجانًا من الشاي؟ … (تنهض إلى المائدة) إنه لم يزل ساخنًا لحسن الحظ.
مراد : ليست لي الجرأة أن أرفض شيئًا من يدك.
درية : كم قطعة من السكر؟
مراد : واحدة … مع الشكر.

(يتناول من يدها الفنجان.)

درية : أنا أيضًا لم أتناول بعد … أو على الأصح … لم أحب أن أتناول الشاي قبل الساعة (تصب الشاي في فنجان لها) إذا لم تجده حارًّا كما تريد فاقنع به بكل رزانة … فليس من الحكمة أن نطلب الساعة ماءً ساخنًا، المفروض فينا أننا نستخرج الجواهر من الجدران، لا أن نرشف الشاي من الفناجين.
مراد (بإخلاص) : إني آسف لهذه الأكذوبة!
درية (وهي تضع قطعًا من الفطائر في طبق) : أيُّ أكذوبة؟
مراد : مسألة الكنز!
درية (بدهشة مصطنعة) : أهي أكذوبة! … (تقدِّم له طبق الفطائر) ذُق من هذا «الجاتوه» اللذيذ!
مراد (كالمخاطب نفسه) : أكان من الضروري أن ألجأ إلى هذه الطريقة؟! … يؤلمني أن تعتقدي أني رجل دجَّال.
درية : لن أعتقد ذلك … الدجال رجل صاحب براعة، ولكنه ليس صاحب إيمان.
مراد : ثقي أن إيماني لا يزول أبدًا.
درية : أعرف ذلك.
مراد (محملقًا) : كيف عرفتِ؟
درية : اقتحامك البيت على هذه الصورة.
مراد : نعم … إني مؤمن بحقيقة شعوري الذي لا يخطئ.
درية : كل الصعوبة أن تجد الذي يصدِّق حقيقة شعورك.
مراد : حتى ولا أنت؟
درية : وما قيمتي أنا وحدي؟
مراد : لا تقولي ذلك … أنتِ كل شيء … أنتِ وحدك التي أحفل بحكمها … أنتِ وحدك التي أطمع في حسن ظنها … فإذا صرتِ معي وإلى جانبي، فإني أصبح كنبيٍّ ومعه ربه، يقف وإياه في صف، شامخ الأنف، يتحدى القياصرة والأكاسرة … لقد احتلتُ واقتحمت البيت، لألقاكِ وأجلس لحظة بين يدَيك … فتذرَّعت بالشعوذة وادعيت في سبيلكِ المعجزة التي يستخدمها بعض الأنبياء في سبيل الله.
درية : أردت أن تلقاني؟
مراد : نعم!
درية : وهل رأيتني من قبل؟
مراد : نعم … في شرفتك منذ أسابيع … لقد تكشَّفت لي فيها ذات عصر؛ كما يتكشَّف الإله لنبيه … فامتلأ قلبي إيمانًا بك على الفور؛ كان لك نورٌ يشع من النافذة كأنه كنز جوهر بالضوء يتفجَّر … نعم … نعم … نعم! فصرتُ لا أنقطع عن المرور كل عصر تحت شرفتك، أتملَّى بطلعتك عن بعد في خشوع، وأمضي دون أن يخطر ببالي أن أستَرعي التفاتك بحركة أو إشارة، وكنتِ أحيانًا كثيرة تطالعين كتابًا من الكتب، وكنت أرى أو يُخيَّل إليَّ أني أرى روحك النبيلة المتأملة الحالمة، وهي تسبح في سموات المعاني، فتضفي على وجهك جلالًا وسموًّا؛ فكنت أقول في نفسي: «هذا الكنز الإنساني كالجوهر الكريم، لا يستمد رُواءه وضياءه من منظره الخارجي وحده، بل من خصائص روحه الداخلي؛ فإن فيها موطن البريق ومبعث الإشراق!»
درية : اسمع يا … أتسمح لي أن أناديك باسمك المجرَّد؟
مراد : نعم! … أرجوكِ … ناديني: يا «مراد».
درية : اسمع يا «مراد» … إني أخاف ذلك «الإيمان» … أخشى — كما قلت لك — أن يخلق لك شيئًا غير موجود … هل أنا حقًّا كما صوَّرت؟
مراد : قلت إن إيماني لا يمكن أن يخطئ … إنكِ لا تعرفين نفسك كما أعرفك.
درية : إنك لم تعرفني إلا منذ دقائق!
مراد : الإيمان لا يعرف الزمن؛ إنه ينبثق من أعماق القلب في لحظة، فيكشف ظلمات الآزال والآباد.
درية : «مراد»؟! … إني أصدِّقك!
مراد : هذا كل مطمحي … الآن أستطيع أن أقف في وجه الدنيا!
درية : يجب أن تستعد لتقف أولًا في وجه أبي.
مراد : آه … نعم … إن هذا لموقفٌ عسير … ما العمل؟ … ما المخرج؟
درية : إن المسكين كان قد أنفق أكثر ما ادَّخر في معارك الانتخابات، وكان أمله كله أن يزوجني من صاحب الستين ألف جنيه!
مراد : اسمحي لي إذن أن أنسحب … يكفيني منكِ أن أعيش في ظلال ذكراكِ … هذه اللحظة معك تساوي كل عمري … فأنا لا أبغي بعدُ منك شيئًا.
درية : أشكرك يا «مراد».
مراد : مريني أن أذهب.
درية : بل أسألك أن تبقى وأن نصمد معًا أمام أبي؛ حتى نظفر منه بما نريد! … هلمَّ بنا هل أنت مستعد؟
مراد (باستخذاء) : نعم …
درية (تصفق بيدَيها) : بابا! … ماما!

(الأب والأم يظهران.)

الأب (يجيل بصره في الحيطان والأركان والكراسي والمائدة) : أين الكنز؟
مراد (يتقدم متشجعًا) : الكنز موجود.
الأب (ينظر حوله) : أين هو؟
مراد : موجود … ألا تراه؟
الأب (يلتفت) : لا … أين؟
مراد : عجبًا … ويدهشني أنك لا تراه.
الأب : وهل تراه أنت؟
مراد : طبعًا!
الأب : عجبًا (يفرك عينَيه) أين هو يا ناس؟
مراد : أمامك … كلنا نراه!
الأب : كلكم؟ … «درية» … هل ترينه؟
درية : طبعًا يا أبي … أراه بعينَي رأسي، أمامي!
الأب : شيء غريب! … سأفقد عقلي … ترينه بعينَيكِ … أين؟ أين هو؟ … (يلتفت إلى الأم التي تبحث هي الأخرى بعينَيها) وأنتِ أيضًا أترينه؟
درية (تسرع صائحةً) : أبي … اسمع … يجب أن نتفق أولًا على معنى «الكنز»! … ماذا تقصد بالكنز؟
الأب : ماذا أقصد بالكنز؟ … أقصد الكنز … الجواهر … جواهر تساوي مائة ألف جنيه!
مراد : في هذه الحالة … اتفقنا … (يشير إلى «درية») هذا هو الكنز!
الأب : ماذا تقول؟
مراد : هذه الروح المضيئة في هذا الهيكل جوهرة نادرة تزن … لا قيراطًا فقط بل كيلوجرامًا! … فهي تساوي في الحقيقة أضعاف المائة ألف جنيه.
الأب (صارخًا في نوبة عصبية) : يا لك من مشعوذ! … يا لك من دجال! … يا لك من وغد! … يا لك من سافل! … يا لك من منحط! … لقد خربت بيتي وأضعت آمالي … وجعلتني أطرد الرجل المالي … اخرج حالًا من أمامي، قبل أن أبصق في وجهك. دبِّروني ماذا أعمل الآن؟ … أين «أبو العز بك» الآن؟ ضيَّعت من أيدينا الأموال … طيَّرت منا الغسيل … المشابك … المشابك.
الأم (تصب له في الحال فنجان شاي) : اشرب هذا يا «محمود» … هدِّئ أعصابك … هدِّئ روعك … هدِّئ نفسك.
درية (ومعها «مراد» يحوطان الأب) : صحتك يا أبي … صحتك هي كل مالنا … هي خير لدينا من آلاف الجنيهات … لا تجعل للمال كل هذه القيمة.
الأب (يهدأ قليلًا) : «درية»! … بنتي … كل همِّي هذا من أجلك، من أجل مستقبلك أنت.
درية : لا تهتم كثيرًا بمستقبلي يا أبي … إنِّي أرى هذا المستقبل على طريقتي أنا … وبعيني أنا … أنا التي أرى «الكنز»!
الأب (يرفع رأسه) : ترين الكنز؟
درية : نعم … ها هو ذا (تشير إلى «مراد») هو «الإيمان» الذي يضيء في هذا القلب كجوهرةٍ نادرة تزن … ما وزنك بالضبط يا «مراد»؟
مراد : ٦٥ كيلوجرامًا!
درية : نعم … لا ٦٥ قيراطًا … هذه الجوهرة تساوي إذن في الحقيقة أضعاف المائة ألف جنيه.
الأب (ينظر إلى «مراد» ساخرًا، ثم ينظر إلى «درية») : يا لها من جواهر ثمينة!
درية : تلك هي نظرتنا إلى الحياة يا أبي … وتلك في أعيننا هي الجواهر الحقيقية!
الأم (للأب) : صدقت والله «درية» يا «محمود» … الحق أن لكل إنسان في هذه الحياة كنزه الثمين، ولكن العبرة هي أن يعرفه ويكتشفه ويقنع به … أنا أيضًا لي «كنزي».
الأب : عارفه … عارفه … لا تخجلي … تواضعي!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥